مسألة طه حسين
هذا فيما يختص بأمر التعليم: بقيت هناك نقطة أخرى لا بد من التنبيه إليها:
حدث يا حضرات الأعضاء حادث بالجامعة المصرية، وقام من ناحيتها صوت أفقدها عطف الكثيرين، قد أدى إلى فتنة أو كاد، والأشد والأنكى أن البلاد لم ينلها حظ ولم تنلها مصلحة ظاهرة أو خفية من إثارة ذلك الموضوع الذي تعرض له صاحب ذلك الصوت حتى كان يقال ولو من طريق التساهل: إن الحسنات تكافأت مع السيئات، وأظن أن حضراتكم بعد هذا البيان قد فطنتم إلى ما أريد وتبينتم أن الصوت المعني بقولي هذا هو كتاب «الشعر الجاهلي» ذلك الذي تضمن طعنًا ذريعًا على الموسوية الكريمة والعيسوية الرحيمة، وعلى الإسلام دين الدولة المصرية بنص الدستور.
أيها السادة، إن العقائد كانت وما زالت في الشرق وفي الغرب أيضًا عواطف حساسة متوثبة متيقظة متأججة ولو ظهرت خامدة، فالرجل العاقل يجب عليه أن يبتعد عن كل ما يهيجها، والرجل العالم حقًّا الذي يفهم البيئة التي يعيش فيها والوسط الذي يكتنفه، يجد من علمه متسعًا لا نهاية له لمعالجة الإصلاح والعيوب الكثيرة دون أن يجد نفسه مضطرًّا في وقت ما إلى أن يلج هذا الباب الذي قد يترتب على ولوجه الكثير من الحوادث الجسام والأمور العظام.
يا حضرات النواب، أرجو أن لا يتأول علينا متاول أو يتقول علينا متقول أو يمتن علينا ممتن بأنه أشد منا غيرة على حرية العلم والتعليم وأعظم منا رغبة في تأييد حرية الرأي والتفكير، إنه لا توجد في العالم حريات مطلقة، ولو كان الأمر كذلك لنهشت أعراض بحكم حرية الرأي، ولو كان الأمر كذلك لقام في البلاد من يهاجم نظام الحكم؛ اعتمادًا على حرية الرأي، ولو كان الأمر كذلك لقام في البلاد من يبث مبادئ الفوضوية أو البلشفية؛ استنادًا إلى حرية الرأي، ولكن الحرية — يا حضرات الأعضاء — محددة وتنتهي عندما تبتدئ بالتصادم مع مقتضيات النظام والقانون، أنت حر في كل ما تريد، ولكن حاذر أن تقع تحت سلطة القانون.
إن التعليم حر بنص الدستور، وليس منا من يعارض في ذلك؛ ولكن الدستور قال أيضًا: إن التعليم حر إلا إذا أخل بالنظام العام؛ إذ كان منافيًا للأدب، والإخلال هنا معناه أن يترتب على تقرير الرأي حدوث فتنة أو احتمال حدوثها، وعند ذلك يقف القانون حدًّا حائلًا؛ لأن المصالح العامة مقدمة عن الشهوة؛ فعلى الذين يفهمون حرية الرأي كما حددها القانون، وعلى الذين يعقلون حرية التعليم كما يعنيها القانون، أن يفهموا أننا إذا تعرضنا لهذه المسألة فإنما نريد أن نكون دائمًا في دائرة القانون.
أيها السادة، إن تصرف هذا الشخص كان أيضًا مخالفًا للذوق، فإنه مدرس بالجامعة المصرية، وهي معهد أميري يعيش من أموال الحكومة الممثلة للأمة، فهو يتقاضى مرتبه من هذه الهيئة التي دينها الإسلام، فلم يكن من المفهوم ولا من المعقول ولا من حسن الذوق أن يقوم هذا الشخص فيبصق في وجه الحكومة التي يتقاضى مرتبه من أموالها بالطعن على دين رعيتها من أقلية أو أكثرية، إننا إذ نسلم أولادنا للحكومة ليتعلموا في دورها نفعل ذلك معتمدين على أن بيننا وبينها تعاقدًا ضمنيًّا على أن الديانات محترمة؛ لا أقول تعاقدًا ضمنيًّا فقط، بل صريحًا؛ لأن الحكومة تعنى بتعليم الدين في مدارسها وتضعه في مناهجها؛ وإذا كان الأمر كذلك فعلى الذين يريدون أن يحرقوا بخور الإلحاد أن يحرقوه في قلوبهم؛ لأنهم أحرار في عقائدهم، أو أن يحرقوه في منازلهم؛ لأنهم أحرار في بيئاتهم الخاصة، أما أن يطلقوه في أجواء دور العلم ومنابر الجامعة فهذا لا يمكن أن نفهمه بأي حال من الأحوال (تصفيق حاد) وأغرب ما في هذا التصرف إن صح ما بلغني من أن إدارة الجامعة اشترت من مؤلف هذا الكتاب كتابه، اشترته يا حضرات النواب من أموال الأمة الموتورة بهذا العمل! فإن كان هذا الكتاب سيدرس في الجامعة فتلك ثالثة الأثافي، وليس لنا على هذا الأمر تعليق؛ أما إذا كان الغرض من شراء الكتاب اتقاء ضرر انتشاره فهذا أيضًا تصرف غير معقول؛ لأن مال الأمة لا يجوز أن يدفع أجرًا ومكافأة على إساءة للأمة، ولأن هذا التصرف في حد ذاته من المكافأة، وهذه المكافأة قد حلت حيث كانت تجب الإساءة وحيث كانت تجب المجازاة؛ هذا كله إن صح ما سمعته من أن إدارة الجامعة قد اشترت هذا الكتاب.
هذا ما أكده لي مدير الجامعة، أما فيما يختص بالمبلغ الذي دُفع ثمنًا للكتاب فإني أصرح بأني لو كنت مسئولًا لما رضيت بهذا التصرف، وإني موافق على استرداده إذا كان لا يوجد مانع قانوني يحول دون ذلك.
أما فيما يختص بالإجراءات الأخرى فلا يخفى على حضراتكم أن المؤلف مسافر إلى أوربا من شهر يونيو عقب تأليف الوزارة مباشرة ولم يعد بعد؛ فلا يمكن أن أتخذ من الآن إجراءات في غيابه، وعلى كل حال فإني أعد ببحث المسألة.
فرفعت الجلسة، ثم أعيدت.