من المعلوم أن العالم الروسي مندليف١ وضع في عام ١٨٦٩ جدولًا للعناصر رتَّبها فيه وفق أوزانها الذرية، فوضع
الأيدروجين — وهو أخف العناصر — أولًا، يليه الهيليوم ثم الليثيوم ثم البيريليوم ثم
الكربون ثم الأزوت ثم الأوكسجين وهكذا، ولم يضع مندليف العناصر في قائمة رأسية، بل إنه
رتَّبها على صورة جدول شبيه بجدول الضرب له خانات أفقية وأخرى رأسية، وجعل عدد الخانات
الأفقية ثمانية، فإذا انتهى من خانة أفقية رجع إلى أول الخانة التي تليها، وبهذه
الطريقة انقسمت العناصر إلى مجموعات أو أُسَر تقع كل أُسرة في خانة رأسية واحدة، فمن
ذلك أن عنصر الفلور وعنصر الكلور وكذلك البروم واليود تقع كلها في خانة رأسية واحدة،
وكذلك يقع الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم والروبيديوم والسيزيوم في خانة أو أسرة
أخرى.
وقد وجه مندليف النظر إلى أن أعضاء الأسرة الواحدة تتشابه فيما بينها في خواصها
الكيميائية، ومعنى هذا أن الخواص الكيميائية للعناصر تتكرر تكرارًا دوريًّا كل ثمانية
عناصر، فالعنصر الثاني يشبه العنصر العاشر والثامن عشر وهكذا، والعنصر الثالث يشبه
الحادي عشر والتاسع عشر وهكذا، ولعل هذا يذكِّر بعض القراء بما يحدث في السلم الموسيقي
الذي تتكرر خواصه كلما انتقلنا من قرار إلى جواب ثم إلى جواب الجواب وهكذا. ومع أن
جداول مندليف الدورية لم تكن لها صفة الكمال فلا شك في أنها ساعدت على تقدم البحث، حتى
لقد أدت إلى اكتشاف بعض العناصر الجديدة لخلو أماكنها في الجدول، وقد وضع مندليف أمام
كل عنصر في الجدول الرقم الذي يدل على وزنه الذري، متخذًا الأيدروجين مثقالًا للذرة،
ثم
وجد العلماء بعد ذلك أن من الأنسب استخدام مثقال آخر يساوي من وزن الأوكسجين، وهذه الوحدة الجديدة للقياس تقل عن سابقتها بنحو
ثمانية أجزاء في الألف جزء، وتمتاز بأن الأوزان الذرية للعناصر تكون قريبة من الأعداد
الصحيحة.
منطق الأرقام
ومما يحكى أن الأستاذ مندليف عندما ألقى بحثه عن جداوله الذرية أمام المجمع العلمي
الروسي اعترض عليه أحد الحاضرين في شيء من السخرية متسائلًا؛ لماذا لم يرتب الأستاذ
مندليف العناصر حسب الحروف الهجائية لأسمائها، ثم يبحث عن التشابه في خواصها على هذا
الأساس؟! والواقع أن الإنسان ليعجب من هذه المقدرة الهائلة التي تتسلط بها الأرقام على
الطبيعة، وترتيب العناصر من ١ إلى ٨، ثم من ٩ إلى ١٦، ثم من ١٧ إلى ٢٤ وهكذا، مسألة
عددية بحتة، ومع ذلك فالتشابه بين عنصرين كالصوديوم والبوتاسيوم في خواصهما الكيميائية
حقيقة واقعة في العالم المادي تظهر لنا بعيدة كل البعد عن حساب الأعداد والأرقام، ومنطق
الأرقام في جداول مندليف منطق مقنع، وهو في الوقت ذاته منطق منتِج يؤدي إلى تقدم العلم
والمعرفة البشرية.
الأرقام الذرية وعدد الإلكترونات الخارجية
سبقت الإشارة إلى أن ذرة كل عنصر من العناصر مؤلفة من نواة يحيط بها عدد من
الإلكترونات، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما هو عدد الإلكترونات التي تحيط
بالنواة في كل عنصر من العناصر؟ والعلم مدين في الإجابة عن هذا السؤال لشاب إنجليزي
قُتل في الحرب الماضية ولم يبلغ من العمر اثنتين وعشرين سنة اسمه موزلي،٢ فقد وجد موزلي من أبحاثه في أشعة إكس الصاردة عن العناصر المختلفة أن عدد
الإلكترونات المحيطة بالنواة مساوٍ دائمًا للرقم الذري للعنصر، وهي حقيقة تجمع بين
البساطة المتناهية والقوة النافذة، ومعنى هذا أننا إذا رتبنا العناصر تبعًا لأوزان
ذراتها من الأخف إلى الأثقل وهكذا، ثم رقمناها ترقيمًا متسلسلًا، فإن الرقم المقابل لكل
عنصر يساوي عدد الإلكترونات المحيطة بنواة الذرة، وفيما يلي قائمة تحتوي على الاثني عشر
عنصرًا الأولى في جدول العناصر، وأمام كل عنصر الرقم الدال على ترتيبه في الجدول الذي
هو نفسه الرقم الدال على عدد الإلكترونات المحيطة بالنواة.
اسم العنصر
عدد الإلكترونات المحيطة بالنواة
الأيدروجين
١
الهيليوم
٢
الليثيوم
٣
البيريليوم
٤
البورون
٥
الكربون
٦
الأزوت
٧
الأوكسجين
٨
الفلور
٩
النيون
١٠
الصوديوم
١١
المغنسيوم
١٢
ويسمى رقم العنصر في جدول العناصر «الرقم الذري»، ويكون معنى قانون موزلي أن الرقم
الذري يساوي عدد الإلكترونات المحيطة بالنواة.
طبقات الإلكترونات
ولم تقف بحوث موزلي عند إثبات هذا القانون الهام، بل إنه توصل إلى معرفة طريقة توزيع
الإلكترونات حول النواة، فوجد أنها تقع في طبقات، طبقة داخلية تحيط بها أخرى ثم أخرى
وهكذا، واستخدمت الحروف اللاتينية M, L, K … إلخ …
للدلالة على هذه الطبقات، ولا بأس من استخدام الحروف ك، ل، م، إلخ … في لغتنا لهذا
الغرض، فنتكلم عن طبقة «ك» أو الطبقة الكافيَّة للدلالة على طبقة الإلكترونات الداخلية
التي هي أقربها للنواة، وطبقة «ل» أو اللاميَّة للتي تليها، وهكذا. ومن ألذِّ البحوث
العلمية البحث في توزيع الإلكترونات بين الطبقات المختلفة وعلاقة ذلك بالإشعاع الصادر
عن الذرة، وقد وجد أن لكل طبقة عددًا ثابتًا من الإلكترونات هو أكبر عدد يجوز أن يحل
في
هذه الطبقة، فالطبقة الكافيَّة لها إلكترونان اثنان، والطبقة اللامية ثمانية، والطبقة
الميمية ١٨، والنونية ٣٢، ثم يتناقص العدد بعد ذلك إلى الطبقات الخارجية.
الرقم الذري وخواص الذرة
ويحدد الرقم الذري للعنصر خواصه الكيميائية والإشعاعية تحديدًا يكاد يكون تامًّا،
فالعبرة في خواص العنصر ليست بوزنه الذري ولكن برقمه الذري، هذه حقيقة كان لها أثر عظيم
في تطور البحث وجَّهت العلماء توجيهًا منتجًا في موضوع اختلاف ذرات العنصر الواحد، فقد
كان المفروض حتى أوائل القرن الحالي أن ذرات العنصر الواحد كلها متشابهة من جميع الوجوه
وخاصة متساوية في الوزن، واعتبر الوزن الذري للعنصر مساويَّا لوزن ذرته، هو أمر بديهي؛
إذ لا معنى للكلام عن الوزن الذري إذا لم نقصد به وزن الذرة.
وكان المفهوم أن الخواص الكيميائية للعنصر تتحدد بوزنه الذري، فلما عُرف أن الرقم
الذري هو الذي يحدد خواص العنصر نشأ البحث في تشابه ذرات العنصر الواحد واختلافها، وهل
يجوز أن تتفق ذرتان في الرقم الذري مع اختلافهما في الوزن؟ والرقم الذري هو عدد
الإلكترونات المحيطة بالنواة، أما وزن الذرة فهو ثُقل النواة ذاتها التي تحتوي على
جُلِّ مادة الذرة كما سبق الإشارة، وقد بدأ الشك يتطرق إلى الاعتقاد في تشابه ذرات
العنصر الواحد من حيث الوزن، ونشأ هذا الشك من الناحية التجريبية من دراسة العناصر ذات
النشاط الإشعاعي.
كهرباء النواة
وقبل البحث في موضوع النشاط الإشعاعي وعلاقته بوزن الذرة ورقمها سأشير إلى حقيقة
بسيطة لا بد للقارئ أن يدركها إن لم يكن قد أدركها من تلقاء نفسه، فالذرة عبارة عن نواة
يحيط بها عدد من الإلكترونات يساوي الرقم الذري للعنصر، وكل إلكترون من الإلكترونات
يحمل كمية معينة من الكهرباء السالبة، وقد قام الباحثون في أوائل القرن الحالي بقياس
هذه الكمية مقياسًا مضبوطًا، وبرهنوا على أن جميع الإلكترونات تحمل نفس الكمية من
الكهرباء، حتى لقد صارت هذه الكمية وحدة ثابتة من وحدات علم الطبيعة، ولعل أدق من قاسوا
هذه الوحدة العالِم الأمريكي ميليكان،٣ فوجد أنها تساوي ٤٫٤٧٤ من عشرة آلاف مليون جزء من وحدات الكهرباء
الإستاتيكية، فإذا اتخذنا هذه الكمية وحدة للقياس فإن الإلكترون الواحد يحمل وحدة منها،
والإلكترونين يحملان وحدتين، وهكذا، وإذن فالإلكترونات المحيطة بالنواة تحمل عددًا من
هذه الوحدات الكهربائية يساوي عدد الإلكترونات، ولما كانت الذرة في مجموعها متعادلة من
الناحية الكهربائية وجب أن تحمل النواة عددًا من الوحدات الكهربائية الموجبة يساوي عدد
الإلكترونات المحيطة بها؛ وذلك لكي تتعادل الكهرباء الموجبة والكهرباء السالبة
للذرة.
فنواة الذرة إذن تحمل كهرباء موجبة تزداد بازدياد الرقم الذري، ومعنى هذا أن نواة
الأيدروجين تحمل وحدة من الكهرباء الموجبة، ونواة الهيليوم تحمل وحدتين، والليثيوم ثلاث
وحدات، وهكذا.
عودٌ إلى النشاط الإشعاعي
وهنا نعود بالقارئ إلى ظاهرة النشاط الإشعاعي وننظر في شيء من التفصيل إلى ما يحدث
لذرة اليورانيوم أثناء تجزُّئها؛ فاليورانيوم الذي يرمز له بالرقم ١ عدده الذري ٩٢،
وإذن نواته تحمل اثنتين وتسعين وحدة من وحدات الكهرباء الموجبة، ويخرج من نواة
(اليورانيوم ١) جسيم ألفَا فيتحول إلى ما يسمى (يورانيوم س١)، ولما كان من المعلوم أن
جسيم ألفا يحمل وحدتين من الكهرباء الموجبة فإن كهرباء النواة تنقص لذلك بمقدار هاتين
الوحدتين فيصير رقمه الذري ٩٠ بدلًا من ٩٢، ثم يتحول (يورانيوم س١) إلى (يورانيوم س٢)
بخروج جسيم بيتا من نواته، ويتحول هذا الأخير إلى (يورانيوم ٢) بخروج جسيم بيتا آخر،
ولمَّا كان كل جسيم من الجسيمَيْن بيتا يحمل وحدة من الكهرباء السالبة، فإن عدد وحدات
الكهرباء الموجبة التي تحملها النواة يعود إلى ما كان عليه؛ أي يصير ٩٢ وحدة، وإذن
فأمامنا ذرتان؛ ذرة (يورانيوم ١) وذرة (يورانيوم ٢) متساويتان في رقمهما الذري وهو ٩٢،
ومع ذلك فإننا نعلم علم اليقين أن وزن ذرة (اليورانيوم ٢) أقل من وزن ذرة (اليورانيوم
١) بمقدار أربع وحدات من وحدات الوزن الذري، وذلك بسبب خروج جسيم ألفا الذي وزنه يساوي
أربع وحدات، فالذرتان (يورانيوم ١) و(يورانيوم ٢) متساويتان في رقمهما الذري ومختلفتان
في وزنهما.
ولما كانت الخواص الكيميائية والإشعاعية للذرة لا تتوقف إلا على رقمها الذري، وجب
أن
نُسلِّم بأن (اليورانيوم ١) و(اليورانيوم ٢) ذرتان لعنصر واحد.
اختلاف ذرات العنصر الواحد في الوزن – أصناف العنصر
وقد دلَّت الأبحاث التي قام بها صودي وآستون وغيرهما على أن كل عنصر من العناصر له
ذرات مختلفة في الوزن مع تساويها في الرقم الذري، فعنصر الأوكسجين مثلًا له ذرة وزنها
١٦، وأخرى وزنها ١٧، وثالثة وزنها ١٨، والرقم الذري لكل واحدة من هذه الذرات المختلفة
٨، وتسمى المواد المتحدة في خواصها الكيميائية والإشعاعية وفي الرقم الذري لذراتها مع
اختلافها في الوزن الذري تسمى هذه المواد أصناف العنصر.٤ فعنصر الأوكسجين إذن له ثلاثة أصناف، وقد يصل عدد أصناف العنصر الواحد إلى
عشرة كما هو الحال في عنصر القصدير، وتختلف النسب المئوية لأصناف العنصر الواحد، فبعضها
يوجد بنسب عالية والبعض بنسب ضئيلة، فعنصر السيليكون مثلًا توجد له ثلاثة أصناف أوزانها
الذرية ٢٨، ٢٩، ٣٠ على التوالي، إلا أن نسبة وجود الصنف الأول في العنصر ٨٩٫٦٪ والثاني
٦٫٢٪ والثالث ٤٫٢٪.
ميزان الذرات أو مطياف الكتلة
وإذا كانت أصناف العنصر الواحد لا تكاد تختلف في خواصها الكيميائية ولا الإشعاعية،
فكيف أمكن التوصُّل إلى معرفة ما بين ذرَّاتها من اختلاف في الوزن؟ إن أصناف العنصر
الواحد تكوِّن مركبات متشابهة في خواصها الكيميائية؛ ولذلك كان من الضروري استحداث طرق
خاصة لفصلها وتفريقها، أما طريقة التحليل الطيفي على ما انطوت عليه من قدرة ونفاذ فإنها
تعجز عن التفرقة إلا فيما ندر، فذرة الليثيوم التي وزنها ٦ وذرة الليثيوم التي وزنها
٧
لهما طيفان متشابهان من جميع الوجوه، وإن شئت فقل: إنه طيف واحد، وإذن فلا يمكن
الاعتماد على الخواص الكيميائية ولا على المطياف٥ الضوئي في التمييز بين أصناف العنصر الواحد.
وقد استخدم طومسن وآستون وصودي جهازًا مستحدثًا لقياس الذرة أطلقوا عليه اسم مطياف
الكتلة،٦ أمكن بوساطته قياس أوزان الذرات بدرجة عالية جدًّا من الدقة، والأساس الذي
بنيت عليه طريقة هذا المطياف هي مرور الذرات المكهربة في مجال كهربائي مغناطيسي، فتسير
الذرات في مسارات منحنية يمكن حسابها بغاية الدقة بتطبيق قوانين علم الميكانيكا، ولمَّا
كانت هذه المسارات تختلف باختلاف أوزان الذرات فقد أمكن حساب وزن كل ذرة على حدة.
وتُعرف الأوزان الذرية التي يحصل عليها بهذه الطريقة بالأوزان الذرية الطبيعية؛ تمييزًا
لها عن الأوزان الذرية الكيميائية، وفيما عدا طريقة مطياف الكتلة قد استحدثت طرق أخرى
طبيعية لمعرفة وزن الذرة، منها طريقة الانتشار، وطريقة القوة الطاردة المركزية، وأهمها
في المدة الأخيرة طريقة التحليل الكهربائي، وقد أدت هذه الطرق مجتمعة إلى معرفة أوزان
الذرات المختلفة بدقة عظيمة، كما أدت إلى اكتشاف بعض الجسيمات الجديدة مما سيأتي الكلام
عنه في الفصل الآتي.