هل يأتي الليل بجديد؟
على مائدة الغداء الفاخر الذي أعدته «إلهام» و«زبيدة» و«ريما» استمر الحديث الخطير بين الشياطين الستة والصياد العجوز، «صبور»، وحفيده «مازن». وكانت كل دقيقة تمضي تضيف إلى معلومات الشياطين جديدًا حول سفينة الثمانية التي زارت صور مرتين … وعرفوا أن اسمها «رويال»، وأنها صناعة إيطالية … وأن الثمانية الذين كانوا عليها كان بينهم عدد من الغواصين … وأن الصياد العجوز لاحظ أنهم رغم ادعائهم الحضور للصيد … لم يكونوا مهتمين كثيرًا به، فقد كانوا يقضون أغلب النهار نائمين … ثم يستيقظون في المساء … وكان الصياد العجوز يغادر الميناء قرب الغروب ولا يعرف ماذا كانوا يفعلون في الليل! وعرفوا منه أنهم لم يكونوا يسمحون لأي شخص بالصعود إلى ظهر سفينتهم مطلقًا.
وانتهى الغداء، ونفح «أحمد» الصغير «مازن» بعض النقود قائلًا: إنك تستحق هذا المبلغ … فقد كان حديثك إلينا مهمًّا جدًّا … وأرجو أن تضع هذا المبلغ مع بقية مدخراتك لتشتري الزورق.
وعندما انصرف الصياد العجوز وحفيده سعيدين، أسرع «أحمد» إلى غرفة اللاسلكي في الزورق وبدأ يرسل تقريرًا هامًّا إلى رقم «صفر» يحوي كل المعلومات التي حصلوا عليها … ثم أنهى التقرير بقوله: إن عندنا من الأسباب ما يدعونا إلى الثقة بأن السفينة «رويال» هي سفينة عصابة «الجولدن كراون» … وأنهم حضروا في البداية لاستكشاف المكان، حتى إذا حصلوا على الخريطة بدءوا العمل فورًا … وأرجو البحث عن السفينة «رويال» في جميع الموانئ الأوروبية … والإيطالية منها بوجه خاص.
وردَّ رقم «صفر» على الفور: من رقم «صفر» إلى ش. ك. س. هذه المعلومات هامة للغاية … أتفق معكم في استنتاجاتكم، ولكن البحث عن السفينة «رويال» في كل هذه الموانئ سيستغرق بعض الوقت، فحاولوا مرةً أخرى التدقيق في البحث … وإن كانوا قد وصلوا إلى كنوز الملك «حيرام» وانصرفوا فستكون استعادته في حكم المستحيلات.
وجلس الأصدقاء بعد الغداء يتحدثون … قال «عثمان»: إن هذه المعلومات كلها تؤدي إلى نتيجة واحدة … أن عصابة «الجولدن كراون» قد حصلت على كنوز الملك «حيرام» وانتهى الأمر … وليس في استطاعة الشياطين اﻟ «١٣» عمل أي شيء. لقد أصبحت مهمة البوليس الدولي.
ريما: ولكن تعليمات رقم «صفر» يجب أن تنفذ … سنحاول مرةً أخرى.
عثمان: نحاول ماذا؟! … لقد انصرفت السفينة تحمل الكنز … ولو لم تكن قد حصلت عليه لكانت الآن ما زالت في الميناء.
ساد صمت عميق بعد هذه الجملة الحاسمة … فليس ثمة شك أنها صحيحة؛ فما دامت «رويال» ليست موجودةً فمعنى ذلك أنها انتهت من مهمتها، وأن عصابة «الجولدن كراون» قد حصلت على الكنوز التاريخية وانتهى الأمر.
قال «أحمد» وكأنه يحدِّث نفسه: ينامون نهارًا … شيء مدهش! …
قالت «زبيدة»: إنك تكلم نفسك …
نظر إليها «أحمد» وقال: ألم تلاحظوا هذه الجملة … إنهم كانوا ينامون نهارًا، ويعملون ليلًا. ألا يدل هذا على شيء؟
عثمان: إنه يدل على أنهم يعيشون على كيفهم … هل عندك مانع؟
وابتسم الشياطين … أمَّا «أحمد» فظل يحدِّث نفسه، ثم قام وخرج إلى سطح القارب وأخذ يتمشَّى غاديًا رائحًا وهو يفكِّر.
مضى النهار الحار بطيئًا حتى هبط الظلام … واجتمع الشياطين اﻟ «١٣» حول أكواب الشاي وعادت المناقشة من جديد، فقال «فهد»: أعتقد أننا يجب أن نعود إلى بيروت حتى يصلنا رد رقم «صفر» عن المعلومات التي طلبناها.
قال «أحمد»: أرجو أن توافقوا على البقاء هذه الليلة فعلينا أولًا أن ننفِّذ تعليمات رقم «صفر»، وفي نفس الوقت أُحس أن الليل قد يأتي لنا بجديد.
وعقدوا جلسة عمل، قسموا المراقبة الليلية بينهم … ثم أداروا ماكينة الزورق واتجهوا إلى الميناء القديم … ورابطوا هناك.
عندما أشرقت شمس اليوم التالي كان «فهد» في المراقبة … ولم يكن الليل قد جاء بجديد … فقد ظل كل شيء هادئًا في المياه … لم يتحرَّك شيء … لم تظهر أنوار، ولكن الصباح جاء بجديد.
برقية من رقم «صفر» تلقاها «فهد» في الثامنة صباحًا:
من رقم «صفر» إلى ش. ك. س
خُطِف الليلة العالم السويسري «بورجي» من المستشفى. تنكَّر بعض الرجال في ملابس الممرضين وخدَّروه ثم مروا به من نافذة الغرفة التي كان ينام فيها، ونزلوا به إلى حديقة المستشفى حيث كانت في انتظارهم سيارة إسعاف. أخطرت المقر بما حدث، ويقوم زملاؤكم بالبحث … ابقوا في مكانكم فترةً أخرى … ليس هناك سبب لخطف «بورجي» إلا شيء واحد، أن العصابة لم تعثر على الكنز، وتريد الاستفادة من خبرة «بورجي» في العثور عليه …
أسرع «فهد» إلى إيقاظ بقية الشياطين، واجتمعوا حول البرقية، وقالت «ريما» بعد أن سمعت «فهد» يقرؤها عليهم: لا شك أن استنتاج رقم «صفر» صحيح … إن عصابة «الجولدن كراون» لم تحصل على الكنز بعد … وإلا فلماذا خطفت «بورجي»؟
قال «أحمد»: أرجو أن يستطيع الشياطين السبعة في بيروت متابعة «بورجي». إن ذلك يوفِّر علينا الكثير … ويضعنا مباشرةً خلف العصابة.
في تلك الأثناء كان هناك اجتماع آخر في مقر الشياطين ببيروت … «هدى» … «بو عمير» … «مصباح» … «خالد» … «قيس» … «باسم» … «رشيد» …
قال «قيس»: من المؤكد أن رجال الأمن في بيروت سيقومون بفحص كل شيء يختص بخطف «بورجي» … ولكن هناك نقطةً نستطيع نحن البدء منها … هي أن العصابة ستنتهي في صور … فهم قد خطفوا «بورجي» طبعًا بهدف الاستفادة من خبرته في تحديد موضع الكنز … وأنا أُرجِّح أنهم فشلوا في العثور عليه حتى الآن. ومعنى ذلك أنهم سينقلون «بورجي» إلى صُور … وليس هناك سوى طريقين … طريق البر … وطريق البحر. وحتى لا نضيع وقتًا أطول، سنُقسَّم إلى فريقين … فريق يقطع الطريق بين بيروت وصور على الموتوسيكلات، وفريق يركب زورقًا سريعًا في البحر … وسيبقى «مصباح» لإدارة محل السيارات … و«هدى» لإدارة محل الأجهزة الإلكترونية حتى يبقى كل شيء في المقر يسير كالمعتاد.
بعد لحظات من هذا الحديث كان «قيس» و«رشيد» ينطلقان، كل منهما على موتوسيكل … بينما انطلق «بو عمير» و«باسم» و«خالد» في زورق سريع في البحر.
كان على «قيس» و«رشيد» البحث عن سيارة الإسعاف التي خطفت فيها العصابة «بورجي» إلا إذا كانوا قد استبدلوا بها سيارةً أخرى … وهنا يكون عليهم الاعتماد على الصدفة … بينما كان على «بو عمير» و«باسم» و«خالد» البحث عن السفينة «رويال» التي فكَّر الشياطين أنها ربما دخلت ميناء بيروت في الفجر لتحمل المخطوف ثم تمضي في عرض البحر إلى صور.
انطلق الخمسة إذن ككلاب الصيد خلف الفريسة … ومضى الموتوسيكلان يطرقعان على الأرض، وعيون «قيس» و«رشيد» خلف الأقنعة تشمل الطريق بحثًا عن سيارة الإسعاف، أو ما يريب … وكم كانت دهشتهما بالغةً عندما شاهدا سيارة إسعاف تقف بجوار الطريق، وقد أحاط بها رجال الشرطة! … وعرفا على الفور أن العصابة نفَّذت بالضبط ما فكًّر فيه الشياطين … لقد تخلَّصت بسرعة من سيارة الإسعاف، وأصبح عليهما أن يعتمدا على الحظ والصدفة في العثور على الرجل المخطوف.
واقترب «قيس» من التجمُّع … وسمع رجال الشرطة يتحدثون … كان أحدهم يقول: إن «بورجي» سيموت في أيديهم … فهو يتغذَّى عن طريق الأنابيب … ولا يمكن أن يتوفَّر هذا إلا في مستشفًى … فماذا سيفعلون؟
رد آخر: إنهم بالطبع لن يهتموا بحياته أكثر من ساعة يحصلون فيها على المعلومات التي يريدونها، ثم يتركونه في أي مكان ليموت … هذا إذا لم يقتلوه هم أنفسهم حتى لا يدلي بأوصافهم.
قال ثالث: لقد سبقونا بوقت طويل، وأصبح من الصعب متابعتهم … سنُخطر الإدارة بما عثرنا عليه … ونواصل طريقنا لعلنا نجد ما يدلنا على الطريق الذي سلكوه.
اكتفى «قيس» بما سمع ثم عاد إلى «رشيد»، وروى له في كلمات قصيرة ما سمع. وقال «رشيد»: مسألة محيرة … إننا يجب …
وقبل أن يتم جملته لاحظ بين الأشجار راعي غنم صغيرًا كان يراقبهما باهتمام، ولم تكد عيناه تلتقيان بعيني «رشيد» حتى توارى بين الأشجار … وفكَّر «رشيد» لحظات ثم ترك الموتوسيكل وصعد مسرعًا التل الصغير إلى الأشجار … ووجد الراعي الصغير واقفًا بجوار أغنامه … وغير بعيد عنه رجل عجوز قد استُغرق في النوم.
اقترب «رشيد» من الراعي الصغير وحيَّاه فلم يرد … سأله عن اسمه فلم يرد … أخرج من جيبه بضع ليرات، ومد يده بها له … وبدا على وجه الراعي الصغير الاهتمام ولكن لم يمد يده … فقال له «رشيد»: خُذ.
وتردَّد الراعي الصغير ونظر إلى العجوز النائم، فقال «رشيد»: لا تخف.
ومد الراعي الصغير يده وأخذ الليرات، فقال «رشيد»: والآن ما اسمك؟
ووضع الصغير يده على فمه … ثم حرَّك يده في الفضاء يمينًا ويسارًا … وعرف رشيد لماذا لا يتحدَّث … لقد كان أخرس.
أشار «رشيد» إلى سيارة الإسعاف وحرك يده مستفهمًا … وحتى الراعي الصغير رأى علامة الإيجاب.
كان الولد ذكيًّا … وسرعان ما كانا يتحدثان بالإشارات … وفهم «رشيد» كل ما كان يريد أن يعرفه … لقد شاهد الراعي الصغير السيارة عندما جاءت في الصباح الباكر … وشاهد الرجل المريض وهو يُنقل إلى سيارة أخرى … وأشار إلى الاتجاه الذي سارت فيه السيارة … كان طريقًا ضيقًا يصعد في الجبل على بعد نحو ثلاثين مترًا من مكان وقوف سيارة الإسعاف.
أسرع رشيد إلى قيس وروى له ما حدث، وسرعان ما كان الموتوسيكلان يمضيان على الطريق، ثم ينحرفان إلى الطريق الصاعد في الجبل … كان الطريق ضيقًا يلف ويدور بين الأشجار … ولكن الموتوسيكلان كانا يمضيان بسرعة، وعليهما الشيطانان وكأنهما يركبان الريح.
ومن بعيد بدت فيلا صغيرة في نهاية الطريق … ولم يكن ثمة شك أن العصابة قد نقلت «بورجي» إلى هناك … ونزل الشيطانان … ثم أخذا من الأشجار ساترًا يتحركان خلفه، ومضيا مسرعين حتى اقتربا من الفيلا … لم تكن السيارة هناك وكان كل شيء يبدو هادئًا …
اقتربا أكثر … وظل كل شيء هادئًا … لا حركة … لا صوت، كأن الفيلا فارغة … وأشار «قيس» إلى باب جانبي … واتجها نحوه … وأخرج «رشيد» من جيبه كيس الأدوات الدقيقة … وفي ثوانٍ قليلة كان الباب قد انفتح، ودخلا … وكان الصمت يسود المكان … لا صوت ولا حركة.
توغلا في الفيلا وقد نسيا حذرهما … وكانا على حق … فلم يكن في الفيلا أحد رغم بقايا السجاير الكثيرة هنا وهناك … والأكواب الفارغة حيث شرب أربعة أشخاص قهوة …
بقيت غرفة واحدة لم يدخلاها، وبهدوء مَدَّ «قيس» يده وفتح الباب … ونظر إلى الداخل … وعلى الفراش الوحيد في الغرفة … كان ثمة رجل نائم في ملابس بيضاء من ملابس المستشفيات …
وأسرع «قيس» إليه … ولكن قبل أن يصل إلى الفراش توقَّف ثم الْتفت إلى «رشيد» قائلًا: لقد وصلنا بعد فوات الأوان.
رشيد: لقد عذَّبوه حتى حصلوا على ما يريدون منه!
هزَّ «قيس» رأسه قائلًا: إنهم لا يتورعون عن شيء في سبيل الوصول إلى أغراضهم!
ونظر «قيس» مرةً أخرى إلى الجسد المسجَّى على الفراش. كانت يده اليمنى مقفلةً بقوة، وكأنها تقبض على شيء … وفكَّر «قيس» قليلًا، ثم اقترب وفتح اليد المغلقة بصعوبة بالغة … لم يكن بها شيء … ولكن كانت هناك كلمتان مكتوبتان على الجلد بقلم حبر جاف وبسرعة، وقد امتزجت الحروف بعضها ببعض … وأشار «قيس» إلى ما رآه، واقترب «رشيد» … وأخذا معًا يحاولان … واستطاعا بعد جهد أن يقرآ الكلمتين: اسألوا «ماري».