صحائف مجد وفخار للجندي المصري
في ٢٤ يونيو سنة ١٨٣٩ انتصر الجيش المصري في أعظم معركة حربية اشتبك فيها في خلال القرن التاسع عشر.
وقعت هذه المعركة في عهد أعظم عاهل جلس على عرش الإمبراطورية المصرية هو محمد علي باشا الكبير. وفي عهد سلطان من أعظم سلاطين آل عثمان هو السلطان محمود الثاني ابن السلطان عبد الحميد الأول.
كانت الفتن والقلاقل والاضطرابات والثورات قد فشت في أرجاء السلطنة العثمانية فاستنجد السلطان محمود بمحمد علي لإخماد الثورات والاضطرابات وقمع الفتن والقلاقل. فلبَّى التابعُ طلبَ المتبوع.
بدأ محمد علي بتجريد حملة تحت قيادة ابنه الأمير طوسون — يعاونه أحمد أغا — لتأديب وإخضاع الوهابيين الذي شقوا عصا الطاعة على السلطان، وغزوا بلاد الحجاز والعراق، واستولوا على مكة المكرمة (في سنة ١٨٠٢) وعلى المدينة المنورة (في سنة ١٨٠٦) ومنعوا الحج (مدة ثلاث سنوات)، وبسطوا سلطانهم على جزيرة العرب كلِّها، وعلى بلاد العراق واستولوا على كربلاء، وجاء وقت كانت فيه مساحة البلاد التي خضعت لسلطانهم تزيد على مساحة فرنسا ست مرات.
إلا أن الوهابيين لم ييأسوا فجمعوا جموعهم وزحفوا بقوة كبيرة على الجيش المصري، فاضطر طوسون إلى التقهقر وإخلاء مواقع عدة بعد أن خسر ٨٠٠٠ جندي و٢٥٠٠٠ جمل، وذهبت سدى نفقات الحملة وقدرها ١٤٠٠٠٠٠ جنيه.
بقيت الحرب فترة من الزمان سجالًا بين المصريين والوهابيين. أدرك محمد علي أن من الخطأ محاربة العرب في البقاع الكثيرة الهضاب والنجاد، ففكر في خدعة لاستدراجهم إلى السهول والوهاد، فتظاهر بالقهقرى أمام جموع الوهابيين، جازت الحيلة على الأمير فيصل الذي كان قد جمع ٣٠٠٠٠ مقاتل منهم ٥٠٠٠ هجانة، فترك الهضاب التي كان ممتنعًا فيها، وسار إلى الوهاد مقتفيًا أثر محمد علي، وبمجرد أن توسط الجيشان السهول تجمعت القوات المصرية على هيئة مربعات — على مثال مربعات جيش نابليون بونابرت عندما غزا مصر في سنة ١٧٩٨ — وأصلت العرب نارًا حامية حصدتهم حصدًا، وردتهم خاسرين ستة آلاف قتيل، وفر فيصل بفلول جيشه. غنم محمد علي خيمة فيصل بجميع ما كان فيها من ذهب ومن فضة ومن رياش فاخرة، وبعد هذا النصر زحف في داخلية البلاد، واستولى على مواقع حربية مهمة، ولما اطمأن قلبه عاد إلى مصر، وترك ابنه طوسون يتم غزو البقية الباقية من بلاد العرب، وهنت قوة الوهابيين وركدت ريحهم وانشقت العصا بينهم، ورأوا أن كثيرًا من قبائل العرب انفضت من حولهم، ومالت إلى المصريين وانضمت إليهم، وأن لا أمل لهم في قهر المصريين فطلبوا الصلح، عرض عليهم طوسون شروطًا قاسية قبلوها حالًا، وبعدما هدأت الحالة عاد طوسون إلى مصر في نوفمبر سنة ١٨١٥.
إلا أن الوهابيين نقضوا العهود والمواثيق، وعادوا إلى الثورة والعصيان، وجمعوا ٣٠٠٠٠ من المقاتلة تحت قيادة الأمير عبد الله وأخيه الأمير فيصل، علم محمد علي بهذه الثورة الجديدة، فأمر بتجريد حملة ثالثة، وفي أثناء هذه الحملة الجديدة مات ابنه طوسون في برنبال (في ٦ يوليو سنة ١٨١٦)، فعهد محمد علي في قيادة الحملة الثالثة إلى ابنه الكبير إبراهيم (وكان عمره إذ ذاك ٢٧ سنة)، بارح إبراهيم مصر في ٥ سبتمبر سنة ١٨١٦ إلى قنا، ومنها إلى القصير، ثم إلى ينبع، ثم إلى المدينة المنورة، وفي ١٩ يناير سنة ١٨١٧ وصل إليه رسول من قبل السلطان يحمل إليه رتبة الميرمران الرفيعة.
وفي سنة ١٨٢٠ وجَّه محمد على عنايته وجهوده إلى بلاد السودان، فسيَّر حملةً أولى تحت قيادة ابنه إسماعيل، وحملة ثانية تحت قيادة صهره محمد بك الدفتردار، وحملة ثالثة تحت قيادة ابنه الكبير إبراهيم.
كانت حملة إسماعيل مؤلفة من ٤٠٠٠ جندي و١٨ مدفعًا، وحملة الدفتردار من ٤٠٠٠ جندي و٨ مدافع، وحملة إبراهيم من بضعة آلاف.
إسماعيل فتح بلاد النوبة ودنقلا وبربر وسنار، وفي ٢٧ مايو سنة ١٨٢١ وصل إلى ملتقى النيل الأبيض بالنيل الأزرق، ونصب خيامه على رأس زاوية تحتلها امرأة اسمها «أم درمان» سميت فيما بعد باسمها، وكانت في سنة ١٨٢١ محلة قفراء، وما كان يدور بخلد أحد أنه بعد مائة عام يصبح هذا المكان الأقفر مدينة كبيرة يبلغ عدد سكانها ١٠٠٠٠٠، أما الدفتردار فبسط سلطان مصر على دارفور وكردفان، وجعل «الأبيض» حاضرة هذه البلاد الواسعة.
لم يكتفِ محمد علي بكل هذه الغزوات وهذه الفتوحات، بل استولى أيضًا على بلاد التاكة (الواقعة بين العطيرة والبحر الأحمر) وأسس مدينة كسلا، ولمد سلطانه على جميع هذه البقاع النائية استولى على سواكن ومصوع، استأجرهما من السلطان وضمهما إلى الإمبراطورية المصرية.
لم يكد الأمر يستتب لمحمد علي في السودان، وإذا بإرادة من السلطان بها يستنجده مرة أخرى، ويطلب منه إعانة الأسطول العثماني الذي عهد إليه في قمع الفتن والقلاقل والاضطرابات التي نشبت في جزر بحر اليونان، صدع محمد علي بالأمر وجهز أسطولًا من ١٦ قطعة عهد في قيادته إلى إسماعيل أغا المعروف بالجبل الأخضر، أضاف إليه قوة مؤلفة من ٨٠٠ جندي جعلها تحت إمرة طبوز أوغلو وأقلع الأسطول بالفعل من ثغر الإسكندرية في ١٠ يوليو سنة ١٨٢١، وكتب الله له التوفيق واحتل جزيرة «رودس».
عاد السلطان بعد سنة أخرى واستنجد بمحمد علي مرة ثالثة لإخماد ثورة في جزيرة «قبرص» عجز الجنود الترك عن إخمادها، ولكي يثير حميته أصدر فرمانًا في سنة ١٨٢٢ بتعيينه واليًا عليها مع بقائه واليًا على مصر.
وفي سنة ١٨٢٢ شن الفرس الغارة على بلاد الدولة العلية، وزحفوا قاصدين الاستيلاء على بغداد وأرضروم، فاستعان السلطان بمحمد علي للمرة الخامسة.
وفي يناير سنة ١٨٢٦ أتبعها بنجدة مؤلفة من ١٠٠٠٠ مقاتل شفعها بنجدة ثالثة من ٩٢ سفينة منها ٥١ سفينة حربية، وبمجرد وصولها أصدر السلطان إرادة شاهانية بتعيين إبراهيم باشا قائدًا عامًّا للأسطولين العثماني والمصري.
سار الجيش المصري تحت إمرة البطل إبراهيم باشا يعاونه سليمان بك (سليمان باشا الفرنساوي) وأحمد بك المانكلي، فأظهر من آيات البسالة والبطولة ما أدهش العالم، استولى على معظم المدن والثغور والقلاع التي عجز رشيد باشا قائد الجيش العثماني عن غزوها، ولولا تدخل الدول العظمى — إنجلترا وروسيا وفرنسا والنمسا — وتحطيمها الأسطولين المصري والعثماني في نافارين يوم ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٢٧، لتم لإبراهيم إخضاع بلاد المورة كلها. وكان من نتائج تدخل الدول وهياج الرأي العام في أوروبا أن اضطر محمد علي إلى إرجاع البقية الباقية من جيشه ومن أسطوله إلى مصر بعد أن خسر ٣٠٠٠٠ رجل وخسر نفقات الحملة وقدرها ٨٠٠٠٠٠ جنيه، وقد اشترك محمد علي بنفسه في هذه الحرب، إذ ركب ذات يوم سفينة حربية طارد بها سفن الثوار الذين حدثتهم نفوسهم بضرب الإسكندرية، ووصل في هذه المطاردة إلى جزيرة رودس.
وفي أبريل سنة ١٨٢٨ أعلنت الروسيا الحرب على الدولة العلية، فعاد السلطان واستنجد بمحمد علي للمرة السابعة وطلب منه إرسال أسطوله و٢٨٠٠٠ جندي.
عاد الوهابيون وشقوا عصا الطاعة، فاستنجد السلطان للمرة الثامنة بمحمد علي.
ولما ذاعت شهرة محمد علي وطبقت الآفاق، عرضت عليه فرنسا غزو بلاد الجزائر وضمها إلى ملكه، فاعتذر كي لا يثير غضب الباب العالي وإنجلترا عليه، فغزتها فرنسا في سنة ١٨٣٠، وضمتها إلى ملكها.
في مقابل كل هذه التضحيات الكثيرة التي ضحاها محمد علي لمساعدة السلطان في جزيرة العرب وفي رودس وفي قبرص وفي كريت وفي بلاد المورة وفي السودان وفي روسيا، وما خسره من رجال، وما أنفقه من مال، كان السلطان وعد محمد علي بالتنازل له عن بعض الولايات تعويضًا له عما خسر من مال ومن رجال، إلا أن السلطان وعد ولم يف.
أجاب والي عكا: «أنا وزير السلطان مثلك، ليس لي أن أمنع رعايا السلطان من الهجرة من مصر إلى سوريا، كما ليس لي أن أمنع هجرة رعاياه من سوريا إلى مصر، إن أردت فاستصدر فرمانًا من السلطان برد الفلاحين وأنا أردهم.» شكا محمد علي إلى السلطان، فأجابه السلطان: «إن الفلاحين المصريين هم عبيد بابنا العالي لا عبيد وزيري، لهم حرية الإقامة حيث شاءوا …»
وفي ١٣ نوفمبر احتلوا حيفا، وفيها وفد إليهم زعماء قبائل عرب نابلس وطبرية والقدس، وقدموا الطاعة.
وفي ١٤ أبريل سنة ١٨٣٢ انتصر المصريون في سهل «الزراعة».
ولما وصل خبر سقوط عكا إلى مصر، أمر محمد علي باشا بأن تقام الأفراح ثلاثة أيام كاملة، تطلق في خلالها مدافع القلاع والبنادر ثلاث مرات في كل يوم من الأيام الثلاثة، كما أمر بالعفو عن المسجونين والمنفيين وإطلاق سراحهم ليعم الفرح أهالي مصر قاطبة.
وفي ١٣ يونيو سنة ١٨٣٢ دخل المصريون دمشق، وقد اتخذها محمد علي مركزًا لحكومته، ولما أراد الباب العالي استطلاع نواياه أجاب بأنه يقبل ولايتَي عكا ودمشق (علاوة على مصر وجدة وكريت التي كان متوليًا عليها بالفعل في ذلك الوقت) في مقابل التضحيات الكبيرة التي ضحاها من رجال ومال في سبيل استرجاع الحرمين الشريفين وتأديب الوهابيين وإخضاع المورة وتسديد الجزية إلى السلطان طوال هذا الزمن المديد، وهدد بأخذها كرهًا إذا لم تعطَ له طوعًا.
وفي ٨ يوليو سنة ١٨٣٢ انتصر المصريون في حمص، وهذه الواقعة مشهورة بهزيمة الباشوات الثمانية؛ لأن القوات التركية كانت تحت قيادة ثمانية باشوات، وهم: محمد باشا والي حلب وهو سر عسكر، وعثمان باشا حاكم المعادن، وعثمان باشا والي القيسارية، وعلي باشا والي دمشق السابق، ومحمد باشا الكريدلي، ونجيب باشا، ودولار باشا، ومحمد باشا، والجنود النظاميون الذي كانوا تحت قيادتهم ١٠٤٧١، وقد دامت هذه المعركة ثلاث ساعات ونصف ساعة استبسل المصريون فيها لدرجة أدهشت الترك، ومن آيات البسالة التي أبداها المصريون أن أحد الخيالة واسمه منصور أصابته ضربة بترت ذراعه، ومع ذلك استمر يقاتل على رأس الخيالة وهو يقاسي لهاث الموت إلى أن استشهد في أثناء المعمعة، وقد بلغت خسارة المصريين ١٠٢ قتيل و١٦٢ جريحًا، أما العثمانيون فخسروا ٣٠٠٠ قتيل وجريح و٣٠٠٠ أسير و١٢ مدفعًا، وبعد المعركة دخل المصريون مدينة حمص وفيها أسروا ١٥٠٠ جندي وغنموا ١٤ مدفعًا.
وفي ١٠ يوليو سنة ١٨٣٢ استولوا على حماة.
وفي ١٤ يوليو سنة ١٨٣٢ دخلوا حلب وأسروا حاميتها وجنودها وعددهم ١٠٠٠.
تابع المصريون زحفهم والتقوا مرة أخرى بالعثمانيين في «أولو قشلة» فقاتلوهم ومزقوهم، ثم زحفوا إلى أن وصلوا إلى «إريكلي» فاحتلوها.
كان لهذه الانتصارات المتوالية دوي عظيم في الشرق وفي الغرب، وكان وقْعها أعظم وأكبر في الآستانة وفي جميع الولايات العثمانية — في آسيا وفي أوروبا وفي أفريقيا.
خاف السلطان على عرشه، فاستدعى رشيد محمد باشا الذي كان قائدًا عامًّا لجيوش تركيا في حرب المورة، واشتهر بانتصاره في ٦ مايو سنة ١٨٢٧ على الجيش اليوناني في أكبر معركة دارت بين العثمانيين واليونانيين على مقربة من أثينا عاصمة اليونان، وكانت له مواقف حربية عظيمة أخرى في ألبانيا وفي روسيا وخوله سلطة تامة مطلقة لتعبئة جيش كبير يكون كامل المعدات والآلات والمهمات. ولكي يثير حميته أسند إليه رتبة الصدارة العظمى، وولاه على مصر وجدة وكريت وعلى جميع الولايات والبلاد التي انتزعها منه محمد علي وإبراهيم بالقوة، واستثار حميته أكثر بأن قال له: إن كل ما ملك محمد علي وإبراهيم من مال ومتاع يكون لك.
وفي ٢١ ديسمبر سنة ١٨٣٢ هزموا الجيش العثماني في سهول قونية.
قبل اشتباك الجيشين أرسل الصدر الأعظم رشيد باشا إلى إبراهيم باشا يطلب منه إخلاء جميع الولايات السلطانية التي احتلها بالقوة، ويهدده بالحرب إذا امتنع، ولما لم يذعن إبراهيم باشا ثارت عجاجة الحرب، وتقدم الجيش العثماني لمقاتلة الجيش المصري. بدأت المعركة في ١٨ ديسمبر سنة ١٨٣٢ باشتباك قوة مصرية كان يقودها إبراهيم باشا نفسه بقوة تركية كانت مرابطة في بلدة سيلة غرب قونية (وعلى بُعد ساعة ونصف منها)، فانتصر إبراهيم باشا على العثمانيين، وغنم منهم ٥ مدافع وكمية كبيرة من الذخائر والمؤن، وأسر منهم ٥٠٠ مقاتل، ثم زحف واستولى على خان حصين سلمت حاميته فورًا، وكان من بين الأسرى سلحدار كريتلي أوغلو محمد (الذي شهد وقعة حمص). إزاء هذا النصر حضر إلى إبراهيم باشا ٦٠٠ من الجنود الأرناءوط، وسلموا أنفسهم، وطلبوا التطوع في جيشه، وفي ثاني يوم ٢١ ديسمبر — وكان يوم جمعة — التقى الجيشان وجهًا لوجه. كان الجيش المصري تحت قيادة إبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي وإبراهيم بك المناسترلي وأحمد بك مانكلي وأحمد بك إستامبولي، أما الجيش العثماني فكان تحت قيادة الصدر الأعظم نفسه يعاونه خير الدين باشا وسعد الله باشا، وقبل التحام الجيشين دعا الصدر الأعظم ضباطه، وحذرهم من التهاون، وهدد بإعدام من يهمل منهم في تأدية الواجب، ثم زاد فسمح لمن يأنس منه جبنًا أو ضعفًا أو تراخيًا أن يقتله بحد السيف، ثم استدعى كاخيته وسلمه أختام الدولة التي سلمها إليه السلطان بصفته صدرًا أعظم، وعين الجنرال أحمد فوزي باشا ليخلفه في قيادة الجيش إذا ما استشهد في أثناء الحرب.
نال الجيش المصري هذا النصر الباهر على الرغم من تفوق الجيش العثماني عُددًا وعَددًا؛ إذ إن عدد الجيش العثماني كان يزيد على عدد الجيش المصري ثلاث مرات، وعلى الرغم من أن العثمانيين كانوا يحاربون في داخل بلادهم والمصريين يحاربون على بُعد ألف كيلومتر من بلادهم، غزوات بعد غزوات بين شاتية في صبارة الشتاء وصائفة في حمارة القيظ والبلاد فوق كل هذا كثيرة الأمطار والأوحال والضباب والثلج، ومع ذلك كان المصريون يندفعون كالسيل العرم فتطير من أمامهم جحافل العدو كأسراب النعام، فكان إبراهيم والجندي المصري خوف الشعوب وهول الأقوام.
بعد هذا النصر فكر إبراهيم باشا في خلع السلطان محمود ونقل الخلافة من إستانبول إلى مصر، ومال بعض رجال السياسة في أوروبا في وقت من الأوقات (ومنهم سفير إنجلترا في الآستانة وقيصر روسيا وبعض وزرائه) إلى العمل برأيه، وأشاروا بوجوب خلع السلطان محمود ومبايعة محمد علي سلطانًا وخليفة، وتمنت ولايات عثمانية كثيرة لو أنها دخلت في طاعة محمد علي، ونعمت بحكمه.
وبعد إمضاء معاهدة كوتاهية أطلق محمد علي سراح عبد الله باشا والي عكا الذي كان أسيرًا في جزيرة الروضة بمصر، فبارح مصر في ٢٢ ديسمبر سنة ١٨٣٣ على باخرة من البواخر العثمانية التي أسرها المصريون في خلال الحرب قاصدًا الآستانة.
نُفذت معاهدة كوتاهية وانسلخت سوريا من حكم العثمانيين ودخلت في حكم المصريين، إلا أن السلطان أمضى معاهدة كوتاهية على كراهة منه، وقبِل التنازل لمحمد علي عن سوريا كرهًا عنه، وقبِل التنازل لإبراهيم عن ولاية أطنة قهرًا عنه. الرجل رجل ماكر حقود؛ تظاهر بالمسالمة، إلا أن حقيدته بقيت تتأجج في صدره، وحفيظته بقيت تلعب في عقله إلى أن أضمر على استعادة مصر وسوريا وطرد المصريين منها كلها، بدأ سرًّا بإثارة الفتن والقلاقل في البلاد التي احتلها محمد علي؛ ففي سنة ١٨٣٤ ثارت فلسطين واستفحلت الثورة لدرجة حملت محمد علي على السفر حالًا إليها على سفينة حربية مصرية اسمها «تمساح» يخفرها الأسطول المصري كله، فوصل إلى يافا ومنها قصد الرملة، وفي أثناء وجوده اجتمع بابنه الكبير إبراهيم وبكبار رجال الجيش المصري وساعدهم على إخماد الفتنة، وبعد أن خضع زعماء «الخليل» وهدأت الحالة نوعًا عاد إلى مصر، وفي سنة ١٨٣٦ ثار الدروز بزعامة شبلي العريان، وقاتلوا المصريين في الوديان وفي الجبال مدة سنتين، ولم يخضعوا إلا بعد أن شتت إبراهيم شملهم ومزقهم شر ممزق.
كان السلطان يراقب الحالة في سوريا وفي فلسطين من كثب، عرف أن محمد عليّ اضطر إلى حشد ٥٠٠٠٠ مقاتل لمحاربة الثوار في فلسطين وفي سوريا، وعرف أن المصريين خسروا ثلاثة أخماس جنودهم في المعارك التي اشتبكوا فيها مع الثوار مدة السنوات الأربع أو الخمس، فظن أن الفرصة قد سنحت لتمزيق معاهدة كوتاهية واسترداد مصر وفلسطين وسوريا وأطنة، وسنحت بالأكثر لمحو عار حمص وبيلان وقونية، ولكسر شوكة محمد علي وخلعه والانتقام منه.
وفي سنة ١٨٣٧ أمر السلطان بزيادة القوات العثمانية زيادة كبيرة، وعهد إلى حافظ باشا بحشدها في سيواس على مقربة من حدود سوريا.
عرف السلطان بنوايا محمد علي، فأمر في يناير سنة ١٨٣٩ بسرعة تجييش الجيوش والاستعداد للقتال برًّا وبحرًا، وجعل الجيش تحت إمرة محمد حافظ باشا سر عسكر، والأسطول تحت إمرة فوزي باشا أمير البحر.
كان طالع سنة ١٨٣٩ طالع نحس:
لأنه في ٢٦ يناير سنة ١٨٣٩ شب حريق هائل في سراي رءوف باشا أحد وزراء الدولة، ومنها اندلع اللهب إلى الباب العالي، فالتهمه كلَّه وتركه أثرًا بعد عين، وقُدِّرت الخسارة بمبلغ ٦٠٠٠٠٠ جنيه.
ومما زاد السلطان أسفًا على أسف وقلقًا على قلق أن النار التهمت صورة السلطان نفسه، ولم تُبقِ منها شيئًا ولم تذر.
وحدث أن سقط السلطان عن جواده وأصيب برضوض أقعدته عن الحركة فترة من الزمان.
وأول عمل عدائي وقع من القوات العثمانية وقع في يوم مولد النبي فبدلًا من إطلاق المدافع ابتهاجًا واستبشارًا بالسلام، جاء إطلاق المدافع إيذانًا بالحرب والقتال، بين محمود ومحمد، بين حافظ وإبراهيم، بين جيشين تسعة أعشار الجند فيهما من المسلمين.
ولما أراد الأسطول التركي المعقود لواؤه لعثمان بك رياله السفر إلى البحر الأبيض المتوسط لمنازلة الأسطول المصري، قال العلماء والمنجمون للسلطان: إنه إذا سافر الأسطول في الدقيقة السابعة بعد الساعة التاسعة كتب الله له النصر. ولما تحرك الأسطول في الدقيقة السابعة بعد الساعة التاسعة — كما قال العلماء والمنجمون — اصطدمت سفينة من سفنه أمام قيزقوله سي (في البوسفور) بفرطاقة إيطالية اسمها جلوريا، فتعطلت وعطلت الأسطول.
أما الجيش المصري فكان تحت قيادة إبراهيم باشا يعاونه سليمان باشا الفرنساوي، وأحمد باشا المانكلي، وأحمد باشا الدرملي، وعباس باشا «ابن طوسون بن محمد علي باشا»، وسليم بك الحجازي، ومحمد معجون بك، وغيرهم وغيرهم من الأبطال، وكان سليمان باشا الفرنساوي يقول لإبراهيم باشا: «يا مولاي، الواقعة المقبلة ستكون معركة فاصلة، إما أن نذهب نحن إلى إستانبول، وإما أن يذهبوا هم إلى القاهرة.»
وفي شهر أبريل حرض محمد حافظ الكرد على غزو سهول «كليس» ونهب «بولانيك»، وكانت خيول المدفعية المصرية ترعى في سهولها، فسَطوا عليها ونهبوا منها ١١٠٠ رأس.
وفي ٢٤ مايو تقدمت القوات العثمانية واحتلت أورول ومزار و١٤ بلدة في المركز نفسه، وليضمن السلطان النصر زود حافظ باشا بأموال طائلة وبهدايا فاخرة؛ ليغري بها زعماء القبائل ورؤساء العائلات وذوي النفوذ والجاه على شق عصا الطاعة على إبراهيم باشا، وخصص جوائز مالية كبيرة لكل من يأتي له بثلاثة من الفرسان الهنادي أسرى أو قتلى، وهدد بإعدام كل شخص (رجلًا أو امرأة أو طفلًا) يمالئ المصريين على العثمانيين.
وحدث أن وقع فرجاني شيخ عرب الهنادي مع سبعين من رجاله أسرى في أيدي العثمانيين في تل باشر، فاستدعاه حافظ باشا وسأله رأيه في الجيشين وفيمن تكون له الغلبة، فأجابه فرجاني (بعد أن أمنه حافظ باشا على حياته إذا أجاب بكل صراحة): إن جيشك جيش حجاج وتجار وعلماء ومشايخ، لا دربة لهم ولا حنكة ولا نظام، أما جيش إبراهيم فجيش جنود مدربين مزودين بالذخائر ومدججين بالأسلحة لا يعرفون غير الطاعة والنظام. بَرَّ حافظ باشا بوعده واحتفظ بفرجاني وحده أسيرًا، وأرسل رفاقه الهنادي السبعين إلى إستانبول، والسلطان أمر بضرب أعناقهم جميعًا. أما فرجاني فتمكن في ليل حالك من الهرب من معسكر حافظ باشا، وعاد إلى معسكر إبراهيم باشا.
استمرت المناوشات إلى آخر الأسبوع الأول من شهر يونيو سنة ١٨٣٩.
-
في ٧ يونيو عقد السلطان في إستانبول مجلسًا ضم الوزراء والعلماء والكبراء، وفيه قرروا بالإجماع اعتبار محمد علي متمردًا على السلطان، وواجب السلطنة يقضي بتأديبه وإبادته هو وذريته.٢٩ لم يشهروا الحرب عليه بناء على أنه تابع للسلطان، وغاية ما في الأمر أنه تابع خرج على طاعة سيده ومولاه.
-
وفي ٨ يونيو أرسل إبراهيم باشا إلى حافظ باشا كتابًا — ندب قومندان المدفعية محمود حاذق بك لتسليمه له — ذكر له فيه عدوان سليمان باشا والي مرعش على القوة المصرية المرابطة في بولانيك. وذهاب قوة من الكرد إلى باياس لإثارة الأهالي على المصريين، وذهاب الحاج عمر أوغلو إلى كردطاغ لبَثِّ الفتن والاضطرابات، وهجوم العثمانيين على الهنادي داخل الأراضي التابعة لحكومة محمد علي، وتوزيع الأسلحة على أهالي ولاية عينتاب، ودخول سليمان باشا والي مرعش فيها ورفضه الخروج منها، وإقدام حافظ باشا على إطلاق مدافعه على الهنادي الآمنين في مرابطهم، وطلب منه ردًّا وافيًا لتبرير هذه الاعتداءات، وأفهمه أن سكوته على هذه الاعتداءات ليس عن جبن أو ضعف، وإنما عملًا برغبة مولاه السلطان ورغبة الدول في اجتناب الحرب، أما إذا كان حافظ باشا عمل ما عمل تنفيذًا لأوامر صدرت إليه فليتقدم إلى ميدان القتال بلا مواربة ولا رياء؛ لأن أمامه رجالًا ذوي بأس ومران أثبت ماضيهم أنهم لا يهابون أحدًا.
-
وفي ٩ يونيو ورد رد حافظ باشا وفيه يتهم الفرسان الهنادي برياسة معجون بك بنهب عدة بلاد من ولاية أورفا، وبقتل أحد الجنود العثمانيين ظلمًا وعدوانًا، وأن ما فعله العثمانيون كان ردًّا على ما فعله المصريون وأخذًا بالثأر.
بدأ القتال فاستولى العثمانيون على عينتاب، استولوا عليها لا على أثر معركة انتصروا فيها بل على أثر إغراء وإغواء الحامية التي سلمت بلا نزال ولا قتال.
لم يرَ المصريون بدًّا من مقابلة العدوان بمثله، فتقدموا في يوم ٢٠ يونيو، وطردوا العثمانيين من بلدة مزار بعد أن ضربوا القوة العثمانية بالمدافع المصرية ضربًا محكمًا ولَّى العثمانيون بعده الأدبار وغنم المصريون ذخائر ومؤنًا ومهمات كثيرة جدًّا، ووقعت خزانة القائد في أيديهم، وكان بين الترك أربعة وزراء.
رأى إبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي أن العثمانيين قد حصَّنوا مواقعَهم تحصينًا محكمًا يدل على أن العقول التي تولت هذا التحصين ليست عقولًا عثمانية بل عقولًا ألمانية، فقرَّ رأيَهما على استدراج الترك إلى السهول، ولكن استدراج الترك من المواقع الحصينة التي هم فيها يقتضي عمل حركة التفاف في غاية الخطر، إذا أدرك العثمانيون خطرها هلك الجيش المصري على بكرة أبيه، وإذا لم يدركوه فالنصر مكفول للمصريين حتمًا، جرت حركة الالتفاف بالليل كي لا يشعر بها العثمانيون ولا يدركوا مغزاها.
وفي يوم ٢٢ يونيو عبروا كوبري نهر مزار، ولما أتموا حركة الالتفاف أشار الضباط الألمان على العثمانيين بالتقهقر إلى بلدة «بير» تفاديًا من وقوعهم في الشَّرَك، إلا أنهم وجدوا معارضة من حافظ باشا الذي أجابهم: «ماذا يقول التاريخ عني إذا تقهقرت؟» وما درى أن التقهقر قد يكون من الخطط الحربية السليمة، وانحاز العلماء إلى رأيه، وقالوا: «إن العثمانيين لا يولُّون الأدبار أبدًا. يشهد التاريخ بأنهم يتقدمون دائمًا ولا يتقهقرون. النصر بيد الله يؤتيهِ من يشاء.» استشاط الضباط الألمان غضبًا وقدموا استقالتهم، إلا أن حافظ باشا رفض الاستقالة، وأفهمهم بأن الجندي لا يفر من ميدان القتال ليلة الطِّعان والنِّزال.
قضى العثمانيون يوم ٢٣ يونيو في تحصين مواقعهم الجديدة.
وفي غروب هذا اليوم دعا إبراهيم باشا ضباط الجيش المصري وقام في وسطهم خطيبًا ذاكرًا ما ناله الجيش المصري من الشهرة في أنحاء العالم بفتوحاته وغزواته وانتصاراته العديدة، ثم لفت أنظارهم إلى أن يوم الغد — ٢٤ يونيو سنة ١٨٣٩ — هو يوم فصل الخطاب، إما النصر والمجد والفخار أو الموت والعار والشنار. وبعدما بارح الضباط خيمة إبراهيم باشا دعاهم سليمان باشا الفرنساوي إلى خيمته، وبعد أن زودهم بالتعليمات الواجب مراعاتها قال لهم: «إلى اللقاء في الغد الساعة الثالثة بعد الظهر في خيمة حافظ باشا، أدعوكم من الآن لنتناول فيها القهوة معًا.»
وبين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة ليلًا فكَّر حافظ باشا في مباغتة الجيش المصري، وأخذِه على غِرَّة، فسار في الليل، واستطلع مواقع الجيش المصري، ثم أمر بإطلاق المدافع في الحال، وكانت المدافع تصوِّب قنابلها على خيمة إبراهيم باشا وخيمة سليمان باشا الفرنساوي اللتين كان ضباط أركان حرب حافظ باشا استكشفوا موقعهما في عصاري ذلك اليوم.
استيقظ المصريون فجأة فاختل نظامُهم، وتمكنت بعض الكتائب — التي جندها إبراهيم باشا من السوريين — من الهروب، وكان من فكر حافظ باشا أن يستمر في القتال، إلا أن العلماء عارضوه؛ بدعوى أنه لا يليق بجنود أمير المؤمنين أن يتشبهوا باللصوص، ويقاتلوا في ظلمات الليل. وسرعان ما انتهزت المدفعية المصرية الفرصة السانحة، وصبت نارًا حامية على بطاريات العثمانيين فأسكتتها وحطمتها.
الجيش العثماني كان مؤلَّفًا من ٣٨٠٠٠ مقاتل، منهم ٥٠٠٠ من الفرسان و٣٠٠٠ من رجال المدفعية مزودين بمائة وأربعين مدفعًا، والجيش المصري كان مؤلفًا من ٤٠٠٠٠ بما فيهم ٢٠٠٠ من الهنادي، وكان مزودًا بمائة وعشرين مدفعًا. تكافؤ في القوة العَددية والعُددية، إِلا أن الجيش المصري كان يمتاز بالقوة المعنوية، وهي أقوى من القوى العَددية ومن القوى العُددية؛ لأن الجنود المصريين مارسوا مهنة الحرب والقتال في عكا وفي حمص وفي بيلان وفي قونية، وانتصاراتهم المتوالية دبَّت في نفوسهم الإيمان بالنصر، والثقة بقائدهم الأكبر إبراهيم باشا، وبرئيس أركان حربه سليمان باشا الفرنساوي، وبأحمد باشا المانكلي وزير الجهادية، وأحمد باشا الدرملي وسليم بك ووالي بك ومصطفى بك وأحمد بك وعلي بك وجعفر بك. وكانوا فوق هذا وذاك متجانسين تجمعهم رابطة الوحدة المصرية. أما العثمانيون فكانوا أخلاطًا من الترك والكرد والأرمن واليهود والصرب والبلغار والأروام، وكان قوادهم متحاسدين متباغضين متخاذلين، كلٌّ يسعى إلى الإيقاع بالآخر، وليست لهم ثقة برئيسهم الأعلى حافظ باشا.
وقد طيَّر إبراهيم باشا نبأ هذا النصر العظيم إلى جميع الحكام، وها نص ما كتبه إلى والي حلب: «أُخبركم بأني هجمت على الجيش العثماني في «نزيب»، وفي أقل من ساعتين استوليت على مدفعيته وعلى ذخائره وعلى مُؤَنِه، وقد خضع الجيش كلُّه، وأنا سأتابع سيري ولا أقف إلا عند قونية، أما أنتم فأقيموا الأفراح، وبلغوا هذا النبأ السار إلى جميع الجهات.»
وفي الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم ٤ يوليو، ورد لمحمد علي باشا تلغراف من حفيده عباس باشا يبلغه انتصار إبراهيم باشا بالنص الآتي: «بعد ساعتين قتال مع جيش السلطان استولى إبراهيم باشا على جميع مدافع وخيم ومهمات الجيش العثماني.»
وفي مساء اليوم نفسه وردت خطابات ابنه إبراهيم باشا مفصلة الانتصار العظيم الذي أحرز الجيش المصري، فتلاها محمد علي على قناصل الدول الذين كانوا ماثلين أمامه، وقال لهم: «ها هو الجيش الذي أعده السلطان لطردي من مصر.» وها نص الخطاب الذي أرسله إبراهيم باشا إلى علي برهان بك كاخيته وخازنداره في مصر، وفيه يبشِّره بالنصر العظيم الذي أحرزه: «أبشرك بأننا استولينا على معسكر جيش السلطان، بعد ساعتين قتال حطَّمنا الجيش كلَّه، واستولينا على مَدافعِه وبنادقِه وخِيمِه، ووقعت جميع مهماتِه في أيدينا، وقد مزقناه شر ممزق، وكان لمدفعيتنا فضلٌ كبير في إحراز هذا النصر، وإني أشعر بعد هذا النصر بأني قد عُدت شابًّا في سن الخامسة عشرة، وقد كتبت إليك هذه الكلمات وأنا في خيمة حافظ باشا سر عسكر الجيش العثماني، وقد وجدتها كما تركها حافظ باشا تمامًا.» وقد أمر محمد علي باشا بإقامة الأفراح احتفالًا بهذا النصر العظيم مدة ثلاثة أيام كاملة، فيها أَطلقت جميعُ القلاع وجميعُ سفن الأسطول مدافعَها ابتهاجًا بهذا الحادث العظيم.
مات السلطان محمود فتولى السلطنة من بعده ابنُه السلطان عبد المجيد، وكان عمره ١٧ سنة (ولد في إستانبول يوم ١٩ أبريل سنة ١٨٢٢ الموافق ١١ شعبان سنة ١٢٣٨، وهو ابن السلطان محمود الحادي والعشرون!)
أول عمل عمله السلطان الجديد كان إصداره أمرًا بتعيين خسرو باشا صدرًا أعظم، وخسرو هذا هو ألد أعداء محمد علي، هو الذي كان واليًا على مصر وطرده محمد علي، ولما فر إلى دمياط اقتفى محمد علي أثره وهزمه وأسَرَه في سنة ١٨٠٣، وحلَّ محلَّه في الولاية على مصر. إذن كان بين خسرو باشا ومحمد علي باشا ثأرٌ منيم، فأول عمل عمله خسرو ليثأر من عدوه كان استصدار فرمان من السلطان الشاب بخلع محمد علي وتعيين عزت باشا السر عسكر واليًا على مصر. ولكن هذا الفرمان بقي حبرًا على ورق.
وقد بقي الأسطول العثماني رابضًا في ثغر الإسكندرية مع الأسطول المصري إلى أن تم الصلح بين السلطان ومحمد علي. فأقلع في يوم ٢٣ يناير سنة ١٨٤١ بقيادة ياور باشا، ووصل إلى إستانبول يوم ١٦ مارس بعد أن بقي في حوزة محمد علي سنة ونصفًا.
ورأيه هذا يطابق آراء جميع رجال الحرب.
أما الناحيتان السياسية والأدبية فتدل عليهما الاستقبالات الفخمة والحفاوة العظيمة، التي استقبل بها سلطان تركيا وملوك أوروبا وكبار رجال السياسة فيها محمد علي باشا وإبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي، عندما سافروا إلى تركيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، وغيرها من البلاد في خلال سني ١٨٤٥ و١٨٤٦ و١٨٤٧ و١٨٤٨.
في أغسطس سنة ١٨٤٦ سافر محمد علي باشا إلى إستانبول، فاستقبله السلطان استقبالًا فخمًا جدًّا. حسبك أن تعرف أن نفقات رحلة محمد علي باشا في إستانبول بلغت ٢٥٠٠٠٠جنيه، أصاب الصدر الأعظم خسرو باشا منها ٥٠٠٠ جنيه، وقبل أن يعود إلى مصر عرَّج على «قولة» مسقط رأسه حيث زار قبر والديه، واستقبل أهله وإخوانه، وفيها أنشأ مدرسة وتكية.
ولما مرض محمد علي باشا، وأصبح عاجزًا عن تولي سلطة الحكم في مصر، أصدر السلطان فرمانًا بتولية ابنه إبراهيم باشا على مصر، وأرسل الفرمان إلى مصر مع مظلوم بك أحد رجال المابين، وبعد أن حضر مظلوم بك، وتلا الفرمان أمام أعضاء العائلة وأمام كبراء وعظماء الدولة، سافر معه إبراهيم باشا إلى إستانبول، فوصل إليها في ٢٤ أغسطس سنة ١٨٤٨، فاستقبله السلطان استقبالًا فخمًا، وأنزله في السراي السلطانية في الجناح الذي نزل فيه والده من قبل. ولما مَثَل أمام السلطان سلَّمه البراءة، وقلَّده نيشانًا رفيع الشأن مثل النيشان الذي ينعم به عادة على الصدور العظام، وأهدى إليه صورته مرصعة بالأحجار الكريمة، وبعد أن تمت الزيارة عاد إبراهيم باشا إلى مصر على ظهر الباخرة المصرية «بني سويف»، فوصل إلى ثغر الإسكندرية يوم ٩ سبتمبر سنة ١٨٤٨.
وفي ١١ فبراير سنة ١٨٤٨ سافر محمد علي باشا إلى أوروبا مع طبيبه الخاص كلوت بك المشهور، فوصل إلى مالطة، وفيها استقبلته الحكومة الإنجليزية استقبال الملوك، ومنها سافر محمد علي باشا إلى نابولي في إيطاليا؛ ليزور ابنه المريض إبراهيم باشا، وفي نابولي بلغه نبأُ الثورة التي شبَّت في فرنسا، وانتهت بخلع صديقه لويس فيليب ملك فرنسا، فغضب محمد علي باشا غضبًا شديدًا، وهاجت أعصابُه هيجانًا كبيرًا، وعرض أن يسافر بجيشه وبأسطوله ليعيد ملك فرنسا إلى عرشه، وفي ٢٧ مارس سنة ١٨٤٨ أبحر إلى مصر حيث لحق به إبراهيم باشا بعد بضعة أيام.
وإبراهيم باشا سافر إلى أوروبا مرتين:
إلى بطل قونية ونزيب.
ومعناها: «لم ترَ أوروبا جنديًّا أشجع منه، ولا أكرم منه، خُلق للنصر والنصر خُلق له، إذا فتحتَ أمامه بلادَ الدنيا غزاها من أولها إلى آخرها.» ثم زار قبر نابليون في الإنفاليد، وقد استقبله في مدخل الإنفاليد ٢٠٠٠ جندي من الجنود الذين شهدوا حروب نابليون في إيطاليا وفي إسبانيا وفي ألمانيا وفي النمسا وفي الروسيا، وكان معه سليمان باشا الفرنساوي، فلما وقع نظر سليمان باشا على قبر نابليون سيده ومولاه أجهش بالبكاء وكاد يغمى عليه، ولزيادة الحفاوة بإبراهيم باشا ضربت الحكومة الفرنساوية «مدالية» نُقشت عليها صورة محمد علي باشا، وكتبت عليها: «محمد علي محيي مصر»، ولما بارح إبراهيم باشا باريس سلم محافظ المدينة ٥٠٠ جنيه ليوزعها على الفقراء.
وبعدما أبحر من إنجلترا مرَّ على البرتغال، ونزل في عاصمتها لشبونة، وعند نزوله بها علم أن الملكة وضعت ولدًا، فذهب في الحال إلى الكنيسة، وحضر الصلاة التي كانت قائمة شكرًا لله، ومن لشبونة أبحر إلى قادس في إسبانيا، ومنها إلى جبل طارق، ثم إلى مالطة، ووصل إلى الإسكندرية يوم ٥ أغسطس.
أما سليمان باشا الفرنساوي فاعتذر عن السفر مع إبراهيم باشا إلى إنجلترا، وسافر في رحلة خاصة إلى بلجيكا وهولندا، وانتهز الفرصة فذهب إلى مدينة ليون مسقط رأسه، حيث اجتمع بأهله وأقام عندهم مدة طويلة بعد أن غاب عنهم وعن فرنسا ٢٧ سنة.
والمرة الثانية التي سافر فيها إبراهيم إلى أوروبا كانت للمعالجة. سافر يوم ٩ أكتوبر سنة ١٨٤٧، ووصل إلى مالطة، ومنها سافر إلى إيطاليا، وفيها زار مدينة بيزا، ثم مدينة فلورنسا، واستقر به النوى في مدينة نابولي، حيث قضى فصل الشتاء، وفيها لحق به والده الذي كان أبحر من ثغر الإسكندرية في شهر فبراير سنة ١٨٤٨ للمعالجة هو أيضًا.
تلك آيات مجد وفخار كتبها الجندي المصري في سجل التاريخ بحد سيفه البتار، يجب على المصريين كافة أن يعرفوها؛ لأن من عرَف بلادَه أحبَّها.
كلمة لمحمد علي باشا
ليس لكم يا أولادي وطنٌ غير مصر، فإن لم تسلكوا سبيلي وتتبعوا خطواتي، فلا عزَّ لكم ولا عَلاء، وأنا منكم بريء …
أسكنه الله جنة الخلد، وأنزل عليه صيُّوبًا من رحمته.
هوامش
ومذبحة سنة ١٥١٤ التي فتك فيها السلطان سليم بأربعين ألفًا من أهل الشيعة، اعتمادًا على فتوى من شيخ الإسلام بالآستانة، زعم فيها بأن من قتل شيعيًّا واحدًا كان أجره عند الله يعادل أجر من قتل سبعين كافرًا.
ومذبحة السترليتز Strelits التي أمر بها بطرس الأكبر قيصر روسيا في سنة ١٧٠٥، وفيها فتك باثني عشر ألفًا.
والمذبحة التي دبرها إبراهيم بك وإسماعيل بك رضوان كاخية الإنكشارية والعزب إذ فتكا في سنة ١٧٤٣ بأعدائهما في (القلعة) قبل تاريخ مذبحة المماليك في (القلعة) بثماني وستين سنة.
ومذبحة الإنكشارية في ١٦ يونيو ١٨٣٦ بأمر السلطان محمود الثاني، ويروي المؤرخون أن عدد الإنكشارية الذين قُتلوا في إستامبول وفي داخلية البلاد بلغ ٤٠٠٠٠.
وجميع هذه الحوادث اقتضتها المحافظة على سلامة الدولة.
وعن حسن الإدارة المصرية في سوريا يقول مستر باتون Paton:
وقد احتفل المغفور له الملك فؤاد يوم ٢٧ مايو سنة ١٩٣٢ بالذكرى المئوية لسقوط عكا، وانتصار جده البطل إبراهيم باشا، احتفالًا فخمًا دعا إليه الأمراء والوزراء والكبراء والعلماء، وخطب فيه رئيس الوزراء حضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا خطبة بليغة، أشاد فيها ببسالة الجندي المصري، وتلاه وزير الحربية سعادة علي باشا جمال الدين ووضع على قاعدة تمثال إبراهيم باشا إكليلًا جميلًا من زهور القرنفل البيضاء على شكل دائرتين في أرضية من أوراق الزهور الخضراء، وفي وسط الإكليل شريط طرز عليه — بواسطة مصنع الكسوة الشريفة — العبارة التالية بخط فارسي جميل: «إلى البطل الفاتح العظيم إبراهيم باشا من الجيش المصري تمجيدًا للذكرى المئوية لفتح عكا»، وأرَّخوها بيوم الاحتفال ٢٧ مايو سنة ١٩٣٢، وزين الميدان بالأعلام والأنوار، كما أقام أصحاب المتاجر الموجودة متاجرهم بالميدان زينات بديعة، وفي المساء بدا الميدان في حلة باهرة من الأنوار، ولبثت موسيقى الجيش تصدح إلى ساعة متأخرة من الليل، ولتخليد ذكرى هذا اليوم غيروا اسم ميدان الأوبرا، وسموه ميدان إبراهيم باشا، كما غيروا اسم شارع نوبار وشارع كامل باسم شارع إبراهيم باشا.
وعلاوة على حصار عكا بجنود بونابرت في سنة ١٧٩٩ وحصارها بجنود محمد علي في سنتي ١٨٣١ و١٨٣٢، فإن السلطان محمود كان أراد الاقتصاص من عبد الله والي عكا، فأمر والي دمشق ووالي حلب ووالي أطنة بمحاربة والي عكا، فحاصروه في سنة ١٨٢٣ مدة تسعة أشهر، ولكنهم لم يفوزوا بالاستيلاء على عكا.
ومن المصادفات الغريبة أن خيمة إبراهيم باشا نصبت في المكان الذي نصبت فيه خيمة بونابرت من قبل باثنتين وثلاثين سنة. كما أنه من المصادفات أنه كان بين الأشخاص الذين وقعوا أسرى مع عبد الله والي عكا خورشيد بك الذي اشترك مع أحمد باشا الجزار في الدفاع عن عكا عندما حاصرها نابليون، ثم اشترك مع عبد الله والي عكا عندما حاصرها إبراهيم باشا. وفق في الحصار الأول وخاب في الحصار الثاني.
وعكا حوصرت أيضًا من قبل، حاصرها فيليب أوجست ملك فرنسا وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا في زمن الحرب الصليبية الثالثة، ودام حصارها سنتين كاملتين، ثم استولى عليها ريتشارد في سنة ١١٩١.
والإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي الكبير وفي عهد علي بك الكبير لها سوابق في تاريخ مصر:
ففي عهد الأسرة الثامنة عشرة من أسر الفراعنة غزا تحتمس الثالث فرعون مصر بلاد فلسطين، واستولى على رفح وغزة ويافا وجبل الكرمل وحيفا ومجدلة، وغزا سوريا ولبنان والعراق، وكان سلطانه يمتد من نهر دجلة إلى أقاصي بلاد أثيوبيا. بلغت غزواته ١٤ عدًّا وفي مدة حكمه بلغت مصر ذروة المجد والسلطان؛ ولذا سماه المؤرخون تحوتمس الكبير (كما سموا علي بك بالكبير ومحمد علي باشا بالكبير)؛ لكثرة فتوحاته وسعة سلطانه، وقد عثروا في خلال سنة ١٨٩٨ على تابوت هذا الفرعون الكبير في وادي الملوك، ووجدوا مومياءه في الدير البحري.
وسيتي الأول أحد فراعنة العائلة التاسعة عشرة الذي عاش في سنة ١٢٩٠ قبل ميلاد المسيح ضم إلى مصر بلاد النوبة وسوريا ولبنان وبلاد الأناضول.
ومثله ابنه رمسيس الثاني المعروف بسيزوستريس قد بسط سلطانه على إمبراطورية واسعة الأرجاء، امتدت من أقصى حدود سوريا شمالًا إلى أقصى بلاد النوبة جنوبًا.
وقد بلغت شهرة مصر وعظمة الفراعنة حدًّا كان أعظم الناس من الأسر الكبيرة في بلاد اليونان يسمون أولادهم بأسماء مصرية. خذ مثلًا برياندر Périandre، حاكم كورنته، فإنه سمى ابنه وولي عهده باسم بساماتيك (اسم فرعون مصر).
وفي زمن البطالسة وفي عهد كليوباترا ملكة مصر كانت الإمبراطورية المصرية تشمل بلاد العرب وليبيا وفلسطين وسوريا وكليكيا وجزائر قبرص وكريت ورودس.
ومعاوية بن أبي سفيان استولى على قبرص، ووصلت فتوحاته إلى أسوار مدينة القسطنطينية التي حاول فتحها ولم يوفق.
وأحمد بن طولون استولى على فلسطين وسوريا واحتل عكا ودمشق وحلب وحماة وأنطاكية.
والمعز لدين الله الفاطمي مد سلطانه على شمال أفريقيا، وضم إلى ملكه جزيرة سردينيا وجزيرة صقلية.
وصلاح الدين الأيوبي سلطان مصر استولى على حيفا ويافا وصيدا وبيروت وعسقلان والقدس وحماة وبعلبك وحمص وحلب، وبسط سلطانه على العراق، حتى وصل إلى الموصل وحاصرها.
والظاهر بيبرس البندقداري بسط سلطانه على فلسطين (وقد حاصر عكا أيضًا) وسوريا وبغداد وبرقة وبلاد النوبة.
والملك الأشرف بسط سلطانه على فلسطين وسوريا وأرمينيا وحاصر أرضروم واستولى عليها.
والملك المؤيد مد سلطانه حتى قونية (استولى عليها ابنه إبراهيم) في قلب الأناضول.
والسلطان برسباي استولى على جدة ومد سلطانه على شواطئ البحر الأحمر، ثم أرسل ثلاثة أساطيل للاستيلاء على قبرص، فانتصر في ليماسول Limassol ولارناكا Larnaca وفاماجوستا Famagousta وهيروسيتيوم Herocitium ونيكوسيا Nicosia وأسر الملك جان دي لوزنيان، وأسر معه ٢٠٠٠ من رجاله.
وقايتباي أعد جيشًا بقيادة الأمير أزبك لغزو بلاد الأناضول، واستولى على طرسوس وأطنة، وأخضع قبرص، وفرض الجزية عليها.
فالجندي المصري كان من قديم الزمان مشهورًا بالقوة والبسالة، إذا ما قاده رجال حرب ذوو دربة وحنكة وخبرة، كان من خيرة جنود العالم، وقد ظهرت بسالة الجندي المصري في معارك أخرى مثل معارك المكسيك (في أواخر سنة ١٨٦٢ طلب نابيلون الثالث من سعيد باشا نجدة تعاون الجيش الفرنساوي الذي أرسل لتأييد الإمبراطور مكسيمليان على عرش بلاد المكسيك، فأرسل إليه أورطة من ألاي المشاة التاسع عشر اشتركت في حرب المكسيك من عام ١٨٦٣ إلى عام ١٨٦٧، وقد أبلت بلاء حسنًا أدهش كبار الضباط الفرنساويين، وحسبك أن تعرف أن هذه الأورطة خاضت في عام واحد وهو عام ١٨٦٤ غمار إحدى عشرة معركة)، ومعارك حرب القرم (بين روسيا وتركيا) في سنة ١٨٥٤، عندما أرسل عباس باشا والي مصر ٢٠٠٠٠ جندي؛ لمعاونة جيش السلطان، فإن المصريين أظهروا من البسالة والإقدام ما أدهش رجال الحرب في أوروبا. كتب مؤرخ فرنساوي حكاية عن بسالة الجندي المصري في هذه الحرب: