الميراث العربي١
كان أبو خالد النُّميري في القرن الثالث للهجرة، وكان ينتحل الأعرابية، ويتجافى في ألفاظه، ويَتبادى في كلامه، ويذهب المذاهب المنكرة في مضغ الكلام والتشدُّق به؛ ليحقق أنه أعرابي وما هو به، وإنما ولد ونشأ بالبصرة، قالوا: فخرج إلى البادية فأقام بها أيامًا يسيرة ثم رجع إلى البصرة فرأى الميازيب على سطوح الدور فأنكرها وقال: ما هذه الخراطيم التي لا نعرفها في بلادنا؟
ومنهم كتاب يكتبون بالعربية ويرتزقون منها، وأدباء يبحثون في آدابها وفنونها، وكلهم مجيد محسن إلا حيث يكتب كاتبهم في إصلاح الكتابة ويبحث باحثهم في إصلاح الأدب، فهنالك ترى أكثر هَمِّ الأول أن تَسلم له عاميته فلا يُنكر عليه ضعف ولا لحن ولا يهجن له أسلوب ولا عبارة وأن يكون له كل ما يعرض له من النقص معتبرًا من الكمال العصري، وترى هَمَّ الثاني أن يُكره الآداب العربية على أساليب غيرها ويقتسرها جرًّا وتلفيقًا وتلزيقًا ويبسط فيها المعاريض الكلامية، فهذا عنده كذب ولا دليل عليه، وهذا محال ولا برهان فيه، وهذا قائم على الشك، وذاك على ما لا أدري ولا يدري أحد.
حدثني كاتب شهير من هذه الفئة، فكان من أعجب ما قال: إن ابن المقفع فصيح بليغ، وهو مع ذلك ليس بمسلم ولا عربي ولا شأن له بالحديث ولا بالقرآن ولا بالدين، وساق ذلك ردًّا على ما قلته من أن لا فصاحة ولا لغة إلا بالحرص على القرآن والحديث وكتب السلف وآدابهم، ولا أدري والله كيف يفهم هذا وأمثاله، ولكنك تتبين في عبارته مبلغ الغفلة التي تعتري هذه الفئة من نقص الاطلاع وضعف الفكر وبناء الأمر على بحث صحفي بلا تحقيق ولا تنقيب، وترى كيف يذهبون عن الأصل الذي يقوم عليه الغرض ثم يحاولون أن يؤصلوا له على قدر عقولهم وأفهامهم، وقد تفلح الفلسفة في كل شيء إلا في تعليل ما علته معروفة، وهل نشأ ابن المقفع إلا على اللغة العربية والأدب العربي والرواية العربية، وكان من أقوى أسباب فصاحته المشهورة أخذه هذه الفصاحة وهذا الأسلوب عن ثور بن يزيد الأعرابي الذي قالوا فيه: إنه كان من أفصح الناس لسانًا، ولكن أين من ينقب عن هذا ونحوه في تلك الجماعة أو يتوهمه فيقف على حدِّه، وهل علموا أن ابن المقفع على انصرافه إلى النقل من الفارسية ولليونانية اختار يومًا أسلوب العامة في زمنه، أو استجاده للنقل والترجمة، أو خرج على الأدب الذي تأدب به، أو حاول فيه محاولة، أو قال بوجوب هدم القديم؛ لأنه لا يرى للعرب مثل الذي لا يعرف لليونان من العلم والحكمة والخيال وأساليب الحكاية الكتابية، أو نزل بأسلوبه وكتابته منزلة من يمكُر الحيلة في اللغة أو يكيد للأدب أو يساهل نفسه لغرض كالذي في نفوس هؤلاء المجدِّدين؟
قال لي ذلك الكاتب في بعض كلامه: إن الميراث العربي القديم الذي ورثناه يجب هدمه كله وتسويته بالعدم. قلت: أفتحدث أنت للناس لغة وأدبًا وتاريخًا ثم طبائع متوارثة تقوم على حفظ اللغة والأدب والتاريخ، أم تحسب أنك تستطيع بمقالة عرجاء في صحيفة مقعدة، أن تهدم شيئًا أنت بين أوله وآخره كعود من القش يؤتي به لاقتلاع جبل من أصوله؟
من أين جاء الميراث العربي وكيف اجتمع وتكامل إلا من القرائح التي جدَّت في إبداعه وإنمائه، وأضافت أعمارها صفحات فيه، واستخلصت له آداب الفرس والهند واليونان وغيرهم، فأعربت كل ذلك؛ ليندمج في اللغة لا لتندمج اللغة فيه، وليكون من بعضها لا لتكون من بعضه، وليبقى بها لا لتذهب به؟
ومن ذا الذي يزعم أن العرب هم كل الأرض، وأن آدابهم خُلقت على الكفاية لا تحتاج إلى تحوير أو تبديل؟ ولكن من ذا الذي يرضى أن يجعل لكل أرض عربية لغة عربية قائمة بنفسها، ولكل مصرٍ أدبًا على حياله: ولكل طائفة من الكُتَّاب كتابة وحدها؟ ومن ذا الذي فعل ذلك أو حاوله في التاريخ الإسلامي كله على طول ما امتد وتساوق؟
لقد كانت القبائل العربية مادة هذه اللغة وسبب اتساعها واستفاضتها، وكان فحول الشعراء من الجاهلية كأن كل واحد منهم قبيلة في التفنن والإبداع مجازًا واستعارة وبديعًا، ثم جاء القرآن الكريم فكان الغاية كلها، ثم تتابع الشعراء والكتاب والأدباء فمن لم يزد منهم على الموجود لم ينقص منه، ثم جاء أدباء المترجمين وفيهم من جمع البراعة من أطرافها، فكانوا هم القبائل الحديثة في معاني اللغة وفنونها، وكان مذهبهم في كل ما ترجموه وما اقتبسوه هذه الكلمة التي قالها العتابي: «اللغة لنا، والمعاني لهم» يريد العجم، وكان ينسخ من كتبهم وقد يسافر في طلب الكتب شهرًا، والعتابي من أبلغ من أخرجتهم العربية، وكان واحد دهره في الأجوبة المُسكِتة، ولولا فصاحته ما بقي اسمه.
فلو صنعت القبائل الحديثة من أبي خالد الفرنسي إلى أبي خالد الإنجليزي هذا الصنيع لكان رأس أمرهم الحرص على اللغة، ثم إن شدُّوا عليها أيديهم فسيحرصون على كتبها التي هي مادتها، ثم إن جمعوا هذه فيدرسونها ويتناقلونها، ثم إن هم تدارسوها فقد رسخت فيها الملكة واستحكم عندهم الذوق وانقاد لهم الطبع واستفحصوا واستجادوا؛ فإذا انتهينا إلى هذا لم يبقَ من موضوع يخالفون عليه، وصار أدباء اللغة جميعًا جنسًا واحدًا ولم يبقَ إلا النقدُ يبين شخصًا من شخص وطريقة من طريقة، واللغة بعدُ محفوظة سليمة وإليها المرجع كله ولها العمل كله وهي الأمر كله، وهذا ما تقوم عليه آداب الأمم المستقلة المنفردة بجنسيتها ومقوماتها.
ألا يرى أبو خالد الإنجليزي وأبو خالد الفرنسي كيف تُباهي كل أمة في أوربا بلغتها، وكيف يفخر الفرنسيون بلسانهم حتى إنهم ليجعلونه أول ما يعقدون عليه الخنصر إذا عدوا مفاخرهم ومآثرهم، وهل أعجب من أن المجمع العلمي الفرنسي يؤذن في قومه بإبطال كلمة إنجليزية كانت في الألسنة من أثر الحرب الكبرى ويوجب إسقاطها من اللغة جملة، وهي كلمة «نظام الحصر البحري» وكانت مما جاءت مع نكبات فرنسا في الحرب العظمى، فلما ذهبت تلك النكبات رأى المجمع العلمي أن الكلمة وحدها نكبة على اللغة كأنها جندي دولة أجنبية في أرض دولة مستقلة بشارته وسلاحه وعلمه يعلن عن قهر أو غلبة أو استعباد! وهل فعلوا ذلك إلا أن التهاون يدعو بعضه إلى بعض، وأن الغفلة تبعث على ضعف الحفظ والتصوُّن، وأن الاختلاط والاضطراب يجيء من الغفلة، والفساد يجتمع من الاختلاط والاضطراب؟
إنما الأمور بمقاديرها في ميزان الاصطلاح، لا بأوزانها في نفسها، فألف جندي أجنبي بأسلحتهم وذخيرتهم في أرض هالكة بأهليها ربما كانوا غوثًا تفتحت به السماء، ولكن جنديًّا واحدًا من هؤلاء في أمة قوية مستقلة، تنشق له الأرض، وتكاد السماء أن تقع، فالمذهب الجديد فساد اجتماعي ولا يدري أهله أنهم يضربون به الذلة على الأمة.
وتلك جنايتهم على أنفسهم وجنايتهم على الناس بأنفسهم، وهم لا يشعرون بالأولى فلا جرم لا يأنفون من الثانية!