محاضرة مملة!
جلست «إلهام» و«أحمد» في الشرفة الواسعة بالمقر الجديد للشياطين اﻟ «١٣» في بيروت يتناولان الشاي، ويستمتعان بهواء المساء المنعش، الذي كان يهب على بيروت من البحر بعد يوم ساخن.
كان «أحمد» يضع يده على مسند مقعد «إلهام» … وأطار الهواء خصلةً من شعرها نامت على يده، وأحس أن تيارًا رقيقًا من السعادة يسري من ذراعه إلى جسده كله … فأغمض عينيه … ولكن ذلك لم يستمر سوى لحظة خاطفة؛ فقد دخل «فهد» إلى الشرفة بخطواته السريعة المدوِّية وقال في مرح: لقد أتممت الملف … وفي إمكاننا عقد الاجتماع الآن.
أفاق «أحمد» على الفور … وتذكَّر أن رقم «صفر» طلب إليهم دراسة ملف المغامرة السابقة بدقة؛ فهناك احتمالات لا بُدَّ من بحثها للعثور على الحقيبة السوداء الصغيرة التي سقطت في الماء أمام أعينهم في مرفأ بيروت … ومع ذلك فإن كل الجهود التي بُذلت للعثور عليها لم تؤدِّ إلى شيء … واختفت الحقيبة كأنها فص ملح وذاب في المياه … أو كما قال «أحمد»: كأنها سمكة صغيرة سوداء في قاع المحيط.
قال «أحمد» وقد تضايق: أليس الاجتماع في الثامنة؟!
رد «فهد» وهو يربت على كتفه: لا تنسَ أن لكل دقيقة قيمتها!
أحمد: وهل سيشترك جميع الشياطين في البحث؟
فهد: ما رأيكِ يا «إلهام»؟
ردت «إلهام»: إنهم جميعًا موجودون، فلماذا لا يشتركون؟
أحمد: ما زلت أُفضِّل أن نشكِّل فرقةً للبحث من خمسة أو ستة فقط، ويبقى السبعة أو الثمانية للتغطية … فليس من مصلحتنا أن نضع البيض كله في سلة واحدة.
فهد: ما رأيكما أن نشترك جميعًا في فحص الملف ومناقشته على أن تُتخصَّص فرقة عمل محدودة في البحث؟
أحمد: أُوافق.
إلهام: وأنا أيضًا.
فهد: إن قاعة الاجتماع جاهزة.
وقام «أحمد» وتبعته «إلهام» وذهبا إلى مصعد صغير مختفٍ في الجدار وكأنه جزء منه، ولكنه ظهر فورًا بمجرد أن أشار «أحمد» بيده إلى نقطة صغيرة في الجدار تصدر عنها أشعة غير مرئية.
وهذا المصعد السري … وعشرات الأجهزة الأخرى هي جزء من المقر الجديد للشياطين اﻟ «١٣». فبعد أن انكشف مقرُّهم الأول في بيروت، أسرع رقم «صفر» إلى تجهيز هذا المقر.
والمقر الجديد يتكوَّن من ثلاثة طوابق في منطقة الروشة، وهي أهم منطقة في بيروت. والطابق الأرضي مكون من جزءين … الأول يطل على البحر، وكتغطية لنشاط الشياطين اﻟ «١٣» كان هذا الجزء عبارةً عن متجر لبيع السيارات والدراجات والقوارب، ويعمل فيه الشياطين اﻟ «١٣» بالتناوب. والجزء الثاني يطل على المدينة وتباع فيه مختلِف الأجهزة الكهربائية والإلكترونية.
والطابق الثاني يشمل قاعات للاجتماع، ومحطة إرسال واستقبال قوية، ومعمل تصوير، ومعملًا كيميائيًّا، وكل ما يحتاجه الشياطين اﻟ «١٣» من أجهزة وأسلحة. أمَّا الطابق الثالث ففيه غرف النوم والطعام.
وقد سعد الشياطين اﻟ «١٣» كثيرًا بالمقر الجديد … فقد كان يجعل وجودهم في بيروت معقولًا … فهم يمارسون عملًا … ومن ناحية أخرى كان المقر يتيح لهم فرص الاجتماع كلهم معًا … بالإضافة إلى الأجهزة الحديثة والسيارات والدراجات النارية (الموتوسيكلات).
ولكن المفاجأة الكبرى في المقر الجديد كان رجلًا من أعوان رقم «صفر»، جاء للإشراف على المقر الجديد … كان عملاقًا أسمر اللون … مفتول العضلات يدعى «سرور»، وهو من رجال المخابرات السابقين … اشترك في عديد من المغامرات المثيرة والحروب السرية التي تدور بين مخابرات العالم.
والمفاجأة الثانية كانت السيدة «بديعة» التي اختارها رقم «صفر» للقيام بالإشراف على طعام الشياطين ونظافة المقر. وهي سيدة رقيقة ولكن حازمة، استطاعت أن تحظى بحب واحترام الشياطين اﻟ «١٣» من أول يوم.
وبوجود «سرور» و«بديعة» أحس الشياطين اﻟ «١٣» بجو من الألفة والسعادة، وتفرَّغوا لعملهم الهام ضد المخربين والجواسيس ورجال العصابات.
وعندما دخل «أحمد» ومعه «إلهام» و«فهد» إلى قاعة الاجتماع، كان سرور يقف بالباب وهو يرمق الداخلين واحدًا واحدًا … ويحييهم بابتسامة تكشف عن أسنانه البيضاء اللامعة … وكانت «بديعة» قد وضعت لهم أكواب الليمون المثلَّج على المائدة المستديرة التي التفُّوا حولها جميعًا.
إن هذه الحقيبة التي وقعت أمام عيون عشرات من رجال الشرطة … وأمام «أحمد» و«خالد» في المياه لم يعثر عليها قط، رغم قيام الغوَّاصين بالبحث عنها ثلاثة أيام متتالية.
وصمت «فهد» لحظات ثم مضى يقول: وفي هذه الخرائط أدلة على وجود كنز من أكبر وأهم وأغلى الكنوز في التاريخ … إن قيمته التاريخية لا تُقدَّر بثمن … ولكن قيمته المادية في تقدير بعض الخبراء تزيد على خمسين مليونًا من الجنيهات.
وابتسم «فهد» وهو يرى العيون اللامعة للشياطين، وهي تزداد لمعانًا بعد سماع هذا الرقم الرهيب.
قالت «زبيدة» مبتسمة: أرجو ألا يكون «فهد» قد بالغ في هذا الرقم … فلست أعرف شيئًا في هذا العالم يساوي هذا المبلغ إلا إذا كان ناطحة سحاب مثلًا، وفي هذه الحالة تكون هذه أول مرة في التاريخ تُسرَق ناطحة سحاب.
ضحك بعض الشياطين فقال «فهد»: على كل حال فإن «إلهام» هي المسئولة عن هذا الرقم … وسوف تشرح لنا الآن حكاية الخمسين مليونًا هذه.
وجلس «فهد»، وتحوَّلت العيون إلى «إلهام» التي وقفت قائلة: إنني أعرف أن الشياطين لا يحبُّون الأحاديث الطويلة ولا الخطب المملة … وأن حياتهم هي الحركة والنشاط … لهذا فسوف أختصر بقدر الإمكان.
وضغطت «إلهام» بيدها فأظلمت قاعة الاجتماعات، وظهرت خريطة مضيئة لجمهورية لبنان على الحائط. وقالت «إلهام»: أرجو أن تنظروا إلى الخريطة. وواضح أنها خريطة لبنان.
وضغطت على الزر مرةً أخرى، فتركزت أضواء الخريطة على ميناء صور في جنوب لبنان. ومضت «إلهام» تقول: هذا هو ميناء صور … وقد عُرف في التاريخ باسم «تير» … وازدهر في عهد الفينيقيين بين سنة ١٤٠٠ و٩٠٠ قبل الميلاد … وكان الميناء عبارةً عن جزيرة أُوصلت إلى الساحل بواسطة طريق. ولم تكن «صور» أو «تير» ميناءً واحدًا بل مينائين … الشمالي أو ميناء صيدا بالنسبة إلى صيدا التي تقع شمالها، والجنوبي وكان يُعرف باسم الميناء المصري.
وضغطت «إلهام» على الزر مرةً ثالثةً فانطفأ ضوء الخريطة، وأضيئت القاعة مرةً أخرى.
قال «عثمان»: ما هي الحكاية بالضبط؟ … هل جئنا لحصة في التاريخ؟
إلهام: صبرًا يا «عثمان» … من الضروري أن تكون عندكم معلومات عن هذا الميناء؛ لأن ذلك هو الذي سيوضح معنى ما نفعله الآن ونحن نبحث عن الكنوز.
عثمان: كنوز! … هل ما زال في هذا العالم خُرافات اسمها الكنوز؟!
إلهام: نعم … إنها كنوز الملك «حيرام».
ومضت «إلهام» دون أن تسمع أي تعليق: والملك «حيرام» كان يحكم هذه المنطقة بين عام ٩٧٠ و٩٣٦ قبل الميلاد … وكان صديقًا للملك «سليمان»، وساعده بالمهندسين ومواد البناء في تشييد هيكله المشهور في القدس … وفي مقابل هذه المساعدة أهدى الملك «سليمان» إلى «حيرام» مجموعةً من المجوهرات والتيجان والعقود والأساور، كلها من أندر أنواع الماس وغيرها من الأحجار الكريمة … وقد أقام الملك «حيرام» برجًا للمحافظة على هذه الثروة التي أضاف إليها هو الكثير.
وبدأت القصة مشوِّقةً أكثر بعد هذه المعلومات، فقال «عثمان»: إنها قصة مثيرة حقًّا … المهم، ماذا حدث بعد ذلك؟
إلهام: وكانت صُور في هذا التاريخ هي العاصمة التجارية والملاحية في شرق البحر الأبيض المتوسط، حتى حاصرها «الإسكندر الأكبر» عام ٣٣٢ قبل الميلاد وحطمها تحطيمًا كاملًا … ونتج عن ذلك سقوط كنوز الملك «حيرام» في المياه حتى غطتها الأحجار والأنقاض … وبقيت كنوز الملك في مكانها منذ ذلك التاريخ. وقد فشلت جميع المحاولات للعثور عليها؛ فقد أُهمل الميناء بعد ذلك وتراكمت الرمال عليه، وضاعت معالم الجزيرة التي أُقيم عليها برج الكنوز بعد أن الْتحمت بالشاطئ.
وسكتت «إلهام» لحظات ثم تابعت: وبين عام ١٩٣١ و١٩٣٤ ميلادية، جاءت بعثة فرنسية وعملت على استكشاف الميناء القديم … وقام الغوَّاصون بتصوير بقايا الميناء تحت الماء … وقد اتضح أن الأحجار التي صُنع منها حاجز الأمواج يزن بعضها ١٥ طنًّا وأكثر … ويرجحون أن الكنز قد دُفن تحت بعض هذه الأحجار الضخمة.
قالت «زبيدة»: وهل خرائط البعثة الفرنسية هي التي كانت في الحقيبة السوداء التي سقطت في ميناء بيروت؟
هزَّت «إلهام» رأسها قائلة: لا … إن نسخًا من هذه الخرائط موجودة، ولكن هناك قصة صغيرة أخرى وتنتهي هذه المحاضرة، وسوف تسمعون القصة من «خالد» فقد درسها دراسةً جيدة.
والْتفت إليه مبتسمة، فقام «خالد» وقال: كان ضمن البعثة الفرنسية التي يطلقون عليها اسم بعثة «بواد يارد» شاب غوَّاص، قام بعمله بضعة أيام، وذات يوم اختفى ولم يُعثر له على أثر. وظن أفراد البعثة أنه غرق … ونسي الناس موضوع «سمنر»، وهو اسم الشاب، ثم انتشرت بعد ذلك إشاعة تقول إن «سمنر» لم يغرق وإنه عثر على عِقدٍ من اللؤلؤ من كنوز الملك «حيرام»، وإنه رسم خريطةً تقريبيةً لمكان الكنوز … وبدأت مطاردة واسعة النطاق ﻟ «سمنر» هذا … ليس من الجهات الرسمية وحدها … ولكن من بعض العصابات القوية في أوروبا وأمريكا. وفي عام ١٩٣٩م قامت الحرب العالمية الثانية واستطاعت الجيوش الألمانية أن تغزو فرنسا …
ومات «سمنر» في الحرب واختفى أثر خرائط كنوز الملك «حيرام» إلى الأبد.
وصمت «خالد» ثوانٍ قليلةً ثم مضى يقول: وفي العام الماضي استطاع العالم السويسري «مارك بورجي» أن يعثر على الخرائط مرةً أخرى بعد سلسلة مذهلة من المغامرات … وقامت بعض الجهات المهتمة بالآثار بتمويل بعثة «بورجي» للبحث عن كنوز الملك «حيرام» … ولكن عند وصوله إلى بيروت منذ ثلاثة أسابيع أطلق عليه «يانك تورو» الرصاص، وسقطت من يده الحقيبة السوداء التي تحوي الخرائط كما تعرفون جميعًا.
وجلس «خالد»، ووقف «أحمد» قائلًا: ومن هذه النقطة يبدأ الشياطين اﻟ «١٣» عملهم … العثور على الحقيبة السوداء. والسؤال الأول الذي يخطر على بالنا جميعًا هو: أين ذهبت الحقيبة الثمينة في اللحظة التي انطفأت فيها أنوار مرفأ بيروت؟ … من الذي أخذها؟