موقف حرج لوزارة المعارف
قبل أن نكتب كلمتنا اليوم نسوق حرفين إلى معالي وزير المعارف فإن معاليه رجل عالم ذكي، بل نابغة في ذكائه وحدة خاطره؛ لا تخطئ الفراسة أن تعرف منه رجلًا أي رجل، وهو خير من يعلم أن لكل فن منهجًا ولكل علم طريقة؛ وأن نادرة الأذكياء في الطب وعالم الدنيا فيه لو هو سمت به همته ونازعته نفسه لن يطاول أهل القانون ويفسر لهم ويبصرهم بعلومهم ودقائق علومهم لجعلوه سخرية بينهم، ولتناولوه من ألسنتهم بما يُلقى في أعصابه كل آلاف المرضى في مستشفى طويل عريض كمستشفى المجاذيب.
والأستاذ طه حسين مدرس الآداب في الجامعة لا يمكن أن يعرفه معالي الوزير في هذا الفن الأدبي معرفة ذات نسب بينهما، كمعرفته أستاذ القانون الجنائي مثلًا، أو معرفة التشريح لأستاذ الأمراض العصبية؛ أو مثل ذلك لمثل ذلك، بل معرفة عامة غير محدودة بصفات مشتركة ولا متميزة بخصائصَ متشابهةٍ، بل معرفة أوسع وأشمل كمعرفة كل من يقرأ لكل من يكتب؛ فلا ريب عندنا أن معالي الوزير يكون معنا فيما نقرره من وجوب نقد طه وتمحيص آرائه وبيان أغاليطه وفيما نوجهه إلى الجامعة من ذلك، وليس هذا بحكم منصبه فقط، بل بحكم ذكائه وعلمه أيضًا، ثم بحكم إخلاصه لأمانة العلم فوق ذلك كله، لا يمكن غير هذا ولا نصدق غير هذا إلا إذا اعتبرت الجامعة المصرية ملجأ أو في حكم ملجأ للدكتور طه حسين، فذاك شيء آخر، والرجل بحيث ترى أن تَعُرَّه الجامعة عَرَّها.
والآن يا معالي الوزير الكبير قد تناولك كتاب الأستاذ طه فحصرك في موضع أحكم سدَّ ثلاث من جهاته الأربع بحيث لا رجعة ولا تحوُّل، وليس إلا المضي بعزيمة لا تنفع فيها الهُوَيْنا وحزم فرغت كل الحيل منه وفرغ منها؛ ذلك أن وزارة المعارف تُدَرِّس هذا العلم الذي يسمى آداب اللغة في مدارسها الثانوية ومدرسة دار العلوم والقضاء الشرعي.
وقد جاءت المدرسة الكبرى التي تُسمَّى الجامعة فسفَّه أستاذُها كلَّ هذه المدارس، ونفى ما يُعَلَّم فيها من ذلك الفن وأفسده، وقال بخطئه من أصوله إلى فروعه، فما يسمَّى في تلك المدارس شعر امرئ القيس وعَبيد وطرفة وعمرو بن كلثوم وغيرهم تُسَمِّيه الجامعة كذبًا وتدليسًا وخرافة، وما يقال له هناك إعجاز القرآن يوصف في الجامعة بأنه خرافات وأكاذيب الأعراب واستغلال ديني أو سياسي، وهكذا.
الوزارة موسومة الآن في العالم العربي كله بالنقص والخطأ في إحدى جهتيها، ما يرتاب في ذلك أحد؛ ولسنا نكره أن يكون الأستاذ طه حسين نادرة المشرق وفخر العربية، ولكنا نكره أن يكون فضيحة مصر، وأن يجعل الجامعة المصرية معرضًا للسخرية بهذه الدروس التي نقول من ناحيتنا: إنها حماقة في الرأي وفساد في الفهم وتَعَكُّسٌ في التأويل والاستخراج، ونقول أكثر من ذلك: إنها تشبه رجلًا به مسُّ فزُيِّن له أن يخالف الناس؛ لأن جنونه أوهمه أنهم مجانين وأن العاقل مثله يجب أن يتميز منهم ليُعرف بينهم فلا تجري عليه أوصافهم، ثم رأى أنه لا يُعرف بينهم إلا بالمخالفة حتى يبين منهم ﻓ … ﻓ … فوضع رأسه في حذائه ومشى.
•••
ومن بعدُ؛ فالقول في أغاليط أستاذ الجامعة لا ينتهي، ونحن إنما نبحث فيما نبحث عن أصول الخطأ في هذا الأستاذ لا عن فروعه، ونَعُدُّ من ذلك مثلما يَعُدُّون من الشجر فيقولون واحدة وفي الواحدة فروع كثيرة؛ لأنهم إنما ينظرون إلى الجذع الذي يحمل ذلك ويخرجه، فكذلك أمْرنا مع طه حسين، وإذا نحن كسرنا الجذع فما نبالي ما عدد فروعه؛ لأنها مكسورة وإن بقيت في جذعها.
لقد عثرنا في كتاب أستاذ الجامعة على نوع غريب من الترجمة وهو ترجمة من أصول الخطأ في فكر الرجل أو فكره أصلٌ فيه، ولا تحسبنها ترجمة من الفرنسية أو اليونانية؛ بل هي من العربية، وذلك أشنع لها، فلو أنت تدبرت النصوص التي ينقلها الأستاذ في كتابه ويحملها على أغراضه أو يحمل أغراضه عليها وكنت فطنًا باحثًا نَقَّابًا لرأيت هذه النصوص تشكو إليك وتستجير بك مما أصابها من القلة والذلة، فإن طه لا يجد النص أبدًا في كتب العربية إلا كلامًا جزلًا بليغًا محكم السرد موثق التركيب، قد نُزلت فيه الألفاظ على منازلها وجُلبت لمعانيها، وتلاءمت مع أشكالها وخرج منها أسلوب رصين مطبوع كمصنوع أو مصنوع كمطبوع؛ فإذا أصابه في الكتب على هذه الصفة من البلاغة خشي منه على أسلوبه وكتابته، ورأى أن أشدَّ ما يفضح الثوب القذر أن تنزل فيه رقعة نظيفة لها جدة ورونق، فلا يكون له مِن هم غير أن يعمد إلى النص فيُمرَّه على لسانه ويديره على أسلوبه ويرصفه كرصفه ويترجمه من عربية إلى عربية غيرها فيختل ويَرُكَّ، ثم يندمج في عبارة طه فإذا هو لا يَنْبُهُ عليها ولا هي تنبه عليه، ثم يكون لطه من ذلك فائدتان غير هذه؛ أما واحدة فإن النص إذا نقل على أصله اختلفت فيه العقول، وكانت حَرية أن تتفاوت فيما تدرك منه؛ ففهم كل إنسان بمقدار ذكائه واطلاعه، وعلى حسب ما تيسر له وسائله، ولا كذلك النص المختلف عن أصله المزال عن جهته، فإنه لا يؤتى إلا معنى واحدًا هو ما سيق له، ثم لا يكاد يدرِك أحدٌ حقيقةَ ما وُضع النص فيه. ومما اتفق لي من ذلك أني وقفت في بعض الكتب على نص في تكذيب خبر المعلقات وأنها كتبت أو علقت، ووقف عليه صاحب كتاب في آداب اللغة فإذا هو يسوقه في كتابه نصًّا على خبر التعليق مع أنه برهان قاطع في خبر النفي، وإذا الخلاف كله في أنه أخطأ قراءة فعل نقله على غير وجهه فانقلب المعنى وانتكس النص.
وأما الفائدة الثانية التي يرمي إليها طه فإنه إذا ترجم النص وحذف … وحذف منه وغيَّر وبدَّل استطاع أن يجد من ذلك سبيلًا إلى صلة المعنى الذي في الكلام وبالغرض الذي في نفسه، وتسهَّل عليه القول الذي كان صعبًا، وقرب الرأي الذي كان بعيدًا، فربما كذب الأستاذ وهو عندك صادق، أو غلط وهو عندك مصيب، أو نحل الناسَ ما لم يقولوه والنص يوهم أنهم قالوه؛ وأي ذلك قد كان فإنما له نتيجة واحدة، وهي أن يقهر النص على أداء معنى لا يراد به إلا ما أراد طه؛ وما هذه بأمانة ولا هذا بصدق، فإنه يجب على كل عالم يحتج بكلام غيره أو على كلام غيره أن يورد الكلام بحروفه وإن حَذَف دل على موضع الحذف، وإن غيَّر أو أبدل نبه إلى أنه تصرف وتعمَّل، وذلك واجب في العلم، ولهو في التاريخ أوجب؛ إذ الكلمة التاريخية حادثتها أو معناها كالاسم في الناس على مسماه: مهما بدلتَ فلا يجوز تبديله ومهما قلتَ فليس فيه إلا قول واحد إذا أردته لحقيقته:
ونريد أن نبين للناس وللجامعة التي يظهر لنا أنها في غفلة مغطاة أن صنيع طه حسين في بتر النصوص وترجمتها طريقة معروفة للطاعنين في الإسلام وعلومه، سبقه إليها ابن الراوندي العالم الزنديق المشهور الذي كان يؤلف الكتب لليهود والنصارى في الطعن على المسلمين ونبيهم وقرآنهم وأئمة دينهم وأشياخ الكلام فيهم؛ إذ كان من شأنه الحكاية للنص مبتورًا قالوا: يُسمِّجه ويوحشُ الناس منه، ثم ليتأتى له أن يستخرج الرأي الفاسد من كلام يظنه الناس صحيحًا متى عزاه إلى المصححين والثقات، فإياكم ثم إياكم أيها الأدباء وأيها الطلبة أن تصدقوا أستاذ الجامعة فيما يستخرجه من النصوص إلا إذا أورد هذه النصوص بعباراتها، وحروفها فإنه أحيانًا مريض الذهن، وعسى من يفهم منكم ما لا يفهمه، وإنه دائمًا مريض النية، فهو بذلك جريء جراءة من خولط في ناحية من عقله، لا يوقر إمامًا ولا يرضى رأيًا ولا يتحرج ولا يقيد نفسه إلا بما يقيده به قانون العقوبات فقط، وما دام يأمن «النيابة والقضاء» فما شيء أراد أن يقوله إلا قاله!
وهنا معنى يحسن أن لا ندعه وأن نصل به الكلام، فإن أستاذ الجامعة رجلُ شك، ولا يمكن أن يكون رجلًا من غير شك، فإن لزمَنا عنده العيب والشُّنعة واتهمنا بالغفلة؛ لأننا نصدق دلالة النصوص ونأخذ بها في التاريخ لزمه عندنا أكثر من ذلك إذا هو احتج بنص أو استخرج منه نتيجة علمية، ولم يكن له شيء من الحجة إلا كان لنا عليه أضعافه؛ إذ ما يدريك يا أستاذ الشك أن هذا النص الذي تحتج به وتسوقه لما تريد ليس من النصوص المكذوبة أو المشكوك فيها؟ وكيف تقطع على صحته ولعله أقواها وأضعفها صدقًا؟ وما كنت أنت من أبناء الدهر الأول فتشهد عليه شهادة العدل، ولا الذي رواه أبوك أو أخوك أو حموك، فيكون لك إليه سبب من الصهر والقرابة يقوم دليلًا في التعدي والتخريج؛ وكيف يجوز الكذب والوضع على أكثر النصوص التي نحتج بها ولا يكون النص الذي تحتج به أنت مما هذه سبيله؟
أَفَتُرَاكَ يا طه في ريبٍ بعدُ أو تشك في أن مذهب الشك في التاريخ يهدمك قبل أن تهدم به شيئًا، ويظهر الناس على غفلتك وأنت تتوهم أنك ظهرت على غفلاتهم؛ وهل في العلم أحمق من أن تقول: إن الكثرة المطلقة في الشعر الجاهلي موضوعة وأنت لا تعرف القلة الصحيحة منه ولا تستطيع تعيينها ولا تعيين بعضها ولا الجزم ببيت واحد منها؟
نحن لا نرجع عن رأينا في أن تقليد بعض المستشرقين هو الذي أفسد طه؛ فقد صحبهم وأخذ عنهم ثم نزع إلى مذاهبهم وأقاويلهم؛ لأنه وإياهم سواء أو متقاربون في الركاكة وسقم الفهم والوقوع بالبعد البعيد من أسرار الكلام العربي ومعانيه؛ وقديمًا ما أفسد شيخ الرافضة هشامَ بن الحكم إلا صحبة أبي شاكر الديصاني إمام الديصانية «وكان هذا — أبو شاكر — رجلًا يُظهر الإسلامَ ويُبطن الزندقة»، كما يُظهر بعض المستشرقين المَيْل إلى العربية وينطوي على هدم الإسلام بهذا المَيْل، وعلى استعمار أرضه واستعباد أهله.
والعجيب أن مذهب الرافضة هو بعينه مذهب هذه الفئة من المستشرقين؛ فإن أكبر شأنهم جحد الرسالة لمحمد ﷺ والتكذيب بالقرآن وردُّ ما أجمعت عليه الأمة، وهذا كله يدور عليه كتاب أستاذ الجامعة إيماءً وجهرة وتعريضًا وتصريحًا: وأعجب ما عجبنا له أن الأستاذ تورط في الهلكة وطعن في القرآن وكذَّب به، واشتمل كتابه من ذلك على ما بَيَّنَّاه في المقال السابق، وهو كان في غنى عن كل ما تكلف منه، وكان في عافية وسعة؛ لأن شيئًا من ذلك لا يداخل موضع الشعر الجاهلي، ولا هو من أدلته بالقرب ولا بالبعد، وما نحسبه أراد به الحشد في كتابه وتكبير حجمه، فإن كتابه مع كل هذه الثرثرة ومع كل ما استعان به من الكلام في الشعراء وتراجمهم ضئيل الحجم قليل الورق في تسعين ونيف من القطع الصغيرة؛ فما بقي إلا أن يكون قد أراد غرضًا علمه الله منه ففضحه به وخذله فيه!
ولقد أخذ فكرة الشك في شعر الجاهلية عن المستشرقين أيضًا؛ فقد كان حدثنا الأستاذ العلامة الكبير صاحب مجلة المقتطف في شهر سبتمبر من السنة الماضية أن مجلة الجمعية الآسيوية نشرت بحثًا للشيخ، مرجليوث المستشرق الإنجليزي المعروف، أنكر فيه صحة الشعر الجاهلي، ثم ساق لنا الأستاذ بعض أدلته فلم نجد مقنعًا ولا رضا، وقلنا: هو رأي في العلم لا علم، ثم هو من مستشرق وذلك أوهن له، وما كان لنا أن نأخذ عن القوم في الأدب العربي إلا بتمريض واحتراس.
ولما فتحت الجامعة إذا المستر، طه حسين ينتحل الفكرة ويدعيها ويبوِّب لها أبوابًا ويفصِّل فصولًا ويدرس ذلك في الجامعة، فباءت هذه الجامعة المسكينة من عمله بالخزي والفضيحة، واستمتع هو بمنزلتها وأموالها؛ والجامعة كما رأيناها مريضة يتحامل بعضها على بعض، حتى لو طنَّت عليها ذبابة انتقاد لفزعت وخافت، أما الشيخ فلو قرضوا جلده بالمقاريض لما أحس شيئًا، كأن الله — تعالى — خلق نصف دمه من «الكلوروفورم» فجلده مبنج في كل وقت.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من النصوص، فانظر كيف يصنع شيخ الجامعة قال في صفحة ٦٦: «ولابن سلام مذهب في الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع، لا بأس أن نُلِمَّ به، فهو يرى أن طرفة بن العبد وعَبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدهم تقدمًا، وهو يرى أن الرواة المصححين لم يحفظوا لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر، فهو يقول: إن لم يكن هذا الشاعران قد قالا إلا ما يُحفظ لهما فهُما لا يستحقان هذه الشهرة وهذا التقدم، وإذن فقد قالا شعرًا كثيرًا ولكنه ضاع ولم يبقَ منه إلا هذا القليل، وشق على الرواة أو على غير الرواة ألا يروي لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا.»
انتهت الترجمة. أما الأصل في اللغة العربية فهو: «ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة والمصححين لطرفة وعبيد، والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وُضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما من أفواه الرواة، ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر، وكانا أقدم الفحول؛ فلعل ذلك لذلك، فلما قل كلامهما حُمل عليهما حمل كثير.»
انتهى النص. وعارِض أنت بلاغة ببلاغة ولغة بلغة، وقابل بين ما ذهب إليه طه وما أراد ابن سلام، فمهما أخطأ فلن يخطئك أن تعرف الفرق بين الثرثرة والقصد وبين هزيل الكلام وسمينه، وبين صحة الفكر وفساده، وبين الأخذ من الدليل بقيده والاتساع في الدليل على إطلاقه، وما يرى ابن سلام إلا أن كثرة ما ضاع من شعر طرفة وعبيد إنما كان لأنهما أقدم الفحول، فبعُد العهد به ومات بموت من علموه من عرب الجاهلية، فهذا نص على بعض أسباب ضياع ما ضاع من الشعر إنْ كثيرًا أو قليلًا، ثم في عبارته نص آخر ينقض كتاب الجامعة كله، وهو إثبات أن لنا «رواة مصححين» وأنهم صححوا لطرفة وعبيد قصائد بقدر عشر، وأثبتوا أن ما عداها غثاء حُمل عليها حملًا، ويلزم من هذا أنهم درسوا الشعر وجمعوه وحققوا روايته، وأثبتوا الصحيح ونصوا عليه، وميزوا المنحول وردوه، وفصَّلوا الشعراء وقالوا في كل منهم، وعارضوا بين الأقوال، ورجحوا واستدلوا واحتجوا وناظروا، فوجب من ثم أن نصير إلى قول أولئك المصححين ونأخذ بعلمهم ونقف عند ما نصوا عليه؛ لأنهم كانوا أهل هذا العلم ولا أهل له من بعدهم إلا بصلة تنتهي إليهم؛ وهو ظاهر أن هؤلاء الرواة لم يُثبتوا في كتبهم إلا ما صح عندهم، وأنه ليس على الأرض اليوم من يستطيع بعض ما فعلوه؛ لأننا بالإضافة إليهم أمة من الأعاجم؛ وبديهي أن ما يكون من وسائل العلم والرواية والنقد بعد مائة سنة من تاريخ الجاهلية لا يكون مثله ولا بعضه ولا بعض من بعضه بعد أربعمائة وألف سنة، وخاصة مع انقطاع الأسانيد وضياع الكتب؛ فأين هذا كله مما يذهب طه إليه وما خرف به في كتابه؟
انتهت الترجمة. أما الأصل المعرَّب العربي فهو: «ثم كانت الرواة بعدُ فزادوا في الأشعار، وليس يُشْكل على أهل العلم زيادة ذلك ولا ما وضع المولَّدون، وإنما عَضَل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الإشكال» ا.ﻫ.
فانظر إلى الفرق البعيد بين قول ابن سلام: «الرجل من أهل بادية» وبين قول طه: «الذي ينتحله العرب أنفسهم» — وتأمل معنى «يشكل بعض الإشكال» ومعنى «يجدون مشقة وعسرًا.»
وكلام ابن سلام صريح قاطع في أن الشعر الذي نسب إلى الجاهلية وأشكل أمره على الرواة قليل جدًّا، ثم هو لا يشكل إلا «بعض الإشكال»، ثم لا يكون كذلك إلا حين يجيء من عربي قُحٍّ له عِرْق في الشعر فتعينه الوراثة، أو عربي في حكم ذلك بالقريحة والقوة والطبع، أما الذي زاده الرواة، والذي صنعه المولدون فكل ذلك متميز معروف لا إشكال فيه، وهو بعض ما يقول عليه الرواة؛ لأنه من مادة علمهم ولا فائدة للرواية إن لم تتحقق به، فقل لي بعيشك أين هذا مما ذهب إليه طه في الحكم بتزوير «الكثرة المطلقة» من الشعر؟
وقال في صفحة ٥٤: قال ابن سلام — كان الله لك يا ابن سلام: وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام. قال: وليس من شك عندي في أنها استكثرت بنوع خاص من هذا الشعر الذي يُهجى فيه الأنصار.
وهو يحدثنا بأكثر من هذا: يحدثنا أن قريشًا كانت أقل العرب شعرًا في الجاهلية، فاضطرها ذلك (تَأَمَّلْ) إلى أن تكون أكثر العرب انتحالًا للشعر في الإسلام.
أترى؟ أمَا ترى؟ أمَا تعي؟ أمَا تعجب؟ هل كان في النص الأول أن قريشًا كانت «أقل العرب» شعرًا في الجاهلية فاضطرها ذلك اضطرارًا لأن تكون «أكثر العرب» انتحالًا؟
على أن كتاب ابن سلام مطبوع، ولم نعثر فيه على أصل النص، وإنما الذي رأيناه من كلامه في الكتاب كله أنه علل قلة شعر قريش في الجاهلية بأنهم لم يحاربوا ولم تكن بينهم نائرة، وإنما تكثر الأشعار في الحروب والوقائع، وقال في موضع آخر: وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان.
ففي كلام أستاذ الجامعة كذب وسرقة: فأما الكذب فنسبته إلى ابن سلام أنه قال: إن قريشًا «أكثر العرب انتحالًا للشعر في الإسلام» وأما السرقة فقوله: «وليس من شك عندي» في أنها استكثرت بنوع خاص، من هذا الشعر الذي يهجى فيه الأنصار» فذلك من عند ابن سلام لا من عند طه حسين، ويبقى أن تعرف أن ابن سلام جعل الزيادة كلها من هذا النوع، أما أستاذ الجامعة فجعلها من أنواع كثيرة وهذا النوع هو «الخاص» منها؛ فكيف ترى الصنيع وكيف تسميه؟
وسنتم القول في هذا المعنى وفي عقم استنتاج شيخ الجامعة وفساد آرائه التي يقهر النصوص عليها في فصل آخر إن شاء الله.
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ.