مسلم لفظًا لا معنى
ثم إن جريدة السياسة اليومية نشرت مقالًا لطه حسين يرمي فيه علماءنا بالجمود والجهل، ويغري بهم نواب الأمة وشيوخها، ويخرجهم مخرج المتطفلين على هذه الأمة وعلى التاريخ والعصر، وكأنه حسِب — أصلحه الله — أن البرلمانيين نسخ من نفسه أخرجتها مطبعة الجامعة، أو كأنه لا يعلم أن نفسه هذه كتاب مهما تجهد الأبالسة في نشره لا تنشر منه في أمة يكون فيها الأزهر وعلماؤه والعربية وأدباؤها أكثر من عشر نسخ نصفها في الجامعة المصرية وحدها.
ثم خرجت السياسة الأسبوعية وفيها مقال آخر للشيخ «أبي مرغريت» في فلسفة العلم والدين والجمع بينهما؛ فلم يعد يسعني في الدين وهو ميثاق، ولا يجمل بي في الأدب وهو أمانة، إلا أن أجد بقية مثل الخطيب، فنفضت بيت كتبي نفضًا حتى أصبت القسيمة الضائعة من تلك الصحيفة فإذا فيها ما نسخته:
قال دمنة: فلما كانت الجمعة والتقى الناس لأداء المكتوبة، جاء الخطيب — وكان رجلًا ضريرًا — فشق المسجد حتى صعد المنبر، فتنحنح وسعل، وقال: أيها الناس، لقد وقع في قلبي الرثاء لكم، وداخلتني الشفقة عليكم؛ فما أغشكم بعد اليوم، ولقد غششت من قبل؛ إذ كنت لا أقول ما أعلم، فلن أجمع على نفسي بين ما ترونه كفرًا وما أراه غشًّا؛ لقد كنت أقول لكم: «عباد الله» وإنما أنتم عباد أنفسكم، فإن رجلًا عربيًّا وضع لكم شرعًا وكتابًا لفق فيه من خرافات الأعراب الذين يبولون على أعقابهم، ثم مضى لسبيله فتوهمتم دينًا وإلهًا، وتعبدتم لهذا وتعلقتم بذلك، فوهمكم تعبدون، وأنفسكم تؤلهون، وزعمتم أن الوحي كان ينزل كلامًا، ولو نزل كلامًا للمهتدين لنزل حجارة على الكافرين.
ولما انتهى إلى هذه الكلمة من قوله، أصابته حصاة في وجهه، حَصَبَه بها رجل من عُرض الناس، فقال: ها! كأنكم توهمونني أن السماء ترد علي بهذه الحصاة، ولكن من أين جاءت؟ جاءت من ناحية الباب لا من ناحية السقف، وليس أحد على الباب، وليس أحد إلا في المسجد، فمن المسجد أصبت، وهذا هو المنطق.
فرماه أحدهم بنعل صكت وجهه، فقال: وهذا دليل آخر، فما كانت السماء لترسل نعالًا؛ وهذه النعل كما أتحسسها نعل «مُطيَّنة» وليس في السماء طين، فمن أين جاء الطين؟ جاء من الأرض، وكانت النعل في قدم أحدكم فالتاث بها، فمنكم أُصِبْتُ، وهذا هو المنطق.
فتصايح الناس وقالوا: أيها الشيخ، إن أول الغيث قطر وينسكب، وهذا هو المنطق.
ثم تهمرت عليه نعالهم حتى ملأت جوف المنبر ودفنوه فيها دفنًا، ثم تركوه وتكروها له ومشوا حفاة يرون أنهم يغبرون أقدامهم في سبيل الله.
فقال دمنة: ثم إن شيخًا كان معهم فخالفهم إلى المسجد وتسوَّر المنبر حتى علاه، فكشف عن وجه الخطيب المسكين وكان في برزخ بين الدنيا والآخرة، فتنفس حتى ثابت إليه روحه، ثم قال له: أيها الغبي، لقد كنت عالمًا تكفر في نفسك وفي رأيك، فتركوا لك رأيك ونفسك ولم يضطروك إلى ما تكره وخَلَاكَ ذَمٌّ؛ ولكنك كنت رجلًا حَمِقًا مخذولًا، لا تعرف موضع رأسك من موضع رءوس الناس، فلما أَبَيْتَ إلا أن يكون على كل عنق مثل وجهك الدميم، وأَبَيْتَ إلا حملهم على كفرك، وجعلت باطلك أمير حقوقهم؛ وأَبَيْتَ إلا أن تسمَّى فيهم رأسًا وما يعرفونك إلا ذيلًا كان منهم ما رأيت، فعرَّفوك أيها العالم العظيم قيمة علمك؛ إذ أهدوا إليك مكتبة عظيمة كل «مجلداتها» نعال.
فقال الخطيب: ولكنهم أهانوا المسجد وانتهكوا حرمته وأبطلوا الصلاة.
فقال الشيخ: يا رقيع! ما أراك الساعة تتكلم إلا بلسان من نعل، قُمْ أخزاك الله! فلو أنهم عرفوك بهذا الثقل لأهدوا إليك مكتبة أخرى من الحجارة!
•••
قرأنا ما كتب طه في العلم والدين فإذا منزلة الأستاذ في العلم كمنزلته في الأدب، وهو مقلد فيهما جميعًا لا يصحح شيئًا على وجهه؛ لأن ملكة التمييز فيه ضعيفة، ومن ضعفها استطال على الحقائق غرورًا ومكابرة وجرأة، يحسب في ذلك تغطية لجهله وخطئه؛ إذ كان في منصب علمي كبير وليس معه من وسائل العلماء في حدة الذكاء وصحة الاستنباط، ولا من أخلاقهم في الأناة والتثبت، ولا من أوصافهم في الإقرار والتسليم إذا توجهت الحجة وقام الدليل، بل هو ما ترى من خبط إلى هوج إلى حمق إلى سوْرة كسوْرة السكارى في الهذيان والعربدة.
ولقد يقتلع المرء جبلًا من الأرض يمتلخه من عروقه فيفرغ منه، ولا يقتلع غلطة من نفس طه وإن شهد الملأ من الناس على أنها غلطة وعلى أنه لا يقوم فيها عذر؛ حدثني فلان قال: ناظرت هذا الشيخ طه يومًا فلما ضيَّقت عليه وانقطع وصار بين التسليم أو البَهْتِ، قال: لا أريد أن أقتنع! وانظر أنت أي رأي يستقيم في هذه الدنيا مع «لا أريد أن أقتنع» وهي كلمة تأكل الأدلة والبراهين كما تأكل النار الحطب: كلما ازدادت من الأكل ازدادت من الجوع.
مهد طه لرأيه بأن أعلن لشيخ الأزهر ولعلماء الدين أنه مثلهم مسلم، ثم قال: «والفرق بيني وبين الشيوخ أني مسلم حقًّا أفهم الإسلام على وجهه!»
فيا أرض ابلعي، فهذا مستنقع لا رجل؛ أهو مسلم حقًّا وشيخ الأزهر والعلماء مسلمون «لا حقًّا» وهم لا يفهمون الإسلام على وجهه مثل طه؛ لأنهم لم يكذبوا القرآن ولم ينكروا النبوة مثل طه!
لا يستقيم الكلام على ما تفهم من أوضاع اللغة العربية إلا إذا كان لطه شيء خاص يسميه إسلامًا؛ فمن ثم تنشأ الفروق الكثيرة بينه وبين شيخ الأزهر والعلماء؛ وهذا الشيء الخاص على ما يظهر هو حرية الفكر والرأي، يفهم على قدر ضعفه ويعمل على قدر ميله، فيخطئ والخطأ عنده إسلام، ويضل والضلال إسلام، ويفجر والفجور إسلام، ويكفر والكفر إسلام، ويسب الإسلام وذلك إسلام أيضًا!
ليت شعري إلى كم يتنطع هؤلاء المساكين في معنى حرية الفكر والرأي، فاسمع يا طه: قال دمنة: ثم إن هذه الدجاجة كانت تزعم لنفسها حرية الفكر وتنسى أن للفكر شروطًا كثيرة لم تجتمع لها، وأن حرية الفكر في مثلها هي حرية الجناية عليها وحرية الجناية منها، فرأت جملًا بازلًا كالقصر العظيم يقوده طفل صغير، فهالها ما رأت من عظمه وقوته، ووقع من نفسها ما علمت من لينه ومطاوعته، فقالت للدجاج: إني قد فكرت في الترفيه عنا، فسنتخذ لنا خادمًا قويًّا نمتهنه في أعمالنا، وهو على قوته وديع ساكن وعلى دعته لبق متصرف؛ ثم إنها ذهبت فأخذت في منقارها زمام الجمل وجاءت به تقوده، فلم يكد يضع خفة في تلك التماريد «الأقفاص» حتى هشمها وتفلق البيض وهلكت الفراريج وطاح الدجاج في كل ناحية، وفهمن من مصيبتهن ما لم يفهمن من عقولهن، وهذا كله على أن الجمل لم يضع إلا رجله في بيت الدجاج، فكيف لو ذهب وجاء فيه كما يفعل الخادم في الخدمة؟
ثم يرى طه أن من الممكن أن يكون الإنسان ذا دين يؤمن بما لم يثبته العلم، ويكون عالمًا لا يقر ما لم يثبته العلم قال: فكل امرئ هنا يستطيع إذا فكر قليلًا أن يجد في نفسه شخصيتين ممتازتين: إحداهما: عاقلة تبحث وتنتقد وتحلل (يعني وتكفر) وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى: شاعرة تَلَذُّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا، لا نستطيع أن نخلص من إحداهما: فما الذي يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة نافذة، وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة ديانة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ وأنا أؤكد أن هذا اللون من الحياة النفسية وحده هو الذي يكفل السلم بين العلم والدين، وهو أيسر على المسلم منه على اليهودي والنصراني، فأما أن تقف موقف المئولين فتغير النص وتحمله ما لا يطيق، فإنك لا تنصر الدين ولا تؤيده، وإنما تفسده وتنزله عند إرادة العلم، وتعترف بأن السلف كله كان خاطئًا حين فهم الكتاب على غير ما تفهم وعلى غير ما يفهم العلم، ما لك لا تدَعُ للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟ إنك إنما تجعل الدين هزؤًا وسخرية بإخضاعه لهذا النوع من العبث الذي يسمى تأويلًا، وخير من هذا النحو من العبث وإفساد النصوص الإلحاد الصريح.»
انتهى كلام طه بحروفه، وتلك خلاصة مقاله لم ندفع منها إلا الحشو وإلا ما هو زيادة في الكفر أو ما لا طائل تحته، وأنت تراه يدير الكلام على نفسه ويقيم لنفسه المعاذير مما فعل في دروس الجامعة ومما سيفعل، فإن مقاله هذا مصارحة للأمة كلها بالعداء، وإصرار على ما أنكرته منه، وإعلان إليها أنه لن يتغير، وأنه سيجحد ملء نفسه وعقله، وأنه مُرْصِد لها ولدينها؛ ثم يزعم للناس أنه مع ذلك مسلم مؤمن، والمقال بجملته تفسير وتوجيه وتعليل لكفر الرجل بحجة العلم يريد أن يثبت فيه أنه من الممكن أن يكون مثله كافرًا أشد الكفر على اعتبار أنه عالم يبحث بعقله، ثم لا يمنع ذلك أن يكون مؤمنًا أقوى الإيمان على اعتبار أنه شاعر يحتوي الإيمان في شعوره! وليس يخفى أن الشعور محل الغفلة، كما أن العقل محل الخطأ، فلِمَ يكونُ الشيخ كافرًا ومؤمنًا في عقله وشعوره، ولا يكون في فلسفته هذه مغفلًا من ناحية ومخطئًا من ناحية أخرى؟ وهل يجتمع هذا التناقض إلا في عقل واهن ضعيف كعقل الأستاذ؟ وإلا فمن هذا الذي يعقل أن نفي النبوة والوحي وتكذيب الكتب السماوية هو على وصف من الأوصاف علم وعقل، وعلى وصف آخر دين وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويكون اجتماع الوصفين في رجل واحد شخصيتين لهذا الرجل الواحد؟ وفي أي عقل أن في النفي إثباتًا لما تنفيه، وهما نقيضان ولا يجتمع نقيضان معًا في هذا الكون كله، فإن هذا الكون نواميس لا تعرف حرية البحث ولا حرية الرأي، وليس فيها ناموس مختل اسمه طه حسين، وحكم الشرع أنك متى كفرت فقد كفرت، لا يقبل منك عدل ولا صرف حتى ترجع عن رأيك وتتوب منه وتجدد إسلامك.
ومتى كان العلم يبحث في الأديان على أنه علم؟ وكيف له أن يبحث فيها وهو مقصور بطبيعته وتحديد هذه الطبيعة على ما يدخل في باب الأدلة الحسية، ولا وسائل له إلا وسائل الحس المعروفة من البحث والاستقراء والمقابلة والاستنباط، دون ما يتصل بالمعاني العقلية المحضة مما هو نظري فلسفي كالمعاني التي يرجع إليها الدين؟ إنه ليس بعلم ما يجاوز تلك الحدود المسورة بأسوار البحث والامتحان بحيث لا تخرج منه النتيجة الصريحة التي برهانها الحس واليقين دون الظن والجدل.
وما العلم في حقيقته إلا سؤال هذا الكون الغامض بالوسائل التي يستطيع الإنسان أن يسأله بها، ثم تلقى الجواب منه بالطريقة التي تجيب بها الطبيعة من إظهار منافعها ومضارها وعللها ونواميسها، وهذا الإنسان لا وسيلة له فيما وراء عقله، فلن يستطيع أن يسأل الكون من ذلك عن شيء، وإن هو سأل كما ترى من بعض الملحدين الذي ينتحلون العلم انتحالًا فإن الطبيعة لن تجيبه بشيء؛ إذ كان السؤال لا ينتهي إليها بالطريقة التي تستخرج منها جوابًا أو تقتضيها عملًا، ومن أجل ذلك لم تكن أمثال هذه الأسئلة إلحادية إلا اضطرابًا في عقول أصحابها أو تعنتًا منهم على الأديان وأهلها، وما هي من العلم ولا هو منها في سبب ولا غاية، فقول طه مثلًا: إن قصة بناء الكعبة خرافة، وإن إبراهيم وإسماعيل شخصان وهميان، لا يعد علمًا، بل حمق محض؛ فإذا اعتذر منه بالعلم أضاف إلى حمقه جهلًا، فإذا أصر على قوله واعتذاره زاد على الجهل والحمق الغفلة!
إن فرقًا بعيدًا بين النظرين العلمي والعقلي، فالمذهب العلمي طرق ممهدة إلى غايات بعينها قد انتهت إليها هذه الطرق، أو طرق أخرى لا تزال تمهد ولكنها لا تتأدى إلا لمثل تلك الغايات، فهو حركة تدفعها الإرادة وتحددها وتصرفها، أما المذهب العقلي فبينما هو يمشي إذا هو يطير إذا هو ينساح كما ينساح الضوء، فلا ضابط له إلا جهة كونه كلامًا معقولًا أو غير معقول، وقد يكون هذا المذهب في بعض الناس هو انتظار المذهب؛ لأنهم مذبذبون لا يستقرون على شيء، وقد يكون هو الشك في كل مذهب، وقد يكون في نقض مذهب معروف، وكل هذا من تفاوت قوى العقل لا من تفاوت قوى العلم، كما ترى من التباين بين غير المحدود وبين المحدود، وقد كان عند أسلافنا من علماء الكلام تعبير لغوي بديع يمثل لك المذهب العقلي كله، فيقولون: إن فلانًا يتكلم في هذه المسألة على البور والنظر، وهو يبورها وينظر فيها: إذا كان يمتحنها امتحانًا عقليًّا جدليًّا محضًا بين استغلاق بدليل وفتح بدليل آخر ولا غاية له من ذلك إلا التضريب بين الأدلة وتغليب بعضها على بعض والانتهاء بالأقيسة المنطقية إلى منقطَع الغاية؛ فالكفر بالشبهة عمل عقلي، والإيمان بالدليل عمل عقلي آخر، والعلم عمل غير هذين؛ لكن إذا قوي العقل وتمكن وأصاب وأمدته البصيرة النافذة والخيال اللامح الذي يلحق بالإلهام تبعه العلم فمال إليه لا محالة؛ لأن هذا العلم لا يكشف عن شيء إلا هتك عن سر من أسرار الطبيعة، ولا يبين عن سر إلا أوضح منه ضربًا من ضروب الكمال في الخليقة، والكمال في نفسه دليل على المبدع، والإبداع الإلهي في كل معانيه إعجاز للعقل الإنساني وإعجاز العقل هو وسيلة الإيمان الصحيح.
فالعلم على هذا من وسائل الإيمان التي تؤدي إليه في الغاية لا في الطريقة، بشرط أن يكون العقل سليمًا صحيحًا، فزعم طه أنه لا يلتقي مع الدين وأنه ليس لالتقائهما من سبيل، إنما هو مبني على ما في عقله من التناقض أو على ما في نفسه من المرض.
إن هناك حقيقتين تعلوان بالدين علوًّا كبيرًا حتى يفوت العلم أو العقل معًا ويخضعهما جميعًا فالأولى أن العقل لا يدري كيف يعقل ولا كيف يفهم، وما العلم في هذا بأعلم منه، فعمل هذه الخارقة المجهولة هو الدليل على وجودها: وهي بعد معرفة غير معروفة، والثانية أننا نخضع لنواميس كثيرة متضاربة لا يعرف العقل ولا العلم ما هي في كنهها وذاتها، ولكن ما يقع من آثارها توازنًا واختلالًا هو الدليل على إثباتها وهي كذلك معرفة غير معروفة، فليس مع هاتين الحقيقتين ما يمنع العقل والعلم أن يخضعا للدين، وما الدين إلا إقرار الإلهية والاستدلال عليها بآثارها، وهي معرفة غير معروفة بالذات، ومتى تناول الدين شئون الناس والحياة وسن طرق الاجتماع والمعاملة كما عندنا في ديننا الحنيف؛ فقد توثقت الصلة بينه وبين العلم ووجب التوفيق بينهما فيما يختلفان عليه، وإلا كان أحدهما لغوًا وعبثًا.
وهذا يكشف لك خبث أستاذ الجامعة، فإنه يقول بترك الدين على استقراره؛ ليكون العلم ردًّا عليه فيهدم الدينُ نفسه بهذا الجمود ويهدمه العلم بالتغيير والتحول، فلا يبقى في الناس ما يرى في هذا الدين الجامد شيئًا معقولًا ولا شيئًا صحيحًا، ويصبح كأنه ضريبة على النفوس إن لم تكن وراءها قوة الحكومة لا تجد من يحملها ولا من يؤديها، وما هي إلا أعوام بعد ذلك حتى يصبح علماء هذا الدين في الأزهر كعلماء الآثار في دار الآثار.
والعلم وإن كان لا يعمل للدين ولكنه في أشد الحاجة إليه إذا اعتبرنا هذا العلم ذريعة من ذرائع الإنسانية في نظامها ومصالحها، فهو يسخر لها الطبيعة ويؤتيها المنافع والمضار، غير أنه لن يستطيع أن يحمي المنفعة من تعادي الناس وتناحرهم عليها، ولن يستطيع أن يمسك المضرة حتى لا يقع بها التعادي والتناحر؛ وهنا موضع الدين؛ فهو وحده القائم على النفس الإنسانية لحماية المنفعة وإمساك المضرة، ولولا أن الإنسان حيوان تقي، وأن نظام اجتماعه نظام دينه، وفي قانون جسمه قانون قلبه، لأكل الناس بعضهم بعضًا، وقد يقال: إن الحكومات والقوانين تغني عن الدين في ذلك أو تغني غناءه، وهذا وهم جرَّبته الإنسانية لعصرنا في حكومة البلشفيك فأسقطت الدين وأقامت القانون، فلم يكن من ذلك إلا سقوط الإنسانية نفسها، وصارت القوانين لحماية الرذائل بعد أن كانت للحماية منها، وما فشا الإلحاد في أمة من الأمم إلا مسخ من نفوس أهلها فنزل بها حالة بعد حالة حتى لتعرفها في عاقبة الأمر نفوس حمير وبغال وسباع وقردة ونحوها لا نفوسًا إنسانية.
فعلماء الأديان مادة ضرورية في تركيب الاجتماع الإنساني، إن خلا مكانها فيه لم يسدَّه شيء، والدين الإسلامي خاصة بما فيه من الأعمال والآداب التي لا تقوم الإنسانية على أفضل ولا أثبت ولا أقوى منها — كما بيناه في كتابنا «إعجاز القرآن» — يجعل لعلمائه من الشأن ما لا يستطيع إنكاره إلا أحمق مدخول العقل، أو مفسد مدخول النية.
قد يأتي لهذه الدنيا رجل ذكي فيلسوف يرى ما رأى الفيلسوف «روسو» مثلًا من أن رجال الدين قوم يعيشون في غير عصرهم، أو في عصر غيرهم، ولكن مثل هذا الذكي الذي تقبله أوربا ينقلب ذكاؤه بلادة أشد بلادة إذا هو ظهر في العالم الإسلامي، فلن يستطيع أن يثبت أن علماء هذا الدين متطفلون على الحياة؛ إذ الإسلام يقوم على أصول خمسة منها أربعة عملية اجتماعية، ونحن متى أسقطنا علم الحلال والحرام ووسائله الكثيرة من علوم الأثر التفسير والأصول والعربية وما يداخلها، لم يبقَ من الإسلام إلا ما يريد طه وأمثاله، ولم يعد الإسلام إلا كلمة يسعها اللسان كما يسع نقيضها: فإذا ذهب أربعة أخماس الدين لم يبقَ لعلماء الدين موضع؛ ولعل هذا هو الذي شعر به طه فنطق به ففضح فيه نفسه؛ إذ هو لا يقيم من أعمال الإسلام شيئًا، فظهرت له فروق كثيرة بينه وبين شيخ الأزهر وعلماء الدين ورأى علومهم لغوًا وعبثًا وغفلة من غفلات الأمة، وكل ذلك مما تتكلم به نفس الرجل عن الرجل وهو لا يدري، كأنه يقول: إن المسلم لفظة، فما حاجة اللفظة إلى أحكام وإلى علماء بهذه الأحكام، وكأنه يرى أن هذا الدين العظيم كان في تاريخه جسمًا، ثم صار الذراعَ من الجسم، ثم الكفَّ من الذراع، ثم الإصبعَ من الكف، ثم الأُنْمُلةَ من الإصبع، ثم الظُفْرَ من الأنملة، ثم القلامةَ من الظفر تُقص اليوم وترمى ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أما ما خبط الرجل من أن التأويل يفسد نصوص الدين، ويكون اعترافًا منا بأن السلف كله كان مخطئًا في فهم الكتاب على غير ما تفهم وعلى غير ما يفهم العلم، فهذا كله من جهله العجيب ومن أنه لا يدري معاني ما يقول؛ إذ يساهم نفسه في كل ما يسنح له من فكر أو رأي بلا تمحيص، أو التمحيص ليس من قوته، أفيريد هذا الأستاذ أن تتغير الدنيا والعقول والعلوم ثم نكون نحن الجامدين على بعض معان لغوية قارَّة في ألفاظها؟
ألا يعلم أستاذ الأدب في الجامعة أن من أوضح أسرار الإعجاز في القرآن الكريم أن ألفاظه تكشف لكل عصر من المعاني بمقدار ما يتقدم العقل الإنساني في أسرار الأشياء، فكأن فيها حياة أبدية، وكأنها مقدرة على طبقات العقل والعصور، وهي مع ذلك لا تتغير، وأنه لولا هذا السر لماتت هذه الألفاظ من زمن بعيد، فلم يكن السلف مخطئًا في الفهم، وإنما كانت الطبيعة مخطئة في إفهامه، ولو كشفت له كما كشفت لنا وبقي على ذلك الفهم كما يريدنا الأستاذ أن نبقى عليه لكان هذا بابًا من الجهل ليس في الجهل أوسع منه على أن مثل هذه المسائل العلمية معدودة، والشأن كله فيما عداها من مسائل الإنسانية؛ وقد أفضنا الكلام عليها في كتابنا «إعجاز القرآن» فلا حاجة بنا لأكثر من الإشارة إليها.
وهنا سر من الأسرار العجيبة؛ وذلك أنه قد صح أن النبي ﷺ قبض ولم يفسر من القرآن إلا قليلًا جدًّا، وتركه للعصور وعلومها وآلاتها، فلو هو فسر لثبتت ألفاظ القرآن على معنى واحد فناقضت العلم، ولكان ذلك وجهًا يتطرق منه إلى الطعن في الإعجاز وفي الدين نفسه؛ إذ لا يسع الرسول ﷺ إلا أن يفسر للعرب على قدر أفهامهم وذرائعهم القليلة، فإذا تقدم العقل وانكشفت الحقائق أصبح ذلك لغوًا.
أفلا يكفي هذا المعنى سببًا لوجوب التأويل، كما هو معنى من أظهر معاني الإعجاز!