نشاط مصطنع
الأم والبنت
في عام ١٩٣٤ أعلن جوليو وزوجه إيرين كورى جوليو أنهما قد تمكنا من إحداث ظاهرة النشاط الإشعاعي في عناصر غير عنصري الراديوم واليورانيوم وغيرهما من العناصر ذات النشاط الإشعاعى الطبيعي، أو بعبارة أخرى: لم تعد ظاهرة النشاط الإشعاعي محصورة في الدائرة التي رسمتها لها الطبيعة، بل سار الإنسان يتحكم في العناصر العادية ويحولها إلى عناصر نشطة مُشعة، ومدام إيرين كوري جوليو هي بنت مدام كوري مكتشفة الراديوم، فجاء عملها مكملًا لعمل أمها، وقد مُنحت هي وزوجها جوليو جائزة نوبل على فتحهما هذا.
والتجربة التي أجرياها هي أنهما أطلقا جسيمات ألفا على كل من عنصري البورون والألومينيوم فتحولا إلى عنصرين مشعين تصدر عنهما البوزيترونات، وبعد أن أوقف إطلاق جسيمات ألفا استمر إشعاع البوزيترونات وتناقص تبعًا لقانون أُسى على نحو ما يحدث في العناصر ذات النشاط الإشعاعي الطبيعى، ونشأ عن هذا النشاط المصطنع أن تحولت ذرة البورون إلى ذرة أزوت كما تحولت ذرة الألومينيوم إلى ذرة الفوسفور.
النشاط الإشعاعي المصطنع
النشاط الإشعاعي واستقرار النواة
إن النواة جسم مؤلف من أجزاء ترتبط فيما بينها بقوى تعمل على تماسكها وترابطها، وهي جسم مكهرب تكتنفه وتتخلله مجالات كهربائية قوية، فلا بد من نظام يجمع هذا الشتات ويؤلف منه وحدة مستقرة الأحوال لها صفة البقاء والاستقرار، فنظام النواة — كأي نظام آخر — إما أن يكون مستقرًّا فيكفل له البقاء، أو يضطرب ويختل توازنه فيحدث التفكك والفساد الذي ربما يؤدي إلى الدمار، وقد تبين أن استقرار النواة واستتباب النظام فيها له شروط بعضها في غاية البساطة، فالنواة لها ثقل معين، كما أنها تحمل عددًا معينًا أيضًا من وحدات الكهرباء.
تحولات النواة
ومنذ سنة ١٩٣٤ تعددت البحوث في جميع أنحاء الأرض في التحولات التي تحدث للنواة مع البروتونات والنيوترونات والديبلونات والإلكترونات والبوزيترونات وجسيمات ألفا وأشعة جاما، وإذا تذكرنا أن عدد العناصر المختلفة يزيد على التسعين عنصرًا، وأن العنصر الواحد له أصناف متعددة، لكل منها نواة خاصة به، فإن عدد النوى المعروف للذرات المختلفة يقرب من مائتي نواة، كل منها يجوز أن يتفاعل مع بروتون أو نيوترون أو … إلخ، إذا تذكرنا كل ذلك فإننا نستطيع أن نفهم اتساع الميدان الجديد الذي يصح أن يُسمى ميدان النواة، والذي هو نوع من الكيمياء الجديدة يتفاعل فيها النوى كما تتفاعل المواد الكيميائية.
للتسلية
جرت العادة على أن يسلي بعض القراء أنفسهم بحل بعض الألغاز كالكلمات المتقاطعة التي تنشر في الجرائد وغيرها من وسائل الترويح عن الأذهان والنفوس، وفيما يلي سأدل القارئ على وسيلة من هذه الوسائل أرجو أن يجد فيها متعة ولذة، أما حضرات القراء الذين يضيقون ذرعًا بالرموز والمعادلات فهؤلاء لا أقدم لهم أي اعتذار؛ إذ ما عليهم إلا أن يقفزوا بنظرهم ويتركوا الرموز والمعادلات لمن هو أوسع منهم صدرًا. والتسلية التي أقدمها للقارئ والتي ستمكنه من تتبع التحولات التي تتحولها النواة وفهم التفاعلات بين النوى يمكن شرح قواعدها بالطريقة الآتية: إن كل نواة تتميز بعددين؛ أولهما يدل على وزنها، والثاني على مقدار الكهرباء الذي تحمله، فنواة الألومينيوم مثلًا وزنها ٢٧ وعدد وحدات كهربائها ١٣، وإذن يمكن أن تكتب على الصورة الرمزية (٢٧ أل ١٣) حيث «أل» رمز على الألومينيوم، ونواة الهيليوم التي هي جسيم ألفا وزنها ٤ ووحدات كهربائها ٢، وإذن يمكن أن يرمز لها بالرمز (٤ هي ٢) حيث «هي» رمز على الهيليوم، وتوجد نواة لأحد أصناف السيليكون وزنها ٣٠ وكهربائها ١٤ فنرمز لها بالرمز (٣٠ سي ١٤) حيث «سي» رمز على السيليكون، ونواة الأيدروجين — التي هي البروتون — وزنها ١ وكهربائها ١، فيرمز لها بالرمز (١ يد ١) حيث «يد» رمز على الأيدروجين. والتسلية التي أقدمها للقارئ هي تفسير المعادلة الآتية:
(٢٧ أل ١٣) + (٤ هي ٢) = (٣٠ سي ١٤) + (١ يد ١)
فهذه المعادلة معناها أنه بإطلاق جسيمات ألفا على ذرات عنصر الألومينيوم تحصل على شيئين؛ أحدهما: نواة صنف السيليكون التي وزنها ٣٠، والشيء الآخر: هو بروتون.
وعلى القارئ أن يتحقق من أمرين؛ أولهما: أن مجموع الأوزان في الطرف الأيمن من المعادلة يساوي مجموع الأوزان في الطرف الأيسر، والثاني: أن مجموع وحدات الكهرباء في الطرف الأيمن مساوٍ أيضًا لمجموع وحدات الكهرباء في الطرف الأيسر، والتحقق من ذلك أمر بسيط لأن:
٢٧ + ٤ = ٣٠ + ١ = ٣١
وأيضًا ١٣ + ٢ = ١٤ + ١ = ١٥
والمسألة — كما يرى القارئ — لا تعدو عمليتين من عمليات الجمع البسيط، وليست جميع المعادلات الدالة على تحولات النواة بسيطة إلى هذا الحد، فقد يحدث أن يدخل إلكترون في التفاعل وهذا كهرباؤه سالبة فتحل عملية الطرح محل عملية الجمع، كما أن وزن الإلكترون ضئيل فيحسب في المعادلة على أنه صفر، وقد يحدث أن يدخل نيوترون في العملية وهو غير مكهرب فتحسب كهرباؤه على أنها صفر، وكذلك أشعة جاما، فإن كلًّا من وزنها وكهربائها يكون صفرًا، والمعادلة الآتية تدل على ما حدث في التجربة التاريخية التي أجراها جوليو وزوجه عام ١٩٣٤ واستحدثا الفوسفور ذا النشاط الإشعاعي المصطنع:
(٢٧ أل ١٣) + (٤ هي ٢) = (١ ن صفر) + (٣٠ فو ١٥)
وفي هذه المعادلة يدل الرمز «ن» على النيوترون، كما يدل الرمز «فو» على الفوسفور، أما النشاط الإشعاعي المصطنع للفوسفور، وهو الفتح الجديد الذي أشرنا إليه، فإنه يتمثل في المعادلة الآتية:
(٣٠ فو ١٥) = (٣٠ سي ١٤) + (صفر بو ١)
حيث «بو» رمز على البوزيترون. وإنني أترك للقارئ أن يسلي نفسه بالتحقق من تساوي الوزن والكهرباء في طرفي كل معادلة من هاتين المعادلتين، والمعادلة الأخيرة تدل على عملية نشاط إشعاعي اصطناعي، فذرة الفوسفور التي وزنها ٣٠ وكهرباؤها ١٥ ذرة غير مستقرة، ولذلك تنبعث منها بوزيترونات وتتحول إلى ذرة سيليكون، فذرة الفوسفور التي وزنها ٣٠ مثال على ما ذكرناه فيما تقدم من أنه إذا وصلت نسبة الكهرباء إلى الوزن إلى حد معين فُقِد توازن النواة وانبعث منها جسيمات مكهربة.
دراسة تفاعلات النواة وتبويبها
إن تعدد التفاعلات المختلفة بين النوى والجسيمات الذرية واتساع دائرتها قد أدى إلى تبويبها، فالتفاعلات المتشابهة قد جمعت ورتبت واعتبرت نوعًا من أنواع التفاعلات، وهكذا نشأت دراسة جديدة في علم كيمياء النواة، وسأذكر بعض الأبواب المختلفة التي تقع فيها هذه التفاعلات، أو على الأصح ما عرف منها إلى الآن، فهنالك نحو ثمانية عشر بابًا من أبواب هذه التفاعلات، رتبت حسب نوع الجسيمات التي تدخل في النواة ونوع الجسيمات التي تخرج منها، فمثلًا إذا أطلق جسيم ألفا على نواة عنصر من العناصر؛ فدخل الجسيم في النواة واستقر فيها وخرج من النواة بروتون اعتبر هذا نوعًا خاصًا من أنواع التفاعل أيًّا كانت النواة التي تتأثر به، وإذا أطلق جسيم ألفا فخرج نيوترون كان هذا نوعًا آخر، وفي بعض الأحوال يخرج أكثر من جسيم واحد من النواة فيدخل فيها جسيم ألفا ويخرج منها نيوترونان مثلًا، وهذه عمليات على جانب عظيم من التعقيد، ولذلك اكتفي بالإشارة إليها دون زيادة في التفصيل.