حرية التفكير أم حرية التكفير
طلعت جريدة السياسة بحدث جديد للأستاذ الفاضل مدير الجامعة ينزع فيه إلى مذهبه في حديثه الأول من الإملاء على البرلمان وإلقاء العصا الفلسفية، لا رغبة في أن تتحول ثعبانًا كما تحولت عصا موسى من قبل، بل محاميًا يسحر على أبصار النواب وأسماعهم، بل منوِّمًا ينقل إليهم الإرادة وينصها لهم نصًّا بقوة المغناطيس؛ بل سحابة تتنزل عليهم بالملك الموكل بالهداية «كما تقول السياسة» وإن عهد القراء بحديثه الأول لمنذ قريب.
ولنبدأ بكلمات الأستاذ؛ لأن المذهب الجديد يجعلها من الحروف التي لها الصدارة، قال وهو يعني قانون الجامعة المطروح الآن بين أيدي النواب: «لست أعني بذلك أن هذا القانون هو المثل الأعلى، ولكنه عمل إنساني كبقية الأعمال، يُلحظ فيه التطور في المستقبل متى وجد لذلك ضرورة.
وعلى كل حال فإن في هذا القانون القاعدة الأساسية الكبرى لنظام التعليم العالي، وهي قاعدة أن الجامعة يجب أن تكون لها شخصية معنوية لتستطيع أن تدير أحوالها بنفسها، واستقلال يكفل لها حرية التفكير التي هي الأساس الأولي للتعليم العالي.»
إلى أن يقول: «وبما يرد على الخاطر أن الجامعة في نشأتها محتاجة إلى وصاية الحكومة عن قرب وتدخلها في كل شئونها إلى أن يشتد ساعدها وتستطيع الوقوف على قدمها؛ اجتنابًا لما عساه يقع من التخبط في الجامعة عند بدايتها، ذلك التخبط الذي جرت العادة بأن يقترن دائمًا أو غالبًا بكل بداية، وعلى ذلك يمكننا أن نختار ضرر التدخل باعتباره أخف من ضرر التخبط في البداية، هذا اعتراض له حظه من الصواب لأول نظرة إذا كنت يسمى تدخل السياسة (كذا، وهو يريد بالسياسة أينما وردت في حديثه الحكومة) في كل شئون الجامعة ضررًا فحسب، ولكنه ليس ضررًا بل هو هدم للجامعة من أساسها، وبهذا التدخل لا جامعة ولا حرية للتفكير، أترى لو أنك تفكر تحت وصاية الغير هل أنت تفكر؟ فإذا تعلقت منازع التدريس وكيفياته وطرائق البحث بغير جماعة المدرسين، كان ما ترجوه البلاد من احتمال نصيبها من التقدم العلمي في العالم خيالًا في خيال.» ا.ﻫ.
وهذه ميزانيتها وهذا قانونها، (زد أنت: وهذه سمعتها وهذا عملها) سيعرض عما قريب على البرلمان، وسينظر البرلمان في الأمر بغية الوصول إلى تحقيق مجد العلم ومجد مصر، (زد أنت: ومجد طه حسين) وإنا لسعداء حقًّا أن هذه الفرصة الحسنة لنشر حديث الأستاذ مدير الجامعة قبيل نظر الميزانية وقانون الجامعة (تأملوا) ونشر هذه الحكمة التي صدرنا بها حديث اليوم لتكون نبراسًا وهاديًا عند النظر في هذا الموضوع الخطير.
انتهى أيضًا.
قال كليلة: ويح لهذه النفس إذا لجَّ بها منزعها وركبها سوء طبعها وكان من ورائها قلب دَوِي أفسده داؤه وصرف همه وخوصره فيما تميل إليه؛ فقد قالت العلماء: إن الرأي لا يكون رأيًا حتى يُمكَّن له في الطبع أشد التمكين، وإن المصلح لن يقبل منه وفي طبعه ما عسى أن يتحول به عهده أو ينتكث؛ وما مثله إلا مثل الزلزال الذي أراد أن يتعاطى الهندسة. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن زلزالًا كان صديقًا لأحد البراكين، فقال له يومًا: قد كثر أذاك وإفسادك أيها البركان، فأنت دأبًا غيظ للناس وهلاك ولعنة، وما تنفكُّ بين حريق وتدمير، وإني لأرى لك حالًا ما أحسبك فيها إلا قد بعثت من جهنم إلى هذه المدينة، وما أظنك تفلح أبدًا في تغيير طبعك ومذهبك، حتى لو كنت بحرًا لانقلبت على الناس طوفانًا تهدم بالماء كما أنك تهدم بالنار؛ فقد سئمتُ صحبتك وأنا ذاهب عنك ألتمس عملًا أنفع به هؤلاء المساكين؛ لعلِّي أرد عليهم بعض ما تأخذ منهم؛ فقد قالت العلماء: إن خير ما يكون الخير إذا هو جاء بعد شر ما كان من الشر.
قال البركان: أيها الزلزال، لا تغتر بالفلسفة والخيال، فإن الكلام أيسر ما أنت آخذه وأهون ما أنت معطيه، وإنه لن يكون قولُك قولًا ما لم يكن عليه من طبعك دليل وشاهد، وإلا فإنما هو كلام بعضه كبعضه وحقه كباطله وشريفه كخسيسه؛ ولو شئت أن أسمي هذا الحميم الذي أصهره في جوفي من الصخور والمعادن خمرًا سائغة للشاربين لفعلت وقلت، ثم لوصفتها وزينتها بالشعر والحكمة وكابرت فيها وجادلت عليها، ولكن ذلك كله قول هراء إذا أنا لم أجد من يقول: اسقني، وما فلسفتك هذه إلا كفلسفة مدير الجامعة التي في مصر.
قال الزلزال: وما ذاك؟
قال: إنها كانت مدرسة تولاها هذا الرجل الفاضل المتكلم، وكان من المعلمين فيها صخر إنساني عظيم اسمه طه حسين، أُخذت طينته من بعض أجدادنا، وإذا تدحرج هذا الصخر فليس منه إلا الهدم والتخريب والدمدمة على الناس، فأرادت تلك الأمة إقرار هذه الصخرة في حفرتها وشدها إلى موضعها؛ وأبى مدير الجامعة إلا إطلاقها وتركها حرة مستقلة ثم تحريرها مع ذلك على الطرق العامرة والدور القائمة دون القفر واليباب، وذهب يدفع عنها فكان فيما قاله: إن التخبط قد جرت العادة بأن يقترن دائمًا أو غالبًا بكل بداية، فدعوا الصخر «يتخبط» على طبيعته وعلى طريقته فلا عليكم منه، وما أنصفتم والله؛ إذ تقولون: إنه يهدم عليكم الدور ثم تنسون أنه يوسع لكم الشارع.
قال الزلزال: دعني منك، فوالله لأكونن غير ما في نفسك، وأنت تعلم حدة طبعي وما قد خُصصت به من تمام القوة والذكاء، فأنا غاد فمتعلم الهندسة، وإنها لمن أوكد الأسباب فيما أريده من الإصلاح!
فانظر يا دمنة، إنه الجوهر والأصل لا الظاهر والحلية، وإنه العمل لا القول، وأنه الطبع لا الرأي، وإن الفاسد إذا كان معلمًا فوجد طلابًا يهديهم كان كالزلزال إذا صار مهندسًا فوجد بيوتًا يصلحها!
وننظر الآن إلى كلام مدير الجامعة، فإنا لا تعجبنا هذه السفسطة من هذا الأستاذ الفاضل، وما هو وحده الرجل الذكي ولا البليغ المتكلم، وكان ينبغي لمثله أن يتنزه عن مثل هذا، فإنا لنعلم أن من الكلام كلامًا يأمر الناس وهو في أسلوب النصيحة، ويُكرههم على انتحال أحد الرأيين وهو على طريق التخيير بينهما جميعًا، كبعض ما يسمى في عرف السياسة مذكرة وهو إنذار، أو إنذارًا وهو حرب، فكلام مدير الجامعة «مذكرة» للبرلمان أو في أسلوبها أو في غايتها، ولكن يا سيدي المدير، قد كان لزلة الجامعة عذر يسعها حتى أصررتَ أنت وكابرت وازدريت الأمة وعلماءها وقبلتَ على الجامعة من الأراجيف والأقوال والتهم ما لا يقبل ذو عمل على عمله، فلم تسع الجامعة عذرًا بعد.
ثم تناولت الجامعة ما أرادت أن توجده، كتاريخ الأدب العربي، فأقسم بالله قسمًا برًّا: ما عرفنا في كتب الأدباء أحمق ولا أجهل ولا أشد بلادة من كتاب الجامعة، في الشعر الجاهلي، ففيم تريدون استقلال الجامعة بعد هذا وإن أدنى ما في ذلك الاستقلال أن ينتفع قوم منكم «بسلطة وظائفهم» في إفساد عقائد الطلبة؛ لأن ذلك من مذهبهم في الإصلاح الاجتماعي، ثم العدول بالأدب العربي إلى ناحية الجهل والفساد والسخرية؛ لأنه أساس في لغة القرآن؟ ولأن القرآن أساس في الدين؛ لأن الدين ينافي مذهبهم في الحضارة الغربية التي يعملون لها جهد طاقتهم، وعندكم يا سيدي قوم وصفتْهم أعمالهم وشهد عليهم الأصحاب والأعداء؛ والأبرياء والأظِنَّاء؛ أفيجيز القانون استقلال هؤلاء الموظفين ليسخِّروا سلطة وظيفتهم في مثل ذلك؟
أتريدون الاستقلال في المحاسن أم في المساوئ؟ فإذا كانت الأولى فأين هي محاسن الجامعة، وما عند الناس أسوأ من سمعتها ولا أدعى إلى السخط من اسمها، وإن كانت الأخرى فما هو يا مولانا مجرى الماء يأتي هذا بالإناء فيملؤه ويأتي الآخر بالقربة ويأتي الثالث بالفنطاس وتأتي الجامعة بعربة الرش، إنه البرلمان يا سيدي الأستاذ وفيه عقول ذكية وقلوب حديدة ونفوس مؤسسة وطباع مؤمنة، وهو الحفيظ على مصلحة الأمة، ولن يمكن بحال من الأحوال أن يجعل أولادنا في هذه الجامعة غيظ قلوبنا في كفرهم وتمردهم، ولعنة تاريخنا في تحقيرهم وزرايتهم وأعداء ديننا في شكهم وإباحتهم.
إنه إذا خرج ابن الجاهل عالمًا فقد توثق ما بينه وبين أبيه بزيادة عطفه عليه ورحمته له، وإذا خرج ابن المسلم كافرًا مستهينًا بنبيه وكتابه وعلماء دينه وتاريخ قومه، مُرْصِدًا لكل ذلك بكيده وعمله؛ فقد انقطع ما بينه وبين أبيه وصار كلاهما لعنة على الآخر وأوجب الدين على الأب أن يبرأ من ابنه وينبذه، فما نعطيكم أنسابنا لتقطعوها، ولا أرواحنا لتهلكوها، ولعنة الله على حرية تفكير أول ما فيها أن أكون عدوَّ أبي وأن يكون أبي عدوي!
إن هذه الجامعة بعد الذي قد بدا منها، ومن مديرها لأحق بالمراقبة من الأظِنَّاء والمتهمين «والمشبوهين» حتى تستقيم على منهاجها وتخلص لها نية الأمة ويثق بها العلماء والأدباء؛ فكما أُعطيتْ الاستقلال «سنة تجربة» يجب أن تُحْرَمَه «سنة تجربة» إلى سنتين إلى ثلاث إلى مائة إلى آخر ما في عمر طه حسين وأمثاله مما جاءوا إلى هذه الجامعة من تاريخ دنس ملوَّث بالإلحاد ليس فيه موضع ثقة ولا أمانة.
ألا وإن الأمة الإسلامية لتعلم حق العلم أنها مبتلاة في عداد مصائبها بفئة من أذكيائها يناقضونها الرأي في الدين والأخلاق واللغة والأدب، وهم في ذلك قوم مرضى العقول أصيبوا بنحو مما يسمى بجنون الفكرة الثابتة، فلا تردهم قوة من القوى عن آرائهم وأوهامهم في الإصلاح ما داموا آمنين مرزوقين؛ فبعض هؤلاء يريد جعل اللغة عامية؛ لتنتهي الأمة يومًا إلى نسيان قرآنها وإهماله والتفصي منه، وبعضهم يتعجل هذه العاقبة فيريد الانسلاخ من هذا الدين ضربة واحدة بقرار من الحكومة أو بجنون حكومي كالذي وقع في تركيا، والعاقل من أولئك من يتماسك ويتصابر ويتسبب إلى غايته في رفق وهينة ومكر وسياسة، فيذهب إلى صوغ الأمة في عقولها في مدرسة كبرى كالجامعة! وشريطته في هذه المدرسة أن تكون للحكومة، لما يعلم من حاجة الناس إلى مدارسها وشهاداتها، ثم أن تكون هي مستقلة عن الحكومة قائمة على حرية التفكير بنص قانونها، وبمعنى أوضح من هذا، يريد هذا الفريق الذكي أن تكون الحكومة هي العاملة في تكفير الأمة من حيث تدري أو لا تدري، وبالمعنى المكشوف الصريح: يريدون من نواب الأمة أن يهدموا الأمة التي أنابتهم عنها، فيا شرَّها من قملة خبيثة تتوهم أنها ستلد أربعة عشر مليون قملة؛ لتقع في رأس كل مصري واحدة، ثم لا يكون الفوج الأول المقتحم إلا لرءوس النواب خاصة!
هَبُوا الجامعة المصرية قائمة بنفسها وبما حَبس عليها الواقفون ولا شأن للحكومة بها ولم تستلحق مدرستي الحقوق والطب، واجعلوها على ذلك مستقلة إلى أبعد ما في الاستقلال: قائمة على أوسع المعاني في حرية التفكير والتكفير، فماذا يُجدي عليها كل ذلك وأضعاف ذلك؟ إنها يومئذ لا تكاد تنكر إبراهيم وإسماعيل حتى لا ترى مسلمًا ولا يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وحتى تصبح خاوية على جذوعها من طه وأمثال طه، وهذه حقيقة لا شبهة فيها، فليس الأمر إذن إلا أن هؤلاء الأذكياء يريدون تسخير النواب؛ ليُكرهوا الأمة إكراهًا على صدع أساسها الاجتماعي وتخريب بنائها التاريخي، ما دامت الجامعة قائمة ببعض هؤلاء الناس المعروفين، وما دام ذلك تاريخهم وهذا عملهم، وليس في الأمر إذن حرية تفكير، بل حرية عمل، بل حرية هوس مكريٍّ، بل حرية استخدام سلطة الوظيفة!
لقد صاحت الأمة من حمق طه حسين وتهوره، فماذا فعل مدير الجامعة؟ بل ماذا فعل طه غير أنه زاد على ذلك إنذار الأمة في أبنائها أن دروس السنة الآتية ستكون في مناقشة القرآن من الوجهة الأدبية، ويقول هذا، وهو هو الذي كذَّب القرآن من الوجهة التاريخية، فإن صرح بعد أو خادع فما هو بمأمون ألبتة.
«استقلال الجامعة لأجل نظام التعليم العالي.»
هذه عبارة يقولها الأستاذ المدير باللغة العربية القويمة، فإذا أنت أضفت لها معنى الزمن الحادث كانت هكذا: «زرع الجامعة لقلع ما يمكن قلعه.»
إن الباطل لا يجد أبدًا قوته في طبيعته، بل تأتيه القوة من جهة أخرى فتمسكه أن يزول، فإذا هي تراخت وقع وإذا زالت عنه اضمحل، أما الحق فثابت بطبيعته قوي بنفسه، فالجامعة إنما تخشى على باطلها فتريد له قوة القانون وحمايته، ولو كانت ذات حق لقالت للناس؛ هذا عملي فانقضوه إن استطعتم، وهذا علمي فانقدوه إذا دخلكم منه شك! لكنها لجأت إلى هذا التمحُّل العجيب في طلب الاستقلال وحرية التفكير؛ وإنما هي بهذا الطلب تسب الأمة وتهينها في علمها كما أهانتها في دينها من قبل، كأن الأمة جاهلة غبية تعادي الفكر الحر؛ إذ لا تستطيع مجادلته ولا نقضه، فالجامعة من أجل ذلك تسأل النواب أن يحموا تفكيرها ويفصلوا ما بين علمها العالي وبين جهل الأمة.
لقد جادلنا هذه الجامعة وأفحمناها حتى ما تبدئ ولا تعيد، فكأنها الآن بما تطلب من حرية التفكير تريد أن تفر من كل مجادلة ومناظرة وتجعل ذلك أصلًا في قانونها حتى لا ينتقدها أحد ولا يطمع أحد منها في جواب، وما عرفنا في تواريخ الأمم أن أمة يقرر نوابها حرية الجهل في أكبر مدرسة فيها!
ما هي قيمة حرية التفكير وأنت لا تجدها على أعظم شأنها وأكبر أسبابها وأوسع أشواطها إلا في المعتوهين والموسوسين وألفافهم؟
إنما الشأن في سمو التفكير قبل حريته؛ فينبغي أن يكون الفكر قويًّا على مصادمة النقد؛ إذ يكون صحيحًا لا زائفًا، وحقًّا لا باطلًا؛ ومتى كان الفكر كذلك فما هو في حاجة إلى قانون يحميه؛ لأن قانونه مناظرته، أما إن كان على غير هذا فجاء ضعيفًا متخاذل الحجة واهي الدليل لا يقدر على دفع الاعتراض، ثم كان قائمًا على أن يقول المفكر الباحث ما شاء ويقول المتقدمون ما شاءوا بلا نتيجة هنا ولا هنا، فلعمري إن هذه ليست حرية تفكير بل هي حرية الخطأ، والخطأ دائمًا مقيد في أي الأساليب جاء ومن أي الناس وقع.
لقد حدَّت للفكر كلُّ الشرائع قيودًا وحدودًا من بعضها الحَجْر ومن بعضها العقوبة وهكذا؛ وفيمَ الشرطة والنيابة والمحاكم والقوَّامون والمحتسبون والشرائع والقوانين، إلا أن تكون هذه كلها حدودًا للأفكار والأعمال، كما قلنا من أن الخطأ يجب أبدًا أن لا يمشي إلا في قيد؟
يظهر لنا أن الأستاذ مدير الجامعة لا يفهمنا حق الفهم، وإلا فنحن لا نفهمه: إنه يقول حرية التفكير، ونقول: قيمة التفكير؛ وهو يريد حرية الرأي، ونريد صحة الرأي؛ وهو يريد إطلاق الألسنة، ونحن لا نرى إلا إطلاق الحقائق المتكلمة؛ فإن صح رأيه وجب أن تطلق الحكومة كل من في مستشفى المجاذيب ممن خَرِف وأهتر ولا ضرر إلا من لسانه؛ إذ يجب أن يكون لهم قسطهم من حرية التفكير كما يكون للجامعة قسطها؛ وإن صح رأينا وجب أن يظلوا في قيود الطب؛ لأن لهذا الطب الولاية الشرعية على عقولهم وأفكارهم كما أن للبرلمان الولاية الشرعية على عقل الجامعة وتفكيرها.
هناك ضرب من التفكير هو شر على الناس من مَحْق التفكير؛ فإن إهمال الفكر وانقياد الإنسان إلى طباعه وغرائزه يبعث على غلطات مختلفة لا بد أن تقع، لكنها تدل على نفسها بأنها غلطات؛ إذ ليس معها إلا حقائقها وهي ظاهرة مكشوفة قد تعارفها الناس وعلموا علم عقولهم أنها خطأ، أما ذاك النوع من سوء التفكير فيورط أهله في غلطات لا بد أن تكون، فإذا كانت فلا بد أن تكابر في أنها غلطات وتذهب تخدع الناس وتُموِّه عليهم وتغرُّ ضعافهم؛ لأن معهم الجدل والعناد وسوء النية ومكر السيئ، وكل هذا مما يكتم حقائقها ويُظهرها في غير مظاهرها ويلبس باطلها من حلية الحق، وكتاب الجامعة — الشعر الجاهلي — آخر مثل أخرجته الدنيا من هذا النوع كما علمته مما أوردناه في الكسر عليه.
فإن كانت الجامعة إنما هذا تريد فهو تلبيس وغش وخداع وإن كان اسمه الرأي والفكر والاجتهاد والجديد وما شاءوا، وإذا أباحه البرلمان للجامعة وجب أن يفرض عليها معه إنشاء درس تسميه درس الغلط، ليكسب هذا الدرس تلاميذها المساكين دربة ومرانًا على إدراك خطأ الأستاذ بأنفسهم، فيستطيعوا أن يصححوا لمثل طه حسين غلطاته كلها أو أكثرها أو أفحشها على الأقل.
نحن لا ننكر على الجامعة ولا نعترضها إذا هي قدَّمت السُّمَّ في زجاجة السم، فلو أنها فعلت ذلك لهلك من هلك عن بيِّنة — وما يشعركم أن طلبها من البرلمان ليس إلا طلب الترخيص لها في السموم الأدبية والعلمية — ولكن الذي ننكره عليها أن تقدم السم في زجاجة الدواء فتغش، وتسقيه الناس فتقتل، وتأخذ على ذلك أجرًا فتسرق، وهذا كله مما نُجِلُّها عنه إجلالًا شديدًا، ولكن هذا كله قد وقع في درس طه حسين!
يقول الأستاذ المدير في حكمه الذهبية: «أترى لو أنك تفكر تحت وصاية الغير هل أنت تفكر؟ فإذا تعلقت منازع التدريس بغير جماعة المدرسين كان التقدم العلمي خيالًا من خيال.»
ونحن نُقِرُّه على هذا؛ لأنه من حجتنا عليه، فلسنا نقول بترك منازع التدريس في الجامعة لمصلحة التنظيم مثلًا، بل نحن ممن يرون ترك كل صناعة إلى أهلها ومن يثقفونها، ولنضرب الآن مثلًا، بيننا وبين الجامعة، فهل كل «جماعة المدرسين» في الأدب هم طه حسين الذي ليس في الجامعة للأدب سواه، أم تجد منهم في وزارة المعارف وفي الأزهر وفي وظائف الحكومة، وفي الصحف وغيرها؟ إن كان الأول بَطل كلامُنا، ولنكسر هذا القلم ولنرح أنفسنا من مجادلة العالم الأصغر المسمى طه حسين، وإن كان الثاني فدرس الأدب في الجامعة يجب أن يكون مقيدًا بآراء «جماعة المدرسين» فإن أبت الجامعة فعليها مناظرة من يجادلها فيه، لا مناص من إحداهما ولكنها لا تقبل إحداهما!
وأنت ترى أنني غير مسرف حين أطلب منذ الآن، إلى الذين لا يستطيعون أن يبرءوا من القديم، أن لا يقرءوا هذه الفصول.
وتالله لو أن الجامعة مدرسة كالمدارس تُدرك معنى العلم وتعرف أنه أمانة وعهد وميثاق، لأوجعت أستاذها بالعقوبة على هذه الكلمة وحدها؛ لأنه يفضحها شر فضيحة وينفي الثقة بها وبعلمها؛ إذ لا ثقة برأي إلا بعد تمحيصه ونقده، ولن يكون النقد نقدًا إذا كان من أنصارك ومؤازريك، بل هو النقد إذا جاء من المعارضين لك والمنكرين عليك، ثم لا يتم له معناه إلا إذا كان من أقواهم فكرًا وأصحهم رأيًا وأبلغهم قلمًا؛ فإن لم ينتقدك هذا ومثله فادفعهم إليك دفعًا وتحدَّهم تحديًا وارمهم بالعجز إذا لم يفعلوا؛ فإن الحجة ليست لك ولا هي لهم وإنما تنحاز إلى الغالب منكما؛ وحتى الحجة الصحيحة فإنها أبدًا في حاجة ماسة إلى حجة أخرى تؤيدها أو تفسرها أو تحدها أو تمنع اللبس بينها وبين غيرها، فكل شيء فإنما صحته وتمامه في معارضته ونقده؛ إذ المعارضة نصف الحق وإن هي لم تكن حقًّا؛ لأنها تبينه وتجلوه وتقطع عنه الألسنة وتنفي عنه الظنة، ومن هنا يظهر لك السر المعجز الغريب البالغ منتهى الدقة في القرآن الكريم، فإن هذا الكتاب من دون الكتب السماوية والأرضية هو وحده الذي انفرد بتحدي الخلق وإثبات هذا التحدي فيه، وبذلك قرر أسمى قواعد الحق الإنساني ووضع الأساس الدستوري الحر إيجاز المعارضة وحمايتها، وأقام البرهان لمن آمنوا على من كفروا، وكان العجز عنه حجة دامغة معها من القوة كالذي مع الحجة الأخرى في إعجازه، فسما بالحجتين جميعًا، وذلك هو المبدأ الذي لا استقلال ولا حرية بغيره، وما الصواب إذا حققتَ إلا انتصار في معركة الآراء، ولا الخطأ إلا اندحار فيها لا أقل ولا أكثر، وبهذا وحده يقوم الميزان العقلي في هذه الإنسانية.
يقول الأستاذ المدير: «أترى لو أنك تفكر تحت وصاية الغير هل أنت تفكر؟»
فإذا لم أكن تحت وصاية الغير يا سيدي المدير ولكني أفكر تحت وصاية رغبة مجنونة ونية خبيثة شهدت عليها الأمة كلها فهل أنا عندك أفكر؟ ألا تراني حينئذ إذا كنتَ رجلًا عادلًا أني في أشد الحاجة إلى حمايتي من وصاية ضارة بوصاية لا أقل من أن تمنع الضرر؟ وما الفرق بين رغبة تمسُّني من غيري فتفسد علي تفكيري، وبين رغبة تمس غيري مني فتفسد عليه بتفكيري؟ وهل كان طه يكفر في الجامعة لتكتب عنه الملائكة أم ليكتب عنه الطلبة؟
إني أخشى يا سيدي الأستاذ الجليل من استقلال الجامعة وحرية تفكيرها؛ فإن هذا الكلام إذا فسِّر بأعمال الجامعة كان معناه ومحصله أن البرلمان سيضيف إلى الامتيازات الأجنبية المضروبة على هذه الأمة، امتيازًا لدولة قصر الزعفران.