قال دمنة
يكتب إليَّ بعض الأفاضل من العلماء والكتاب يسألون عن نسختي من «كليلة ودمنة» ويطلبون إلي أن لا أكتمها عنهم ولا أستبد بها من دونهم، وأن أفضي إليهم في كل مقالة بمثل منها، ويقولون: هذا هو الجديد في الأدب العربي، لا ما يعللوننا به من فصول مترجمة ومقالات مسروقة وآراء منتحلة، ولا ما يكتب أشباه السوقة والعامة في اللغة والتعبير والحكاية.
وقال أديب فاضل إنه سيدل وزارة المعارف على هذه النسخة لتنتزعها مني ولو بمثاقلتها ذهبًا، فإنه — زَعم — لا يجوز أن يبقى هذا الكنز «لتوت عنخ الرافعي»، وقد ملكت الأمة كنز توت عنخ آمون.
وكتبتْ إليَّ سيدة معلمة تقول: إن مثل الفيلسوفة الأمريكية الصلعاء قرئ في جماعة من السيدات فكان رأيهن أن عشر قصص على هذه الطريقة تفيد في نشر العربية الفصحى وتحبيبها إلى النفوس وإعادتها بعد شتات أمرها ما لا تفيد عشر مدارس منها الجامعة.
ثم حلم الحالم الماهر، أن في جمع مدرسة إلى مدرسة ما يبدع جامعة، فقال: ها إن في هذا لكم العلم الأعلى، والآن هذا مدير الجامعة، وذاك أستاذ كذا، وذلك أستاذ كيت، وهذا وذاك وذلك يجتمع منهم هؤلاء، فاجتمعوا فكان ماذا؟
قال كليلة: فكان ماذا؟
قال دمنة: كان منهم كالدار التي ظن بانيها أنها تلد.
قال كليلة: وكيف كان ذلك؟
قال كليلة: فقد زعمت يا دمنة أن هذه الجامعة الخرقاء كانت مستقلة، ففسر لي استقلالها ما هو؟ أكان أساتذتها يأكلون كتبًا ويشربون حبرًا ويلبسون جدرانًا وأبوابًا؟
قال دمنة: مثلها في ذلك مثل الخطيب الزنديق الأحمق الذي زعموا أنه كان يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فتعالم الناس ذلك منه فوَسِعوه إشفاقًا عليه ونظرًا له، ثم أفشى طرفًا منه في بعض حديثه فقالوا: إن الملة سمحة وللتأويل أبواب ولكل قول وجوه ومعان، فإن لم يكن في القول إلا جزء واحد من الإيمان وكان فيه تسعة وتسعون من الكفر وجب حمله على الواحد دون التسعة والتسعين، ثم غره ذلك منهم وحسبه ضعفًا ومَعجزة فتقحم في كفره وسولت له نفسه أنه فوق الناس، فهو مستقل وهم التابعون، وهو الحر وهم العبيد، وقال: إنه لن يكون الكفر في مثل هؤلاء الجامدين كفرًا إلا في المسجد «الجامع» وعلى المنبر وفي يوم الجمعة، فليهمس هامسهم ولينطق ناطقهم، وسأرى ما يكون من تلقائهم، فإني لخطيب صلاتهم ولكني مستقل أفكر برأسي لا برءوسهم، وإني لأرتزق منهم ولكني مستقل آكل ببطني لا ببطونهم، وإذا قالوا: كَفَر؛ فإنما هذا إيماني، وإذا قلت: آمنوا؛ فإنما ذلك كفرهم، ولهم عليَّ كلام يسمعونه والكلام فنون وأجناس، فلي أن أقول ما هجس في قلبي؛ أخطأت أو أصبت، وغيرت أو بدلت، ورضوه أو كرهوه، وعليهم لي أجر يدفعونه لم يكن يومًا ولا يكون ولن يكون إلا من جنس واحد: ذهبًا خالصًا صحيحًا يرن رنينًا صافيًا لا أقبل فيه زائفًا ولا ناقصًا ولا مغيَّرًا ولا مبدلًا، ثم لا أرضى فيه برأيي دون رأي الصيرفي الحاذق البصير، فكثير غشي إياهم ليس بغش، وأنا بعدُ في عافية، وأنا مستقل، وأنا مختار، وأنا أفكر، فأنا موجود، وإن أهون الغش منهم ولو في درهم وما دون الدرهم لهو الغش المفضوح والخيانة الأثيمة والخيانة الموبقة، ولن يفلتهم القانون ولا الشرع ولا العرف، وهم مأخوذون به فمعاقبون عليه.
قال دمنة: فلما كانت الجمعة والتقى الناس لأداء المكتوبة جاء الخطيب.
•••
قرأت في الأهرام مقالًا لشيخنا وصديقنا نكتة الزمان وعلامة وادي النيل أحمد زكي باشا قال فيه: من بواعث الأسى في نفسي ودواعي الأسف في قلبي أن بعض أنصاف العلماء في مصر وسوريا، وأن بعض أشباه المتعلمين وأشباه الأشياخ في هذين القطرين الشقيقين قد أصابهم التفرنج بداء الحذلقة والتشكك، فصاروا لا يرون لأجدادهم فضلًا ولا يعرفون لهم مبرة ولا يذكرون عنهم مفخرة، بل صار أولاد اﻟﺤ … ﻼل هؤلاء يطأطئون رءوسهم أمام كل إفرنجي، ويخرون ساجدين لكل وارد عليهم من بلاد الإفرنج أو باسم الإفرنج، لقد أصبحوا وهم يرون العلم كل العلم ما جاءهم ولو بطريق التحريف أو على سبيل التخريف عن المستشرق فلان أو المسيو علان! وإلا فالحجة الناطقة هي ما صدر عن شفاه «السنيور هيَّان بن بيَّان» أو عن «الهرجامان ابن ألمان». انتهى.
فأولاد اﻟﺤ … ﻼل هؤلاء على مواطأة من بعضهم لبعض لا يرضيهم من الرضا إلا أن ينسى الشرقيون آباءهم وأجدادهم ويصبحوا بَدَدًا متناثرين؛ وهم لا يعلمون أنه ما من رجل حر يسره أن له باسم أبيه أو جده الشرقي اسم أحد من الإفرنج ولو كان اسم دولة من الدول العظمى، ولئن كانت الجامعة قائمة منهم على دعائم إنسانية تعمل في إضعاف الجنسية وإشراب الناس في قلوبهم ما تمجه العقيدة والفضيلة، فإنها لمحقوقة بتركها واطِّراحها وتحذير الناس منها؛ فلينظر نواب الأمة أين يضعون أيديهم من هذا الفساد لإصلاحه، وليبدءوا بهذا العنصر السام المسمى في كيمياء التعليم «بالطاهوية».
وبعد: فلنتمم كلامنا على ما سماه أستاذ الجامعة «البحث الفني» قال في صفحة ١٤٤: ولننظر في المعلقة نفسها «معلقة امرئ القيس»، ولكنا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون في بعض هذه القصيدة، فهم يشكون في صحة هذين البيتين:
وهم ويشكُّون في هذه الأبيات:
الأبيات الأربعة، ثم يقول: ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون في أن هذين البيتين قلقان في القصيدة، وهما:
فقد وُضِعَ هذان البيتان للدخول على الذي يليهما وهو:
قلنا: وعلى هذا فالقدماء شكوا في اثنتين واستخرج الشيخ الثالثة بفكره الثاقب ومعرفته بالشعر كنهَ المعرفة، ونحن كنا نرفعه عن مثل هذا التدليس والتمويه؛ فقد جاءت الرواية بأنه يقال: إن هذين البيتين المضروبين مثلًا في الاستعارة مما وضع «خلف الأحمر» على امرئ القيس كما وضع من مثل ذلك على غيره، ولم يجزموا أن خلفًا صنعهما بل جاءت الرواية بصيغة التمريض: «يقال»، ولو جاز لنا نحن أن نقول في ذلك لقلنا: إن البيتين من شعر امرئ القيس، وإنما نسبوهما إلى «خلف» على الظن؛ إذ كانوا يذهبون إلى أن وضع على كل شاعر فحل ما يجوز في شعره ولا يتميز منه، مبالغة منهم في علمه بالشعر ونفاذه فيه وأنه من ثقافته وصناعته، فإذا أرادوا أن ينسبوا إليه شيئًا من قول شاعر بعينه عمدوا إلى الاختيار من أحسن ما يقول هذا الشاعر؛ لأن صنعة «خلف» إنما كذلك تأتي.
ويقول الشيخ في صفحة ١٤٩: «ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبه بأن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهليًّا، فالرواة يحدثوننا أن الفرزدق (تنبه! فإن النص مترجم) خرج في يوم مطير إلى ضاحية البصرة فاتبع آثارًا حتى انتهى إلى غدير، وإذا فيه نساء يستحممن (يريد يستنقعن) فقال: ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جلجل (ليس كذا قال وإنما هو: لم أرَ كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل) وولى منصرفًا؛ فصاح النساء به: يا صاحب البغلة! فعاد إليهن، فسألنه وعزمن عليه ليحدثهن بحديث «دارة جلجل» فقص عليهن قصة امرئ القيس وأنشدهن قوله:
قال الشيخ: والذين يقرءون شعر الفرزدق ويلاحظون فحشه وغلظته وأنه قد ليم على هذا الفحش وهذه الغلظة، لا يجدون مشقة في أن يضيفوا إليه هذه الأبيات، فهي بشعره أشبه.» انتهى.
قلنا: ولكن الأستاذ قد كذب وزاد في النص، فإن الرواية في الأغاني في أخبار الفرزدق وليس فيها أن الفرزدق أنشدهن الأبيات، فكيف تكون من شعره؟ وعلى قياس طه فكل شاعر من شعراء الهجاء يمكن أن يلحق بشعره كل قول فيه هجاء وسب وإقذاع ويقال: إنه بشعره أشبه، فيكون هذا هو البرلمان، وكل متغزل يضاف إليه شعر كل متغزل؛ لأن طباعهما متشابهة وما يقوله هذا يقول هذا مثله؟ على أنه وصفٌ أغلبُ على امرئ القيس من أنه غوي عاهر متفحش، وهو يجري في شعره من ذلك على خلق وطبيعة، وله جرأة عليه تشعرك أنه ابن ملك يرى لنفسه كلمة فوق كلام الناس، فكلامه إنما يشاكل نفسه، وفحشه إنما يأتيه من قبل الغزل والنسيب، لا كفحش الفرزدق فذاك من قبل الهجو واللؤم.
والفرزدق لا يعد من شعراء الغزل، وقد كان أهل الحجاز يقدمون «جميلًا» عليه وعلى جرير معًا لموضع جميل من النسيب وقلة غنائهما فيه، وكانا يعلمان ذلك من نفسيهما ولا يريان الشعر إلا في بابهما في الفخر والهجاء، فروى أبو الزناد عن أبيه قال: قال لي جرير: يا أبا عبد الرحمن، أنا أشعر أم هذا الخبيث؟ يعني الفرزدق، وناشدني لأخبرنه، فقلت: لا والله ما يشاركك ولا يتعلق بك في النسيب. قال: أوه قضيتَ واللهِ له عليَّ، أنا والله أخبرك، ما دهاني إلا أني هاجيت كذا وكذا شاعرًا وأنه تفرد لي وحده.
ثم يقول طه: «أما وصف امرئ القيس لخليلته وزيارته إياها وتجشمه ما تجشم للوصول إليها وتخوفها الفضيحة حين رأته وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها وما كان بينهما من لهو، فهو أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بأي شيء آخر؛ فهذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فن ابن أبي ربيعة قد احتكره احتكارًا لم ينازعه فيه أحد.
ولقد يكون غريبًا حقًّا أن يَسبق امرؤ القيس إلى هذا الفن ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويُعرف عنه هذا النحو ثم يأتي ابن أبي ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد إلى ابن أبي ربيعة قد تأثر بامرئ القيس، مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء من الوصف، فكيف يمكن أن يكون امرؤ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل الذي عاش عليه ابن أبي ربيعة والذي كون شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية ولا يُعرف له ذلك؟ ونحن نرجح أن هذا النوع من الغزل إنما أضيف إلى امرئ القيس؛ أضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين: الفرزدق وابن أبي ربيعة.» انتهى.
ونريد أن نسأل شيخ الجامعة عن قوله: «إن النقاد قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء من الوصف»؛ فإن لم يكن هذا كذبًا فمَن هم هؤلاء النقاد؟ ومَن هم أولئك الشعراء؟ وما هي تلك الأنحاء من الوصف؟ وأين وجد ذلك، أفي كتاب كازانوفا أم كتاب كذبنوفا؟ هذه كلها من ترهات الشيخ ولا أصل لها وإنما يأتفكها ليصل بعض الكلام ببعض في نظم الدليل الذي يريده، وهي طريقة المستشرقين ولا قيمة لها في التاريخ وقد نبهنا إليها مرارًا.
كل ما قاله النقاد: إن من يقدم امرأ القيس على الشعراء احتج له فقال: ليس أنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها فاستحسنها العرب واتبعته فيها الشعراء؛ منها: استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء والبيض، وتشبيه الخيل بالعقبان والعصي، وأنه أول من قيد الأوابد وأجاد في التشبيه وفصل بين النسيب وبين المعنى.
وبهذا تقدم الشعراء؛ لأنهم اتبعوه فيه ولم يتبع هو أحدًا، وفن ابن أبي ربيعة إنما هو داخل في رقة النسيب؛ إذ النسيب جنس يشمل صفة النساء وحكاية أقوالهن والتسبب إلى مودتهن إلخ؛ فإذا كان ابن أبي ربيعة قد استحسن أسلوبًا من أساليب امرئ القيس في النسيب فأكثر منه واستنفذ فيه جانبًا من شعره فليس معنى ذلك أنه اخترع ولا احتكر الفن؛ ومن الثابت أنه لم يوضع شيء على الجاهلية بعد القرن الرابع، فلو عملوا على طريقة ابن أبي ربيعة ونحلوه امرأ القيس لما فات هذا مثل صاحب الأغاني ولجعله كل الفخر لابن أبي ربيعة؛ والمعلقة كانت مدونة مروية في أوائل القرن الثاني.
أما أنهم لم يدلوا على أن ابن أبي ربيعة أخذ فنه من امرئ القيس فلأنهم لم يكونوا يرون ذلك فنًّا ولا طريقة، إنما هو شعر كالشعر يعرف عندهم بمعانيه لا بأسلوبه القصصي، ولم يسمِّه فنًّا إلا أستاذ الجامعة.
وأنا أحسبني شاعرًا أجد الشعر في طبعي وأفهمه وأنفذ في أغراضه وأقوله وأحسن نقده وتمييزه، ولا أظن أحدًا يكابر في هذا أو ينازعني عليه، وإني مع ذلك لا أرى أثقل ولا أبرد ولا أسمج من شعر ابن أبي ربيعة هذا حين يفضح النساء ويقول في شعره: قلت لها وقالت لي، وكان مني كذا وكان منها كذا. وما هو عندي بفن؛ بل خلق سافل وطبع غوي ونفس عاهرة، بل هو فن هجو النساء؛ إذ كان ابن أبي ربيعة لا يحسن مدح رجل ولا هجوه فسقط من هذه الناحية ليرتفع من الناحية التي تقابلها في النساء، فكأنه ارتفع بقوتين، ثم أراد الرجل أن يسير شعر في الأفواه ولا أسيَر من أخبار النساء وأحاديثهن، فهذا هذا.
وطريقته في شعره إنما تحسن حين تتفق في الأبيات القليلة والقصيدة المفردة، وحين تجيء تظرفًا وتماجنًا وحين تخرج مخرج النادرة أو تبعث عليها الفتوة وميعة الشباب في بعض الحب الشديد، كما فعل امرؤ القيس، فأما أن يكون فيها أكثر شعره وعليها كل عمله ويتقلب الرجل وكأنه ليس في فمه إلا لسان امرأة فهذا ما لا أراه فنًّا، إلا أن يقال: فن الرجل اللص وفن المرأة العاهرة، كما يقال: فن الشاعر وفن المصور مثلًا!
وقد نصُّوا على امرأ القيس هو الذي افتتح تلك المعاني التي أومأنا إليها وأن الشعراء اتبعوه، فأين النص أن ابن أبي ربيعة افتتح هذه الطريقة مِنْ: قلت لها وقالت لي، وكنت وكانت، وفعلتُ وفعلتْ؟ ومن الذي اتبعه في هذا الباب وأنفذ فيه أكثر شعره ولو أنهم كانوا يرونه مبتدعًا لنصوا على ذلك كما نصوا على غيره، بل كان جرير يرى تلك الطريقة هذيانًا، حتى استحكمت معاني ابن أبي ربيعة فرآه حينئذ قال الشعر.
وإن هناك أصلًا مقررًا في الأدب العربي، وذلك أن فحول الشعراء يسبقون إلى ابتداع المعاني والأساليب فيتبعهم فيها من بعدهم؛ إذ لا يقول أحد شعرًا ولا يكون شاعرًا إلا عن رواية وحفظ؛ فقد يتفق المعنى لشاعر متقدم أو تستوي له الطريقة في بعض الأساليب فيأتي بعده من يجد ذلك في طبعه ويكون قد اعتاد منه في أسباب عيشه ودهره ما لا يجري به اعتبار شاعر آخر، فيحتذي على حذو الأول ويتخذ كلامه أصلًا يبني عليه فيكثر من ذلك ويقلبه على وجوهه حتى يميته ولا يدع فيه شيئًا لغيره، وليس ابن أبي ربيعة بدعًا في ذلك، فإن أبا نواس احتذى على الأعشى في الخمر ولكنه أكثر فيها حتى عُرفت به هذه الطريقة وحتى لم يكن يُرى لغيره فيها معنى وهو حي، وهذا البحتري رأى بعض شعراء المتقدمين يذكر طيف الحبيب وزيارته، وقد قالوا: إن أول من سبق إلى هذا المعنى «جران العود» في قوله:
ثم أخذه العباس بن الأحنف وأخذه أبو تمام، فجاء البحتري فتعلق عليه وأكثر منه وجعل وصف الخيال طريقة من طرائقه فعرف بها.
وكيف وضع فن البديع لو لم يكن مسلم بن الوليد قد جرى على هذا الأصل فتتبع ما رآه في شعر الشعراء من استعارة وتشبيه ومجاز ثم قصدها في شعره وعمل على أن يتكلفها حتى نهج الطريقة لأبي تمام من بعده فجاء هذا واستنفذ فيها شعره حتى عُرف بها وعُرفت به، والأصل كما رأيت من أبيات متفرقة وكلمات مأثورة.
أفإن رأينا استعارة أو مجازًا في كلام جاهلي كامرئ القيس قلنا: وضعهما شاعر إسلامي متأثر بشعر مسلم بن الوليد وأبي تمام؛ لأن هذا الفن احتكره أبو تمام احتكارًا؟
وقال في صفحة ١٤٠ يكذِّب رحلة امرئ القيس إلى قيصر وأن شعره في ذلك مصنوع: «وإذا لم يكن بُدٌّ من التماس الأدلة الفنية على انتحال هذا الشعر نحبُّ أن نعرف كيف زار امرؤ القيس بلاد الروم وخالط قيصر ودخل معه الحمام وفتن ابنته ورأى مظاهر الحضارة اليونانية في القسطنطينية ولم يظهر لذلك أثر في شعره؛ لم يصف القصر ولم يذكره ولم يصف كنيسة من كنائس قسطنطينية، لم يصف الفتاة الإمبراطورية التي فتنها، لم يصف الروميات، لم يصف شيئًا ما يمكن أن يكون روميًّا حقًّا، ومهما يكن من شيء فإن السذاجة وحدها هي التي تعيننا على أن نتصور أن شاعرًا عربيًّا قديمًا قال هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس في رحلته إلى بلاد الروم.» انتهى.
فيا شيخ، أما تعلم أن المتنبي في الإسلام كامرئ القيس في الجاهلية، «وقد اجتمع له» من أسباب الشعر ووسائله ما لم يجتمع لذاك، وأن المتنبي جاء إلى مصر وعاش فيها وخالط أهلها؟ فقل لنا يا أستاذ الأدب: أين وصفُ الهرم في شعر المتنبي؟ أم تحسب أن الهرم كان يومئذ صغيرًا ثم كبر؟!
ومهما يكن من شيء فإن السذاجة وحدها هي التي تعيننا على أن نتصور أن شاعرًا كالمتنبي يقيم في مصر ولا يصف الهرم؛ ومع ذلك فقد أقام المتنبي في مصر ولم يصف الهرم، إن أنصار الجديد سيلقون مشقة وعسرًا في حل هذه المشكلة ولا بد من حل هذه المشكلة.
لقد سئمنا من جهل طه وسخافة رأيه وخلطه بين طبائع الناس وخصائص الأزمنة، فما زاد المتنبي على أن ذكر في شعره لفظ «الهرمين» كما ذكر امرؤ القيس لفظ «قيصر» فهذا من ذاك.
والعجب أن الشيخ كثيرًا ما يضع رأسه في موضع ثم لا تكون إلا وثبة فإذا رجلاه في موضع رأسه، قال في صفحة ١٤٨: «ونحن نقبل أن امرأ القيس هو أول من قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان وما إلى ذلك، ولكنا نشك أعظم الشك أن يكون قد قال هذه الأبيات التي يرويها الرواة.»
وهنا كما ترى عقل الشيخ؛ ثم وثب إلى صفحة ١٥٥ فإذا هو يقول عن عمرو بن قميئة الشاعر: «لم يُعرف من أمره شيء إلا اسمه كما لم يعرف من امرئ القيس ولا من أمر عبيد إلا اسمهما.»
وهنا كما ترى حذاء الشيخ في مكان رأسه؛ وإلا فهل كان اسم امرئ القيس هو الذي قيد الأوابد واخترع كل تلك المعاني؟
الحق أن طه حسين للأدب العربي كالكسوف والخسوف، يحجب حتى نور الشمس وحتى نور القمر.