في البر … أم في البحر؟
انطلق «قيس» و«رشيد» على موتوسيكليهما … وسرعان ما عادا إلى بيروت. وفي المقر دخل «قيس» إلى غرفة اللاسلكي، وأرسل تقريرًا كاملًا إلى رقم «صفر» بما حدث … كانت نهايته هذا الاستفهام: من هي «ماري»؟
ثم أرسل «قيس» تقريرًا آخر إلى زورق الشياطين الستة في صور، فقد كان يعلم أن هذه المعلومات ستهمهم جدًّا … ولم يكن جهاز اللاسلكي في زورق الشياطين الستة يرسل إشاراته حتى كانت «إلهام» تتلقى التقرير الخطر.
وجلس الشياطين الستة يستمعون إليها … وعندما انتهت من قراءتها للتقرير قال «أحمد»: أظنكم توافقونني الآن أن العصابة لم تحصل على كنوز الملك «حيرام» بعد … ومن المؤكد أن السبب أنهم لم يستطيعوا فك رموز الخرائط، أو أن الخرائط التي حصلوا عليها لم تؤدِّ إلى عثورهم على الكنز … وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعوهم إلى خطف «بورجي».
زبيدة: لعلهم الآن قد استكملوا معلوماتهم، وهم بصدد البحث عن الكنز.
عثمان: هذا يعني أن المهمة كلها تقع على عاتقنا الآن.
ريما: ولكن ماذا كان قصد «بورجي» بقوله اسألوا «ماري»؟ من هي «ماري»؟ وما هي المعلومات التي تعرفها؟
لم يكن هناك رد على السؤال … وقالت «إلهام»: لعلها زوجته.
قال «فهد»: لن يكون من الصعب على رقم «صفر» الحصول على معلومات عن «ماري» وماذا تعرف. وإن كنت أظن …
وقبل أن يتم جملته قال «أحمد»: إنها ممرضة في المستشفى!
فهد: بالضبط … لقد كتب الرسالة عندما خطفوه … أي في المستشفى، فلا بُدَّ أن «ماري» هذه إنسانة قريبة منه … أو كانت قريبةً منه قبل أن يموت!
ريما: سؤال آخر قد يؤدي بنا إلى طريق آخر: … هل تعرف العصابة «ماري»؟
أحمد: أستبعد هذا … فلو كان «بورجي» يريد أن تصل العصابة إلى «ماري» هذه لقال لهم … ولما احتاج أن يكتب هذه الرسالة القصيرة قبل أن يودِّع العالم.
كانت الساعة الحادية عشرة صباحًا … وقال «أحمد»: أظن أننا سنلتقي الليلة بالعصابة.
ريما: هل تتصوَّر أنهم سيعملون وهم يعرفون أن اختطاف «بورجي» سوف يحرك الشرطة خلفهم بشكل أشد.
أحمد: لا أدري … إن رقم «صفر» سيبلِّغ الشرطة بالمعلومات التي حصل عليها «قيس» و«رشيد»، ومن المؤكد أن قوات الشرطة كلها الآن خلف العصابة … وقد تُضطر العصابة إلى الاختفاء فترةً قبل أن تتحرك مرةً أخرى … وعلى كل حال علينا أن نتنبه هذه الليلة.
وبدأ جهاز اللاسلكي في الزورق يرسل إشاراته … ومرةً أخرى أسرعت «إلهام» إليه … كان رقم «صفر» يرسل تقريرًا آخر …
من رقم «صفر» إلى ش. ك. س
«ماري» هي الممرضة التي كانت تشرف على علاج «بورجي» في المستشفى، اختفت ليلة اختطافه … نرجح أنها غادرت لبنان؛ فقد قالت صاحبة المنزل الذي تسكن به إنها تركته على عجل ومعها حقيبة ثياب. تقوم قُوات الشرطة بفحص قوائم الذين غادروا لبنان اليوم جوًّا وبحرًا وبرًّا … ليس من المستبعد أن تكون قد اختُطفت هي الأخرى … على كل حال سيصلكم تقرير آخر عن مكان «ماري».
أسرعت «إلهام» بالتقرير إلى الأصدقاء، وبعد أن استمعوا إليه استُغرق كل منهم في تفكير عميق … لقد أصبح مؤكدًا أن العصابة لم تحصل على كنز الملك «حيرام» حتى الآن، فما هي خطوتها التالية؟
قال «أحمد»: إنني أعتقد أن ثمة خطأً ما في الخرائط أدَّى إلى عدم عثور العصابة على الكنز … وهناك الآن احتمالان … إمَّا أن العصابة استطاعت انتزاع المعلومات التي طلبتها من بورجي قبل أن يموت … وإمَّا أنها لم تحصل عليها … وفي الحالة الأولى ستكون مهمتها سهلةً في الوصول إلى الكنز، وقد تكفي ليلة واحدة لانتشاله … وفي الحالة الثانية ستواصل العصابة عملها في البحث عن الكنز فترةً طويلة، فلا بد أنها أنفقت الكثير ولا يمكن أن تتراجع …
زبيدة: الذي يشغلني حقًّا هو … أين العصابة الآن؟ هل هي على البر؟ هل هي في البحر؟
أحمد: هذا السؤال مهم جدًّا … وفي رأيي أنهم على البر وفي البحر على السواء!
عثمان: وأين هم في البحر؟! … لا أثر لهم في الميناء!
أحمد: من المهم جدًّا أن يقول لنا رقم «صفر» أين السفينة «رويال» الآن … هل وصلت إلى أحد المواني الأوروبية أم ما زالت في البحر؟ إذا كانت قد وصلت إلى ميناء أوروبي … فمعنى ذلك أن العصابة لن تتحرك الآن للبحث عن الكنز … أمَّا إذا كانت لا تزال في عرض البحر … فقد تكون موجودةً قريبًا من صور … وسأقوم الآن لتبادل الحديث مع رقم «صفر» عن طريق اللاسلكي.
ومضى النهار بطيئًا ومملًّا … لا معلومات … وقال رقم «صفر» في تقريره القصير إلى أحمد إنه لم ترد معلومات حتى الآن عن مكان السفينة «رويال». وهبط المساء.
وفي تلك الأثناء كان الزورق الذي يحمل «بو عمير» و«باسم» و«خالد» يقطع المسافة بين بيروت إلى صور متمهلًا … كان الأصدقاء الثلاثة قد قرَّروا فحص كل سفينة أو زورق يلتقون به في البحر … بحثًا عن السفينة «رويال»، وكانوا على اتصال دائم بمقر الشياطين في بيروت … وعلموا بكل التطوُّرات التي حدثت على البر … وكانت التعليمات التي لديهم أن يظلوا في طريقهم، وأن ينضموا عند هبوطهم الظلام إلى الشياطين الذين في صور.
وعندما غربت الشمس خلف الأفق … بدأت الرياح تشتد … والأمواج ترتفع، وقال «خالد»: إن زورقنا صغير … وأعتقد أن العاصفة التي ستهب ستكون عنيفة، وعلينا أن نسرع إلى البر …
وكان «بو عمير» هو الذي يتولَّى قيادة الزورق الصغير الذي بدأت الأمواج تتلاعب به … وهزَّ رأسه وهو ينظر إلى رذاذ الماء يتطاير فوق الأمواج العالية، وقال: للأسف أننا لم نصل إلى شيء.
ولكن ذلك لم يكن صحيحًا … فعندما استدار الزورق متجهًا إلى الشاطئ البعيد ظهر ضوء صغير في الظلمة الخفيفة على بُعد قليل منهم … وكان «باسم» أول من رأى الضوء فقال: هناك ضوء في هذا الاتجاه!
ونظر «بو عمير» و«خالد»، ولكن الزورق المتأرجح لم يترك لهما فرصة الرؤية … وطلب «باسم» أن يتجه الزورق إلى مصدر الضوء … وقال «بو عمير»: إن ذلك سيكون صعبًا للغاية؛ فسوف نواجه العاصفة والأمواج العالية.
ومع ذلك أدار دفة الزورق … وأخذ يتقدَّم في الاتجاه الذي أشار إليه «باسم». وبدأ الزورق يرتفع وينخفض بشدة … والأمواج العاتية تعبث به … والرياح العاصفة تضربه من كل جانب … وأدرك الثلاثة أن وصولهم إلى مصدر الضوء مستحيل. وقال «خالد»: لعلك كنت واهمًا يا «باسم» … وحتى لو كان هذا الضوء موجودًا فلعله لسفينة صيد أو ركاب في طريقها المعتاد …
صمت باسم لحظات ثم قال: المفروض أننا نتمسك بكل فرصة … حتى لو كانت واهية!
قال «بو عمير»: معك حق … سنواصل سيرنا في الاتجاه الذي تطلبه.
وأخذ الزورق يسير مترنِّحًا … وكان الضوء قد اختفى ولم يعد «باسم» يراه، فصاح في جوف العاصفة: لنتجه إلى الشاطئ … إنني لم أعد أرى الضوء.
ولكن هذا الطلب جاء بعد فوات الأوان … فقد كانت العاصفة قد استكملت عنفوانها وأخذت تقذف بالقارب الصغير في مختلِف الاتجاهات، ولم يعد في إمكان «بو عمير» أن يسيطر عليه مطلقًا … وأصبح كل ما يمكن عمله هو إبقاء الزورق طافيًا فوق المياه حتى لا يغرق، ولكن بعد ربع ساعة أصبح هذا الطلب أيضًا بعيد المنال … فقد أمسكت العاصفة بالزورق كأنه ذبابة صغيرة في كف عنكبوت ضخم، وأخذت ترفعه وتخفضه، وترجه وتملؤه بالمياه. وتشبث الشياطين الثلاثة بالزورق حتى لا يسقطوا في البحر.
وكان زورق الشياطين الكبير في ميناء صور قد تلقَّى إشارةً من مقر الشياطين أن اتصالهم بالزورق الصغير قد انقطع … وأن عليهم الخروج إلى عرض البحر للبحث عنه. وسرعان ما كان الزورق يشق طريقه في المياه خارجًا من الميناء إلى البحر العريض. كان الشياطين الستة في الزورق في غاية الانزعاج … فقد كانوا متأكدين أن هذه العاصفة قادرة على إغراق الزورق الصغير في دقائق قليلة … والمسافة بعيدة من الصعب على الشياطين الثلاثة قطعها إلى الشاطئ … لهذا أخذ الزورق الكبير يشق طريقه في إصرار رغم العاصفة العاتية … مطلِقًا صفارةً عاليةً داويةً منقطعة، منيرًا كل أضوائه لعل الشياطين الثلاثة يرونه ويتجهون إليه بزورقهم … ولكن ذلك لم يكن ممكنًا … فقد غرق الزورق الصغير بركَّابه الثلاثة … ولم يعد في إمكانهم الوصول إلى الزورق الكبير.
أخذت العاصفة تلقي على سطح الزورق الكبير بكميات ضخمة من الماء … ورغم ذلك ظل «أحمد» و«عثمان» و«إلهام» على السطح يرقبون السواد الذي غطَّى كل شيء علهم يعثرون على ضوء القارب الصغير ودون أن يعرفوا أن القارب قد غرق …
صاح «أحمد» في قلب العاصفة: أظن أن زورقهم ليس به قوارب نجاة.
رد «عثمان» بنفس الصحية: لا … إنه زورق صغير ليس عليه قوارب …
وقطعوا نحو عشرين كيلومترًا في خط مستقيم دون أن يظهر أثر للزورق الصغير السيئ الحظ … وبدا واضحًا أنهم يحاولون عبثًا … حتى جهاز اللاسلكي تأثر بالعاصفة فلم يعد في إمكانهم إرسال إشارات واضحة أو تلقي معلومات من المقر السري …
كانت عاصفةً هوجاء لم يشهد لها البحر المتوسط مثيلًا منذ سنوات طويلة … وكانت «زبيدة» تقف في كابينة القيادة بجوار كشاف ضخم ينير البحر أمامهم نحو ثلاثين مترًا … وفجأةً صاحت: إنني أرى شخصًا متعلقًا بشيء.
وكان معها في كابينة القيادة «فهد» الذي يتولَّى القيادة، فصاحت به: اتجه يسارًا درجتين.
وانحرف «فهد» بالزورق وألقت «زبيدة» بضوء الكشاف الكبير على الشخص الذي رأته … وشاهده «أحمد» و«عثمان» … و«إلهام» في نفس الوقت … فأسرع «أحمد» يلقي إليه بطوق نجاة مربوط بحبل. وبعد كفاح مرير استطاع الشخص الذي لم يكن سوى «باسم» التعلُّق بالطوق، وجذبه «أحمد» سريعًا، وسرعان ما كان ملقًى على ظهر القارب.
روى «باسم» للشياطين ما جرى للقارب الصغير … والضوء الذي رآه في المياه قبل أن تشتد العاصفة وتقذف بهم بعيدًا وتغرق زورقهم.
قال «أحمد»: إن البحث عن أي شيء في هذه العاصفة العاتية هو الجنون بعينه، وكل ما يمكننا عمله هو البحث فقط عن «بو عمير» و«خالد» … وهذا هو الأهم …
ومضى الزورق مترنحًا يتم مهمته … واستطاع الكشاف القوي أن يلقي بضوئه على «بو عمير»، ولاحظ الأصدقاء أنه مُعلَّق بشيء غير واضح في الماء … وسرعان ما قذف له «أحمد» طوق نجاة، وجذبه إلى الزورق … وعندما استرد أنفاسه اللاهثة … قال «بو عمير»: لقد كان معي «خالد» وتعلقنا بهذا السلك فترة … إنه سلك قوي يبدو أنه ممتد من طرف عائم إلى الشاطئ … وقد تركني «خالد» منذ لحظات ليستكشف نهاية السلك.
أحمد: إن هذا جنون … فقد تكون نهايته بعيدةً جدًّا.
بو عمير: لا … إنه خارج من الماء في هذا المكان وصاعد إلى أعلى، ممَّا يعني أن طرفه قريب …
واشتد هبوب العاصفة، ولم يعد في الإمكان السيطرة على القارب تمامًا … ولم تتمكن «زبيدة» وهي خلف الكشاف من العثور على «خالد»، أو تتبيَّن السلك الذي كان «بو عمير» متعلقًا به.
وشيئًا فشيئًا استطاعت العاصفة أن تبعد الزورق عن مكانه في اتجاه الميناء.
وقال «أحمد»: لو تركنا الزورق لرحمة الرياح فسوف نصطدم بالشاطئ … علينا أن نلقي بالمرساة على بعد معقول من الميناء.
وظل الزورق سائرًا يترنَّح حتى أصبحوا على مبعدة نحو خمسة كيلومترات من الشاطئ وألقوا بالمرساة إلى الماء … وتوقف القارب عن السير … ووقف وكأنه يتأرجح على سطح المياه …
وفي الصالة السفلى للزورق اجتمع الشياطين الثمانية … «أحمد» و«إلهام» و«عثمان» و«باسم» و«ريما» و«فهد» و«بو عمير» و«زبيدة» يتناولون عشاءً متأخرًا … ويتحدثون …
كان مصير «خالد» مدار حديثهم … لقد فعلوا كل شيء في سبيل البحث عنه دون جدوى، وما زالت العاصفة تدوِّي والأمواج عالية، وأي محاولة للبحث عنه في هذه الحالة لا جدوى منها إلا احتمال غرق الزورق الكبير نفسه.
وقال «أحمد»: ما هي استنتاجاتك حول هذا السلك يا «بو عمير»؟
رد «بو عمير»: لا أدري بالضبط لعله سلك مرساة كبيرة لسفينة ضخمة.
أحمد: لو كانت سفينةً كبيرةً لأضاءت أنوارها … فالسفن لا بد أن تترك أنوارها مضاءةً ليلًا حتى لا تصطدم بها سفينة أخرى.
بو عمير: لعله الكابل البحري للتليفونات الذي يربط بين لبنان وإيطاليا …
إلهام: لا يمكن … أولًا؛ لأن هذا الكابل يبدأ من بيروت وليس من صور … ثانيًا؛ إنه تحت الماء وليس فوقه.
أحمد: شيء مريب هذا السلك! …
ريما: هل تعتقد أن له علاقةً بنشاط عصابة «الجولدن كراون»؟
أحمد: لا أستبعد … إن كل شيء ممكن!
وفي هذه اللحظة سمعوا صوت جهاز اللاسلكي يعلن وصول تقرير، فأسرعت إلهام إليه وكان التقرير من رقم «صفر» … لم تكن كلماته واضحةً تمامًا بسبب العاصفة، ولكن لأنهم كانوا يعرفون عن أي شيء يتحدث … فقد كانت الكلمات القليلة التي حصلوا عليها تكفي …
كان التقرير يقول:
السفينة «رويال» … لم تصل (ثم كلمات ضائعة) … يعني أنها … (كلمات ضائعة) … لبنان.
وأسرعت «إلهام» بالتقرير إلى الشياطين، فقال «أحمد»: المعنى واضح … إن «رويال» سفينة العصابة لم تصل إلى أي ميناء … وإنها ما زالت في مياه لبنان أو قريب منها … وهذا يعني أشياء كثيرة …