مقال الجريدة الأول
قالوا: إن فئة القائمين بأمر هذه الجامعة قد تعجلوا لنا العمل في هذه السنة فلم يُطيِّبوا ولم يُنْضجوا، لمكان العجلة من تلك الحال، وعُقم الأمة بالنابغين من الرجال، ولذلك جعلوا الدروس فيها محاضرات من مستطرَف الأحاديث ومستظرف النوادر والأمالي في تاريخ الحضارة والبلدان والآداب الأجنبية وطرف مما تعتبر به اللغة، ثم هم في الغابر يستحدثون الجديد ويطرحون أيديهم في العمل المفيد متى تمت لهم الأداة واجتمعت القوة ولفَّ شملهم بأولئك الفضلاء الذين أنفذوهم إلى أوربا، وكذلك قالوا: إنهم بادروا العمل وما تلبثوا إلا يسيرًا؛ تنزيهًا لعهدهم، وتفاديًا من سوء المؤاخذة على الرسلة ووناء الهمم، ولأن الفائدة لا ينفيها أن تكون من القليل إذا لم يتهيأ أكثر منه، فإن لجلجة المضغة عند الجوع خير من جمود الفكَّين!
ونحن نؤمن بكل ذلك ولا نحاول أن ندلِّس على عيب أمتنا ونكتم نقائصها؛ فقد لا يستقيم هذا الأمر عندنا إذا ابتدأ كاملًا، وإن من يركم أحجار البناء كلها في فضاء الأرض لا يبلغ أن يكون بذلك قد رفع بناء، بل لا بد من إمساك الحجر بالحجر على نسبة معينة في التنسيق والاطراد، وما قطُّ ابتُغيت حاجةٌ من غير مبغاتها.
ونزيدهم على هذا أيضًا أننا أمة ترك بها الزمانُ ما ترك من عادة وخُلق بين سيئ وحسن، فلا تجتمع على بغض ولا رضا، ولا يزال بعضها حربًا لبعض في العادات والأخلاق؛ كما تكون الأمم في أول جهادها للتقدم، وتلك هي المزلَّة التي يهوي فيها الأساة، والمنزلة التي يحارُ بها الهداة؛ فلو قذفتنا المقابر بمن فيها من الفلاسفة وحكماء المجتمع ما زادوا على أن يبتدئوا تعليمنا بالقليل، ولكن ليس كل قليل لازمًا، بل أَحْرِ في ذلك أن يكون شيء ألزم من شيء.
فلا سبيل إلى عذر القوم في إغفال الأدب العربي وهم قد نصُّوا في دستور الجامعة على نوعين من الآداب الأجنبية، فإما أن تكون هذه أحق من ذلك بالتقديم وأقرب إلى فائدة الأمة منه، أو هم يمتهدون اليوم لحاجتهم فينشئون لنا في أوربا أديبًا ويخرجون بعلوم الأعاجم عربيًّا صليبًا، أو لا هذا ولا ذاك ولكنهم يمضون على غير هدى كما تخيل النفس ما دامت هذه الأمة قد بذلت وتابعت على ما يريدون.
فإن كان الأول فهو الرأي الفائل والسوأة التي لا يسترها إحسانهم بأجمعه؛ إذ لا يكون ذلك في أمة لا يزال يغلط كبار كتابها غلطًا قبيحًا فيما يستعملون من لغتهم، لا يرون ذلك هُجنة ولا نقصًا؛ حتى أصبحت اللغة في الأيدي كالثياب المتداعية: كلما حِيصت من جانب تهتكت من آخر.
ولا أخوض في تفصيل الرأي الثالث وبسطه، فإني أنزِّه رجال الجامعة عن هذه الشبهات، أما أن يكونوا منتظرين أن يُنشئوا في أوربا من يدرس الأدب العربي أو يستعين بما يدرسه عليه، فذلك ما نرمي إليه بهذه الكلمات وإن علينا بيانه: لا أعلم ماذا يراد بقولهم: «آداب اللغة العربية» إلا أن يكون ذلك إحاطة الأديب بفُصَح اللغة وتمكنه من استعمالها في تنزيل الكلام ومعرفة الإعراب والأبنية والتصاريف، وبُعدَ النظر في معاني البلاغة وأساليب الفصاحة والاقتدارَ عليهما نظمًا ونثرًا، ثم معرفة الرجال ومراتبهم وطبقات كلامهم وآثارهم واختلاف العصور بهم، مع البصر بالنقد ومواضع المؤاخذة إلى الطبع السمح والفطنة المؤاتية، حتى لا يكون بَرِمًا بالحجة إذا نزع بها، ولا ضعيف الدليل إذا حاول الاستخراجَ والتعليل، ثم الإحاطة بذلك كله إحاطة تاريخية فلسفية وتدبُّره على اختلاف وجوهه وأسبابه، وهو كله جملة واحدة، لا يغني فيه بعضه عن بعض، وعلى مقدار ما يبلغ منه الأديب يكون أدبه؛ فقد يقال للعالم باللغة: لغوي، ولصاحب النحو: نحوي، ولمن يقرض الشعر: شاعر، وبالجملة ينسب كل ذي علم إلى علمه إلا الأديب، فلا علم له إلا مجموع تلك العلوم وإحسان المشاركة فيها جميعًا.
ومن ذلك نعرف كيف ابتذل هذا اللقب العظيم — لقب الأديب — في زمننا حتى لم يُحرم منه إلا العامة من الجهلاء، وإلا نفر ممن لا يدفعون ثمنه للجرائد في أخبار الهناء والعزاء.
وقد نظرت في كتب يقول أصحابها: إنهم صنفوها في «آداب اللغة العربية»، وما أظن كتابًا طُبع في ذلك للمحدثين ولم أقف عليه، ولا أظن كأني وقفت من ذلك على كتاب، فهم يثبتون في كتبهم بعض فصول في تاريخ اللغة ونظمها ونثرها، ويومئون إلى طائفة من الكتاب والشعراء غير منتقدين ولا مميزين، ويأتون بشيء من كلامِهم يصيبونه — كما يقول النحاة — حيثما اتفق، وقد يتكلمون في العلوم الاثني عشر ويسردون لك أسماءً من الكتب المؤلفة فيها، وإنك ما أصبت من فائدة في بعض كتبهم فذلك حكم الجمع ومما يطرده لك التأليف، ولا أقبح من كتاب تستعرض فيه العقول وتتصفح الآراء إلا عقل صاحبه ورأيه، وهم وإن ذكروا أن «اختيار المرء قطعة من عقله» إلا أن ذلك على جهة نوع المختار ومنزلتيه من الأشباه والنظائر، لا على جهة أن للعقل في ذلك عملًا يلزمه التبعة ويأخذه بالعهد، إذا كان الاختيار على حسب ما تنبعث له الرغبة، وكانت الرغبة على مقدار ما يهيئه الطبع وتعطيه القوة، فلا يحسن عند الفقيه مثلًا اختيار الطبيب من أهل الفقه، ولا عند اختيار صاحبه مما هو بسبيله، وهكذا.
وليت شعري أين من عهدنا طبقات الرواة والحفاظ وأهل النقد والجرح والتعديل، فإنهم منا كطباق السماء من الأرض، وما ذلك لانقطاع الرواية وذهاب أثرها، فإن في دراسة الكتب وتصفح الأسفار بعض الغناء، ولكنه من فساد التلقين وسوء التلقي بما نشأت عن موت الذين يصلحون للإفادة، ولقد كانت الرواية في ذلك الصدر درسًا من أحسن الدروس الجامعة؛ إذ يتناول مجلس الرواية الأدبيات بأنواعها بحثًا وشرحًا وإيرادًا وتمحيصًا، فيعي الطالب من ذلك في الساعة الواحدة ما لو تُرك فيه لنفسه ومبلغ همته لدأب في تحصيله بضع سنين.
وما أدري الجامعة مفلحة في الأدب؛ إذ هي لم تحيِ ذلك العهد ولم تَطْوِ الأيام إليه؛ فإن الأمة لا تحيا إذا ماتت لغتها، ولن تموت لغة أمة حية، وما دامت العربية على أصلها فأدبها ما أخرجه لنا السلف، لا ينقص منه ولكن يزاد عليه بما تمثله الأيام وتبتدعه الأفهام وتستأنفه القرائح وتتدبره العقول ويمحصه التحقيق وتُبدعه مذاهب النقد، وذلك منشأ الحاجة في الأدب العربي إلى الآداب الأجنبية، وهي حاجة إذا مس إليها فضل الإتقان وزيادة الإحسان فإنها لا تبلغ أن تجعل أدبنا حميلة على غيره، لا يقوم إلا به ولا يتعلق إلا عليه، وإنما شأننا في ذلك شأن أدباء الغربيين فيما أخذوه عن اليونان والعرب وغيرهم إلى أن اتجهت لهم هذه الطريقة التي هم عليها اليوم.
فهذا رأينا قدمناه لرجالنا الفضلاء «وإن تعتب الأيام فيهم فربما …»