الرأي العام في العربية الفصحى١
وأما الثانية فتزين ذلك الرأي له على سخفه حتى يدفع عنه كل الدفع، ويحوطه بكل حجة مُلجلجة، وحتى يرى أن الكد في ذلك هو يثبته، وأن الثبات على الكد هو يحققه، فلا يزال يخور بمقدار ما يشتد في أمره تعنتًا ثم لا يصيب من وجه الأمر إلا ما يضل في مجاهله؛ فيكون قد تأتى من سبيل الثقة إلى الغرور، ومن سبيل الغرور إلى الباطل، وكَبُر ذلك مقتًا وساء سبيلًا.
وتلك خصال في نسق واحد وعلى نظام مطرد لا هوادة بين أولها وآخرها: فهي وإن تعددت إلا أنها كما يتعدد الموج للغريق، تنتصب منه أشباه الجبال ثم لا يستند الغريق من جميعها إلا إلى الماء الذي يغرق فيه؛ وهذا تفسير القول آنفًا: إن الجهل على استواء واحد في نظر أهله.
لا جَرَم كان العنت كل العنت والبلاء كل البلاء أن تُفهم من لم يستجمع أداة الفهم لما تُلقي إليه، وأن تناظر صاحب الرأي وليس له مما قِبَلك إلا أنه يرى وإلا أنك تدفع، فإن الحجة في مثل هذا وإن وضحت واستبانت بَيد أنها لا تصيب من غرض يستهدف لها، فلا تلزم ولا تُقنع، وإنما تُستعرض كما يُستعرض من السهم من الهواء، يمر فيه منطلقًا لا يلتوي؛ فمهما نلت من ذلك لا تنال سببًا إلى الإقناع، وليس لك بعدُ إلا أن تَطيب نفسًا عن نتيجة أنت فرغت من مقدمتها، وترتدَّ عن غاية كنتَ في ظل قصباتها؛ لأن الحجج لا تنتهي إلى الحق إلا إذا كانت متكافئة، فهي تختلف متدابرة، ولكنها متى تواجهت وأخذت كل حجة برقبة الأخرى فاختصمت ثم ارتفعت إلى العقل قضى بينها وكشف عن وجه الحق فيها، أما الحجة الواهية التي لا يُشدُّ منها علم ولا ينهض بها يقين فهذه تظل مدْبِرة، وإنما قوَّتها في إدبارها ولياذها بكل مُنطلَق «فأنت تجد في كل الناس إلا في صاحبها مقْنعًا ومَعْدِلًا، وما إن تزال مقبلًا منه على مدْبِر عنك حتى تنكص عنه غالبًا كمغلوب، وتنقلب طالبًا كمطلوب؛ وأنا لا أدري ولا جرم ما الذي زيَّن لفلان أن يكون صاحب رأي في العربية وآدابها، وأن يتمحَّل لرأيه ويشتد للنضال عنه، ولا يعدو بالخصومة فيه من لا يُقارُّه عليه؛ أذلك حين بذلت له اللغة مَقادَتها أم حين جمحت عنه؛ وحين استطاع له علمه أم حين طوع له وهمه؟ وما فلان هذا والعربية وآدابها والمراء في كل ذلك، وهو بعدُ في حاجة من هذا العلم إلى استئناف الطفولة كرة أخرى، إن التوى عليه أمر اللغة منذ دارسَه فيها طلبة يسمونهم معلمين فلم يفيدوه من المعرفة حتى ولا معرفة كيف يعلِّم نفسه، رمى هذه اللغة بالنقص وجعل الكمال لله ثم له، فأراد أن يحيلها عن وضع رآها منحرفة فيه، وما انحرف بها إلا حَوَلُ عينه، فذهب في طنطنته الضئيلة كل مذهب، وافترش لسانه البكيء فيما يسميه جديدًا وفلسفة جديدة، وهل اللغة إلا علم بعد أن انقضت فينا الفطرة واختبلت الألسنة؟ وهل يناظر في كل علم إلا أهله؟ ولِمَ لا ينصب هذا وأمثاله لمن يقوم على أداة من الآلات البخارية فيقول له لو كانت هذه القطعة مكان تلك، ولو كان هذا التركيب القبيح أجمل مما هو، ولو أخرتَ أو قدمت، ولو زدت أو قللت، ولو نقضت أو أقمت، فعلت وفعلت؟ وليت شعري ما يكون أمره وأمر صاحبه ذلك؟ وكيف يراه ويرى فيه من قول كله عِيٌّ وحصر وعلم كله جهل وفضول.
ألم يَأنِ أن يعلم هؤلاء أن من الرأي غرَرًا، وأن راكب الخطر من ذلك إنما يركب رأسه، وأن الأمة لم توقَف شرعًا على فرد ولا أفراد، وأن في الصمت زاوية باردة مظلمة تواري المخزيات لو عرف الجاهل معنى المخزية!
قالوا هذا وما يجري مجراه ويذهب في نزعته ولم يستحوا أن يصدعوا به وهم يرون إلى جانبهم من المستشرقين أعاجم قد فَصُحوا وأقبلوا على آدابنا وتاريخنا فوسعوها بما اتسع لهم من العلم، وأحاطوا بها ما أطاقوا، بل كادوا يكونون أحق بها وأهلها؛ وقد كانوا في غنى عن كل ذلك بلغاتهم وآدابهم وما أفاء الله عليهم ومكَّن لهم فيه، ثم لم يشقق أصحابنا أن يبتلوا تاريخهم بالعقوق وهو الثكل الذي لا عزاء معه، فأرادونا على أن نخلع بأنفسنا هذا التاريخ لا نعطيه طاعة، ولا نبايع له منا عن جماعة ثم نكون كزنوج أفريقيا إذا غابت عنهم الشمس غاب عنهم التاريخ وإذا طلعت عليهم استأنفوا تاريخًا جديدًا!
أليسوا ينقمون منا أننا نشد أيدينا على لغة ليست لنا، فلِمَ لا ينقمون أننا نصرف وجوهنا إلى قبلة ليست في أرضنا؟ ثم يقولون: إنهم يهجنون التصرف في اللغة وإرسال الألفاظ والأساليب على وجوهها العربية، ويريدون أن يزيلوا التدبير في هذه الصناعة عن هذا الوجه؛ لأنهم لا يحسونه ولا ينفذون فيه إذا تعاطوه، ويريدون فوق ذلك أن يطرحوا عنا كدَّ الصناعة؛ لتكون خاتمة عجائبنا في هذا الجيل صناعة بلا كدٍّ.
ولعمري، كيف يؤاتيهم هذا الأمر أو يستوسق لهم إذا قلبوا أوضاع الكلام وزايلوا بين أوصاله وذهبوا فيه مذهب الترقيع في الخلق بالجديد وفي الجديد بالخلق.
لقد أهملنا اللغة ثم أهملناها حتى صارت معنا إلى حال من الجفوة جعلتها كالواعلة علينا والغريبة عنا، وجعلتنا من نقص فهمنا فيهما بحيث نضطر إلى التماس شيء غيرها نفهمه، فصار إصلاح اللغة كأنه دُرْبَة لإفسادنا وإفسادها فيما نتوهم دُربة لإصلاحنا، وإنما هما خطتان لا تُفضي كلتاهما إلى شر من أختها مبدأ أو مُنقلبًا، وإن أقبح ما ترى من شيئين أن يكون أحسن الرأي تركهما جميعًا.
زعموا أنهم يريدون أن تسهل الألفاظ وتنكشف المعاني وتكون الكتابة في استوائها وجمالها كصفحة السماء، فهل البلاغة العربية إلا تلك، وهل هذا أمر عربي؟ بلى، وهل يعرفون — أصلحهم الله — أن الطفل يرى كل ما يدور في مسمعه من ألفاظ والديه كأنه إنما يتفق لهما اغتصابًا واعتسافًا واستكراهًا؛ إذ لا يفهم من كل ذلك شيئًا إلا بمقدار ما يعتاد وعلى حسب ما تبلغ حاجته، وإذ هي لغة أوسع من لغته مادة وصناعة، فلِمَ لا يكون الرأي أن ينزل الآباء إلى لغات أطفالهم ويقتصر هذا المنطق الإنساني على المترادف المتوارد من أسماء الألعاب الصبيانية وما يتلحق بها؟
ثم ما هو حكم العامي — وهو في كل أمة الطفل العلمي — بجانب أهل العلوم: أتراه يلقف عنهم إلا بميزان تلك الغريزة الفطرية في الصغير مع أبويه؟ فلِمَ تمحى العلوم وألفاظها ومصطلحاتها وأساليب التعبير عنها ونحو ذلك مما تتراخى به شُقَّةُ الفهم إذا تعاطاه ذلك العامي أو حاوله، ويكون جهد العلماء فيما تطيقه العامة وسداد العامة فيما يطيقه الأطفال؟
وأنت إذا تخطيت أمر الطفل اللغوي والطفل العلمي وأسندت في الحد الأعلى لهذه الطفولة لم ترَ إلا طراز أصحابنا وهم أطفال الأدب، فهل يكبر عليهم أن يكبروا ويشتدوا وأن يساوقوا الفطرة في مجراها، فيأخذوا الشيء بأسبابه، ويأتوا الأمر من بابه، ويدعوا الرأي إلى يوم يكونون من أربابه؟ يصدرون رأيهم على جهل، فإذا كشفت لهم معناه وبصَّرتهم بمصايره ووقفت بهم على حدوده وأريتهم وجوههم في مرآة النصيحة، أنكروا ما جئت به وحسبوك تفتري الكذب وأصروا واستكبروا استكبارًا؛ لأن رأس علمهم أن يظنوا لا أن يحققوا ما يظنون، فالرأي عندهم هو الرأي في ذاته لا ما يتعلق به ولا ما يتأدَّى إليه.
إنما اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة، والأمة تكاد تكون صفة لغتها؛ لأنها حاجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها ولا قوام لها بغيرها، فكيفما قلبت أمر اللغة من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها واشتمالها جلدة أمة أخرى، فلو بقي للمصريين شيء متميز من نسب الفراعنة لبقيت لهم جملة مستعملة من اللغة الهيروغليفية، ولو انتزت بهم أمة أخرى غير الأمة العربية لهجروا العربية لا محالة؛ وكذلك يتوجه هذا القياس طردًا وعكسًا كما ترى؛ وإن في العربية سرًّا خالدًا هو هذا الكتاب المبين «القرآن» الذي يجب أن يؤدى على وجهه العربي الصريح ويُحكم منطقًا وإعرابًا، بحيث يكون الإخلال بمخرج الحرف الواحد منه كالزيغ بالكلمة عن وجهها وبالجملة عن مؤداها، وبحيث يستوي فيه اللحن الخفي واللحن الظاهر، ثم هذا المعنى الإسلامي «الدين» المبني على الغلبة والمعقود على أنقاض الأمم والقيم على الفطرة الإنسانية حيث توزعت وأين استقرت، فالأمر أكثر من أن تؤثر فيه سورة حمق أو تأخذ منه كلمة جهل، وأعضل من أن يزيله قلم كاتب ولو تناهت به سن الدهر حتى يلقى من الأمة أربعة عشر جيلًا كالتي مرت منذ التاريخ الإسلامي إلى اليوم!
والقرآن الكريم ليس كتابًا يجمع بين دفتيه ما يجمعه كتاب أو كتب فحسبُ؛ إذ لو كان هذا أكبر أمره لتحللت عقده وإن كانت وثيقة، ولأتى عليه الزمان، أو بالحري لنُفِّس من أمره شيء كثير من الأمم، ولاستبان فيه مساغ للتحريف والتبديل من غال أو مبطل، ولكانت عربيته الصريحة الخالصة عذرا للعوام والمستعجمين في إحالته إلى أوضاعهم إذا ثابَتْ لهم قدرة على ذلك، ولو فعلوه لما كان بدعًا من الرأي ولا مستنكرًا في قياس أصحابنا، لأنهم لم يَعْدُوا منفعة طلبوها من سبيلها وخطة انتهجوها بدليلها.
وليس يقول هذا إلا ظَنِين قد انطوى صدره على غِلٍّ واجتمع قلبه على دُخْلَةٍ مكروهة، وإلا جاهل من طراز أولئك، لا يستطيل نظره بتجربة ولا ينفذ بعلم، وإنما هو آخذ بذنب الرأي لا يوجهه ولكن يتوجه معه، ولا يُقبِل به ولكن يُدْبر به الرأي.
إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهله مستعربين به متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حُكمًا حتى يتأذن الله بانقراض الخلق وطيِّ هذا البسيط، ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن على الناس وردهم إليها وأوجبها عليهم لما اطَّرد التاريخ الإسلامي ولا تراخت به الأيام إلى ما شاء الله، ولما تماسكت أجزاء هذه الأمة ولا استقلت بها الوحدة الإسلامية، ثم لتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين ونضب ما بينهم فلم يبقَ إلا أن تستلحقهم الشعوب وتستلحمهم الأمم على وجه من الجنسية الطبيعية — لا السياسية — فلا تتبين من آثارهم في أنفسهم بعد ذلك إلا كما يثبت من طرائق الماء إذا انساب الجدول في المحيط.
إنما يصب الله علينا بلاء فتياننا؛ لأنهم ينشئون في أرضنا نشأة المستعبَد الرقيق، وإن غُنْمًا لهم أن نحرص على ما بقي من جنسيتنا العربية، وأن نشعب لحفظ هذه الصلة وتوثيق تلك العقدة بيننا أسلافنا ونمد من ذلك سببًا إلى حاضرنا ثم إلى مستقبلنا فلا يكون في تاريخنا اقتضاب ولا بتر، ثم لكيلا نكون على ديننا ولغتنا ما كان أولئك الأوشاب والزعانف من الترك والديلم، إلى غيرهما من أصناف تلك الحمراء التي اجتاحت العرب منذ الدولة العباسية ورتعت في أمور الناس وجعلت بأسهم بينهم، لعلة المباينة في الجنسية اللغوية، حتى لم يكن في ثمانمائة سنة من استبدادهم ما يعدل ثمانين سنة كانت منذ أول العهد بالإسلام، ولكن أني لفتياننا ذلك وهم لا يأخذون من لغتهم ولا يصيبون من آدابها إلا كما يأخذ الإسفنج من الماء؛ ينتفخ بقليل منه ثم لا يلبث أن يمجَّه أو يتطاير منه ولا يثبت فيه شيء.
على أنك لو اعترضت كل من يهجِّن العربية ويُزري على سبكها لرأيته أجهل الناس بتركيبها وحكمة اشتقاقها ووجوه تصريفها، ثم لرأيت له غِرَّةً في تاريخ قومه، فهو إن عرف منه شيئًا فقد تجرد من تمرة المعرفة كأنه يحفظ طلاسم لا يتخبط فيها حتى يتخبطه الشيطان من المس، ثم ترى الآفة الكبرى أنه مُستدرَج من حيث لا يعلم، فهو يكافئ محبة لغة أجنبية أحكمها بعداوة لغته التي جهلها، ويجزي منفعة تاريخٍ عَلِمَه بمضرة التاريخ الذي لم يعلمه، والناس أعداء ما يجهلون!