تخليد ذكرى نزيب
ألا يحسن لمناسبة حلول الذكرى المئوية لواقعة نزيب في ٢٤ يونيو القادم — أن يُقام في أحد ميادين القاهرة الفسيحة نصبٌ كبير تُوقد بين جوانبه شعلةٌ ملتهبة لا تنطفئ؛ تخليدًا للجنود المصريين البواسل الذين استشهدوا في ساحة الحروب العظيمة التي أبلوا فيها أحسن البلاء مع البطل إبراهيم باشا، وكتبوا لمصر فيها صفحات مجد وفخار سجلها لهم التاريخ بسطور من ذهب.
قدَّر الناسُ من قديم الزمان للذين يسقطون في ميادين القتال، دفاعًا عن أوطانهم، ما يبذلون من جهد وعناء وحياة، فأقاموا في عواصم بلادهم أقواسَ نصرٍ بديعة تكون ذكرى لهم وعبرة لغيرهم وموعظة لأولادهم.
ففي روما نرى حتى اليوم أقواس النصر التي أقامها دروسوس وتيتوس وسبتيموس ساويروس وجاليان وقسطنطين تخليدًا لذكراهم وذكرى الأبطال الذين اشتركوا معهم في معاركهم وفي النصر الذي حازوه معهم.
ولعل أجمل هذه الأقواس وأبدعها ذلك الذي أقيم في قلب باريس وفي وسط ميدان الإِتوال. أمر بإقامته نابليون الأول على أثر النصر الباهر الذي أحرزه في موقعه إسترلتز في ٢٢ فبراير سنة ١٨٠٦. وقد عُهد تصميمُه إلى المهندس شالجرين، وافتُتح رسميًّا في ١٩ يوليو سنة ١٨٣٦، ويناهز ارتفاعُه الخمسين مترًا وعرضه ٤٥ مترًا وسُمْكه ٢٢ مترًا. وعلى كل جانب من جوانب القوس نحتَ أكبرُ المثَّالين والنحاتين — مثل برادييه ورود وكورتو — رسوماتٍ ونقوشات رائعةً، وقد زُيِّن هذا القوسُ بأسماء ٣٨٦ من كبار القواد الذين اشتهروا في حروب نابليون. وبعد انتهاء الحرب الكبرى الأخيرة دفنوا تحت القوس رفات جندي فرنسي مجهول استشهد في ميدان القتال في سبيل الدفاع عن وطنه، وقد نُقلت رُفاتُه بموكب رسمي في يوم ١١ نوفمبر سنة ١٩٢٠.
وهذه مائة عام تمرُّ على أكبر موقعة حربية وأكبرِ نصرٍ أحرزه الجيشُ المصري في خلال القرن التاسعَ عشرَ، ومع ذلك نرى عاصمةَ مصر خالية من أي أثر يُحيى ذكرى جنود محمد علي وإبراهيم. وهل أقل من أن نُقيمَ لهم في حاضرة الدولة قوسَ نصرٍ يتناسب مع الذكرى المئوية لانتصاراتهم؟! فلتأمرِ الحكومةُ بإقامة هذا القوس، وليُنقَشْ على جوانبه أسماءُ كبارِ قواد الحملات، وعلى رأسهم الأبطالُ المغاوير: إبراهيم وطوسون وإسماعيل وسليمان باشا — أجداد حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول — والأمير حسن باشا، وإبراهيم يكن باشا، وسليم فتحي باشا، وشاهين باشا، وراتب باشا، وراشد حسني باشا، وأحمد باشا المانكلي، وأحمد باشا إستانبولي، وأحمد باشا الدرملي، ومصطفى مطوش باشا، وحسن باشا الإسكندراني، ومصطفى باشا العرب، وخورشيد طاهر باشا، ومحمد بك الدفتردار، ومحمد بك معجون، وجير الله محمد، ومحمد الماس باشا، وغيرهم من الأبطال الصناديد، ولتنقش أسماء المواقع الحربية التي استبسل فيها الجندي المصري في السودان، وفي بلاد العرب، وفي الأناضول، وفي كريت، وفي رودس، وفي قبرص، وفي المورة، وفي المكسيك، مثل عكا وحمص وحماة وبيلان وقونية وكوتاهية ونزيب ومسيولونجي. ولتضيءَ شعلة أبدية قبر جندي مصري مجهول رمزًا لبطولته وشجاعته وبسالته، واعترافًا من بني وطنه بما قاسى وبما ضحَّى. وإذا كانت الحكومة لا تفكر في إقامة قوس نصر لهؤلاء الأبطال، فليكتتب المصريون بمبلغ لإقامة هذا القوس. وها أنا أتقدم وأفتتح باب الاكتتاب بخمسة جنيهات.
أمام هذا النصب التذكاري ستمر الأجيال تلو الأجيال، ويقف المصريون خاشعين يترحمون على الدماء الطاهرة التي أُريقت في سبيل مجد مصر، ويَنثرون عليها الرياحين، ويدعون للشهداء الأبطال الدعوات الصالحات.