التاريخ١
والحقيقة أنه إن كان مقصدهم مجرد المخالفة وتغيير الأسلوب لعدم الصبر على طعام واحد فقط أصابوا الغرض، ولكن إن كانوا يزعمون أن التعليلات الغريبة هي الأصل في تلك الوقائع فليسمحوا لنا أن نستعفيهم من التصديق؛ لأننا نعرف التاريخ بالأدلة العقلية والنقلية وملاحظة ما سبق وما لحق واستنباط النتائج من المقدمات، ولا نعرفه تخرُّصات وافتراضات وأبنية على غير أساس، فإن كان هذا هو التمحيص التاريخي الذي يتوخى بعض العصريين أن يقلد به الإفرنج فلا كان هذا التمحيص الذي هو عبارة عن قلب الحقائق لأجل الإتيان بالبدع، ويجل علماء الإفرنج عن أن يكون تمحيصهم من هذا النمط، وقد خلط منهم من خلط في معرض التمحيص ولكن نَبه المدققون منهم على أنهم خلطوا.
فعندما يقوم واحد فيذهب إلى أن تاريخ حرب اليمامة محاط بالغموض، وأن مقاتلة أبي بكر لأهل الردَّة لم تكن من أجل إقامة الدين بل من أجل تأسيس الملك، وما أشبه ذلك من التوجيهات التي لم يقم عليها أدنى دليل، نعلم أنه حاول أن ينهج مناهج الممحصين فظن التمحيص مجرد الخروج عن الإجماع ولو كان الإجماع صحيحًا، فلم يصب المرمى.
وعندما يقوم آخر فيدعي أن السلف في صدر الإسلام وضعوا «سانسورا» على الشعر الجاهلي المُشرَبِ مبادئ الوثنية أو النصرانية أو اليهودية، نعلم أن هذه الدعوى مبنية على الافتراض والتخيل، وأنها لا تستند على دليل بل الواقع يناقضها من كل الجهات.
والحقيقة أنه ليس لهم من جواب على هذا السؤال، ولا حيلة لهم في التخلص منه إلا بإيراد أدلة واهية لا تدفع شيئًا من حقيقة حرية الرواية في ذلك العصر ومن كون بابها بقي مفتوحًا على مصراعيه؛ ولا تنفي أن عصر الصحابة لم يعرف «السانسور» ولا مراقبة الرواية، ولا كم الأفواه، ولا شيئًا من أوضاع «ديوان التفتيش».
وإذا تأملتَ في كلام هذه الفرقة رأيتَهم يشيرون من طرف خفيٍّ إلى نزول درجة الحضارة التي كان عليها الصحابة، وأن شرائعهم وقوانينهم إنما كانت شرائع قوم في طفولة المدنية، وأنها «لا تمس الحياة إلا قليلًا»، وما أشبه ذلك، ثم ينسون أن مراقبة الكتابات والروايات إن هي إلا من أوضاع الهيئات الاجتماعية المتدينة التي استبحر فيها العمران وتأثل الملك، وأن «السانسور» لا يأتي مع بداوة المجتمع ولا يعقل وجوده في أيام السذاجة كالتي عاش فيها النبي ﷺ والصحابة — رضوان الله عليهم.
فمراقبة الكتب والخطب كانت تقع في رومية والقسطنطينية لعهد عظمة القياصرة، وفي أيام سلطة الباباوات، وفي عهد ملوك فاتحين كلويس الرابع عشر، وقد بالغ فيها نابليون الأول ثم نابليون الثالث، وقد وقعت من أيام العرب في عهد العباسيين وغيرهم من ملوك الأعاجم، أو الملوك العرب الذين اتخذوا أطوار الأعاجم، فأما القول بأنها كانت في عهد الخلفاء الراشدين وفي أيام الصحابة فمحض تحكم ومكابرة.
نعم كان هؤلاء الناس من شديدي التحمس بالدين الجديد الذي جاءهم به محمد ﷺ ولكن حماستهم هذه لم تقلع ما في قلوبهم من حب الحرية التي نشئوا عليها في الجاهلية والتي لا يوجد في الشرق ولا في الغرب أمة بلغت شأو العرب فيها، ومن قال: «إن العرب أعرق الأمم في الحرية» فغير مُبالِغ، لهذا تجدهم رووا بألسنتهم وكتبوا بأقلامهم جميع مطاعن المشركين في النبي ﷺ وصحبه ولم يُخفوا منها قليلًا ولا كثيرًا، ونقلوا الشبه والاعتراضات التي كَانت تقع على الرسول ورهطه، وذكروا كثيرًا مما كان يردُّ به بعض العرب على رسول الله ﷺ وكيف أن اثنين تخاصما إليه فحكم لأحدهما فقال المحكوم عليه: هذا حكم لم يُرد به وجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «أوذي موسى من قبل بأكثر من هذا» وغير ذلك مما هو مستفيض في كتب السيرة النبوية وأخبار صدر الإسلام، ومما رواه الرواة المسلمون وحرره الكتبة المسلمون وأقرأه العلماء المسلمون، ولم يكن عندهم حرج في نقل تلك الأحاديث وإبرازها كما جاءت؛ لأنهم كانوا على بينة من دينهم الذي دانوا به، وكانت قلوبهم مطمئنة بالإيمان، وكانت سيرة النبي ﷺ معلومة عندهم بدقائقها، فلم يكونوا يحتاجون فيها إلى «السانسور»؛ دَرءًا للشبهات عنها وخوفًا من أن يُفضي تداول هذه الروايات إلى زعزعة عقيدة الإسلام التي لم تكن منذ جاء بها صاحبها ﷺ إلى اليوم على شفا جُرفٍ هارٍ، إن الإسلام مولود رُزق الصحة ووثاقة التركيب منذ ولادته.
نعم في هاتيك الأيام وما يليها كانوا يردون أهاجي بعض الشعراء للصحابة والأنصار و«لبنى النجار» وفي تلك الأيام كان يعاتَبُ الرسول ويقال له:
في أيام السلف كان ينادي الأخطل:
كان يقول هذا ويدخل على الخلفاء ويجيزونه الجوائز السنية، وكان هو وغيره من النصارى واليهود يفتخرون بدينهم ويعلنونه في أشعارهم التي كان يرويها المسلمون ويقيدونها في دفاترهم، ولما جاء الملكَ النعمانَ بنَ المنذر رجل نصراني في اليوم الذي كان عنده يوم بؤس وأمر النعمان بقتله، استماحة النصراني مهلة أن يذهب ويودِّع أهله، فأذن له، على أن يقدِّم كفيلًا يحل محله في القتل إذا هو لم يرجع، فرجع، وتعجب النعمان من وفائه، فسأله: ما حملك على الوفاء؟ فأجابه النصراني: حملني ديني! فقال له النعمان: وما دينك؟ قال له: النصرانية. وتنصر النعمان بعد هذه.
فكيف يكون المسلمون الأوائل حاولوا خنق كل صوت غير صوتهم ومحوا آثار النصرانية واليهودية والوثنية من شعر العرب؟
ثم إن شعر شعراء النصرانية في الجاهلية يملأ الدواوين «وما منهم إلا مَنْ حَرِصَ علماء الإسلام على التنبيه أنه كان نصرانيًّا، وقد نقلوا خُطب قس بن ساعدة الذي كان مطرانًا، ونقلوا ثناء النبي ﷺ عليه.»
وأما كون ديوان شعراء النصرانية المطبوع في بيروت موضوعًا وأن الشعراء المروية أشعارهم فيه لم يكونوا نصارى، بل جعلهم صاحب الديوان نصارى وهم جاهليون لا غير، فمن يقول هذا؟ ومن يصل به المراء إلى إنكار أن أكثر أولئك الشعراء كانوا نصارى؟ غاية ما يقال: إن بعض أولئك الشعراء لم تثبت نصرانيتهم، وهذا لا ينفي أن شعراء كثيرين مثل العبادي والأخطل والقطامي كانوا نصارى مجمعًا على نصرانيتهم، وأن المسلمين نقلوا أشعارهم كما هي ولم يحذفوا منها شيئًا، وكان الشعراء المسلمون يناقشون ويداعبونهم، وكان جرير يقول:
فالقول بأن النبي — صلى الله تعالى عليه وسلم — وأصحابه لم يُبقوا على أي نزعة تخالف دين الإسلام، وأنهم طووا شعر النصارى واليهود والمشركين محض تحكم لم يقم عليه أدنى دليل، بل قام الدليل على حرية الإسلام وتساهله في الدين.
ونقل رواة المسلمين ليس شعر النصارى واليهود والمشركين فقط، بل أهاجي كثيرة قالها هؤلاء في النبي وأصحابه وأنصاره.
يا إخواننا، إنه في صدر الإسلام يتناقلون مثل قوله:
روى هذا المسلمون، وما زالوا يروونه، وفي زمان بني أمية كان العهد بسذاجة الجاهلية قريبًا، فكانت الحرية في القول تامة والألسنة منطلقة، ومما عُزِيَ إلى يزيد يوم جيء برأس الحسين — رضي الله عنه:
ثم عُزِيَ إلى الوليد أنه قال وقد سَكِرَ ومزق القرآن:
نعم رُويت هذه الأشعار وأمثالها مع لعن قائلها، ولكنها رُويت وقُيِّدَتْ في التواريخ ولم تُمنع روايتها، ولا كان قلم مراقبة ولا ديوان تفتيش ولا كتب جائزة ولا كتب ممنوعة.
أما إزراء الشعراء بالعلماء وما قاله بعض هؤلاء في الإعراض عنه والتعوذ منه فهو من باب التورُّع من بعض الفقهاء؛ وذلك لأنهم كانوا يرون فيه مبالغة وغلوًّا وعبثًا، فأشفقوا من أن يؤثر الاعتماد عليه في أخلاق النشء ويصرفهم عن العبادة؛ ولكن هذا الزهد في الشعر لم يحملهم ولا حمل الخلفاء والسلاطين على منع قرض الشعر وروايته والتأدب به، وذلك كما أن نصرانية الأخطل والقطامي وأمثالهما لم تمنع متأدبي الإسلام من رواية أشعارهم وحفظها والتأدب بها، وأن وثنية أكثر شعراء الجاهلية لم تحل دون انطباع طلاب الفصاحة من المسلمين بأساليبهم ونسجهم على منوالهم، ومَنْ مِنَ العلماء والمؤرخين المحققين يقدر أن يقول: إن أدباء العرب بعد الإسلام رغبوا عن شعر الجاهلية وأهملوا روايته من أجل أن قائليه كانوا مشركين؟ أو أن المسلمين طووا كلام قس بن ساعدة؛ لأنه كان نصرانيًّا؟ أو لم يعجبوا بقصيدة: «إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه»؛ لأن صاحبها كان يهوديًّا؟ من يا رب يقول هذا إلا الذين يبنون التاريخ على الأهواء والخيالات؟
وقع التشدد في مثل هذه الأمور في أيام الدولة العباسية؛ لبعد العهد بسذاجة الدور الأول، وميل هذه الدولة إلى مناحي الأعاجم، وَفُشُوِّ الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية في دار السلام، مما أخاف الخلفاء ووزراءهم على العقيدة الدينية وحفزهم على الاحتياط لعدم انحلالها، وهذا أشبه بما كان في أوربة في القرون الوسطى، لا بل في القرون الأخيرة، لا بل بما لا تزال بقاياه إلى هذه الآونة، وبرغم ما كان من هذا الاحتياط في أيام العباسيين ومن في عصرهم من ملوك الإسلام فقد كان الناس يروون أهاجيهم ومثالبهم ويتناشدون المطاعن الفاحشة في أعراضهم حتى في مجالس أقرب الناس إليهم، وقد قال المأمون للقاضي يحيى بن أكثم: من ذا الذي يقول:
يشير إلى أن هذا البيت قيل فيه، فأجابه: هو الذي يقول يا أمير المؤمنين:
وقد شاعت أقاويل التعطيل والإلحاد في هاتيك الأيام برغم الضبط والمراقبة ودونت أقوال الملحدين والدهريين.
ورويت أشعار المعري ومن في سبيله حتى ما يخالف الدين الإسلامي مثل قوله:
وكثير غير هذا من أقواله، ورسالة الغفران وصلت إلينا، ولولا أنها تدوولت بالنسخ من قراب ألف سنة ما وصلت إلينا، ولو كان هناك «سانسور» ما أبقى على رسالة الغفران.
وتجادل نصراني في الدين مع أحد بني العباس، ونال النصراني من العقيدة الإسلامية، وبلغ المأمون ذلك فقال ما معناه: ما كان أغنى ابن عمنا عن تعريض دينه للطعن!
والكتاب الذي كتبه أبو بكر الخوارزمي لشيعة نيسابور أشهر من «قِفا نبك» وليس بكتاب خاص أو رسالة مكتومة، بل هو خطاب لأهل بلدة كانت من أشهر البلاد، وفيه من السب لمعاوية ما فيه، ومن النعوت لخلفاء بني أمية وبني العباس والخوض في أعراضهم ما لا يرد في أقذع الجرائد، وهو الذي يقول عن الرشيد: «هارون ابن الخيزران»، وعن المتوكل «المتوكل على الشيطان لا على الرحمن» وهلم جرًّا: وكان أبو بكر الخوارزمي في زمن بني العباس، وكان إذا قال أَثَرَ الناس قوله وتدارسوه.
ولا أنفي — مع ذلك — أن الدولة الإسلامية في القرون التالية كانت تحجر أحيانًا على الفلسفة التي يراد منها التعطيل أو الإلحاد، ويسمونها الزندقة، فأما إزالة شعر النصارى أو اليهود أو المشركين ومنع روايته فشيء لم يقع لا في زمن الصحابة ولا في أيام بني أمية ولا أيام بني العباس.
وقد ألف النصارى في تعظيم دينهم في زمان بني العباس كتبًا كثيرة وتواريخَ أيدوا بها مذهبهم، وما اعترضهم أحد ولا منعت الدولة كتبهم.
وإن كان النبي ﷺ أمر بأن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان وأجلى عمر النصارى واليهود عنها، فلم يكن ذلك لينقص شيئًا من حرية النصارى واليهود في دينهم في سائر بلاد الإسلام، بل من حرية الصابئة والمجوس، وما قال مؤرخ غربي ولا شرقي: إن الإسلام أكره أحدًا في الدين أو منع كتب الملل الأخرى.
فيا إخواننا، إن التاريخ لا يكون بالظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا، وهذا نتف من كثير، ووشل من بحر؛ ولو كانت بيدنا الآن كتب لأحلناكم على شواهدَ لا تنتهي، فإن كنتم مع هذا تصرون على المخالفة لأجل المخالفة فليس هذا مما يزيد الثقة بعلمكم، بل هو ينقصها، وبدلًا من أن يضع العلم على قواعد اليقين يضعه على قواعد أوهى من بيت العنكبوت.