فلما أدركه الغرق …
قال كليلة: أما تضرب لي المثل الذي قلتَ يا دمنة؟ قال دمنة: زعموا أن سمكة في قدر ذراع كانت في غدير، فلما سال به السيلُ جرى بها الماء إلى نهر قريب، فدخلها الغرور فقالت: هذا لعمري ميراث أبي قد كنتُ عنه غافلة، وما أكثر ما يُضيِّع التهاون والعجز! ثم إنها لبثت في النهر ما شاء الله حتى خرج بها التيار إلى البحر، فقالت: يا ويلتا، أعجزت كل هذا العمر عن ميراث أعمامي! ثم ما زالت في ميراث أعمامها حتَّى قذف بها الماء إلى المحيط فاتسع لها منه ما يسعها، فقالت: قبَّح الله العجز ولو من كسل وهُوَينا، لقد كدت أُسلَبُ ميراث أجدادي! لولا أن من دمهم فيَّ لم يزل يدفعني ولم يزل يسمو بي، ثم إنها طفت يومًا على الماء فإذا الأسطول الإنجليزي يمخر العُباب إلى جبل طارق في عشر بوارج وعشرين مدرعة ومائة سفينة طوربيد وخمسين غواصة، فطار به الغيظ قطعًا وقالت: مَن هذا الوقح المتهجم على ميراث أجدادي لا يخشى أن يقتحم عليَّ وقد حميتُ هذا المُلك من حيث يجري الماء إلى حيث يبلغ الماء؟ ثم إنها شدَّت نحو الأسطول وهي تخبط بذَنَبها من الغيظ تريد أن تضربه بهذا الذَّنَب ضربة تلوي به، ولكن الأسطول كان بعيدًا، ثم إنه كان سريعًا، ففاتها فقالت: أولى لك، ما نجا بك والله إلا حدة الهرب وسرعة الفرار.
قال دمنة: ثم اضطجعتْ على الماء تُسَكِّن من غضبها فنامت واسترخت، فمر بها زورق صيد، فما أحست إلا الشبكة وقد أخذتها، فغاصت في الماء وجعلت تختبط عالية سافلة لا ترى مذهبًا ولا مفرًّا، فلما أعياها ذلك وبلغ منها الجهد قالت: أيتها الشبكة، دعيني، فوالله ما قلت إن المحيط ميراث أجدادي، ولا البحر ميراث أعمامي، ولا النهر ميراث أبي!
قال كليلة: فمثلُ مَن هذا يا دمنة؟ قال: مثل طه حسين في كتابه لمدير الجامعة.
قرأت اليوم هذا الكتاب وفيه يقول طه: «أؤكد لعزتكم أني لم أرد إهانة الدين ولم أخرج عليه، وما كان لي أن أفعل ذلك وأنا مسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر … وأرجو أن تتفضلوا فتُبلغوا هذا البيان من تشاءون وتنشروه حيث تشاءون.»
ونحن فقد أصبحنا من أتباع مذهب ديكارت، فوالله ما نصدق طه حسين ولا سمكة دمنة حتى نبحث متجرِّدين من كل عاطفة.
- (١)
الكتاب مؤرخ ١٢ مايو، فأين كان طه منذ اتهم بالإلحاد من كاتب واحد ثم من علماء أسيوط ثم الإسكندرية ثم دمياط ثم الزقازيق ثم طنطا ثم الأزهر ثم الأمة كلها كلها ثم الحكومة! أيقبل هذا كله على نفسه إلا مُتَعَنِّت كل التعنت مُصِرٌّ أشد الإصرار معاند بغاية العناد؟
- (٢)
ألم يصرح في منهج البحث من كتابه أنه تجرد من دينه لهذا البحث وأوجب ذلك على الأدباء، وقال في صفحة ٤٥ إن عقليته اصطبغت بالصبغة الغربية، وفي صفحة ٤٦ إنه خلَّص شخصيته من الأوهام والأساطير، وإنَّ سخط الناس على كتابه «لن يقلل من تأثيره في هذا الجيل الناشئ، فهذا سخط الناس على كتابه، فما باله اليوم؟ وهل العقلية الغربية الباحثة على مذهب ديكارت متجردةً من الدين ومن العواطف تعقل الوحي وتقرُّ به؟
- (٣) هل يجد القراء في كتابه لمدير الجامعة أنه رجع عن إلحاده وتبرأ من آرائه في كتاب الشعر الجاهلي من نسبة الخرافة إلى القرآن وتكذيب النبي ﷺ والتهكم به وبحديثه … إلخ إلخ؛ أم كان أمره كما حكى الله عن فرعون حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ؟
- (٤)
ما الغرض من الكتابة لمدير الجامعة؟ أكان الأستاذ المدير يجهل منهج الدراسة في كلية الآداب إلى هذا التاريخ، أم كان لا يعرف أن كتاب الشعر الجاهلي منسوب إلى أستاذ الجامعة وأن اسم الجامعة مطبوع في عنوانه؟ أم كان لا يقرأ في الصفحة الأولى منه أن طه «تحدث بهذا البحث إلى طلابه في الجامعة وهم أكثر من مائتين» وأنه مُصِرٌّ على بحثه مكابر فيه وغير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزوَرِّ؟
- (٥)
ألا تنطق عبارة الكتاب أنه ما كُتب إلا لغرضين: أولهما أن «تُبلِّغه» الجامعة الحكومة كأنه حل حاسم للمشكلة معها؛ والثاني أن «تنشره» الجامعة في الصحف كأنه حل لمشكلتها مع الأمة: فهل مع مثل هذين الغرضين يكون للنية السليمة موضع أو للإيمان محل في هذا الكتاب؟
- (٦)
كيف يُصَدَّق طه في أنه لم يُرِد إهانة الدين والإهانة في كتابه، وكتابُه لا يزال يباع، ولا يزال الرجل مصرًّا عليه لم يتبرأ منه ولا تبرأت الجامعة، وما وردت تلك الإهانة في كتابه إلا ليجعلها برهانًا على نظريته في أن العرب العدنانية لم تتخذ لغة إسماعيل التي ورد في شأنها الحديث الشريف والتي هي أساس لغة القرآن، فإذا لم يتبرأ من هذا الرأي ويعلن أنه رجع عنه وكانت الإهانة هي البرهان الوحيد على هذا الرأي فكيف يقول: إنه لم يردها؟
- (٧)
هل يظن طه أن الأُمة وعلماءها وأدباءها من البلاهة والغفلة بحيث يقنعهم هذا العذر البارد، عذر ١٢ مايو؟
هذه سبعة اعتراضات لا بد من ردها قبل أن نصدق سمكة دمنة!