كتاب الشعر الجاهلي
حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر
السلام عليكم ورحمة الله
وبعد، قد اجتمعت اللجنة المؤلفة بأمر فضيلتكم من الموقعين عليه لفحص كتاب طه حسين المسمى «الشعر الجاهلي» بمناسبة ما قيل عنه من تكذيب القرآن الكريم، واطلعتْ على الكتاب، وهذا ما نرفعه إلى فضيلتكم عنه بعد فحصه واستقراء ما فيه: يقع الكتاب في ١٨٣ صفحة، وموضوعه إنكار الشعر الجاهلي وأنه منتحل بعد الإسلام لأسباب زعمها، وقال أنه بنى بحثه على التجرُّد من كل شيء حتى من دينه وقوميته؛ عملًا بمذهب «ديكارت» الفرنسي.
والكتاب كله مملوء بروح الإلحاد والزندقة، وفيه مغامز عديدة ضد الدين مبثوتة فيه، لا يجوز بحال أن تُلقى إلى تلامذة لم يكن عندهم من المعلومات الدينية ما يتقون به هذا التضليل المفسد لعقائدهم، والموجب للخلف والشقاق في الأمة وإثارة فتنة عنيفة دينية ضد دين الدولة ودين الأمة.
وترى اللجنة أنه إذا لم تُكافَح هذه الروح الإلحادية في التعليم ويُقتلَع هذا الشر من أصله وتُطهَّر دور التعليم من «اللادينية» التي يعمل بعض الأفراد على نشرها بتدبير وإحكام تحت ستار حرية الرأي، اختل النظام وفشت الفوضى واضطرب حبل الأمن؛ لأن الدين هو أساس الطمأنينة والنظام.
الكتاب وُضع في ظاهره لإنكار الشعر الجاهلي، ولكنَّ المتأمل قليلًا يجده دعامة من دعائم الكفر ومِعولًا لهدم الأديان، وكأنه ما وُضع إلا ليأتي عليها من أصولها، وبخاصة الدين الإسلامي، فإنه تذرع بهذا البحث إلى إنكار أصل كبير من أصول اللغة العربية من الشعر والنثر قبل الإسلام مما يرجع إليه في فهم القرآن والحديث، هذا ما يرمي إليه الكتاب في جملته، ولنذكر نبذًا منه بعضها كفر صريح وبعضها يرمي إلى الإلحاد والزندقة فنقول: قال في صفحة ٢٦ ما نصه: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة.»
أنكر المؤلف بهذا هجرة سيدنا إبراهيم مع ولده إسماعيل — عليهما السلام — وقال: إن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، وهو تكذيب صريح لقول الله تعالى في سورة إبراهيم حكاية عنه عليه الصلاة والسلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، وقال في الصفحة نفسها: «نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة (يريد قصة الهجرة) نوعًا من الحيلة لإثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة من جهة أخرى.»
وهو في هذا النص يصرح بأن القرآن اختلق هذه الصلة بين إسماعيل والعرب؛ ليحتال على جلب اليهود وتأليفهم، ولينسب العرب إلى أصل ماجد زورًا وبهتانًا لأسباب سياسية أو دينية، وهذا من منتهى الفجور والفحش والطعن على القرآن الكريم في إثباته أبوة إبراهيم للعرب في قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ الآية.
وقال في صفحة ٢٧: «وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة — الهجرة المذكورة — في القرن السابع للمسيح …» إلى أن قال في صفحة ٢٩: «إذًا فليس ما يمنع قريشًا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم، كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعتها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب طروادة، أمر هذه القصة إذًا واضح، فهي حديثة العهد قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضًا، وإذًا فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى» وهو تكذيب صريح لقوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ الآية سورة البقرة، ولقوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وقوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا الموضوع، وهو فوق تكذيبه للقرآن، يقول: إن فيه تدليسًا واحتيالًا لأسباب سياسية ودينية من أجلها اختلق هذه الأخبار، بهذا وأمثاله يقرر المؤلف أن القرآن لا يوثق بأخباره ولا بما فيه من التاريخ.
وكم يترك هذا الكفر الفاحش في عقول الطلبة من أثر سيئ وهدم لعقائدهم ودينهم، وماذا بقي في القرآن من ثقة وحرمة في نفوسهم بعد هذا التكذيب؟
وقال في صفحة ٣٣: «وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه أو تفصيل القول فيه، وهو أن القرآن الذي تلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينًا كثيرًا — إلى أن قال — إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل ويسيغه النقل وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما يتلوه النبي وعشيرته من قريش، فقرأته كما كانت تتكلم …» إلى آخر ما قال.
وهذا تصريح منه بأن القراءات لم تكن منقولة كلها عن النبي ﷺ بل هي من اختلاف لهجات القبائل، فالسبع المتواترة ليست عنده واردة عن النبي ﷺ ومعلوم في أصول الدين أن السبع متواترة وأن طريقها الوحي، فمنكرها كافر.
وعدا ما سردناه توجد صحائف عديدة فيها مغامز مؤلمة منها ما قاله في صفحة ٨١: وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم. وفي الصفحة التي قبلها: «أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل.» وهو في هذا يكذب قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الموضوع، ومنها غير ذلك كثيرًا مما هو مبثوث في الكتاب.
ولا ريب في أن هذا هو عين ما يطعن به المشركون على القرآن في مبدأ أمره، قال تعالى في سورة الفرقان: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
فاللجنة ترفع إلى فضيلتكم ما وصلت إليه على سرعة من الوقت مما سطره المؤلف من الكفر الصريح، وتترك ما ينطوي في ثناياه من الإلحاد والزندقة مما لا يخفى على الناظر.
نرفعه مطالبين فضيلتكم والحكومة بوضع حدٍّ لهذه الفوضى الإلحادية، خصوصًا التي تنبت في التعليم لهدم الدين بمعول الزندقة كل يوم، فما نفرغ من حادثة إلا ونستقبل حوادثَ لا تدع المؤمن مطمئنًّا على دينه.
نطالب فضيلتكم والحكومة بذلك حرصًا على أبناء الدولة أن يتفشى هذا الداء فيهم، وهم رجال المستقبل وسيكون بيدهم الحل والعقد في مهام الأمور.
ونحن لا نفهم كيف تُصرف أموال المسلمين وأوقافهم على تعليم نتيجة هذا الإلحاد الذي يبثه الداعي ويتقاضى عليه مرتبًا ضخمًا من هذه الأموال.
وهل بهذه الطريقة وعلى هذا النحو تخدم وزارة المعارف أبناء الأمة ورجال الغد وتبني صرح التعليم والتربية؟
نسأل الله أن يوفقكم لما فيه المصلحة، والسلام.
قلنا: فما كان بعد ذلك إلا أن خنَس أستاذ الجامعة وذهبت كل شجاعته الأدبية في رغيف من الخبز، وأصبح دينه بين عقله وبطنه، فجعل له خوف الجوع دينًا، وخشي أن يخرجوه من الجامعة، فرفع هذا الكتاب إلى مديرها؛ لينشره على الأمة، قال:
حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل مدير الجامعة المصرية
أتشرف بأن أرفع إلى عزتكم ما يأتي
كثر اللغط حول الكتاب الذي أصدرْتُهُ منذ حين باسم: «في الشعر الجاهلي»، وقيل أني تعمدتُ فيه إهانة الدين والخروج عليه، وأني أعلِّم الإلحاد في الجامعة، وأنا أؤكد لعزتكم أني لم أرد إهانة الدين ولم أخرج عليه، وما كان لي أن أفعل ذلك، وأنا مسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأنا الذي جاهد ما استطاع في تقوية التعليم الديني في وزارة المعارف حين كلفت العمل في لجنة هذا التعليم، ويشهد بذلك معالي وزير المعارف وأعوانه الذين شاركوني في هذا العمل، وأؤكد لعزتكم أن دروسي في الجامعة خلت خلوًّا تامًّا من التعرض للديانات؛ لأني أعرف أن الجامعة لم تنشأ لمثل هذا.
وأنا أرجو أن تتفضلوا فتبلغوا هذا البيان من تشاءون وتنشروه حيث تشاءون وأن تقبلوا تحياتي الخالصة وإجلالي العظيم.
فكتبنا المقالة الآتية: