أستاذ الآداب والقرآن
ولننظر الآن في حماقة طه وتكاذيبه التي زعمها في القرآن، ووقاحته العجيبة فيما يكتب جهلًا بأساليب الكتابة وذوقها واسترسالًا مع طبعه الأحمق السفيه.
يقول في صفحة ٢٦: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا؛ ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة …» قال: «ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والتوراة والقرآن من جهة أخرى.» انتهى.
فانظر هذه الوقاحة في قوله: «للقرآن أن يحدثنا» كأنه زعم زاعم له أن يقول وأن لا يقول؛ وإذا لم يكْفِ النص في كتاب سماوي تدين له الأمة كلها لإثبات وجود المنصوص عليه فما بقي معنى لتصديقه، وما بقي إلا أن يكون القرآن — كما يزعم المستشرقون أساتذة طه حسين وأولياؤه — كلامًا من كلام النبي ﷺ نفسه، ومن نظمه وعمله، كما نقل عن هذا الخرِف المسمى كليمان هوار؛ فهو يُدْخِلُهُ ما يَدْخُلُ كلام الناس من الخطأ والغفلة والحيلة والكذب، فله أن يزعم ما شاء، ولكن ليس علينا أن نصدق أو نطمئن، وإذا هو ذكر اثنين من الأنبياء، وإذا ورد فيه قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ فذلك غير كاف في رأي الجامعة المصرية لإثبات أن إبراهيم وإسماعيل شخصان كان لهما «وجود تاريخي»، ولا أنهما هاجرا إلى مكة ورفعا قواعد البيت الحرام وبنيا الكعبة؛ وإذن فالقصة في رأي الجامعة المصرية من الأساطير الموضوعة ومما يلتحق بحيل الروائيين التي يشدُّون بها المعاني الاجتماعية، والسياسية، والتاريخية، ويؤتَى بها في الرواية على أنها من الكذب الفني توصُّلًا إلى سبك حادثة أو تقرير معنى أو شرح عاطفة.
ويقول الأستاذ صفحة ٢٨: «فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية، ونهضة دينية وثنية؛ وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة، قال: وإذا كان هذا حقًّا، ونحن نعتقد أنه حق، فمن العقول أن تبحث هذه النهضة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تحدث عنها الأساطير، قال: وإذن فليس ما يمنع قريشًا من أن تتقبل هذه «الأسطورة» التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم، كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة «أسطورة» أخرى صنعها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب طروادة.»
انتهى كلام الجامعة المصرية، ومعناه الصريح أن قريشا قبلت هذه الأسطورة الخرافية التي تثبت أن الكعبة من بناء إسماعيل وإبراهيم، فأخَذَهَا مَن وَضَعَ القرآن عن قريش لأنه منهم؛ وبذلك تجزم الجامعة المصرية أن في القرآن كذبًا وتلفيقًا؛ لأن الأسطورة كما يقول أستاذها صفحة ٢٩: «حديثة العهد ظهرت قبل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني»، أي فهي كذب صريح يعلم الإسلام أنه كذب ويتغفَّل به العرب لسبب ديني، فماذا بقي من هذا الدين الذي يتناول الخرافة المخترعة قبل الإسلام بقليل ويوردها في كتابه على أنها منزلة من السماء وأنها وحي يوحى؟!
وتمامًا على هذه الخرافة يقول أستاذ الجامعة في صفحة ٨٠: «فهو (يعني القرآن) يذكر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى، وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئًا آخر هو صحف إبراهيم، ويذكر غير دين اليهود والنصارى دينًا آخر وهو ملة إبراهيم، هو هذه الحنيفية التي لم نستطع إلى الآن أن نتبين معناها الصحيح، وإذا كان اليهود قد استأثروا بدينهم وتأويله، وكان النصارى قد استأثروا بدينهم وتأويله ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم (تَأَمَّلْ) ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويلها؛ فقد أخذ المسلمون يردون الإسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم.» انتهى.
ولكن أَهُمُ المسلمون الذين زعموا هذا أم نزل ذلك في قرآنهم في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إلى آيات أخرى؟
فإذا كان ذلك من فعل المسلمين فالقرآن كذلك من صُنعهم عند أستاذ الجامعة؛ وهذا الأستاذ يشير «بالحنيفية» التي لم يفهم معناها الصحيح إلى ما ورد في الحديث من قوله ﷺ: «بُعثتُ بالحنيفية السمحة السهلة.» وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، فكيف سمعها العرب ورواها العلماء ولم يفهموها، وكيف يكون ذلك وهي مبنية على آيات كثيرة وردت في القرآن، مثل قوله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا إلى آيات كثيرة كلها نص قاطع في أن معنى الحنيف إنما هو الذي مال عن الشرك والتشبيه والتجسيد مما يزعمه اليهود والنصارى والمشركون، والحنفُ في اللغة: الميل، وكان العرب يقولون في كل من تعبد واعتزل الأوثان: إنه تحنَّفَ، وكلُّ من حج واستقبل البيت سموه حنيفًا؛ لأنه بيت إبراهيم، ثم توسع الإسلام في الكلمة على سنته في الألفاظ الإسلامية المعروفة؛ فالمعنى الصحيح للحنيفية أنها الشريعة النقية التي لا شَوْبَ فيها من الإلحاد والشرك، والتي تعدل بالناس إلى الله وتُوَجِّه الخلق إلى الخالق وحده، وانظر كيف يقول الله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ثم يزعم أستاذ الجامعة أن قصة إبراهيم «حيلة» في إثبات الصلة بين اليهود والعرب، وبين الإسلام واليهودية وبين التوراة والقرآن، فهل في الجهل أوسع من هذا؟
والعجب أن شيخ الجامعة مع كل هذا الخلط وكل هذه الحماقة يقول في صفحة ١٢٦: «القرآن وحده هو النص العربي القديم الذي يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخِّصًا للعصر الذي تلي فيه» فأين الشك الذي ابتلي به هذا الرجل، وكيف يستطيع على قاعدته في البحث والتحليل «ووضع علم المتقدمين كلِّه موضع الشك» أن يثبت هذا القول؟ وهل هو يجهل أنه كان قبله بزمن بعيد قوم «يجدون في الشك لذة وقى القلق والاضطراب رضا» وهم الرافضة، وقد شكُّوا في نص القرآن وقالوا: إنه وقع فيه نقص وزيادة وتغيير وتبديل؟ فإذا أخذ طلبة الجامعة المصرية بقاعدة الشك التي يقررها أستاذهم ويريد أن ينشئهم عليها فهل يصدقون طه حسين أم يصدقون الرافضة، وما الذي يجعل طه أصدق منهم أو يجعلهم أكذب منه ما دام الأمر إلى الشك والتعسف؟
يعتقد الأستاذ أن القرآن يمثل العصر الجاهلي «ويشخصهُ»، وأنه أصدق مرآة للحياة الجاهلية (ص١٦) وأن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يَضِعْ، وأنَّا نستطيع أن نتصوره تصوُّرًا واضحًا قويًّا صحيحًا، بشرط أن لا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير، من ناحية أخرى (ص٨) ومعنى هذا الخلط مضافًا إلى ما تقدم وإلى قوله في ص٨٣: «ليس يعنيني أن يكون القرآن تأثر بشعر أمية (ابن أبي الصلت) أو لا يكون» إن القرآن عند هذا الرجل كتاب أشبه بالكتب التي يضعها المؤلفون فتكون تمثيلًا للعصر الذي وضعت فيه؛ لأنها صادرة عن فكر متأثر بالأسباب الكثيرة التي أنشأت العصر نشأته الخاصة به والمميزة له، مؤثرة بهذه الأسباب عينها فيما يضعه ويؤلفه، كما ترى في إلياذة هوميروس مثلًا؛ وإذن فلم يبقَ معنى لما ورد فيه من أنه لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ويلتحق هذا ومثله بالأساطير التي استغلها الإسلام لسبب ديني»، وتكون هذه هي عقيدة الجامعة المصرية في القرآن لا عقيدة طه حسين وحده، ما دامت الجامعة تدرس هذا وتقرُّه وتمتحن الطلبة فيه وتجيزهم عليه.
هل يدري طه حسين معنى قوله تعالى: مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومعنى قوله: مِنْ خَلْفِهِ، وهل يفهم هذه البلاغة المعجزة التي يسجد لها البلغاء؟ إن معناها يا أستاذ الجامعة أن القرآن لا يشخص عصرًا ولا يمثله، بل هو كتاب كل عصر، وهو الثابت على كل علم وكل بحث وكل اختراع واستكشاف على مدى الأزمنة في أيها جاء مما سيستأنفه التاريخ؛ وهذا معنى مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وأيها ذهب مما يطويه الماضي» وهذا معنى مِنْ خَلْفِهِ؛ وليس يخفى عليك أن العصور يصحح بعضها بعضًا ويكشف بعضها خطأ بعض، وقد يتقرَّر في زمن ما يثبت بعد أزمان طويلة أنه كان خطأ، فقوله: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ من الكلمات التي لا تخطر بفكر إنساني يُظنُّ أنه يشخص العصر الجاهلي، بل هي عِلم من لا يعلم غيره أن ستجدُّ أمور وتحدث علوم وتُمحَّص تواريخ وتنشأ مخترعات، فلو فهم الجاهل لما تكلم إلا الفاهم؛ وقد قال الله في أشباه طه حسين: وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا.
ولقد عجبت لأستاذ الجامعة يعتمد في تصور العصر الجاهلي على التاريخ والأساطير وهو الذي يقول بالشك، وكيف تصح عنده الأساطير ويصح التاريخ العربي دون الشعر الجاهلي؛ وهل جاء هذا الشعر إلا من الطريق التي جاءت منها الأساطير والتاريخ، أي بالرواية والإسناد، ومن الحفظ والتلقين؟ وإذا جاءت ثلاثتها من طريق واحدة وكان الكذب والوضع قد دخلها جميعها ونص العلماء على أشياء من ذلك في الأبواب الثلاثة، فكيف يكون العصر الجاهلي في اثنين منها دون الثالث مع أن الوضع فيهما أيسر من الوضع في الشعر؛ إذ هما كلام كالكلام لا مئونة فيه ولا تعب ولا صناعة ولا كذلك الشعر، وخاصة ما يوضع منه على ألسنة فحول الجاهليين.
إنما جاء أستاذ الجامعة هذا العلمُ الغريبُ من جهله بالشعر وصناعته وأغراضه، فهو يحسب أن الشعر الجاهلي لا يكون جاهليًّا ولا تصح نسبته إلى الجاهلية إلا إذا مثَّل الحياة الدينية عند العرب، ولقد ذكر القرآن اليهود والنصارى والمشركين والصابئة ولم يذكرهم الشعر الجاهلي، بل هو كما يقول ص١٨: «يُظهر حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي …» فالقرآن عنده لذلك أصحُّ تمثيلًا، والشعر لذلك عنده غير صحيح، قال في ص١٩: «وقريش كانت متدينة قوية الإيمان بدينها، ولا يمثل لها الشعر الجاهلي من ذلك إلا قليلًا» فليذكر لنا الأستاذ شعراء قريش من عهد امرئ القيس، وليقل لنا متى كان الشعر في قريش وقد نصوا على أنها أقل القبائل شعرًا وشعراء في الجاهلية، ثم ليذكر لنا هذا الباحث المحقق، كيف مثل الشعر الإسلامي الحياة الدينية الإسلامية، وأين هذا في شعر جرير والفرزدق والبحتري والمتنبي، وهل يحسب أستاذ الجامعة أن القرآن يجري مجرى الشعر في الوضع والسبب والغاية؟ ألم يعلم طه حسين إلى سنة ١٩٢٦ أن القرآن نزل بشريعة تنسخ الشرائع، ودين يتمم الأديان وعبادة تمحو العبادات، فكان لا بد من ذكر كل ذلك فيه بإجمال حين يُجمل، وتفصيل حين يُفصل، وقَصص حيث يقص، وبرهان حين يحتج، وقياس حين يقايس، وأنه ما هو عاطفة شاعر ولا وصف كاتب ولا حكاية مؤرخ ولا حيلة قاصٍّ روائي، ولا هو بعلم على قياس فكر طه حسين مدرس الجامعة المصرية.
لقد تناولتُ الآن هذا الكتاب الكريم عندما انتهيت في الكتابة إلى هذه الكلمة وسألت الله أن يخرج لي آية تشير إلى طه حسين وغروره وحماقته وتخاليطه، ثم فتحته على هذه النية فوالله لقد خرج قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ويا أسفًا ثم يا أسفًا — ثلاث مرات، كما يقول الفرنسيون — لو فهم طه ما في قوله: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ إذن لأكل نصف أصابعه عضًّا من الندم!
القرآن يا شيخ الجامعة يقارع أديانًا فهو يذكرها ويصفها ويحتج عليها، فماذا يقارع الشعر الجاهلي ليذكر الأديان والشعور الديني القوي؟ وهذا على أنك لم تُحِطْ بهذا الشعر ولا بأكثره ولا بكثيره، وعلى أن ما انتهى إليك في الكتب إنما هو ما اختاره الرواة والعلماء للغة والفن والصناعة، لا للتاريخ ولا للبحث التاريخي ولا «لتشخيص» عصر من العصور، ولو هُم أرادوا ذلك وفطنوا له لجاءتك كتب وافرة مصنفة وتاريخ تام محفوظ، ولكنهم أهملوا من أمر الشعر في اتصاله بالتاريخ وأسبابه ومعانيه مثل الذي أهملوا في ذلك من أمر اللغة، كما كانت تقتضيه طبيعة عصرهم وعلومهم، أفليس الحمل على هذا المعنى أقرب إلى العقل من ذلك الهذيان؟
•••
وفي ص٢٠ من كتاب طه حسين ترى الجهل المركب تركيبًا مزجيًّا كبعلبك ومعديكرب، فهو يزعم أن القرآن يمثل للعرب حياة عقلية قوية في الجدال الديني والفلسفي؛ لأنه وصفهم بشدة الخصام؛ قال: «وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون؟ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة … فيها حياتهم» فيا فضيحة الجامعة المصرية في جامعات الأمم! ألا يتفضل أستاذها على الأدب والتاريخ فيذكر لنا مجلسًا واحدًا من هذه المجالس العربية الفلسفية وما دار فيه من البحث والتحقيق والجدل والخصام والمحاورة في معضلات الفلاسفة التي ينفقون فيها حياتهم، لنصدق أن معنى اللَّدد والخصام الواردين في القرآن صفة للعرب إنما هو الحوار في مسائل الدين والجدال في معضلات الفلسفة؛ أمِن حُججهم الفلسفية كانت تلك الحجارةُ التي نص التاريخ على أنهم كانوا يقذفون بها النبي ﷺ حتى يُلجئوه إلى الحائط، وذلك الترابُ الذي كانوا ينثرونه على رأسه: أم قولهم: شاعر وساحر وكذاب ومجنون، ونحوها مما يدخل في باب الحمق والسفاهة والاستهزاء؛ ومتى كانت هذه من صفات الفلاسفة يا شيخ الجامعة؟ أم كان من حججهم الفلسفية حين عرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام ويتلو عليهم القرآن أن أتبعوه عمَّه عبدَ العُزَّى يقول من ورائه: يا أيها الناس لا تسمعوا منه؛ فإنه كذاب. أو كانت مجالسهم العلمية والدينية والفلسفية حين كان ﷺ يجلس فيدعو الناس ويتلو عليهم القرآن ثم يقوم فيأتي عالمهم ومتكلمهم النضر بن الحارث فيخلفه في مجلسه ويقص على الناس من أخبار ملوك فارس ويقول: والله ما محمد بأحسنَ حديثًا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتُها؟
إن معنى الخصام واللدد أنهم سفهاء أهل تكذيب وعناد ومكابرة وتأبٍّ على من يريد هدايتهم وإرشادهم، لا يمكن صرفهم عن رأي يكون فيه الهوى، كما لا يمكن مثل ذلك في الجاهل الأحمق المصرِّ المبتلى بالاستهتار والشك، فإن أصل الألدِّ في اللغة الشديد اللدد، أي صفحة العنق، فلا يلوي عنقه في الصراع، وذلك من أكبر الأدلة على وثاقة تركيبه الجسماني، فإن عنق المصارع ثُلث المصارع، ولقد كانت هذه الطباع الجاهلة الحمقاء المكابِرة من أوضح الأدلة على إعجاز القرآن؛ لأنه مع إصرارها بلغ منها، ومع عنادها أثر فيها ببلاغته، فلو كانوا كما زعم طه «أصحاب علم وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة» لما كانت هدايتهم شيئًا يذكر في باب المعجزة، أوَلسنا نرى اليوم في الأمم المتحضرة الرقيقة ذات النعمة الفاشية من ينقادون أسهل انقياد وأسرعه لكل ذي مذهب، حتى لعبادة الشيطان في أمريكا بلاد كل شيء ذهبي؟
وكيف يكونون «أصحاب عيش فيه لين ونعمة» وهم أنفسهم حين اجتمع أشرافهم من قبائل قريش ليكلموا النبي ﷺ ويخاصموه حتى يعذروا فيه قالوا له فيما قالوا: «قد علمتَ أنهْ ليس أحد من الناس أضيقَ يدًا ولا أقل ماءً ولا أشد عيشًا منا» ولما نزل قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال الزبير بن العوام: عن أي النعيم نُسأل يا رسول الله؟ إنما هما الأسودان التمر والماء! فقال ﷺ: أما إنه سيكون. فيا سبحان الله! جهل بالأدب وجهل بالتاريخ وجهل باللغة وجهل بالشعر ثم يكون من هذا كله علم الجامعة المصرية!
•••
إن طه حسين هذا مجموعة أخلاق مضطربة وأفكار متناقضة وطباع زائغة، وما من عالم في الأرض إلا وأنت واجد آراءه قائمة بمجموع أخلاقه أكثر مما هي آتية من صفاته العقلية، ولذلك قال رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كلُّ منافق عليم اللسان» وطه رجل أرسلوا لسانه وقلبه إلى أوربا، فرجع بلسانه وترك قلبه هناك في خرائب روما، فيجب أن يكون نفاقه وثرثرته مقصورين على نفسه، ويجب أن تحمي الجامعة طلبتها منه، ويجب أن ينهض علماؤنا في إلزام هذه الجامعة أن تعلن براءتها من آراء أستاذها حتى لا يزيغ به أحد فتبقى قيمته وقيمة آرائه كما هو في نفسه واهْوِنْ به، لا كما هو بالجامعة وأعْظِم بها.