طه حسين ابن الجامعة البكر!
روى المقطم أن الأستاذ الجليل مدير الجامعة حشد فيها لحفلة رياضية جمعت الرؤساء والأساتذة والطلبة؛ وأنه خطب في الجميع فنصح للطلبة بالجد والمثابرة، قال: «وخطب حضرة الأستاذ الدكتور طه حسين خطبة ممتعة ناقش فيها برفق وأدب …» نصيحة صاحب السعادة «مدير الجامعة».
ثم كان ختام الحفلة كلمة لسعادة المدير ذكر فيها جلالة الملك المفدى أبا الفاروق الأعظم نصر الله بحوله وقوته أعلامَه، ونضر بفضله وكرمه أيامَه، وألقى من طالع يُمْنه السعيد على وجه الحياة المصرية أجملَ ابتسامة. قال المقطم: «ثم ناقش خطبة الدكتور طه قائلًا: إنه الابن البكر للجامعة المصرية! ثم قال: يا بُنَيَّ الاعتدالَ، الاعتدالَ!» ا.ﻫ.
فأما اندفاع طه للرد على مدير الجامعة في حفلة رسمية أقيمت للألعاب الرياضية على حين لم يزد المدير فيها على نصح الطلبة بالجد والمثابرة، فهذا هو الأصل في طه وذلك طبعه وخلقه، بُني على المجاذبة والمماراة، فما من كلمة إلا ولها عنده بنت عمة أو بنت خالة.
ولو أن الخطبة في هذه الحفلة كانت في تعليم المشي على الحبل، لرد طه بنوع من الرد ولجاء بنبذ من الاعتراض، فإن العبرة عنده بما يهجس في خاطره لا بما هو الحق ولا الواقع ولا مقتضى الحال، وتلك طريقته في العلم وهي آفة من آفاته وأصل من أصول الخطأ فيه، ومثل هذا لا تزال الشبهة قائمة على لسانه، ولا يزال مُعِدًّا لكل قول قولًا، فما يسمع شيئًا إلا خيل له شيء آخر، ولا يفكر في أمر إلا لبِّس عليه أمر غيره، ولا تفاتحه رأيًا فيرضاه إلا إذا أراد لأمر أن يرضاه: ولا تجادله فيقتنع إلا إذا شاء لغرض أن يقتنع؛ لأن الأصل في تركيبه المراء، والحدة، واللجاجة، وطغيان القول، وهي أربع مظاهرها فيه الشك والاضطراب والقلق وفساد النية، ونتائجها الإنكار والخلط والسفه والعناد، وكل ذلك يجمع طه حسين، وأما أنه ناقش مدير الجامعة «برفق وأدب» فهذا هو الغريب عن طبعه، والنص هنا على الرفق والأدب يُفهم شيئًا، ولا يمكن أن يقع المقطم في هذه الهفوة البيانية الدقيقة، فهو أستاذ هذا الباب من البلاغة، وإنما كتبت العبارة في الجامعة، كتبها طه أو ذنَبه أو رأسه، وأتى المقطم بها فنشرها.
نريد أن نستجيز لهذا القلم مناقشة الأستاذ الجليل لطفي بك السيد مدير الجامعة، وهو عقل من العقول النادرة في مصر بل في الشرق كله، يكاد يكون ملهمًا محدثًا إذا كتب أو قرأ أو فكر، وهو كذلك شعاع ساطع من تلك المرآة العلوية التي ترسل على آفاق الدنيا نور الذكاء والنبوغ والفلسفة، وقد كنا نحسبه أول من يستجيب لرأينا في وجوب نقد طه وتمييز خطئه من صوابه ورد الرأي عليه فيما لم يصح، فإنه يجب أن تكون الجامعة موضع الثقة في عملها، ويجب أن تعرف الأستاذ بعلمه لا العلم بأستاذه، فإن أظهرها إنسان على غلطة أو نبهها إلى زلة بحث وحققت وسألت أهل الذكر وأهل الفكر ورجعت إلى كل ذي فطنة، ثم أعلنت ما تنتهي إليه من خطأ أو صواب بحججه وأدلته ولم تُصِرَّ ولم تستكبر ذهابًا بنفسها أو ممالأة لأستاذها أو تغطية لعيبها؛ لأنه إذا كان طه حسين ابن الجامعة البكر فالأدب العربي ليس ابنها الثاني ولا الثالث، وإذا كان طه ابن الجامعة البكر فماذا؟ أيُترك لطيشه ولهوه وعبثه، ويُخلَّى لشكه وحيرته واضطرابه، ويُدَلَّل حتى على العلم، ويُضحك له حتى من أغاليطه، ويُكافأ حتى على ما يجنيه إذا كان ما يجنيه متصلًا بحنان أهله ونازعتهم أكثر مما هو متصل بأسباب الجناية ونتائجها؟
لعمري إذا كان هذا كله لابن الجامعة البكر وكان — اسم الله عليه، يجعله من عذره في نتف لحية أبيه وعمه وخاله، ويعتدُّه من أسباب الرضا عنه إذا وقع في قبيح أو دخل في كبيرة — إذا كان هذا لابن الجامعة البكر فما بقي على الجامعة إلا أن تضع له بجانب منبر التدريس حصانًا من الخشب، ليلهو على هذا وعلى هذا، فمن المنبر إلى الحصان ومن الحصان إلى المنبر، ولا تُلم الصبيان فيه على الرقص!
ثم إن الأستاذ الكبير يقول لطه: يا بُنَيَّ الاعتدالَ، الاعتدالَ: كلا يا سيدي الأستاذ، لا محل للاعتدال، ولا نقبل منك هذه الكلمة ولا يقبلها طه، أما هو فإنه يقول بوضع علم المتقدمين كله موضع الشك، فأين يعتدل وفيم وكيف؟ وأما نحن فإننا نريد منك أن تقول له: يا بُنَيَّ التوبة التوبة! فقد خرج في درسه على دين الأمة، وكذَّب القرآن ونسب إليه الخرافات، وجعل النبي ﷺ رجلًا سياسيًّا يحتال الحيل ولا يُؤْمَنُ فيما بلَّغ عن ربه، ثم جاء في تاريخ الأدب بأقبح الجهل ودل من نفسه على عجز وضعف وسوء فهم ونية مدخولة وذهن مريض؛ فأين تريده أن يعتدل من ذلك كله؟ على أننا في هذا الكلام إنما نأخذ بظاهر الرأي، أما في الحقيقة فنحن نعرف من بلاغة مدير الجامعة وغوره البعيد أنه بكلامه أراد النصيحة لطه كما نصح الطلبة، جعله بذلك لا يزال في حكم الطالب وإن كان أستاذًا وأنزله هذه المنزلة على أعين الملأ، ثم إنه كأنه يقول له: «يا بُنَيَّ إنك مائل فاعتدل، ومعوج فاستقم؛ ومجازف فتبصر، وحديد الطبع فاستأذن وكثير الخطأ فتعقل!»
«يا بُنَيَّ إنك مصغَّر مستصغَر لا تسكفي بنفسك ولا تستقل بأمرك فاسمع وأطع.»
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ فكيف بمثقال ستين كيلو جرامًا من إلحاد وخطأ في جلد ولحم ودم؟
وما علم هذا المقلد مع الفارق أن أكثر إلحاد المعري إلحاد شعري تجيء به القافية ويحمل عليه التخيل، فهو من بعض الوجوه في باب الشعر كالقول في الخمر والغزل والمجون والسفه وما يتصل بها؛ فلما فقدنا هذا من طه لم نرَ إلا الحثالة والقشر، فهو المعري الذي بقي من المعري في مُنْخُل الأدب! هذا التصريح منه بالتقليد والاحتذاء يُسقط الثقة به وبما يدعي من حرية الفكر؛ لأن الحرية لا تأتي بتقليد الأحرار، ولكن بالاشتمال على وسائلهم وأسبابهم ومواهبهم، وأما بغير ذلك فلا حرية وإنما هناك غرض من التقليد يقلد الحرية حتى في اسمها، وكل أعمال المقلد تُحمل منه على هذا الغرض الدنيء لا على ذلك المبدأ السامي.
والأمر الثاني الذي نخشاه من طه أنه أداة أوربية استعمارية تعمل في إفساد أخلاق الأمة وحل عروتها الوثقى من دينها في أدبه ولغته وكتابه، وتحقير كل من يتسم بشيء من ذلك عالمًا أو متعلمًا أو متورعًا، فهو دائب في إزالة ما وَقَرَ في نفوس المسلمين من تعظيم نبيهم وكتابهم وإيثار دينهم وفضيلتهم وإجلال علمائهم وسلفهم، مرة بالتكذيب، ومرة بالتهكم، ومرة بالزراية، ومرة بإفساد التاريخ، ومرة بنقل الأخلاق الفاحشة المتعهرة من مدنية الفرنسيين، وهلم جرًّا! حتى كأنه شيطان عاقبه الله فطمره في جلد إنسان، وتالله لو تم لهذا وأمثاله ما أرادوا فاجترأ الناس على دينهم وكتابهم وعلمائهم، وسخروا من تاريخهم وتقطع ما بينهم وبين أسلافهم، وخاطروا بما في أيديهم من دين وعلم وتاريخ وفضيلة على ما تسميه صناعة الكتابة مدنية وفنًّا وفلسفة، إذن لا تكون أوربا قد بلغت منا بمدافعها وجنودها وحيلها ودهاتها بعض ما بلغت بهذه الأدوات الإنسانية التي تسمى طه حسين وفلانًا وفلانًا.
أما إن هذه فئة من الناس، ولكنها كذلك فئة من المذاهب، والمصيبة أنهم ما فيهم من فيلسوف ولا عالم ولا أديب ولا من يستطيع أن يقول هذه فلسفتي وهذا علمي وهذا أدبي، بل كلهم عيال على أدب أوربا وعلمها وفلسفتها وكلهم مقلد وكلهم سارق وناقل؛ فإذا كانوا على هذه الصفة ثم رأيناهم قد زاغت عقائدهم وفسدت طباعهم وانتقلت أهواؤهم أفيكونون بيننا إلا من وسائل التدمير والخراب والاستعمار، شعروا أم لم يشعروا وأرادوا أم لم يريدوا؟ وماذا يجدي علينا صياحهم العلمي أو السياسي أو الأدبي وهم إنما يحترفون هذا الصياح ويؤجرون عليه ويعيشون منه، كالرجل من أهل الغناء والموسيقى ربما كان في نفسه مثال البؤس والهم والحزن ويستأجره الناس ليغني.
إن لشيطان طه سبلًا كثيرة، فهو يتراءى لنا في معان مختلفة تذهب بنا أحيانًا بعيدًا عن كتابه، ولكن هذا أيضًا من شؤم كتابه؛ إذ يرجع هذا الكتاب إلى أسباب في طباع مؤلِّفه قائمة على النكر والمراء والزيغ أكثر مما هو راجع إلى أسباب في التأليف قائمة على البحث والرأي والتحقيق، فلنعد إلى ما نحن بصدده من القول في فساد رأيه وسوء استخراجه وأنه ليس معه إلا الانتحال على غير توفيق، والخبط على غير هدى، والجرأة على غير تحقيق ولا استبصار.
لقد توارد أستاذ الجامعة مع الإمام الجاحظ في استخراج واحد من مسألة واحدة، وكلاهما شك فيها، ونريد أن نعرض ذلك على الجامعة لنعلم صحة قولنا: إن العالم يأتي بالرأي من مجموع أخلاقة وطباعه أكثر مما يأخذه من صفاته العقلية، وأنه لو كان طه حسين أذكى الأدباء في الرأي والعقل، وأجمعهم في المادة والحفظ، وأبلغهم في المنطق والأسلوب، ثم كان على بعض فساده وزيغه، لوجب تنحيته عن التدريس الأدبي وحماية النشء منه؛ لأن تعليمه ينقل إلى هؤلاء الأطهار الأغفال علمه وأهواءه جميعًا فلا يقوم ما فيها من طيب بما فيها من خبيث.
قال طه في صفحة ١٠٢: «وهناك لون من ألوان القصص كان الناس يتحدثون به ويميلون إليه ميلًا شديدًا ويروون فيه الأكاذيب والأعاجيب، وهو أخبار المعمرين الذين مُدت لهم الحياة إلى أبعد مما ألف الناس، ورويت حول هؤلاء المعمرين أخبار وأشعار قبلها العلماء الثقات في القرن الثالث للهجرة.» انتهى.
وقال الجاحظ: «وقد ذكرت الرواة في المعمرين أشعارًا وصنعت في ذلك أخبارًا، ولم نجد على ذلك شهادة قاطعة ولا دلالة قائمة ولا نقدر على ردها لجواز معناها، ولا على تثبيتها؛ إذ لم يكن معها دليل يثبتها.»
فأنت ترى من الفرق بين الجاحظ وطه أن هذا يبالغ ويهول ويتعمد الكذب فيزعم أن الناس كانوا يتحدثون بذلك النوع من الكذب ويميلون إليه ميلًا شديدًا، كأنه كان شاهد أمرهم ورأى الناس يتحدثون ويميلون، ثم يوهمك أن العلماء الثقات في القرن الثالث قبلوا تلك الأخبار والأشعار وما كان الجاحظ إلا في القرن الثالث، ثم ينفي طه كل ما قيل من ذلك كأنه على ثقة من أن العرب لم يعمر منهم أحد، مع أن في زماننا هذا من ارتفعت به السن إلى قرن ونصف، فلو كان هذا شاعرًا فماذا يمنعه أن يقول في هرمه وامتداد العمر به وثقل الحياة عليه وتبرمه بها ما قال أولئك أو شبيهًا بما قالوا؟
ومن غفلة أستاذ الجامعة — وهي من الأدلة الكثيرة على سوء فهمه وتعلقه بأول خاطر وأنه لا يتبين أسباب المعاني ولا يحققها — أنه يقيس على ظاهر الرأي كيفما وقع له؛ فلا يذكر أن العرب قوم ولا حساب عندهم ولا يؤرخون إلا الحوادث الكبر، فإذا عُمر شيخ منهم وبلغ خمسين ومائة سنة مثلًا — وهو عمر طبيعي — حسبها ثلاثمائة أو تزيد، وخاصة إذا خرف وأسرف وبعد ما بين فكره ولسانه أو أراد التهويل على عصره وقبيلته؛ وكيف يعرف مثل هذا حقيقة سنه وما يعد ولا يكتب ولا يحسب ولا عنده من يدون له، ولا في قبيلته من يحفظ من التاريخ أو يرد منه شيئًا إلى أصل بعيد، فالرواة إنما نقلوا من هذا ونحوه وما انتهى إليهم فإن كان فيه الكذب ففيه الصدق، وإن كان فيه الموضوع ففيه الصحيح؛ وما كانت المبالغة سببًا من أسباب العدم، بل هي بعض أسباب الوجود، ولا بد في المنحول من أصل يقاس عليه وصحيح يبالغ فيه، وهذا كله فهمه الجاحظ، فهو لا يرد ما ورد من ذلك؛ لأن معناه غير بعيد ولا مستحيل؛ ولا يثبته بعينه؛ لأنه ليس معه دليل قاطع، ولو كان الجاحظ ضعيف الفهم قليل الاطلاع بعيدًا من آداب العلماء لوافق في الرأي أستاذ الجامعة وتحامق وكذب وسب الرواة وتهزأ بهم كما فعل هذا.
ومن العجائب أن طه يتوارد أيضًا في طريقة الاستنتاج من الرافضة ويطابقها مطابقة النعل للنعل؛ ولا تستبعدن ذلك ما دام كلا الفريقين أسقط الإيمان من حسابه «وتجرد من دينه» عند البحث والرأي؛ وكأن شيخ الجامعة يقيس على نفسه فلا يصدق أنه كان في الأمة الإسلامية قوم يؤثرون الله ورسوله على كل وساوس النفس وأهوائها، وليس عنده إلا العصبية والميل مع طبع الجاهلية حتى في إمام أهل الحق عمر بن الخطاب، وقال الشيخ في صفحة ٥٣: وقد ذكر الرواة أن عمر مر ذات يوم فإذا حسان في نفر من المسلمين ينشدهم شعرًا في مسجد النبي ﷺ فأخذ بأذنه وقال: أرُغاء كرُغاء البعير؟ قال حسان: إليك عني يا عمر! فوالله لقد كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك! فيرخي عنه عمر ويمضي.
قال: وفقه هذه الرواية يسيرٌ لمن يلاحظ ما قدمنا من أن الأنصار كانوا موتورين، وأن عصبيتهم كانت لا تطمئن إلى انصراف الأمر عنهم، فكانوا يتعززون بنصرهم للنبي ﷺ وانتصافهم من قريش، وكان عمر قرشيًّا تكره عصبيته أن تُزدرَى قريش، وينكر (كذا كذا) ما أصابها من هزيمة (يعني في غزوة بدر) انتهى.
ولكن من أين لأستاذ الجامعة أن حسانًا كان ينشد يومئذ في هجاء قريش في مسجد النبي ﷺ ليعزي الأنصار وينوح لهم كالنائحة المستأجَرة حتى ثارت لذلك عصبية عمر ورجع وهو أمير المؤمنين إلى طبع الجاهلية!
ومن أين له أن عمر كان ينكر ما أصاب قريشًا من الهزيمة في غزوة بدر أو فتح مكة!
وهل كان عمر كطه حسين يشك في التاريخ ويكذبه مع أن سيفه كان من تلك السيوف التي هزمت قريشًا؟
ثم كيف يجوز لأستاذ الجامعة أن يكذب ويغير النص فيقول: «فيتركه عمر ويمضي» وكل الروايات في الكتب متفقة على أنه قال لحسان: صدقتَ، أو صدَّقه، ولكن إذا قال عمر: صدقت، كان ذلك نصًّا على أنه لم ينكر ما أنكر، لا حمية ولا عصبية؛ لأن العصبية تأبى عليه أن يصدِّق، بل يكظم على غيظه «ويتركه ويمضي»، فانظروا أيها الناس ما يصنع الخبيث لرمي الرجل الذي أعز الله به الإسلام واتهام إيمانه وصدقه مع ورود الحديث الشريف: «ليس منا من دعا إلى عصبية.» وقد رأيت كم تكرر لفظ العصبية في كلامه! ثم إن قول عمر لحسان: صدقت، يدل من جهة أخرى على أنه لم ينكر عليه إلا هيئة الإنشاد.
كان ينشد الشاعر العربي فينتفخ ويربو في ثيابه ويتكلف التفخيم والتشدق وإدارة اللسان وتقليبه ويهدر كما يهدر البعير حين يستفحل ويرغو وكل ذلك في مسجد النبي ﷺ فذلك حيث يقول عمر: أرغاء كرغاء البعير؟
على أن الأستاذ المخلط الذي يرمي عمر بالعصبية قال في نفس الصفحة: تحدثت الرواة — وهنا ترجم نصًّا فلننقله عن ابن سلام، قال: «قدم ضرار بن الخطاب الفهري وعبد الله بن الزبعرَى المدينة أيام عمر بن الخطاب فأتيا أبا أحمد بن جحش، فقالا له: أتيناك لترسل إلى حسان فنناشده ونذاكره، فإنه كان يقول في الإسلام ويقول في الكفر — أي الجاهلية — فأرسل إليه فجاء، فقال يا أبا الوليد، أخواك تطربا إليك يذاكرانك وينشدانك. قال: نعم، فأنشداه — أي مما قالا في الأنصار — حتى إذا صار كالمرجل يفور قعدا على رواحلهما إلى مكة، فخرج حسان حتى أتى عمر فأخبره خبرهما، فقال: لا جرم والله لا يفوتانك! فأرسل في أثرهما فرُدَّا، وقال لحسان: أنشد، فأنشد حسان حاجته حتى قال له: اكتفيت؟ قال: نعم! قال: شأنكما الآن إن شئتما فارحلا وإن شئتما فأقيما.» انتهى.
ترك الأستاذ هذا النص الواضح الجلي ونقل رواية الأغاني وفيها زيادة وصنعة ولها توطئة وخاتمة؛ إذ جاءت بعد رواية ابن سلام بنحو مائة سنة واستخرج منها أن الأنصار كانوا يكتبون هجاءهم لقريش!
ولكن يا أستاذ، كيف غفلت هذه الغفلة المُطْبِقة بين صفحتين اثنتين وأين ما قلت في عصبية عمر؟ وكيف مالأ حسانًا على أكبر شعراء قريش وتركه ينشد في هجاء قومه مما قاله في الجاهلية حتى اكتفى؟ أليس هذا هو العدل والقصاص إنشادًا بإنشاد وكلامًا بكلام؛ وإنْ في قريش؟
على أن ما قاله طه في عصبية عمر هو كاستنتاج الرافضة وعلى طريقهم في الرأي والفكر؛ إذ يقولون: إن الصحابة بايعوا أبا بكر وتركوا عليًّا، لا طاعة ولا رغبة بل عصبية منهم على عليٍّ، ورجوعًا إلى طباع الجاهلية؛ إذ كان علي قتل من عشائرهم بين يدي رسول الله ﷺ من قتل في الغزوات والفتوح؛ فليس يمحو الإسلام عندهم شيئًا، ولا يكون المؤمن إلا على أصله التاريخي وطبيعة الجاهلية، ويسقطون ما عدا ذلك من مظاهر النفس الإنسانية التي من أعظمها في الإسلام ذلك اليقين الديني وكان عجيبة العجائب وأنزل فيه الله تعالى لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ.
وليت طه يفهم معنى كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ولكن قلبه هو لوح ممسوح، ونعوذ بالله من خذلانه؛ ومتى تجرد الباحث في التاريخ الإسلامي «من دينه» فهو شيء واحد إن كان من الرافضة أو كان أستاذًا في الجامعة؛ لأن هذا التاريخ إنما يقوم في أصله على معان لا يعقلها ولا يصدق بها من يجرد نفسه منها، وكيف يعقل الجبان المنخوب القلب أفعال بطل من أبطال الدنيا الذين شذت فيهم طبيعة القوة والجرأة فيقال في أحدهم أنه يحمل مائة قنطار وأنه يقطع سلاسل من الحديد بيديه وأنه يصلب رجلًا كطه حسين في خنصره؟
إن التاريخ الإسلامي إذ حُمل على غير طريقته وتولاه غير أهله لم يأتِ منه إلا ما هو دخيل فيه، وتقل الروية ويكثر التكذيب ويحصل الخطأ ويقع الخلل؛ لأن الأشياء بما كانت عليه لا بما تتوهم أنت أنها كانت عليه، وذلك هو السر في خلط المستشرقين والمسيحيين والديكارتيين من أمثال طه حسين إذا هم تعاطوا الكلام في تاريخ الصدر الأول أو ما يتصل به نوعًا من الاتصال في الأدب أو الشعر أو نحوهما، وإذا كتبت الشياطين تاريخ الملائكة واتبعت مذهب ديكارت، فتجردت من قوميتها ودينها فهل تراها تسلب طبيعتها وخبثها، وهل يدخل عليها الخطأ إلا من ناحية هذه الطبيعة في تركيبها على غرائزَ وأوصافٍ لا تتحول؟
وانظر حمق العصبية في قول طه صفحة ٥٥: «وأنت لا تنكر أن يزيد هو صاحب وقعة الحَرَّةِ التي انتُهكت فيها حرمات الأنصار في المدينة والتي انتقمت فيها قريش من الذين انتصروا عليها في بدر — لا حول ولا قول إلا بالله — والتي لم تقم للأنصار بعدها قائمة، ولأمرٍ ما يقول الرواة حين يقصُّون وقعة الحَرَّةِ: إنه قتل فيها ثمانون من الذين شهدوا بدرًا أي من الذين أذلوا قريشًا.»
يا هذا، ألك ثأر على الأنصار أم كان أبوك من قريش؟ وأنا أعلم أن أباك وأسرتك يتبرءون إلى الله منك ويخشون أن يقال في الآخرة يوم العرض: هؤلاء أهل طه حسين! هَبِ الإسلام ليس شيئًا ولم يُحْدث أثرًا ما في نفوس المسلمين إلى زمن يزيد! وهبْ وقعة الحَرَّةِ نقمة من غزوة بدر التي لم يغزها الأنصار إلا بين يدي رسول الله ﷺ هبْ ذلك معقولًا في رأي رجل مسلم! فيبقى أن الرواة والمؤرخين لا يقولون تلك الكلمة وهم يريدون التفسير الذي جئت به إلا إذا كانوا هم أيضًا متعصبين على الأنصار، وكان إسلام الأنصار عندهم غير إسلام قريش، وكانوا مع ذلك أهل جبن ونفاق يخشون الأنصار بعد إذلالهم وبعد أن تقوم لهم قائمة؛ فيعبِّرون بكلمة مبهمة لا يفتح الله بتفسيرها على أحد إلا بعد ١٢٠٠ سنة، وعلى طه حسين وحده.
ألا تفهم شيئًا؟! وكيف صرت أستاذًا في الجامعة وأنت بهذه الغباوة؟! إنما يريد الرواة أن وقعة الحَرَّةِ كانت شديدة النكاية في الإسلام قبيحة الأثر فيه، وكانت مع ذلك عدوانًا صرفًا وجهلًا محضًا حتى قاتل فيها أهل بدر وقتل منهم ثمانون، وأهل بدر بنص الحديث الصحيح أفضل المسلمين، وهم نجوم الأفق النبوي بعد أن غاب قمره الأزهر.
وما كل ما مر بك أيها القارئ بأشنع من قول طه في صفحة ٧٢: «ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال (كذا) الشعر وإضافته للجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي ﷺ من ناحية أسرته ونسبه في قريش؛ فلأمرٍ ما اقتنع الناس أن النبي ﷺ يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان؛ وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها.» انتهى.
فما هذا الأمر يا شيخ الجامعة؟ ما هذا التهكم؟ وهل تتهكم أيها الأحمق المغرور إلا بالحديث الصحيح: «إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.» ألا قبحك الله من شيخ سوء! وسيحيق بك ما كنت تستهزئ؛ ومن عساك تظن أنك تبلغ ضُرَّه بهذه الحماقة فتضره؟