عصبية طه حسين على الإسلام
قيلت لي عبارة لم أصدِّقها ولا أزال في ريب منها، وأرجو أن تكون حديثًا مفترى وكذبًا صُراحًا، وأن يكون الشيخ طه بريئًا منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، إن الدم ليس غريبًا من الذئب، وليس الذئب إلا طبيبًا دمويًّا، ولكن ابن يعقوب له دم غير دماء الناس، وقد كان لا بد لهذا الدم الزكي أن ينشأ به ذلك الفكر النبوي الملهم فيستنقذ مصر وأهلها من المجاعة والقحط؛ فلو أن الذئب ولغ فيه لقتل به أمة كاملة، وبهذا كانت براءة الوحش من ذلك الدم كأنها فضيلة نقلته من طبع الذئاب إلى طباع أهل النسك من عباد الله المقربين، وجعلت تهمته مثلًا مضروبًا في الظلم دائرًا في الأفواه باقيًا في ميراث بني آدم من الحكمة والبلاغة، وعاد الذئب — وإنه لذئب بعدُ — كأنما استُشهد، وكأنما وقعت عليه التهمة فقتلته في سبيل الله فأصبح قديسًا، اخضرت أظفاره من ريح الجنة فأنبتت ورق الريحان، وانقلب ما كان سفكه من الدم فنبت منه الورد، وبدا الذئب القديس في التاريخ كأنه طاقة زهر فيها الأخضر والأحمر، وفيها أوراق الياسمين البيضاء من أنيابه وأضراسه.
وحسبكم بأمة يمضي عليها زهاء أربعة عشر قرنًا ويكون عديدها ثلاثمائة مليون وتنبث في أقطار الأرض كلها ثم لا ينبغ فيها رجل يعرف الصحيح ويفطن له ويستعلن به للناس ويقرره ويعلمه إلا رجلًا واحدًا هو العلامة حجة المبشِّرين، الدكتور طه حسين!
ما عسى أن تفعل الجامعة المصرية في هذا البلاء الداهم وهذه الفتنة الآكلة، وكيف لها بسد الثلمة إذا انفجرت وانبثق منها هذا الشر العظيم، وهي إلى اليوم كأنها مأخوذة لا تعي، ومسحورة لا تفهم، وعميد الآداب فيها رجل أعجمي لا يزال من العربية في المنزلة التي يقال له فيها: إذا نقلت النقطة من تحت الباء إلى فوق صارت نونًا، فما رأينا هذه الجامعة تبرأت من هذا الكتاب ولا انتفت من نسبته إليها، ولا تزال تحسبه كتابًا في الشعر الجاهلي، وهو كتاب في التنكيل بالإسلام، وهو في موضوعه شبه بالسلسلة صفحاته حلقاته، فلا تستهينن بحلقة فتقول: إنما هي واحدة وإنما هي ضئيلة ولا خطر لها، فإنه ليس الشأن في حلقة حلقة ولا في صفحة صفحة، بل في اتصال بعض ذلك ببعضه واجتماع جملته من أجزائه وتفرق أجزائه على جملته، وعلم الله ما كتبنا هذه المقالات إلا لنقنع الجامعة بجهل شيخها وفساد رأيه ومرض نيته، ثم لتردَّ عليه هذا الغل الذي في قلبه للمسلمين، وهذه السخرية التي في لسانه وقلمه لدينهم وأئمتهم وعلمائهم، وهو على ذلك ضعيف الفهم سخيف التقليد، وهو في غاية تحصيله رجل حافظ كالأوراق المجموعة من كتاب إلى كتاب، وفي غاية عمله رجل جريء يقع في الأشخاص وفي المعاني، ويستوحل في كل وحل، ولقد لبسه عقله الناقص الأهوج فلا يتثبت ولا يتحرج ولا تسوءه السيئة من نفسه ولا تسره الحسنة من أحد؛ وما زلنا نذكر له كلمة غريبة لو خلق الله منها شيئًا بعد موت طه لجاء منها طه نفسه مرة أخرى، فقد لقيناه في جريدة السياسة عند رئيس تحريرها وقلنا له فيما قلنا: إنك لست بالعقل العام ولا الحقيقة الكلية فيسوغ لك أن تظن أن ما لا تفهمه أنت لا يفهمه أحد، وإن الناس خلقوا على درجات قد يبعد أعلاها من أسفلها حتى ليكون العالِم من عالِم أذكى منه بموضع كموضع الجاهل من العالم، وروينا له قصة إمام عصره بهاء الدين العاملي حين اجتمع له العلماء في مجلس وفيهم علامة الشام الإمام البوريني، فبدأ البهاء يتكلم في التفسير بكلام صريح واضح فهمه كل من في المجلس من عالم وغير عالم، ثم دقق حتى لم يفهمه إلا العلماء، ثم علا حتى لم يفهمه إلا البوريني وحده، ثم غمض غموض السر في حقائق المعقولات حتى لم يفهمه أحد ولا البوريني، فما كان من جواب الأستاذ الأديب المهذب طه حسين إلا هذه الجملة بحروفها «دا مُغفل لازم.»
أما والله إن المغفل هو الذي يحسب أن سنن الكون تُنشئ له أمة جديدة بكتاب ككتاب الشعر الجاهلي، وتُفسد له أمة قديمة بمجموعة كمجموعة قصص السياسة، ثم لا يعلم أن الفاسق الفاجر يكون من الهوان على الله بحيث لا يجعل الله أمره في هذه الأمة المسلمة يزيد شيئًا على حانة في شارع في مدينة.
كلما نظرنا في كتاب الشعر الجاهلي لم نزدد إلا يقينًا بأن هذا الأستاذ الذي يُسَبِّح بمذهب ديكارت هو أشد الناس خروجًا في كتابه على هذا المذهب؛ فإنه لا يكتب ولا يفكر إلا لغرض واحد يبتغي له وسائله وأسبابه بكل ما استطاع، وهو توهين أمر الإسلام وصدعه من مفاصله وتفكيك العُقَد المحكمة التي يتماسك بها في تاريخه وناهيك به دائبًا يجمع من هنا وهناك من أثينا إلى مكة!
فالأستاذ لا يبحث كما يدعي وكما هو الأصل في مذهب ديكارت، وإنما يقرر تقريرًا، وشتان بين بحث يراد منه ما ينتجه من غير تعيين لنتيجة محتومة، وبين تقرير النتيجة التي يساق لها البحث وتجمع لها الأدلة، فإن الأول يصلح على التجرد من الأسباب التي تؤثر في الرأي كالعاطفة والعصبية وغيرهما، وأما الثاني فزعم التجرد فيه حماقة وسخرية؛ لأن النتيجة المعينة لا تجاذب إلا مقدماتها، وهذه المقدمات لا تستدعي إلا أسبابها، وهذه الأسباب لا تقوم إلا بأحوال مقررة؛ منها: الرأي والعصبية والميل والهوى ونحوها؛ وذلك ما حمل طه في اقتحام هذه الخطة وركوب هذا النهج، على ما فعل من تحريف النصوص وإرادتها لما ليس فيها؛ وعلى ذلك الخبط من سوء الفهم وفساد الاستنتاج، ومن أجل ذلك تناول الدين بالتكذيب والرد، وتعصب تلك العصبية الحمقاء في تأويله وسياق أدلته، وجعل الشبهة حجة والحجة شبهة ليستوي له أن يخالف الإجماع، فإذا خالفه نقضه، فإذا نقضه وظن أنْ قد تهيأ له نسق تاريخي ولو مزورًا مكذوبًا عاد بالهدم على التاريخ وعلى الأسباب الطبيعية الواشجة فيه وكسر كل قياس كان العلماء يقيسون عليه، فيتم له بذلك ما يسميه هو وأمثاله جديدًا وهو من السخف بحيث ترى.
أما إن بحثت وقايست وتعقلت وكنت أذكى الناس وأبلغ الناس! ثم كنت لا تستخرج من التاريخ والأدب إلا ما يزينهما ويزيدهما ويكشف عن أسرارهما وحقائقهما الصحيحة، ولم تكن لص كتب أوربية ومذاهب أوربية، فالويل لك، فما أنت إلا قديم، وما أنت إلا نفس حجرية ولو قدسك المسلمون تقديس الكعبة وحجرها، وإن العصر لفي غنى عنك وعن كتبك وآرائك؛ لأن خمسة أو ستة، أو خمسين أو ستين، هم العصر وهم الأمة وهم من التاريخ المترامي إلى المستقبل كالقطار: فيه ما فيه من عربات تحمل من العروض على أجناسها وأنواعها ومن الناس على درجاتهم وطبقاتهم، ولكن الخمسة أو الستة هم وحدهم عربة الآلات والبخار وفحم نيو كاسل.
بلى أيها المجددون، غير أنه ليس على الأرض معصوم من الخطأ، وغير أننا نعرف أن غلطة العالم تدل على علمه كما يدل صوابه، وأن شبهة الجاهل تدل على جهله كما يدل خطؤه؛ إذ كان الأول متحرزًا يتوقى جهده، وكان الثاني متحمقًا يسترسل جهده، فعلى قدر قوة الشبهة وضعفها، وبحسب نوع الغلطة وشكلها، يعرف نوع الفكر وتتبين حالة العقل، وبهذين تعرف صفة النفس، وبالنفس لا بغيرها يقوم التاريخ الإنساني.
ولو أن محمدًا ﷺ كان معه خمسمائة ألف من أمثال الشيخ المجدد طه حسين، أفيردون عليه ما ردَّ عربي واحد قلبُه روحُ سيفِه؟
أتظنون أن التجديد لا يقوم إلا بالهدم، وهل يبلغ ما أنتم فيه من الحماقة وضعف البصر بعواقب الأمور وأسرار الأشياء أن تقولوا: إن البناء الجديد لا يقوم إلا بعد هدم القديم وإزاحة أنقاضه وإقرار الجديد في موضعه؟ أهو بناء من الطوب والحجارة والأخشاب ترفعون هذا وتضعون هذا، أم هو بناء بالكلام على أرض من الورق فكل ما جاء ليبني بنى وكل ما جاء ليهدم هدم؟ أفلا تعلمون أن القديم لا يهدم ألبتة؛ لأنه هو الذي يبدع الجديد ويشقه؛ فإن هُدم في أمة من الأمم زال الجديد بزواله ولم يبقَ من الأمة إلا بقايا لا تستمسك على حادثة ولا تَقَرُّ على صدمة، وأن سنة الكون في الجديد أنه ترميم في نواحي القديم وتهذيب في بعضها وزخرف في بعضها الآخر، وإلا لوجب أن يتجدد التركيب الإنساني والتركيب العقلي، وهو ما لم يقع ولن يقع منه شيء.
فالشأن في الجديد أن تتصل المادة الجديدة بالقديم فإذا هو هو، ولكن ببعض الزيادة أو بعض الزينة أو بعض القوة، وكل ذلك لإحداث بعض المنفعة، فالرجل المجدد لا يوجد نفسه أيها الفضلاء جديدًا، وما هو من الهوان على الكون ونواميسه وعلله بحيث يقول: سأكون، فيكون؛ ولو أن كل أسود في مطعم أو حانة كأسود بني عبس لفسدت الأرض ولم يبقَ للشجاعة تاريخ يُحفظ، ولو أن كل لون أحمر يقول: أنا الورد لما بقي للورد معنى إلا أن يكون خجلًا في وجه الدنيا.
المجدد أيها الفضلاء جدًّا لا تخرجه للأمة إلا أقوى عناصر القديم متى اجتمعت فيه صحيحة متظاهرة يمد بعضها بعضًا، فإن من انتهى إلى غاية من الغايات كان هو الحري أن يستشرف لما بعدها وأن يأتي بما لا يستطيع مَن دونه، ولكن الشرط أن يكون قد بلغ هذه الغاية، وما يبلغها إلا إذا كان مهيأ بوسائلها، ولن تأتي له هذه الوسائل على أتمها وأكملها إلا إذا شاءت الحكمة الإلهية أن تنقح شيئًا في أساليب الحياة والنظام القديم.
كأن هذا بعيد عن موضوعنا، ولكن كيف نصنع وموضوعنا طه حسين، وهو رجل كشبكة الصائد: كلها عيون وخروق، وبين كل خرق وخرق عقدة!
- أولها: عقيدته في القرآن وأنه مِن وضْع الذي جاء به لا من وحي ولا تنزيل ولا معجزة.
- وثانيها: رأيه في النبي ﷺ وأنه رجل سياسي فلا نبوة ولا رسالة.
- وثالثها: عمله في توهين أمر الأئمة من الصحابة فمَن بعدهم، وقياسهم في الإنسانية وأهوائها وشهواتها على قياس من نفسه وطباعه.
فأما القرآن فقد أفردنا له مقالًا افتضح به أستاذ الجامعة أشد فضيحة وأخزاها، ونزيد عليه هنا أن الأستاذ يقول في صفحة ٨٥ في الرد على المستشرق هوار الذي زعم أن النبي ﷺ أخذ من شعر أمية بن أبي الصلت واستعان به في نظم القرآن: «من الذي يستطيع أن ينكر أن كثيرًا من القصص القرآني كان معروفًا بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى وبعضه عند العرب أنفسهم، وكان من اليسير أن يعرفه النبي ﷺ (تأملوا) كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبي، ثم كان النبي وأمية متعاصرين، فلم لا يكون النبي هو الذي أخذ من أمية ولا يكون أمية هو الذي أخذ من النبي؟!»
وهذه العبارة ناطقة برأي قائلها، حتى كأنه يقول: إن القرآن لا ينقصه إلا أن يكتب عليه «تأليف فلان»، ونعوذ بالله ونتوب إليه ونستغفره.
ويقول في صفحة ١٨ في بيان أن القرآن ليس في حاجة إلى شواهد من الشعر على ألفاظه ومعانيها عند العرب: «نخالفهم أشد الخلاف؛ لأن أحدًا لم ينكر عربية النبي فيما نعرف.»
يعني إذا لم ينكر أحد عربيته لم ينكر صحة كلامه، ونعوذ بالله ونتوب إليه ونستغفره.
ثم يقول في صفحة ٧٦ عن علماء الموالي وعلماء العرب: «وأرادوا هم (علماء العرب) أو الموالي، أو أولئك وهؤلاء، أن يدرسوا القرآن درسًا لغويًّا ويثبتوا صحة ألفاظه ومعانيه؛ ولأمرٍ ما شعروا بالحاجة إلى إثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب، فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلى الشك في عربيتها.» انتهى.
والرجل يكرر هذا المعنى ويطيل فيه، ولا يفهم أن الاستشهاد بالشعر لا يراد منه إثبات عربية القرآن ولا مطابقة ألفاظه لألفاظ العرب، ولا هو من شك في العربية ولا «من أمر ما …» وإنما يراد به اتخاذ القرآن سببًا في جمع مادة اللغة وشواهدها، كما هو السبب في وضع العلوم العربية كلها؛ أفترى وضع النحو كان لإثبات أن القرآن ليس فيه لحن، أم كان لإقامة الألسنة الزائغة حتى يسهل عليها الأداء والقراءة؟ ثم يراد من تقييد تلك الشواهد وجمعها وتدوينها تفسير كلمات القرآن؛ ليفهمها من يجيئون بعد العرب كما فهمها العرب أنفسهم، وظاهر أنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالنص على معاني الكلمات عندهم، ولا ثقة بهذا النص إن لم يكن عليه دليل من شعرهم؛ إذ هو وحده، المحفوظ عنهم، وهو كان متن اللغة والخبر والأثر، ولعمري لولا صنيع العلماء في جمع هذه الشواهد لقام ألف زنديق يضيفون إلى مطاعنهم في القرآن أن فيه خطأ في اللغة، فانظر أين هذه الحكمة مما يخبط فيه أستاذ الجامعة.
ويقول في صفحة ٩١: «إن اليونان يقدسون الإلياذة والأوديسا ويُعْنون بجمعهما وترتيبهما وروايتهما وإذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن الكريم.»
ولم نفهم شيئًا من هذا الكلام؛ لأنه يحتمل كل شيء، ولو فسر لنا فسرنا له وأريناه مبلغ جهله وسوء أدبه!
وأما رأيه في النبي ﷺ فمن أعجب ما عجبنا له أنه ما من عالم أو كاتب مسلم يذكره ﷺ إلا صلى عليه أو وضع رمز الصيغة ولو هذا الحرف «ص»، وترى كتاب المسيحية يأخذون بهذا الأدب في كتبهم العربية؛ لأن المسلمين يقرءونها؛ أما أستاذ الجامعة فكأنه لا يتولى النبي ﷺ ولا يحسن عظمته ولا أثره؛ فقد ذكره في كتابه مرارًا تفوت العدَّ فلم يتأدب معه ولا مرة واحدة، فلا بعقيدة المسلمين أخذ، ولا بمجاملة المسيحيين اقتدى، بل طريقته هي طريقة المبشِّرين بعينها، تشعرك وقاحة الكاتب وغروره وانتثار عقده، مع أنهم قالوا: إن هذه الصلاة من الرجل المسلم إنما تكون دليلًا على خلوص نيته وقوة عقيدته، وأنه لا شوب فيها ولا شرك، وعلى أن بشاشة الإيمان قد خالطت قلبه، ولكن شيخ الجامعة قد تجرد من دينه منذ الصفحة الأولى، وقد — والله — صدق هذا الحديث: «رَغِم أنفُ عبد ذُكِرْتُ عنده فلم يُصَلِّ عليَّ.» فما أنفٌ أرغمَ من أنف طه حسين كَمَدًا وذلًّا وخزيًا ولعنة.
والأستاذ يكذب الحديث الصحيح ويتهكم به كما رأيت في بعض ما مر، وما نظن أحدًا يسلم من تكذيبه، بل هو يقول في صفحة ١٢٨: «فأنا لا أقدس أحدًا من الذين يعاصرونني ولا أبرئه من الكذب والانتحال.»
فإذا كان هذا من رأيه فيمن يعاصرونه ويعرفهم حق المعرفة، فيهم أستاذه وصديقه وأبوه وأمه، فكيف به فيمن لا يعرفهم إلا من الكتب، بل هو يكاد يصرخ في صفحة ١٠١ أن كل شخص لا يعرفه فأكبر الظن عنده أنه من أشخاص الأساطير لم يوجد قط؛ قال: «نحن لا نعرف من سعد ومن مالك ومن زيد سناة، فأكبر الظن عندنا أنهم أشخاص أساطير لم يوجدوا قط.»
فهل تعرف يا أستاذ الجامعة أولئك الذين ألَّفوا كتب التاريخ؟ وإذا كنت لا تعرفهم فليس ما يمنع أن يكونوا أشخاص أساطير، وإذن فالكتب قد ألفت نفسها، إذ لو قلت: إن غير أولئك ألفوها قلنا لك: وهؤلاء لا تعرفهم، فلا تزال تدور في محال لو أخذنا بقياسك الفاسد ورأيك السقيم!
قالوا: سعد ومالك وزيد مناة وفلان وفلان، وفسروهم وأخبرونا خبرهم، فإن قلنا: إننا لا نعرفهم ولم نثبتهم عيانًا فيجوز لذلك أن يكونوا رجال أساطير، صدق هذا على كل ما كان قبلنا، وسيصدق علينا وعلى تاريخنا إذا جاء من بعدنا وورثتنا الدنيا، فلا يكون العلم التام إلا الجهل التام، وحسبك بهذا جهلًا ممن يقول به، ثم إنه ليس في الطبيعة الإنسانية تواطؤ على نمط واحد من الخلُق، فإن وُجِدَ الكذب وجد معه الصدق، وإن كانت الغفلة كان التحرُّز، وإن عرف التلفيق عرف النقد والتمحيص، وما قَطُّ وُجدت أمة يجمع كل أدبائها وعلمائها على الكذب، ولقد امتازت الأمة الإسلامية دون كل الأمم بعلم الرواية وشروطه الكثيرة، كما بسطنا الكلام عليه في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب؛ فإن كان عندنا الكذابون والوضَّاعون ومن لا ثقة بهم، فإن عندنا الناقدين والمصححين والثقات؛ ولكن ما أنت صانع في رجل كطه حسين جَهْله أوسع من علمه، ولسانه أوفى من عقله، ولا يدري إلى الآن أنه متى صار التاريخ إلى الطريقة الجدلية فلا حاجة إلى اطلاع ولا فكر ولا علم، وكل عامي هو مؤرخ؛ إذ حسبه من العلم أن يقول فيما لم يكن: إنه كان، وفيما كان: يجوز أنه لم يكن؛ وعجيب أن تكون هذه هي طريقة أستاذ الأدب في الجامعة وأن يكون رجال هذه الجامعة من الغفلة بحيث يظنون هذا علمًا أو تجديدًا في العلم.
ويقول في صفحة ٤٨ يعني النبي ﷺ أول أمره مع قريش: «ولم يكن يطمع في ملك ولا تغلب ولا قهر، أو لم يكن ذلك في دعوته.»
وهذه العبارة الأخيرة يقلد فيها دهاة السياسة في لغتهم العملية التي يجعلون لكل جملة منها بابين، غير أن طه سدَّ في عبارته البابين والنافذة أيضًا، فإن معناها الصريح أن النبي ﷺ أول أمره لم يكن يطمع في ملك، أو كان يطمع ولكنه كتم ذلك فلم يُظهره في دعوته التي دعا بها الناس إلى الله، وإذن يا شيخ الجامعة فقد كان للدعوة بطن وظهر، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت من عنده هو لا من عند الله، وليتأمل القراء شنعة ما يخرج من هذا القياس من إنكار النبوة والرسالة، نعوذ بالله ونتوب إليه ونستغفره.
ثم يقول في صفحة ٥٠: «إن النبي ﷺ كان يحرض على الهجاء ويثيب عليه أصحابه، ويتحدث أن جبريل كان يؤيد حسانًا.»
وأما عصبية الرجل على أئمة المسلمين فقد مر من ذلك نبذ، وانظر كيف يقول في صفحة ٥١ عن أبي سفيان في فتح مكة: «فنظر فإذا هو بين اثنتين: إما أن يمضي على المقاومة فتفنى مكة، وإما أن يُصانع ويُصالح ويدخل فيما دخل فيه الناس «وينتظر …» لعل هذا السلطان «السياسي» الذي انتقل من مكة إلى المدينة، ومن قريش إلى الأنصار، أن يعود إلى قريش وإلى مكة مرة أخرى؛ قال: وألقى الرماد على هذه النار التي كانت متأججة بين قريش والأنصار وأصبح الناس جميعًا — في ظاهر الأمر — إخوانًا مؤتلفين في الدين.» انتهى نصًّا.
فأبو سفيان والصحابة أو أكثرهم منافقون في رأي الجامعة المصرية؛ لأنهم لم يكونوا إخوانًا مؤتلفين في الدين إلا — في ظاهر الأمر — وأبو سفيان مع ذلك من كتَّاب النبي ﷺ وقد شهد معه حنينًا والطائف وفُقِئَتْ عينُه في هذه، وهو القائل لرسول الله — صلى الله عليه وآله وسلم — بعد غزوة حنين: «والله إنك لكريم، فداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك فنِعْمَ المحارَبُ كنت، ولقد سالمتك فنعم المسالم أنت.» أفهذا كلام منافق ينتظر ويتربص؟!
على أن الذي ما يُقضَى العجب منه أن رأي طه حسين هذا هو بعينه ونصه رأي الرافضة ومذهبهم؛ فقد زعموا أن الصحابة كانوا منافقين في حياة رسول الله ﷺ: أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وجلة المهاجرين وخيار الأنصار!
فكيف يتفق كل هذا في كتاب الجامعة، وهل الذي فيها أستاذ للآداب أم هو أستاذ للكفر والرفض؟