فلسفة كمضغ الماء
قالوا: إن هذه الجامعة إنما أُنشئت للبحث العلمي لا للعلم نفسه؛ إذ العلم قليله وكثيره علم، وجيده ورديئه علم، وما صح فيه وما تشابه منه كل ذلك علم؛ أما البحث العلمي فمداره على التحقيق والتمحيص، فهو فوق العلم؛ لأنه سببه وغايته والواسطة إليه، والبحث يتناول الباطل كما يتناول الحق؛ لأنه بحث، ولذلك وضع، وبذلك مادته، فلو أطبق الناس جميعًا على رأي من الآراء أو مذهب من المذاهب ثم قام أستاذ في هذه الجامعة فنقض ذلك الرأي وذهب خلاف المذهب كان له أن يفعل ما وسعه وأن ينقض وأن يخالف، وهو مصيب وإن أخطأ، وقريب من الحقيقة وإن بعُد، وعالم وإن جهِل الجهلة التي لا يلعن ما قبلها إلا ما بعدها.
قالوا: فإنه إنما يبحث ليهتدي إلى شيء، فإن اهتدى فقد اهتدى، وإن ضلَّ شفع له أنه مجتهد، وأنه لم يُسلب الرأي الصحيح إلا برأي ظن الصحة غالبة عليه.
ومعنى هذه الفلسفة أن مضغ الماء كمضغ الخبز: كلاهما يحتاج إلى الأسنان الحادة والأضراس الطاحنة والأنياب الشكِسة، ما دام الذي بمضغ الماء أستاذًا في الجامعة، وما دام المضغ عنده يسمى بحثًا؛ إذ العبرة به وحده إن تعاقَل وإن تحامَق، وإن صدق وإن كذب؛ وما الجامعة إلا مصنع ومختبَر تُكشف فيه آراء وتُصنع فيه آراء، وتزورُّ فيه آراء، والأستاذ في الجامعة يقول ما يشبهه رأيًا وعقيدة وعلمًا وجهلًا، ويمضي في «البحث» على ما يُخيل له حقًّا أو باطلًا، فما رآه هو الصحيح فلا صحيح غيره ولا صحيح من قبله أو بعده.
فيا أيها الناس، وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه، جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وجعل الله الجامعة الحرام قيامًا للناس!
على أنه إن صحَّ شيء من ذلك أو قارَب أن يصح فقد وجب أن لا يتولى التدريس في الجامعة إلا رجل لا يوازَن به أحد في علمه الذي يتولاه، ويكون من أيسر صفاته أنه فوق كل صفة معروفة في نظرائه وأنداده، قد تم من حيث يتمون، وزاد عليهم أشياء ليست في المواهب المعروفة، بل تقع في أقصى ما يبلغ العقل الإنساني عند الأفق القريب من الوحي والإلهام، فإن ظفرت الجامعة بمثل هذا العقل الفذ كان لها أن تقول ما هي قائلة وأن تزعم ما شاء لها الزعم، وهي في ذلك آمنة أن يُرَدَّ عليها؛ لأنها حينئذ تتكلم بما لا يسمو إليه كلام آخر، وتأتي للناس بما فيه زيادة على الناس ويكون ذلك مع حجتها عليهم، فيسكت المتكلم، وينقطع المكابر، ولا يبقى إلا التسليم للأقوى، وعلى الأصل الذي بنيت عليه الطبائع كلها.
ولقد يتفق للجامعة المصرية مثل هذا الأستاذ، الذي يأكل الأساتذة؛ تجده في علم كالقانون أو الطب أو الفلسفة ونحوها مما تعاوَرَه العلماء من أجيال بعيدة وفرغوا منه تدوينًا وتعليقًا وشرحًا وتحقيقًا، ولم يبقَ إلا مثل ما بقي مما تتفاوت به العقول وتختلف القرائح في حدَّة الذكاء وقوة الملاحظة من رأي يزاد عليه أو ينقص منه، ولكن أين مثل ذلك في تاريخ الأدب العربي وهو علم لا يزال يتخلق، ولا يزال كالجزائر البركانية: تظهر الجزيرة بحالها في البغتة والفجأة وتخسف الأخرى في مثل ذلك، وما علة ما يظهر إلا علة ما يخسف؟! ولكن لا بد أن يقع الحدث ثم تجيء الفلسفة والتعليل بعد ذلك.
ومن العجيب أن أستاذ الجامعة الدكتور طه حسين لم ينتهج إلا الطريقة التي لا تلتئم مع طبيعة هذا التاريخ؛ فهو يبحث دائمًا عن العلة في أحد شيئين: إما في غير معلولها، وذلك خطأ كبير؛ وإما في معلولها بعد أن يغيره على ما يتوهم، وذلك شر من الأول، ومثل هذا إن سُمِّيَ بحثًا وسُمي فلسفة في التاريخ لا يمكن ألبتة أن يسمى تاريخًا، ولا يخرج منه إلا كلام مستفيض هو على كل حال كلام قائله وعلى قدر من عقله وذكائه واطلاعه وطريقة فهمه، لا بحسب التاريخ ورجاله وعلله، فيكون الأستاذ كأنه يدرس فنًّا من الكلام بعض مادته من التاريخ، لا فنًّا من التاريخ بعض مادته من الكلام.
وهذه الطريقة التي تسمى علمية هي في التاريخ أجهل الطرق؛ لأنها تختلف فيما تقرره باختلاف الرجال والأزمنة، مع أن التاريخ شيء ثابت لا يختلف ولا يمكن أن يُخْلَقَ مرة أخرى، لا بإنشاء الجامعة المصرية ولا بأمر وزارة المعارف، ومتى وُلد التاريخ لم يهرم ولم يمُت، ثم تلك الطريقة هي أيسر الطرق، وخاصة على من كان قليل الاطلاع، فإنك لا تتقيد فيها بمعروف تعرفه ولا بمنكر تنكره، إلا ما شئت وشاءت لك غفلة من حولك، ثم إنك تركب إليها كل أسلوب فإذا جميع الطرق تؤدي إلى غايتها؛ لأنها لا غاية لها إلا ما توهمتَه غاية وقلتَ: إنه غاية.
والتاريخ نوعان: أحدهما طُوي عليه الدهر وقد وقع وانقطع، فلا تغني فيه هذه الطريقة شيئًا، والآخر تُطوى عليه أدمغة مؤلفي الروايات ومن ينسجون في العلم على منوالهم، ولا أَفْيَدَ في كشف أسرار هذا النوع وإظهار حقائقه من هذه الطريقة!
•••
وسنقرأ هذا الكتاب، فهو الجامعة التي رفعنا أسئلتنا إليها.