خنفساء ذات لون أبيض
إن من عادتي إذا جلست للكتابة أن أضع ساعتي ناحية اليمين مرتفقة ذراعيْ أسد مصنوع من الحديد قد رَبَضَ ربضةَ الكبرياء مستوفزًا كأنما يجمع الوثبة على فريسة وجد في الهواء ريحها، كاشرًا كأنما يتهيأ لنفضها نفضة الموت، مقشرًا يضم أجزاءه ليرسل منها حملته الفاتكة، وقد برز له صدر ضخم مكتنز عُضلة لا أحسبه إلا جحر ذلك الطاحون الحيواني الذي صنعه الله من شدقيه وأنيابه.
وتأملت الآن هذا الأسد وهو يحمل ساعتي، وأخذت أفكر فيما أكتب اليوم عن الجامعة، فقلت: أسأل هذه الجامعة: ماذا عسى أن يدرك الأسد من معنى هذه الساعة لو هو أبصرها ملقاة بين يديه في الصحراء ورأى عقاربها تدب دبيبها: أتراه يظنها خنفساء ذات لون أبيض، أم يحسبها في أرقامها السوداء قرية صغيرة من النمل، أم يخالها قطعة من العظم تفرَّق الذباب على أطرافها؟ إنه ظان ما شاء أن يظن إلا أن يعرف أنها أداة لتعيين الوقت، فإن ساعة الوقت عنده هي قرص الشمس يطلع أو يغيب، لا ليدل على أن الساعة واحدة أو ثلاثة أو اثنتا عشرة، بل الساعة ظلام أو الساعة نور، هذا في الأسد؛ أما في الإنسان فنسأل الجامعة: أكل امرئ يعرف قيمة الوقت في تحريره وضبطه، أم كل إنسان في ذلك بحساب من عمله وطريقته في الحياة؟ وماذا يفهم «المتشرد» في الطرقات من معنى قولك: الساعة خمسة والساعة عشرة إلا على نحو مما يفهم الأستاذ طه حسين من المعاني الدينية السامية في التاريخ الإسلامي؛ إذ تعين له فضائل كريمة لا يألفها ولا يسيغها ولا يعقلها، كما تعين الساعة مواقيت دقيقة لا محل لها في حياة المتشرد والمفلول ولا وزن ولا قيمة.
وإذا نحن وضعنا هذه الساعة في ثوب هذا المتشرد وكانت عاملة محررة ثم وضعناها يومًا آخر وهي معطلة خربة، فهل هذا اليوم عنده إلا كهذا اليوم؟ وهل تكون ساعة مثل هذا الرجل إلا الرغيف والقرش ونحوهما مما لا يدله على أن الساعة واحدة أو ثلاثة أو اثنتا عشرة بل الساعة شبع والساعة جوع؟
لا تعرف الجامعة ولا تريد أن تعرف أن مثل أستاذها في المبالاة بحقائق المعاني العالية من التاريخ الإسلامي وفقهها مثل ذلك المتشرد في المبالاة بمعاني الوقت، ومثل ذلك الأسد في المبالاة بمعاني الصناعة، ولكننا أريناها وبأعين الناس جميعًا أن كل المعاني الإسلامية في دروسها لم يدرك منها أستاذها إلا شبيهًا بما أدرك الأسد؛ إذ فكر ثم قدر ثم تدبر ثم حكم أن الساعة خنفساء ذات لون أبيض.
وقد كنا ذكرنا من بضع عشرة سنة خبر تأليف أول جمعية إلحادية من أعضائها معمَّم من خريجي الأزهر، ثم إنهم خلعوا العذار وجهروا بدعايتهم في دروس «مدرسة الجامعة المصرية» ومحاضراتها، وإذ فطنوا في هذه الأيام لما في وطنيتهم ولا دينيتهم من الخسارة الأدبية والسياسية على مصر، وأنشأت «جريدة السياسة» تَعِدهم وتُمَنيهم بأن ثقافتها الإلحادية الجديدة طفقت تتبوأ مباءة تلك الزعامة الدينية من أنفس الشعوب الشرقية عامة والسورية خاصة؛ إذ شعرت هذه الشعوب بأن الدين صار الأدنى والأضعف من جوامع الأقوام وروابط الأمم، وأن «مدرسة الجامعة المصرية الإلحادية» وهي المظهر الأعلى للثقافة الجديدة، قد خلفت الأزهر المتوفى غير مأسوف عليه وورثت مكانته المعنوية، لقد صدقت جريدة السياسة — وقلما كانت صادقة — فيما صورته من التنازع بين الجامعة الأزهرية الدينية، والجامعة المصرية الإلحادية، فهذا أمر يعرفه البصيرون وإن غفل عنه الأكثرون، وأول من صرح به في مجالسنا من غير المسلمين شاب إسرائيلي ذكي سمعنا نتكلم في مسألة كتاب الشيخ علي عبد الرزاق عقب ظهوره، وكونه ينصر فيه دعاية الإلحاد الجديدة؛ فقال: ليست المسألة مسألة كتاب ألفه شيخ مسلم في محاربة الإسلام، فلو كان هذا كل ما تشكو منه لهان خطبه، ولكن المسألة كل المسألة، هي التنازع بين «الجامعة المصرية» وجامعة الأزهر، فإذا غلبت الثانية بقيت هذه البلاد إسلامية، وإذا انتصرت الأولى لحقت مصر بالبلاد التركية وانقضى عصر الإسلام فيها.» انتهى كلام السيد بحروفه.
والآن علمنا أن إيمان الجامعة أو إيمان طه حسين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر في ذلك الكتاب الذي أذاعته الجامعة إنما كان في بابه تزينًا كتجمل تلك المرأة السوداء التي سخر منها القدر حين ولدت فسماها أهلها دنانير، ثم سخر منها حين كبرت فتزوجها أعشى سُليم الشاعر، ثم سخر منها الثالثة حين تجملت وتكحلت بالإثمد فأنطق الأعشي بهذا البيت:
كثيرًا ما سألت نفسي: هل في مصر كلها رجل واحد يحق له أن يكفر؟ وبمعنى آخر: هل في مصر كلها رجل عبقري شاذ يبلغ من سمو العقل وسعة الإحاطة وحدة الذهن وغور النفس أن يكون له رأي خاص في الإيمان ينكسر به ما أجمع الناس عليه؟ وبمعنى ثالث: هل في مصر ممن يقلدون بعض فلاسفة الأوربيين في الإلحاد من يعد في طبقة من يقلدهم بحيث لو كان في أوربا الملحدة لقلده أذكياء الأوربيين وأساتذة الجامعات هناك؟
إن البلاء كله إنما يجيئنا من ناحية الأخلاق الضعيفة أو الأعراق الدساسة أو العلم الناقص؛ فأما أثر الخلق الضعيف والعرق الهجين فليس له إلا الحكومة بمدارسها، فإن أهملته في المدارس فلن يهملها هو في الأسواق وما وراءها من الأماكن والجهات حين ينبت الملحدون المتعلمون في الأمة ويتعاطون أمورها ويجارونها في أسباب الحياة، وأما العلم الناقص فأنت ترى أن صاحبه ما إن يتناول شيئًا من دقائق الفكر إلا انتهى إلى الحكم بأن فيها عجزًا أو ضعفًا أو اضطرابًا، كما يفعل طه حسين في دقائق التاريخ والشعر والدين، وذلك طبيعي لا يكون غيره، فما العقل الناقص إلا كالعين المريضة: لا ترى أثر مرضها إلا في الأشياء التي تراها، والأشياء مع ذلك صحيحة لا مرض فيها.
واعلم أن الخطأ ولو في فكرة واحدة إن لم يكن إتلافًا وإحالة وإفسادًا فهو تشويه ونقص؛ لأن الفكرة جزء من الأجزاء التي يتألف منها الكل المعنوي، ومتى كثرت الفكر المخطئة بأي الأسباب من نقص العقل أو الذكاء أو الخلق، فذلك أشنع ما أنت واجده في عمل هؤلاء الملحدين؛ إذ يفسدون الإيمان وهو يحسبون أنهم يصححونه، وما الإيمان إلا صورة معنوية كاملة لها أجزاء ولأجزائها ألوان ولألوانها مقادير؛ فقل الآن في رجل أشل اليد وسقيم النظر أو فاسد الذوق تريده على أن يرسم صورة امرأة جميلة ويكون من بعض آفاته أنه رجل منطق وتعليل وإبداع واختراع يزعمه، ثم لا يكون منطقه الذي يلائم ذوقه وفكره وفنه إلا على هذا التمثيل، إن الحاجب أسود، والأسود يضاده الأبيض، والضد يظهر حسنه الضد، فالعين في الصورة يجب أن تكون بيضاء، والخد أحمر! والأحمر لون النار، وللنار دخان يزينها من حواشيها، فعارضا المرأة يجب أن يكون لونهما في الصورة أسود، ويمر في هذا المنطق ثم يخرج لك الصورة الجميلة فإذا هي صورة امرأة عمياء ملتحية، لم يخرجها من الطبيعة ولا من الفن بل من المنطق والحدس، ثم من منطقه هو خاصة، ثم مما حدث بظنه على أنه إبداع واختراع، وكل أولئك الذين تعرفهم ما منهم على الأمة إلا ذو مصيبة واحدة، خلا الدكتور طه، فإنه ذو المصيبتين؛ لأنه وحده الذي يتناول الأدب العربي من دون هذه الفئة ويريد أن يأتي الإسلامَ من دعائمه، أما سائرهم فأهل سياسة وفلسفة؟ لا يُقْدِم أجرؤهم على بحث أدبي فيدبره على الإلحاد إلا جعله على جهة النظر الاجتماعي أو السياسي، فبذلك يهاجم الأدب وينهزم عن الأدباء؛ لأنك إذا جادلته التوى عليك بأنه ينظر إلى غير ما تنظر، ويذهب في غير مذهبك، وأخذ يكيلك الحصى وأنت توازنه الدر؛ فكلهم في الأدب مخادع نفسه؛ ولذلك لم يشتغل بهم أحد من علمائنا وأدبائنا على ما يتسع من عيوبهم ويتضاعف من زلاتهم؛ إلا ذا المصيبتين، فهو وإن كان من جملتهم فإنه وحده.
وبهذا تقدم عليهم وبان منهم حتى رأينا فيهم من يصفه بأنه زعيم المجددين، ولعله من أجل هذا لم تجد الجامعة غيره ولم تعدل به أحدًا إذا صح أن هذه الجامعة أداة من الأدوات كما هي مدرسة من المدارس؛ ونحن لا نزال نتوقف في هذا فلا نَبُتُّ الحكمَ عليه إلا بعد التثبت والاستبانة الصحيحة؛ لأن أثقال هذا الميزان من الرأي لا تزال ناقصة ولا يقع الرجحان فيه إلا بعد أن يُلقى في كفتيه عمل الأستاذ الكبير مدير الجامعة، فإن هو ظل ساكتًا بعد الآن فسكوته عمله وكفى، وسكوته يُنطق غيره، فما هو وحده بذي اللسان ولا هو يملك على أحد لسانه، وهو عندنا رجل للتاريخ فليحذر ألسنة التاريخ.
قلنا: إن طه ذو المصيبتين على الأمة، ولكن الله تعالى يرعى دينه ويكلؤه، فيَسَّر طه لما خُلق له، ثم يسَّره لمن يصدمه، فهو حجر لكنه هش لين المكسر؛ إذ كان من طبقاته التي يتألف منها طبقات متفتتة خلقت من كُسارة الأحجار ودقاقها كالطباشير، فهو ينطوي على طريقة كسره؛ رحمة من الله بهذا الدين، وتلك سنة لن تخطئها في أعداء الإسلام؛ إذ أنت استعرضتهم وميزتهم فلا تتبدل ولا تتغير، ولولا ذلك لما هلكوا وبقي الدين، ولا ذهبت كتبهم وبقي القرآن، وترى ذا المصيبتين هذا يحمل أسلحة كثيرة من العلم والتاريخ والجراءة والشك والحماقة، ولكنها كلها متفللة تكسرها في أصابعك لو شئت؛ فمعه إلى قوة الكلام ضعف الفهم وإلى شدة الصولة خور الهزيمة، وهو سبَّاق القلم لكنه أعرج الخيال، سديد الجدل لكنه سيئ التاريخ، وقس على ذلك من فضائله وأسباب قوته ما إن تدبرته رأيته لا يأتي أبدًا إلا متعارضًا متهاترًا في بعضه إسقاط لبعضه.
وضع الأستاذ كتابه ليبحث في أن الشعر الجاهلي مصنوع محمول على أهله، وأجمل هذه الفكرة وأسبابها ثم قال في صفحة ٩: «ولكني لن أقف عند هذه المباحث؛ لأني لم أقف عندها فيما بيني وبين نفسي، بل جاوزتها وأريد أن أجاوزها معك إلى نحو آخر من البحث أظنه أقوى دلالة وأنهض حجة من المباحث الماضية كلها، ذلك هو البحث الفني واللغوي، فسينتهي بنا هذا البحث إلى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية أو الفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء.» انتهى.
لا جرم كان «البحث الفني واللغوي» هو الأساس الذي يقوم عليه مثل هذا الكتاب؛ إذ لا معنى للتخرص والحدس وقولك: أشكُّ في هذا وأُنكِر هذا وأكبر الظن كذا، فكل عامِّيٍّ وسوقي ونبطي وزنجي يستطيع أن يتناول الميزان الدقيق فيميله ويجعله أكذب الموازين وأخبثها، ولا يعجزه أن يسوغ فعله بعذر أو دليل، وإن لم يكن من القوة على ذلك والتوسع فيه بحيث يصلح أستاذًا، ولكن العجب أن شيخ الجامعة لما انتهى إلى البحث الفني واللغوي تخبط واختل وذاب واضمحل، ورأينا هذا البحر العظيم الذي يقال له: الفني واللغوي، مستنقعًا صغيرًا يخوض منه الشيخ في ضحضاح من الماء الراكد، ويخرج مدعيًا الغرق وما يغرق أحد في مثله إلا إلى الكعبين.
وكان جديرًا بمن يقول الفني واللغوي أن يدلنا على نمط كل شاعر وطريقته ومذهبه وعمود شعره وأسباب التوليد عليه بخاصته ووجوه الصنعة في كلامه، وأن يعيد لنا من علمه الواسع ذلك العهد الأول الذي يقول فيه الرواة: لم يصح لامرئ القيس إلا كذا، ولم يصح لطرفة وعبيد إلا كذا، وهذه الأبيات وضعها فلان أو زاد فيها فلان، بَيْدَ أنَّ الأستاذ بعد أن وصف هو الأُقيانوس الفني واللغوي وأنه سينتهي بنا إلى القارة الجديدة المسماة أمريكا، اختصر الطريق إلى أمريكا هذه فجاء بها ووضعها في العدوة الأخرى من المستنقع، إذ يقول في صفحة ١٣١: «وإذن فلنتناول مع الإيجاز الشديد شيئًا من البحث عن الشعر والشعراء في العصر الجاهلي، لترى إلى أي شيء نستطيع أن نطمئن من هذه الأشعار.»
وفي صفحة ١٥٢ بعد أن روى مطلع قصيدة لعبيد بن الأبرص: «لولا أننا نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك هذا الشعر ووضعنا يدك على موضع التوليد فيه.»
قلنا: ففي أي شيء هذا الكتاب إذن ما دام «الإيجاز الشديد وإيثار الإيجاز والحرص على الإيجاز» هو أساس البحث الفني واللغوي فيه، على حين أن الكتاب هو البحث وكل ما عداه حشو واستعانة وأن امرأ للقيس لا يمحى من التاريخ «بالإيجاز الشديد» ومهلهلًا لا يكون من رجال الأساطير «بالحرص على الإيجاز»، وماذا يغني عنك — ويلك — أن تجمع لحرب أمة مصانع كروب ومدافعها ومخترعاتها، عدة ملايين من المقاتلة إذا لم يكن لديك إلا بضعة مدافع بالإيجاز الشديد؟ ألا تستحي يا طه أن تسقط بالجامعة هذا السقوط كله؟ وأن تتغفل الناس إلى هذا الحد في بحث لم يخلق الله له أهلًا بعد أن ذهب أهله؟
على أن المسألة اللغوية في كتاب الشيخ هي مسألة اللهجات، وقد أسقطناها في بعض ما مر بك، ثم كانت عقدتها قوله في صفحة ١٤١: «وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم، وهي أن امرأ القيس — إن صحت أحاديث الرواة — (يعني إن صح أنه خُلق) يمني وشعره قرشي اللغة، ولغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز، فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز؟» إلى أن يقول: «وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقًا في شعر امرئ القيس لفظًا أو أسلوبًا أو نحوًا من أنحاء القول يدل على أنه يمني، فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته قد محيت من نفسه محوًا تامًّا ولم يظهر لها أثر في شعره؟ نظن أن أنصار القديم سيجدون كثيرًا من المشقة والعناء ليحلوا هذه المشكلة.» انتهى.
فنحن مع الأستاذ في اثنتين: أن ينكر وجود امرئ القيس إنكارًا صريحًا، وحجتنا عليه ذكر هذا الشاعر في الأحاديث المروية عن النبي ﷺ وفيما روي من كلام الصحابة كعمر وعلي وكلام الشعراء الأمويين كالفرزدق وجرير.
وأخرى: أن يقر بوجوده إقرارًا صريحًا ولا يقول: «نرجح أنه وجد» وتبقى المشكلة اللغوية التي أوردها واعترض بها وتوهم فيها في أنصار القديم ما توهم وجعلها أقوى ما في كتابه من الأدلة، وقد أنذرنا غير مرة في جدالنا معه أننا «سنجد مشقة، وعسرًا» في التخلص من مشكلاته، فوالله ما وجدنا في واحدة عسرًا ولا مشقة، ولكنه يرمي الناس بما فيه وذلك من أمره، ولو تثبت واستعان بغيره لكان خيرًا له وأقوم، ولكن فتنه الله بنفسه وبصره العيوب إلا عيبه.
وقبل أن نحل له المشكلة نقول: إننا رأينا في بعض كتب الجدل أن رجلًا ذكيًّا قال لجماعة من الناس: إن سقف البيت كان فوق زيد ثم صار تحت زيد. فقال واحد منهم: لا جرم تهدَّم البيت ووقع السقف، فلا حول ولا قوة إلا بالله! وقال آخر: لا عجب مات الرجل شر ميتة فإنا لله! وقال ثالث: وليس يمشي الناس في جنازته إلا متوجعين فرحمه الله! وانطلقوا في ذلك يفضي به بعضهم إلى بعض ولا رجعة لمن مات فالمشكلة لا حل لها!
ألا دعُونا أيها الناس من الموت والهدم ومما قام بأنفسكم من المعاني، وانظروا في الكلمة ولا تجاوزوها، ودققوا الفهم قبل أن تدققوا التخريج؛ فإن السقف كان فوق زيد حين كان زيد جالسًا في الغرفة، ثم صار تحته حين صعد زيد إلى السطح؛ وهذا حل المشكلة التي هدمت بيتًا وقتلت رجلًا؟ وهي بعينها مشكلة أستاذ الجامعة، فلا تجد في هذه صعوبة إلا إذا جربت على طريقته في التاريخ والاعتماد فيه على العقل والرأي دون المادة متجاهلًا أن العقل ينتج في كل العلوم فيصلحها إلا في التاريخ فإنه يفسده؛ إذ لا تنتج فيه إلا المادة، وإذ حاجته إلى العقل المفسر منه لا إلى العقل المنتج فيه، والعقول أنواع بطبائعها وخصائصها ودرجاتها، فإذا تحكمت في التاريخ نوَّعته وهو شيء واحد لا يختلف ولا يقبل الزيادة؛ إذ كان وانتهى ووضع عليه خاتم الفناء.
انظر يا سيدنا ومولانا طه حسين في كتاب العمدة في صفحة ٥٩ من الجزء الأول، تجدهم حلوا مشكلتك منذ ألف سنة بقولهم: إن امرأ القيس يماني النسب نزاري الدار والمنشأ (يعني المولد والمَرْبَى ولا تؤاخذنا، في التفسير لك) فقل أنت الآن يا سيدنا ومولانا: هل تريد أن تولد لغة اليمن في دمه فيكون دمه معجمًا لغويًّا لا يجري كريات حمراء بل كلمات واشتقاقات وأساليب؟ وهل العربية أية لهجة كانت إلا على الدار والمنشأ بالسماع والمحاكاة؟ كان سبيلك يا سيدنا ومولانا أن تثبت لنا بديًّا أن امرأ القيس ولد ونشأ في اليمن ثم تنقَّل بعد ذلك في قبائل العرب، ثم يكون لك أن تقول: فكيف نسي لغته؟ وماذا نرى في قول بعض الرواة: إن الشعر يماني واحتجاجهم لذلك في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بأبي نواس وأصحابه مسلم بن الوليد وأبي الشيص ودعبل — وكلهم من اليمن — وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين أبي تمام والبحتري؛ أكل هؤلاء وهم ينسبون إلى اليمن قد كانوا إلا على لغة الدار والمنشأ؟
ذلك هو كل ما كتاب طه من المسألة اللغوية، وبقي أنه يجعل من أسباب وضع الشعر سهولة ألفاظه، ويطلق ذلك في كل الشعراء الجاهليين قياسًا واحدًا، مع أن الرواة العلماء نصوا على أن الأعشى يحيل في لفظه كثيرًا ويسفسف دائمًا ويرق ويضعف، وقد جعلوه بإزاء النابغة، قالوا: وألفاظ النابغة في الغاية من البراعة والحسن. فإذا كان هذا الشعر وضعًا وصنعة فما الذي شد النابغة وأرخى الأعشى؟ وقد أدرك الأعشى الإسلام وكان جاهليًّا، وكان أهل الكوفة يقدمونه على الشعراء، فلا شبهة في وجوده؛ وكان من شعراء ربيعة كطرفة بن العبد، وإنهما لمتباينان في ألفاظ الشعر؛ فكيف اشتد واحد ولان الآخر؟
قالوا: وكان الأصمعي يزعم أن العرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد، وعلل هذا بأن ألفاظهما ليست نجدية أي ليست قوية متينة السبك في الغاية من القوة والجزالة، ولقد كان الأصمعي أحق من طه حسين بما ذهب إليه لو أن رقة الألفاظ تنفي نسبة الشعر إلى جاهلي أو مخضرم أو تثبته لمولد أو محدث أو تكون سببًا من أسباب الشك، ومع رقة شعر عدي كان معاوية يفضله على جماعة الشعراء، ومع رقة أبي دؤاد فضله الحطيئة وهو أعلم بالشعر من طه ومن أجداده؛ فما ظن أن في سلسلته شاعرًا وإلا فأين أثره؟
إن الرقة والجزالة واللين والجفاء لا ترجع في الشعر إلى لغة الشاعر ولا عصره ولكن لعواطفه ومعانيه وذوقه، وللطريقة التي نشأ عليها، وللشاعر الذي يحتذيه، فإن الشاعر لا ينبت كما تنبت الشجرة، بل هو يروي شعر غيره فيعمل عليه، ثم تعرض له أمور من نفسه ودهره وعيشه فتؤثر فيه قوة وضعفًا، وقد كانوا لا يعدُّون الشاعر إلا من روى لغيره؛ لأنه متى روى استفحل.
وسئل رؤبة عن الفحل من الشعراء، فقال: هو الراوية. قال يونس بن حبيب: وإنما ذلك لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد غيره، فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة. وتأمل ما قالوا في حفظ الشعراء المولدين كأبي نواس الذي لم يقل الشعر حتى روى لسبعين امرأة من النساء دون الرجال، وأبي تمام الذي كان يحفظ ما لا يُعَدُّ، والمتنبي الذي لم يَفُتْه شيء، والمعري الذي لم تسقط عن حفظه كلمة … إلخ إلخ.
ولو كان طه شاعرًا لعرف كيف تختلف أساليب الشعراء، وبمَ تختلف ولمَ تختلف؛ ولكنه بعيد عن هذا وهذا بعيد منه كما تعلم، ومتى ثبت أن الشاعر عندهم هو الراوية — وذلك ثابت لا ريب فيه، والنصوص عليه كثيرة، وأسماء الشعراء ورواتهم معروفة — فمن ذلك تعلم كيف تأدى الشعر الجاهلي إلى الرواة؛ فأولئك هم كانوا الدواوين التي جمعت الشعر وأدَّته صحيحًا محفوظًا ثم زيد عليه بعد، ولكن كذب الزيادة لا ينفي صحة الأصل؛ والأمر في هذه الزيادة إلى أهله الذين كانوا أهله لا إلى طه ولا أمثال طه، فإذا رأيناهم يقولون مثلًا: كان امرؤ القيس كثير المعاني والتصرف لا يصح له إلا نيف وعشرون شعرًا من طويل وقطعة؛ فما بنا بعد هذا القول حاجة إلى طفيلي في الشعر وروايته وتحقيقه كأستاذ الجامعة ينفي أو يثبت على مذهب ديكارت أو على مذهب الشيطان؛ لأن المذهب هنا من أقوال العلماء والحفاظ وأهل البصر بالشعر والحذق في نقده وتمييزه، وما على الأرض اليوم رجل واحد يقول: إنه من هؤلاء.
ومما نظن أن ألفًا وثلاثمائة سنة تضحك منه ضحكًا يهز قبور الأدباء، قول شيخ الجامعة في تعيين تاريخ امرئ القيس صفحة ١٥٠: «والذي نرى نحن (تأمل نحن) أنه عاش قبل القرن السادس، وربما عاش قبل القرن الخامس أيضًا.» فربما التي يقال فيها إنها للتقليل هي في حساب التاريخ الحسيني بمائة سنة؛ لأن الذي يقال فيه: إنه عاش قبل القرن السادس للميلاد لا يمكن أن يتقدم على سنة ٥٠٠، فإذا قيل فيه: ربما عاش قبل القرن الخامس أيضًا؛ فأيضًا هذه لا يمكن أن تتقدم سنة ٤٠٠ وما أنا من علماء الرياضة فأجد من عقلي قوة على تخليص هذا الخلط، وإذا جاءنا فيثاغورس فخلَّصه فقد بقي أنه يجوز أن يكون امرؤ القيس قد عاش قبل القرن الرابع وربما قبل الثالث أيضًا.
إن نصف الكذب من الكذاب يشبه أن يكون منه بمنزلة نصف الصدق، فالحمد لله على أن أستاذ الجامعة قد أبقى لنا شيئًا نفهمه من شيء كان اسمه امرأ القيس!