لقاء غير ودي!
قَسَّمَ الشياطين الستة أنفسهم إلى ثلاث مجموعات: «أحمد» و«إلهام» … «عثمان» و«زبيدة» … «فهد» و«ريما». وحدَّدوا ثلاث جهات مختلفة في الميناء القديم تحت الماء للبحث … واتفقوا على العودة بعد ساعة إلى الزورق … وكان الجميع يحملون أدوات صيد السمك المكوَّنة من البنادق ذات الحِراب والخناجر؛ حتى يبدو مظهرهم طبيعيًّا أمام الصيادين المنتشرين في المنطقة على قواربهم.
كان الماء باردًا منعشًا … وغاص «أحمد» وخلفه «إلهام» وشقَّا طريقهما سريعًا تحت الماء متجهين إلى الميناء القديم … وسرعان ما وصلا إلى المنطقة التي خُصِّصت لهما … وكان حاجز الأمواج القديم الغارق في الماء يبدون في خطوط طويلة غطتها الرمال، ويمتد مئات الأمتار تحت الماء … وكانت الرمال التي غطته تحدِّد ضخامة الكتل التي صُنع منها الحاجز … ومضيا يسبحان في هدوء ويتبادلان الإشارات … كان واضحًا أن لا أحد في المنطقة على الإطلاق … سوى الآثار الغارقة في الميناء القديم … ومجموعات صغيرة من الأسماك تسبح في هدوء.
وأشار «أحمد» إلى «إلهام»، وهبطا أكثر مقتربين من كتل الصخور … كان «أحمد» يريد أن يشاهد عن قرب أية آثار تدل على وجود عمل منذ عهد قريب … ولكن الرمال كانت تغطي كل شيء … ولا أثر هناك لأي عمل من أي نوع.
واستدار «أحمد» وأخذ يصعد إلى فوق … وتبعته «إلهام». وفجأةً أحسَّ «أحمد» بخطر ما … قالت له حاسته السادسة إن ثمة خطرًا يتربَّص بهما في الأعماق السحيقة للبحر. وتلفت «أحمد» باحثًا عن «إلهام» وأحس بحركته تتوقف … وكأنه أصيب بالشلل عندما شاهد «إلهام» على مبعدة منه … وقد ظهر خلفها وحش ضخم من سمك القرش … كان أحمد يعرف أن هذا النوع من السمك المتوحش لا يقترب كثيرًا من الشاطئ … ولكن ها هو الوحش ذو الفم المقوَّس والأنياب الحادة والبطن الأبيض منطلق كالقذيفة في اتجاه «إلهام» … ولم تكن «إلهام» بالنسبة ﻟ «أحمد» مجرد زميلة من الشياطين اﻟ «١٣» رغم حبه لهم جميعًا … ولكنها كانت بالإضافة إلى الزمالة العميقة … حبيبة قلبه … وأخذ «أحمد» يشير بيديه، وقد تخلَّص من المفاجأة المذهلة، وأخذ يسبح بكل قواه في اتجاه «إلهام».
كان الوحش ينساب في الماء برشاقة وعنف معًا … وفي هدوء يشبه هدوء الموت. وأعد «أحمد» بندقيته سريعًا … وكان يعرف أنه يجب أن يصيب الوحش في عينيه حتى تكون الطلقة مؤثرة … ولم يكن ذلك سهلًا و«إلهام» بينه وبين الوحش … وزاد اقتراب «أحمد» ومدَّ يده وجذب «إلهام» بشدة في نفس الوقت الذي فتح فيه الوحش فمه الواسع، وانقلب على ظهره ليبتلع «إلهام» … ولاحظ «أحمد» مدى اتساع فمه، وأدرك مدى ضخامة حجمه … ومضت الفتحة ذات الأنياب الرهيبة تقترب … وجذب «أحمد» «إلهام» خلفه، ثم أطلق حَربته ذات الحبل إلى أعماق الفم المفتوح، فغاصت في بطن الوحش.
اضطرب الماء بشدة عندما أحس الوحش بالألم، فضرب بذيله ودار دورةً واسعةً جذب في أثنائها الحبل الذي يربط الحربة بالبندقية، فجذب «أحمد» معه جذبةً قويةً هبطت به إلى القاع … وأسرع «أحمد» يتخلَّص من البندقية … وأخذ يصعد إلى أعلى عندما لاحظ أن الوحش قد دار مرةً أخرى واندفع ناحيته وقد أثارته الإصابة … وبدت في عينيه المستديرة الهائلة نظرة شرسة … باردة … حاقدة … واستل أحمد خنجره واستعد. في هذه المرة لا بد من حظ أكبر حتى لا يتمكَّن من الإفلات من الوحش الهائج … وسبح على جانبه بهدوء محاولًا أن يكون بجانب الوحش عندما يهاجم … واقتربت سمكة القرش وحبل البندقية يتدلَّى من فمها … ورفع «أحمد» يده واستعد … وفي تلك اللحظة شاهد حربةً تمرق في الماء كالسهم الفضي وتصيب عين السمكة إصابةً مباشرة … واندفعت السمكة نصف العمياء إليه فتنحَّى جانبًا وتركها تمضي … كان يعرف أنها انتهت، والتفت خلفه … وكانت «إلهام» تمسك بالبندقية التي أطلقتها، واحتفظت بها في يدها … وأدرك «أحمد» أن الفتاة الشجاعة تريد جذب السمكة إلى سطح الماء … ولكن كان يدرك صعوبة تنفيذ هذا القرار … فالحبل قصير والسمكة ضخمة يزيد طولها على خمسة أمتار … وأشار «أحمد» إلى «إلهام» بيده لتسقط البندقية فنفَّذت إشارته على الفور … وظهرت السمكة الضخمة مرةً أخرى بجوارهما … كان جسمها المرن العظيم يضطرب بشدة … فقد كانت الضربتان أعنف من أن تتحملهما وأخذت تمضي مترنحةً وسط المياه التي اصطبغت بلون الدماء …
اتجه «أحمد» و«إلهام» إلى أعلى … وعندما وصلا إلى سطح المياه شاهدا أثر المعركة العنيفة … بقعة واسعة من اللون الأحمر تغطي السطح وسبحا بسرعة مبتعدين … فقد كانا يعلمنا أن رائحة الدم تجذب سمك القرش! …
اقتربا من القارب … ولم يكن أحد من الشياطين الأربعة الآخرين قد ظهر … واتجه كل منهما إلى غرفته حيث غيَّر ثيابه … ونظرت «إلهام» إلى المياه وصاحت في دهشة: انظر يا «أحمد» إن السمكة تتبعنا!
ونظر «أحمد» إلى حيث أشارت «إلهام»، ولاحظ أن سمكة القرش التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة تمضي مضطربةً قُرب القارب … فقال وهو يمسك بإحدى البنادق: إنها مُصرة على أن تكون صيدنا.
وأطلق البندقية على بطن السمكة البيضاء … ثم أسرع يربط حبلًا طويلًا بحبل الحربة وقال ﻟ «إلهام»: ساعديني.
وأمسكا بالحبل معًا وأخذا يجذبان السمكة وهي تعاند أحيانًا وتستسلم أحيانًا … حتى وصلت إلى جانب القارب، وقال «أحمد»: سنتركها الآن تلفظ أنفاسها الأخيرة في المياه، وسنحتاج إلى مساعدة بقية الشياطين حتى نتمكن من جذبها إلى الزورق، فإن وزنها لا يقل عن ٣٠٠ كيلو.
ونظرت «إلهام» في ساعتها وقالت: لم يبقَ سوى دقائق قليلة ويصل الشياطين.
ولم تكد تتم جملتها حتى ظهر من الجانب الأيمن شبحان أسودان يشقَّان المياه الصافية … كانا «فهد» و«ريما» … ثم بعدهما بدقائق قليلة ظهر «عثمان» و«زبيدة»، وكان واضحًا على وجوه الشياطين الأربعة أن لا أخبار هناك.
روت «إلهام» للأربعة صراعهما مع الوحش … ثم أشارت إلى المياه، وصاح «عثمان»: سيكون عندنا غداء شهيٌّ من سمك القرش.
وقالت «زبيدة»: سأقوم و«ريما» و«إلهام» بعملنا الأساسي «الطبخ». هيَّا بنا نجذب السمكة.
وتعاون الستة … وبعد ربع ساعة من العمل الشاق استلقت سمكة القرش الضخمة على ظهر القارب … واستل الشياطين الستة خناجرهم، وقاموا بتنظيفها وتقطيعها …
نظر «أحمد» إلى ساعته ثم قال: سنتجوَّل بالقارب في الميناء … إن وجود سفينة عدا سفن الصيد في هذه المنطقة ممكن أن يكون محل بحث.
وأمسك عثمان بالدفة … ومضى القارب يدور ويلف حول قوارب الصيد الكثيرة التي تملأ الميناء … وقد جلس عليها الصيادون يصلحون شباكهم، ويرمقون القارب بانتباه.
وعند أقصى الميناء كان هناك قارب صغير قديم ليس به إلا رجلٌ عجوز وولد صغير … وعندما اقترب قارب الشياطين الفخم منهما لفت أنظار الولد، فوقف يبدي إعجابه … ويحدِّث الرجل العجوز بحماس.
ووقف «أحمد» و«فهد» يرقبان الولد الصغير ويبتسمان له فقال لهما: هل أستطيع التفرُّج على هذا القارب؟
وأشار «أحمد» له بالموافقة … والْتصق القاربان … وقفز الصياد الصغير فرحًا إلى ظهر القارب، تلقَّاه «أحمد» بين ذراعيه، ثم أوقفه وقال الولد الصغير: كم أتمنى أن يكون عندي قارب من هذا النوع. إنني وجَدِّي نصطاد قرب الشاطئ لأن قاربنا لا يصمد للرياح القوية في عرض البحر.
رد «أحمد»: عندما تكبر سيكون عندك قارب مثله.
قال الولد بحماس: إنني أدَّخر كل ليرة أكسبها لهذا الغرض.
أحمد: إذا عملت بنشاط … وادَّخرت بحماس فسوف تتمكَّن من شراء قارب أكبر منه.
الولد: إنني أشم رائحة سمك … هل أنتم صيادون؟
أحمد: ليس تمامًا … ولكن بالصدفة اصطدنا سمكةً من أسماك القرش سنتناول غداءنا منها … هل تشاركنا الطعام؟
الولد: سأتغدى مع جدِّي.
أحمد: ولْيأتِ جدك أيضًا.
الولد: صحيح؟ … إنكم كرماء جدًّا … أكرم من أصحاب الزورق الكبير الذي كان هنا.
ضاقت عينا «أحمد» بسرعة وقال: هل كان هنا زورق من هذا النوع قريبًا؟
الولد: نعم … ولكن أصحابه رفضوا أن أصعد إليه … رغم أنني وجَدِّي كنا نورد لهم الأسماك الطازجة كل يوم.
أحمد: منذ متى كان القارب هنا؟
الولد: لا أعرف التواريخ … يمكنكم أن تسألوا جدِّي.
وأشار «أحمد» للصياد العجوز قائلًا: تعالَ يا جدي تغدَّ معنا.
ضحك العجوز قائلًا: إنكم ضيوفنا …
أحمد: لا فرق بيننا … ويمكنك أن تدعونا في يوم آخر.
وصعد العجوز إلى القارب … وأسرع «فهد» يحضر للعجوز وحفيده زجاجتين من عصير البرتقال المثلَّج. وقال «أحمد»: قال لنا حفيدك الظريف إنه كان هنا قارب كبير منذ فترة من الوقت، هل تذكره؟
قال الرجل: طبعًا. لقد كنت أورِّد له السمك الطازج.
أحمد: منذ متى كان هذا القارب هنا؟
هرش العجوز رأسه وقال: لقد جاءوا مرتين … مرةً منذ شهرين تقريبًا وقضوا أسبوعًا، ومرةً منذ ثلاثة أسابيع وقضوا ثلاثة أيام ثم رحلوا …
قال «أحمد» بانفعال: منذ ثلاثة أسابيع يا جدي! … هل أنت متأكد؟
هزَّ الرجل رأسه قائلًا: طبعًا … فقد حضروا رابع يوم العيد وكان يوم جمعة، وقد مضى على العيد واحد وعشرون يومًا بالضبط.
وتذكَّر أحمد أن حادث المرفأ الذي أصيب فيه العالم «بورجي» كان يوم جمعة، وكان فعلًا رابع أيام العيد … وأحس أنه وقع على أثر هام.