المُجدِّد الجريء
قال كليلة: واحذر يا دمنة مصارع الجرأة في الرأي وما يكون مثله من الرجل الحَمِق إذا تكلمت حماقته في لسانه؛ فإن الرأي ميزان لغته على الوفاء والنقص مما يوزن فيه لا من اليد التي تزن به، فإن هو ترك لما يلقى عليه أبان فصدق وحدد، وإذا عبثتْ به اليد إمالة أو تعويجًا أبان فكذب وغش، وإن الجرأة هي علم الجاهل حين يكون له علم، وجهل العالم حين يكون للعالم جهل، وقد قالت الحكماء: إن هذه الجرأة كانت امرأة فتزوجها العلم وتحفَّى بها وبالغ في إكرامها ورعايتها وفلسف لها الحياة ما شاء، فلما ولدت ولدت له الحمق، فقال: واسوأتاه! نزع الولد إلى أمه الخبيثة! وسبقت حكمة الله أن لا يخلق حيًّا إلا من اثنين؛ كي تلد الأمهات النعمة مضاعفة والمصيبة مضاعفة، أو لينقص شيء شيء غيره، أو ليزيد أمر في أمر سواه، أو ليبطل عمل من عمل آخر، وما يخرج النقيضان ولا المتجاذبان إلا من اثنين، ثم إنه بتَّ عقدة الجراءة وطلقها، فخلف عليها الجهل، وكان بعلًا سيئًا عنيفًا جعل يمكر في أذاها كل حيلة ويغلظ عليها بكل سوء ويعسفها عسف الأجير دابته، فلما ولدت ولدت له السخرية، فقال: وامصيبتاه! جاءت نعل طِبَاقَ نَعْل.
ثم شب الحمق والسخرية معًا، فتشاتما يومًا وتغالظا وأبت عليهما الطباع إلا أن يكون لكل منهما القهر والغلبة، ففزع كلاهما إلى أبيه وجاء به، فذهب العلم يحتج ومضى الجهل يخاصم، فأقبلت الجراءة على صوتهما وقالت: ويحكما! فيم هذا النزاع؟ ثم أرادتهما على الصلح، فالتفت الجهل إلى العلم وقال: يا أخي يا أبا الحمق. قال العلم: لا غرو يا أبا السخرية، فإنما هي الجراءة اللئيمة ولدت لي وولدت لك فجمعتنا بولديها وجعلتني أخا سوء وأبا سوء وعم سوء!
قال كليلة: وما أشبهك يا دمنة بالرجل الجريء الذي طوعت له الجرأة وسولت له أنه أعلم الناس، فذهب يؤتيهم علمه وزعم لهم أن البناء ثمر.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أنه وقعت بمدينة كذا زلزلة فتصدع أكثر دورها، فجاء أصحابها بالمهندسين فشدوها بعمد غليظة من الخشب؛ ليصلحوا البناء من فوقها وهو ثابت لا ينهار، فهبط المدينة شيخ جريء أحمق، فرأى الدور من كثرة أعمدتها كأنها قائمة على شجر، ورأى البنائين يعملون أعمالهم، فقال لبعض وجوه المدينة: إن بلدكم هذا إلى يوم الناس هذا لم ينزل به عالِم غيري فيما أرى، وإن لكم عندي رأيًا إن تأخذوا به جاءتكم هذه الدور جديدة كيوم نشأت، فإنكم تفسدونها بهذا الإصلاح وتَغْرَمون فيها الغرامة الكثيرة ولا تزيدون على هدمها، فاجمع لي الناس لأعرفكم ما تصنعون، قال: فشاع ذلك عنه وتعالمه أهل المدينة، فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: هذا رجل عالم وما يكون ذلك له رأيًا إلا من خبرة وتجربة وعلى بصيرة ونظر، فلا يوحشن أنفسكم منه سوء ظن حتى تأتوه وتسمعوه وتعرفوا ما عنده.
ثم إنهم اجتمعوا للرجل وقالوا له: أيها الحكيم، قد رأيت ما صنعت الزلزلة ونحن في سنة شديدة جمعت علينا بين قحط الأرض وارتفاع السعر وخراب البناء، فلعل الله قد بعثك إلينا رحمة من هذه الثلاثة الآكلة، قال: فإني إن شاء الله ما رجوتم، وإني فيئة لكم مما أصبتم به، تلوذون بعلمي ورأيي، ولكن اتقوا الجهل من بعدي وتعلموا واعتبروا، فإن ذا العلم حقيق أن لا يعدم في كل خطب حيلة، وإن ذا الجهل خليق أن لا يجد في أي خطب حيلة.
ولم يزل يعظهم بهذا وشبه حتى ضجوا، فقال قائلهم: أصلحك الله! متى أقمنا الدور فرغنا لك فتعظنا وتعلمنا، أما الآن فهلم رأيك الذي وعدتنا. قال: فاسمعوا ويحكم! أما رأيتم شجرة ألقت ثمرها ثم جاءت به من قابل؟ قالوا: كل الشجر يفعل ذلك. قال: فما رأيتم للشجر جذوعًا متى قطعت نبتت وبسقت فروعها وأثمرت؟ قالوا: ثم ماذا؟ قال: أخزاكم الله! فكيف عميتم عن الرأي وذهبتم عن الحيلة! أفما تنظرون هذه الجذوع التي تحمل بيوتكم؟! فلو قد نشرتموها بالمناشير لتلقي ما فوقها من هذه الدور الخربة لنبتت والله من قابل تحمل بيوتًا جديدة صفراء وحمراء وألوانًا شتى.
•••
نحن لا نرى في علم الأستاذ طه حسين وأمثاله إلا الجراءة، وهي خلة من خلال المجانين، فإنها أقرب إلى التهور والحمق ما دام صاحبها لا يضبط على رأيه ولا يأخذ على نفسه ولا يتوقى ولا يفهم شيئًا على الأصل الذي كان عليه بل على الأصل الذي يريد هو أن يكون عليه، وفصل ما بين المجنون الجريء والمجدد الجريء، أن جراءة المجنون من عمل أعصابه المريضة، وجراءة المجدد من عمل نفسه المريضة، وأمراض النفس كثيرة؛ منها: التقليد، ومنها: حب الصيت والشهرة والمَحْمَدة، ومنها: الغرور والاستطالة والتعنت، ومنها: الكفر والإلحاد، فإذا رأيت مجددًا من أصحابنا فثق أنك منه بإزاء رجل مريض النفس، ولا يقذفن في روعك أنه فيلسوف أو علامة أو أديب، فهذه الصفات أو أشباهها لا قيمة لها ألبتة إذا عريت من الخلق الذي يقوم به أمر الأمة وتصلح الأمة عليه من دين وأدب وفضيلة، والقوة المدمرة التي تعمل في نقض النظام تفتك في كل معنى بسلاحه الذي هو أقطع فيه، فهي كما تظهر في أهل الفسق والدعارة واللصوصية وأهل الظلم والتعسف، تظهر بمقادير أخرى في بعض الفلاسفة والعلماء والأدباء؛ لأن هذه القوة تلون الرذائل كما تلون الأثمار، وانظر ما الفرق بين ثمرة كالحة مرة وأخرى ناضرة مرة، أو بين حمراء وصفراء تستويان في كراهة المذاقة ولؤم الطعم، أو بين عالم مفسد برأيه ولص مفسد بعمله، أو بين فاجر ساقط النفس وبين أستاذ لئيم النفس؟ أما إنها كلها أسلحة تعمل عملًا متشابهًا وإن اختلفت في أنواع التمزيق ومقاديره، وليس يشفع في إرادة الشر أنه جاء من رجل عالم أو أديب أو مدرس في الجامعة المصرية، كما لا يزيد فيه مجيئه من فاجر أو عيَّار أو متشطر أو سفاح؛ إذ هو هو في جميعهم! وإنما هؤلاء وأولئك أساليب إنسانية ليس غير.
وقد أصبح طه حسين في زعمه حرية الرأي كالحيلة على القانون؛ تقع معها الجريمة ثم تكون بها البراءة، وكم من لص ومزور وفاتك وأشباههم قد برأتهم المحاكم كما برأت الجامعة المصرية طه حسين في أسلوب واحد، لمكان الحيلة لا لموضع البراءة، وكم من غفلة جازت على القانون ما دام قائمًا على إيجاد المجرم أولًا ثم يجيء القاضي في المحل الثاني، وكان الوجه أن يقوم على رد الناس عن الجريمة قبل وقوعها، وهذا فرق ما بين القانون والدين؛ فالدين قانون الأمة كلها وقانون الفضيلة الإنسانية عامة؛ وهو العقل العام للخلق، أما القانون فهو للمجرمين وللرذيلة خاصة وهو العقل الخاص لبعض الخلق؛ وإذا أهملوا الأول وغنوا منه بالثاني دفعوا بالأمة كلها في سبيل الإجرام والرذيلة، ومن ثم تعرف مكان علماء الدين في الأمة وهم هم الذين يعمل طه وأمثاله في تحقيرهم وتهوين أمرهم حماقة وجهلًا وسوء نظر وسوء دِخْلة.
يعتذرون لطه بحرية الرأي، وكأنهم لا يعلمون أن بعض الحرية في التقييد وبعضها في السلب، وأنه إذا تعارضت منفعة الفرد في إطلاق الحرية له ومنفعة الأمة في حدِّها أو سلبها وجب «نزع ملكية» هذه الحرية، ولو على الوجه الذي تؤخذ به دور الناس لتطريق شارع.
وهذا كله يوضح لك غفلة الجامعة المصرية غفلة تحتاج إلى غسل عينيها بمحلول مطهر، فالأمة تنظر إلى الجامعة على أنها منها، والجامعة تنظر إلى جمالها في مرآة من وجه طه حسين، فكل ما رأته الأمة شمالًا رأته هي في طه يمينًا، وما من هذا العكس بد ما دام النظران مختلفين، والعكس ينشئ الغلط؛ فمن الطبيعي في أحد النظرين أن تكون الجامعة موضع غلط الأمة وفي النظر الآخر أن تكون الأمة موضع غلط الجامعة.
قلنا: إن علم طه حسين جرأة، فهو لا يأتي بكلام فصل بل بكلام جريء؛ وذلك إن كان غلطًا لكنه غلط الجهل لا غلط العلم، فلا عذر منه ولا يجوز الاحتجاج له؛ إذ كان العالم الحقيقي لا يعرف الجراءة ولا يتعاطاها، فإن وجدتَ من أمره ما تحمله عليها فاعلم أنها جراءة أدلته وقوة منطقه وشدة يقينه، فإن خلا من هذه وأصبتَه جريئًا فهو الجاهل المغرور المتوقح الذي لا يعتمد على قوته وعلمه بل على حماقته وشره وعلى ضعف الناس وغفلتهم، وما رأينا قوة طه وأمثال طه إلا من هذه الناحية، فهم كالثعابين تخيف بالوهم وإن لم تلدغ، وإن كان السم قد فرغ من أنيابها؛ ولولا أن هذا من أمرها وأمر الناس للعب الصبيان بها واتخذوها حبالًا!
انظر كيف يجهل أستاذ الأدب في الجامعة المصرية هذا الجهل الغريب، قال في صفحة ١٧ وهو يريد القرآن: «كان كتابًا عربيًّا لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها (كذا) الناس في عصره» أي في العصر الجاهلي.
وفي صفحة ٣٥: «ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإسلام، ولست أنكر أن الشعر قد استقام للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف، ولكني أظن أنك تنسى ما يحسن أن لا تنساه، وهو أن القبائل بعد الإسلام قد اتخذت للأدب لغة غير لغتها وتقيدت في الأدب بقيود لم تكن لتتقيد بها لو كتبت أو شعرت في لغتها الخاصة، فلم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام يقوله بلغة تميم أو قيس ولهجتهما، إنما كان يقوله بلغة قريش ولهجتها: ثم جاء الشيخ بمثل من أدب اليونان، ثم قال: «وكذلك فعل العرب بعد الإسلام: عدلوا في لغتهم الأدبية عن كل ما كانت تمتاز به لغتهم ولهجتهم الخاصة، إلى لغة القرآن ولهجتها.»
ثم ضرب مثلًا من موطنه الجديد، فرنسا ثم قال: «وأنا أشعر بالحاجة إلى أن أضرب مثلًا آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب؛ ذلك أن في لغتنا المصرية العصرية لهجات مختلفة وأنحاء متباينة من أنحاء القول، فلأهل مصر العليا لهجاتهم، ولأهل القاهرة لهجتهم، ولأهل مصر السفلى لهجاتهم، وهناك اتفاق مطرد بين هذه اللهجات وبين من شعر في لغتهم العامة، فأهل مصر العليا يصطنعون أوزانًا لا يصطنعها أهل القاهرة ولا أهل الدلتا، وهؤلاء يصطنعون أوزانًا لا يصطنعها أهل مصر العليا؛ وهذا ملائم لطبيعة الأشياء، فما كان للشعر أن يخرج عما ألف أصحابه من لغة ولهجة في الكلام، ومع هذا كله فنحن حين ننظم الشعر الأدبي أو نكتب النثر الأدبي والعلمي نعدل عن لغتنا ولهجتنا الإقليمية إلى هذه اللغة واللهجة التي عدل إليها العرب بعد الإسلام، وهي لغة قريش ولهجة قريش.» انتهى خلط الشيخ.
وقد أثبت في كلامه أن لغة القرآن الكريم هي «اللغة الأدبية» التي كان ينتحلها العرب في العصر الجاهلي، فإذا كان ذلك وكان في العصر الجاهلي لغة أدبية للعرب فكيف ينكر طه على الشعر الجاهلي أن يكون متفق اللهجة، وكيف يجزم أن عدم اختلاف اللهجات فيه دليل على أنه موضوع مكذوب كما مر بك في موضعه؛ وكيف يتناقض هذه المناقضة المكشوفة؟
على أن هذه «اللغة الأدبية» وهم سخيف من أوهام المستشرقين تبعهم فيه طه؛ لأنه رجل مقلد سروق؛ فإن اللغة الأدبية لا تنشأ ولن تستقيم إلا إذا كانت مكتوبة متدارسة؛ إذ الكتابة قيد من التغيير والتبديل وهي نص في عموم الاحتذاء والمحاكاة؛ لأنها في مكان ما هي في كل مكان غيره.
ولو لم تكن في مصر لغة واحدة مكتوبة متدارسة هي العربية الفصحى لما كان لها شعر أدبي ولا نثر أدبي، ومن ههنا يريد الذين في قلوبهم أمل من المستعمرين، والذين في قلوبهم مرض من المجددين، أن يجعلوا العامية لغة الكتابة والدرس؛ لأنها متى دُونت وتدارسها النشء محت الفصحى محوًا وأتت على كتبها وآدابها ودينها؛ وقد كتبنا في هذا فلا نطيل به.
فهل يستطيع شيخ الجامعة أن يأتينا بدليل أو شبه دليل على أن القبائل في العصر الجاهلي أو بعد الإسلام كانت تكتب وتدرس في باديتها باللغة الأدبية التي يزعمها، حتى نصدق أنه كانت لكل قبيلة لغتان كما لنا في مصر؟
والعجيب أن يخلط الشيخ هذا الخلط وهو قد قرأ الجزء الأول من «تاريخ آداب العرب» وذكره في كتابه؛ فكيف ذهب عنه أن الرواة لم يكونوا يعبئون بالعربي الذي ينطق بلحن غير لحن قومه ولا يعدونه حجة في اللغة، وأن العربي القح السليم الفطرة لم يكن يستطيع أن يقيم لسانه إلا بلحن واحد ولهجة واحدة، حتى إن سيبويه لما اختلف مع الكسائي في مسألة: «ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها» وجاءوا بالأعراب الذين كانوا بباب يحيى البرمكي ورشوهم على أن يوافقوا الكسائي في جواز اللغتين، لم يزيدوا على أن قالوا في الموافقة: إن القول ما قال الكسائي. فلما رأى سيبويه ذلك منهم قال ليحيى: مُرْهُمْ أن ينطقوا فإن ألسنتهم لا تطوع به!
ومهما جهدت بالأعرابي أن ينطق بغير لحن قومه وإن كان أفصح منه فإنه لا يستطيع من ضعف؛ لأن تقليده في الصواب كتقليده في الخطأ، واللغة إنما تؤخذ عن السليقة وهي سنة واحدة؛ قال الأصمعي: جاء عيسى بن عمر الثقفي ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو، ما شيء بلغني عنك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال: بلغني أنك تجيز: ليس الطيبُ إلا المسكُ، قال أبو عمرو: نمتَ وأدلج الناس! ليس في الأرض حجازي إلا هو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع؛ ثم قال: قُمْ يا يحيى — يعني اليزيدي — وأنت يا خلف — يعني خلف الأحمر — فاذهبا إلى أبي المهدي «أعرابي الحجاز» فلقِّناه الرفع فإنه لا يرفع، واذهبا إلى أبي المنتجع «أعرابي تميم» فلقناه النصب فإنه لا ينصب. قال: فذهبنا فأتينا أبا المهدي فإذا هو يصلي، فلما قضى صلاته التفت إلينا، وقال: ما خطبكما؟ قلنا: جئنا نسألك عن شيء من كلام العرب. قال: هاتيا. فقلنا: كيف تقول: ليس الطيب إلا المسكُ — بالرفع — فقال: تأمرني بالكذب على كبر سني! فقال له خلف: ليس الشراب إلا العسلُ — بالرفع — قال اليزيدي: فلما رأيت ذلك منه قلت: ليس ملاك الأمر إلا طاعةُ الله والعملُ بها — بالرفع — فقال: هذا كلام لا دخل فيه. ثم أعادها بالنصب، فرفعا ثانية، فقال: ليس هذا لحني ولا لحن قومي. قالا: فكتبنا ما سمعنا منه، ثم أتينا أبا المنتجع فلقَّنَّاه النصب وجهدنا به فلم ينصب وأبى إلا الرفع. انتهى.
وقد كان هذا منهم في أواخر القرن الثاني واللغة إلى ضعف واضطراب؛ فأين تجد هذه اللغة الأدبية التي يهذي بها الشيخ، وانظر ما يبلغ الفرق بين قول إمام العربية أبي عمرو: «ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، وليس في الأرض تميمي إلا وهو يرفع» وبين قول أبي مرغريت: «ولم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام يقوله بلغة قيس أو تميم ولهجتهما» فأيما أقرب إلى العلم والصدق: من كان في زمن العرب وحكي عنهم، أم من يكون بينه وبين العرب جهله وحماقته وأربعة عشر قرنًا في الموتى؟
والرواة أشد انخداعًا حين يتصل الأمر بالبادية اتصالًا شديدًا، وذلك في هذه الأخبار التي يسمونها أيام العرب أو أيام الناس فهم سمعوا بعض هذه الأخبار التي «بعضها فقط» من الأعراب، ثم رأوها تقص مفصلة مطولة فقبلوا ما كان يروى منها على أنه جد من الأمر ورووه وفسروه وفسروا به الشعر واستخلصوا منه تاريخ العرب، مع أن الأمر فيه لا يتجاوز ما قدمناه، فليست هذه الأخبار إلا المظهر القصصي لهذه الحياة العربية القديمة، ذكره العرب بعد أن استقروا في الأمصار فزادوا فيه ونمَّوه وزينوه بالشعر كما ذكر اليونان قديمهم، فحرب البسوس وحرب داحس والغبراء وحرب الفجار وهذه الأيام الكثيرة التي وُضعت فيها الكتب ونظم فيها الشعر ليست في حقيقة الأمر — إن استقامت نظريتنا — إلا توسيعًا وتنمية لأساطيرَ وذكرياتٍ كان العرب يتحدثون بها بعد الإسلام. انتهى.
وكل ما يروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من الشعر خليق أن يكون موضوعًا والكثرة المطلقة منه موضوعة من غير شك.
فهذا رجل معتوه يسخر من نفسه كما ترى، وكلامه إلى السماجة أقرب منه إلى العلم، وكأن في هذا الشيخ طبعًا غير طبع الإنسان، ففضله بكثرة عيوبه لا بكثرة محاسنه، كم يومًا من أيام العرب تعرف أيها الشيخ؟ وفي كم كتاب هي؟ وكم ديوانًا وضع فيها من الشعر؟ وما هي؟ وأين هي؟ وما الذي وقفت عليه منها حتى تقطع على كل ذلك بأنه من عمل القصاص وأنه زيادة توسعة في الأساطير؟
إن أيام العرب هي حروبهم ومغازيهم، ولو لم يصح لهم شيء من كل ما رُوي عنهم لصحت أخبار هذه الأيام وحدها، ففيها نعيمهم ومصائبهم، ومنها حياتهم وموتهم، ولها محامدهم ومثالبهم، وهي عندهم مادة التاريخ السياسي، ولذا كان ذكرها في ألسنة شعرائهم؛ إذ كان شاعر القبيلة كأنه وزير الخارجية فيها، على أنه لم توضع قصيدة واحدة — لا صدقًا ولا كذبًا — في وصف يوم من هذه الأيام وقصة ما جرى فيه، وإنما كانوا يذكرون أيامهم في الفخر والمهاجاة فيومئون إليها ويشيرون إلى مواضع الذم أو المدح لا يَعْدُون ذلك، وبهذا استطاع الرواة والعلماء أن يستخرجوا أسماء هذه الأيام ويستشهدوا على بعض ما كان فيها من شعر النقائض، وهو ما يكون بين شعراء القبائل في الهجاء والفخر، يقول أحدهم فينقض عليه الآخر، وأنت تراها في شعر جرير والفرزدق والأخطل والطِّرِمَّاح وغيرهم من الإسلاميين، كما تراها في شعر الجاهلية، مما يثبت أنها تاريخ يتوارثونه بينهم، وماذا تورث القبيلة أبناءها إلا أنسابها وأخبار سيوفها ومكارم أجوادها وأقوال شعراءها؟ وقد قال الأول:
فهذه الرماح هي الألسنة التاريخية التي تكتب بالدم ذلك الشعر الأحمر، وإذا لم يكن للقبيلة حروب ووقائع لم يكن لها بأس ولا فيها نجدة ولا عندها منعة وسقطت بذلك أنسابها وذهبت مكارمها وقلَّ شعرها؛ إذ كانت هذه الثلاث هي مادة الشعر المأثور فيهم، الدائر على أفواههم، وكانوا قومًا كأن حياتهم ثمر من زرع القتل.
قال ابن سلام: «وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويُغار عليهم، ولذلك قلل شعرَ قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان والطائف.»
ومع كل هذا؛ فقد سقط أكثر الشعر وأكثر الخبر، ولم تكن الأيام من علم القُصاص، بل مَحَّصَها العلماء وتناقلوها وكانت تقرأ عليهم وكانوا يميزون بينها وبين الأقاصيص المولدة، قال الجاحظ يذكر ما صنع الناس من أخبار عمرو بن ودٍّ فارس قريش الذي قتله على بن أبي طالب: «قرأت على العلماء كتاب الفجار الأول والثاني والثالث وأمر المطيبين والأحلاف ومقتل أبي أزيهر ومجيء الفيل وكل يوم جمع كان لقريش فما سمعت لعمرو هذا في شيء من ذلك ذكرًا» وكانت قصة عمرو كقصة عنترة: مما يضعه العامة ولا يذهب عن العلماء أنه موضوع لا خطر له.
•••
وأما بعد: فإنا نتجاوز عما بقي لنا على أستاذ الجامعة في كتابه وحسابه — وهو كثير — فقد أعسر أشد العسر، بل أنقض، بل أفلس؛ والذي نرجوه أن يكون قد علم كيف يعلم وعقل كيف يعقل، وأن يكون قد استيقن أنه إذا كان معنا لم يزدنا، وإذا كان علينا لم ينقصنا، وإنما نفسَه ينقص ونفسَه يزيد!
كفى بالمرء جهلًا إذا أعجب برأيه، فكيف به معجبًا ورأيه الجهل بعينه؟
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله وأكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونستغفر الله مما جمح فيه القلم أو طغى به الفكر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.