الأحجار الراقصة
اتجه «أحمد» وهو يعوم بهدوء في اتجاه مصدر الضوء. لقد جاءت اللحظة الحاسمة التي سيتضح فيها كل شيء … كان الضوء ينير منطقةً واسعة … واستطاع «أحمد» أن يحدِّد مصدره … كان يصدر عن أحد الأحجار الضخمة التي بُني منها حاجز المياه القديم. وابتسم «أحمد» خلف قناعه الزجاجي … لقد كان يجب أن يفكر في هذا الحل منذ أيام.
ودار حول الحجر الكبير حتى لا يمر أمام الضوء الذي يفترش أرض البحر … ثم اقترب من حافة الحجر الكبير وتوقف … وبعد لحظات قليلة ظهر رجل خارج من الحجر مقذوف كأنه طوربيد … وعام الرجل في منطقة الضوء لحظات ثم بدأ يدخل ظلام المياه العميقة، ولم يتركه «أحمد» يبتعد … عام مسرعًا كسمكة القرش القوية حتى أصبح فوقه بالضبط، ثم وضع حربة البندقية في ظهره … وحاول الرجل أن يلتفت ولكن الحربة منعته من الحركة، ودفعه «أحمد» أمامه ناحية الحجر الذي خرج منه، وكشف الضوء أحدهما للآخر … وأشار له «أحمد» أن يعاود دخول الحجر ليدخل معه … كانت الحربة موجهةً إلى رأسه تمامًا، وقد وقفا معًا فوق قاع البحر … وكان واضحًا أن «أحمد» مصرٌّ على أن ينفِّذ الآخر أوامره … واقترب الرجل من جانب الحجر … ثم فجأةً انطفأ النور وأحس «أحمد» بصدمة عنيفة من شيء حاد أصابت جانبه، وأدرك أن الرجل أطلق عليه حربةً أو شيئًا من هذا القبيل … ولكن لم تصبه مباشرة، لقد مزَّقت ملابس الغوص وجرحته … ولكنها انحرفت … واندفع «أحمد» بكل قوته تجاه الرجل … ولكنه لم يكن مكانه … ومرةً أخرى أضاء النور، وانطلقت شبكة من السلك أحاطت ﺑ «أحمد» وجذبته إلى ناحية الحجر … ثم أحس بنفسه يلتصق بجانب الحجر ثم شفطه إلى الداخل تيار هوائي قوي … وبلغت دهشته أقصاها عندما وجد نفسه في غرفة صغيرة مضاءة وحافلة بالأجهزة الدقيقة … وجهًا لوجه مع رجلين انقض عليه أحدهما وأخذ بندقيته …
أدرك «أحمد» على الفور أن نظريته صحيحة … لقد صنعت العصابة أحجارًا من البلاستيك القوي مجوَّفة … في نفس حجم ولون أحجار القلعة الغارقة … وفي داخلها كان يعيش الغواصون الباحثون عن كنز الملك «حيرام» … ولم يكن في إمكان أي شخص أن يبلغ خياله هذا المبلغ … حتى «أحمد» … لقد تصوَّر أن هناك غواصةً في هذا المكان، ولكنه لم يتصوَّر أبدًا أن يصل إتقان العصابة لعملها إلى هذا الحد.
خلع «أحمد» قناعه الزجاجي وأخذ نفسًا عميقًا ثم واجه الرجلين، كان أحدهما يتحدَّث تليفونيًّا … ولم يشك «أحمد» في أنه يتحدَّث مع السفينة «رويال». قال الرجل: إنه ولد آخر …
ثم صمت قليلًا يستمع ومضى يقول: لقد كانوا ثلاثة … استطعنا أسر أحدهم وسوف نستجوبه.
ثم عاد يستمع وقال: أعتقد أن علينا أن نغادر المكان بسرعة … وعليكم أن تقتربوا فورًا لأخذنا.
ومضى يستمع مرةً ثالثة، ثم قال: لن نتركه حيًّا.
وكانت هذه الجملة كافيةً ليتحرك «أحمد» … قذف قدمه في بطن الرجل الواقف أمامه كالصاروخ … وانكفأ الرجل على وجهه … وتحول «أحمد» إلى الرجل الثاني الذي بدا كالنمر المفترس وهو يوجه لأحمد ضربةً ساحقةً بقبضته … ولكن «أحمد» زاغ منها منحنيًا إلى أسفل، واندفع برأسه إلى الأمام، فأصاب صدر الرجل بقوة دفعته إلى طرف الحجرة التي أخذت تتمايل، وأسرع «أحمد» لالتقاط بندقيته، ولكن دوران الغرفة في الماء أفقدته توازنه فسقط على الأرض …
وانقض عليه أحد الرجلين … والْتحما في صراع مميت … كان كل منهما يحاول الوصول إلى عنق الآخر … والحجرة البلاستيك تتحرك مع صراعهما العنيف، وهما يندفعان من ركن إلى ركن … ويقفان ويقعان … والرجل الثاني يحاول الانقضاض على «أحمد» فلا يستطيع. وفجأةً تلقَّى «أحمد» لكمةً قويةً ألقته على الحائط … وأمسك الرجل بآلة تشبه الفأس ثم انقض على «أحمد» بضربة قوية لو أصابته لسحقته … ولكنه تنحَّى جانبًا … وأصاب الفأس جدار الحجرة فثقبها، واندفعت المياه داخلها.
توقَّف الثلاثة عن الصراع … لقد فقدت الغرفة توازنها … وبدت تدور مثل النحلة، وأدرك الثلاثة أنهم مهدَّدون بالموت غرقًا بعد أن انطفأ النور … وأصبحت الغرفة البلاستيك مقبرةً تحت الماء …
في تلك الأثناء كان «بو عمير» و«فهد» قد انضمَّا إلى بقية الشياطين في الزورق. كانت إصابة «فهد» خطيرة، فقامت «زبيدة» و«ريما» بتضميد جرحه … واجتمع الباقون يتحدَّثون …
روى «بو عمير» ما حدث تحت الماء ثم قال: إننا لا نعرف مصير «أحمد» … ومن المؤكد أنه هوجم كما هوجمت أنا و«فهد» … ولعله أصيب … أو …
وتردَّد «بو عمير» فقال عثمان: بدلًا من أن نضيع وقتًا أطول في الحديث، دعونا نتجه بالزورق إلى منطقة الميناء القديم … وننزل جميعًا للبحث عن «أحمد».
وطار الشياطين إلى ملابس الغوص، بينما قاد «باسم» الزورق في اتجاه الميناء القديم، ولم يكد الزورق يقف حتى كان «بو عمير» و«عثمان» و«باسم» و«زبيدة» و«فهد» و«ريما» و«إلهام» يقذفون بأنفسهم في المياه، بعد أن حدَّد لهم «بو عمير» قدر استطاعته المكان الذي تم فيه الصراع الدموي تحت الماء.
كان «عثمان» أسبق الشياطين إلى الغوص عميقًا في المياه وبطاريته في يده، وتبعته «إلهام» التي كانت بطلةً في العوم والسباحة … وتزاملا في سرعة العوم والغوص وهما يرسلان أشعة بطاريتهما هنا وهناك … كان قلب «إلهام» منقبضًا وهي تتصوَّر أن ضوء بطاريتها سيسقط فجأةً على جسد «أحمد» ملقًى في قاع البحر … ولكن ضوء بطاريتها وقع على شيء آخر … كتلة من كتل الميناء القديم تتحرَّك في الماء وكأنها تركبها العفاريت. شاهد «عثمان» نفس المشهد ولم يصدِّق عينيه … كيف يرقص حجر بهذه الضخامة تحت الماء؟ … إنه يحتاج إلى رافعة ضخمة ليمكن تحريكه … فما هذا الذي يرى؟!
اقترب «عثمان» بسرعة من الحجر الراقص ووضع يده عليه … وأحس حركةً بداخله، وأشار إلى «إلهام» أن تصعد إلى السطح وتقذف حبلًا … وفهمت «إلهام» إشارته، وسرعان ما كانت تصعد كالقذيفة إلى فوق، وتقفز إلى ظهر القارب وتشد حبلًا من الصلب مربوط في مقدمة الزورق، ثم تعاود الغوص مسرعةً إلى حيث كان ضوء «عثمان» ينير لها مكان الحجر الراقص.
أمسك «عثمان» بطرف الحبل، ودار دورةً سريعةً حول الحجر، وربط الحبل، ثم أشار إلى «إلهام»، وصعدا معًا مسرعين واستخدما رافعة الزورق الأوتوماتيكية في رفع الحجر … وسرعان ما برز فوق الماء، وأخذ الماء يتدفَّق من الثقب الذي فيه.
جذب «عثمان» الحجر إلى سطح الزورق … وأضاءت «إلهام» كشافًا قويًّا، أضاء الحجر الضخم … وبدا واضحًا على الفور أنه ليس حجرًا … إنه من البلاستيك بلون الأحجار … وسمعا طرقًا من الداخل، وأمسك «عثمان» ببلطة ثم صاح: انبطحوا.
وهبطت ذراعه القوية بالبلطة على البلاستيك فحطَّمت جزءًا منه، وعلى ضوء الكشَّاف شاهد «عثمان» و«إلهام» أغرب منظر يمكن أن يتصوَّراه: «أحمد» ورجلين معًا منطرحين أرضًا، وقد بدا عليهم الإعياء الشديد …
أسرعت «إلهام» إلى «أحمد» وجرَّته بعيدًا … وخلعت عنه ثياب الغوص … ورأت وجهه وقد كسته زرقة داكنة … ولكنه كان يتنفس، فأخذت تدلِّك صدره. وأسرع «عثمان» فأعد كوبًا من الشاي الساخن … وبعد دقائق أفاق «أحمد» وأخذ ينظر حوله وهو لا يصدق عينيه …
قالت «إلهام»: ما الذي حدث؟
أحمد: حكاية طويلة … المهم أن السفينة «رويال» ستقترب الآن لانتشال بقية الغواصين … يجب أن نحاصرها ونمنعها من مغادرة الميناء، وأرسلي برقيةً إلى رقم «صفر» اطلبي منه أن يرسل قوات من شرطة ميناء صور للقبض على العصابة.
وأسرعت «إلهام» تنفِّذ المطلوب منها، بينما قذف «عثمان» بنفسه في المياه وأسرع لاستدعاء بقية الشياطين … وسرعان ما عاد وخلفه «بو عمير» و«فهد» و«باسم» و«زبيدة» و«ريما» …
وقام بعض الشياطين بالعمل على إفاقة الأسيرين … ثم شدُّوا وثاقهما، وقال «أحمد»: أطفئوا أنوار الزورق … واستعدوا … أعتقد أن السفينة «رويال» على وشك الوصول … واستجوبوا الرجلين عن عدد الرجال الذين على الباخرة «رويال» … ونوع الأسلحة التي عندهم … وسنأخذ حذرنا في الهجوم فإن «خالد» معهم …
كان «أحمد» منهوك القوى إثر المجهود العنيف الذي بذله في الصراع … والموت الذي تعرَّض له تحت الماء … ولكنه كان يدرك أن المغامرة قد وصلت إلى نهايتها ويجب أن يتم كل شيء بدقة حتى لا تنتهي جهودهم عبثًا … وهكذا ظلت تعليماته تصدر تباعًا … والشياطين يستعدون للمعركة القادمة …
وقال «عثمان»: هل تتوقع أن تدخل «رويال» الميناء مضاءة الأنوار؟
قال «أحمد»: لا أظن … بل أعتقد أنها ستكون مطفأة الأنوار … ولكن بالطبع سترسل إشارات ضوئيةً للغوَّاصين.
عثمان: وكم رجلًا تتوقع أن يكونوا ما زالوا تحت الماء، عدا الأسيرين؟
أحمد: لا أعرف … ربما اثنان آخران أو أكثر …
عثمان: ولماذا لا ننزل للقبض عليهم تحت الماء؟ …
أحمد: لا داعي لتعريضكم للإصابات … فسوف نهاجم بطريقة القراصنة …
ومضى «أحمد» يقول: إن السفينة ستقترب … وترسل إشاراتها الضوئية، وبالطبع سيتجه ناحيتها الغواصون الباقون في الماء … سيكون اهتمام ركاب السفينة كلهم موجهًا إلى القادمين … وسنهجم نحن من الجانب الآخر … وذلك لتخليص خالد أولًا.
وجاء «باسم» يقول: لقد وضعنا الرجلين في مخزن الطعام … وقد اعترفا بأن هناك رجلين آخرين في غرفة بلاستيك أخرى تحت الماء … وأن على السفينة ستة رجال والزعيم الذي يسمي نفسه «كراون» … وأن الأسلحة مسدسات وبنادق … فقط! …
أحمد: عظيم … إن عددنا مساوٍ لعددهم تقريبًا … وسنهجم رجلًا لرجل.
وفجأة أقبلت «زبيدة» مسرعةً قائلة: رأيت إشارات ضوئيةً منقطعةً تقترب باستمرار …
أحمد: إنها السفينة «رويال» … عليك بقيادة الهجوم يا «عثمان» …
وجمع «عثمان» الشياطين ثم أرشدتهم «زبيدة» إلى مصدر الضوء … وقفزوا جميعًا في المياه السوداء … وغطسوا واتجهوا ناحية السفينة التي توقفت فوق الميناء القديم …
كان الشياطين مزوَّدين بسلالم الحبال وبطرفها مشابك حديدية مكسوة بالمطاط حتى لا تُحدث صوتًا، وقذفوا بالحبال فأمسكت بأطراف السفينة، وصعد «عثمان» و«بو عمير» و«فهد» و«باسم» و«ريما» و«زبيدة» … وكان «عثمان» يحمل كرته المطاط الجهنمية … وكان متشوِّقًا لاستعمالها … وبرز وجهه الأسمر فوق سطح السفينة … وشاهد الحارس على الأضواء الخفيفة التي كانت تصدر عن باطن السفينة، وكانت نظرة واحدة كافيةً ليحدِّد المسافة والهدف، ثم وقف واستجمع قوَّته وقذف الكرة فأصابت رأس الحارس كالقنبلة … وسمع الشياطين صوت جسد الرجل وهو يتكوَّم على الأرض … فقفزوا جميعًا … واتجهت «زبيدة» و«ريما» للبحث عن خالد … بينما ربض بقية الشياطين في جوانب السفينة، وأخذ «عثمان» يمارس هوايته في اصطياد الحراس بكرته المطَّاط … وكان يبتسم فتلمع أسنانه البيضاء في الظلام وهو يعد ضحاياه.
نزلت «زبيدة» و«ريما» محاذرتين إلى دهليز السفينة الرئيسي … ولم يكن قد بقي فيه من الحراس سوى واحد فقط … وكان يقف أمام باب إحدى الغرف ممسكًا بمسدس … ورأته «ريما» أولًا فأشارت ﻟ «زبيدة» التي كانت تلبس كبقية الشياطين ملابس الغوص … فتقدَّمت وكأنها أحد الغواصين القادمين من الماء … ورآها الحارس … وبدت عليه الحيرة وتردَّد لحظات كانت كافيًة لتقترب منه «زبيدة» بسرعة، ثم ترفع يده الممسكة بالمسدس إلى أعلى وتضرب ساقه بقدمها ضربةً قوية، فاختل توازنه وسقط على ركبتيه … وكانت «ريما» قد أقبلت مسرعةً فأدارت ذراعه الممسكة بالمسدس إلى الخلف بشدة ونزعت المسدس من يده … وفتحت الفتاتان أحد أبواب الغرف المغلقة، ثم دفعتاه إليها، وأغلقتا الباب بالمفتاح.
تقدَّمت «زبيدة» من الباب الذي كان يقف أمامه الحارس … ولم يكن ثمة شك أن «خالد» فيه … واقتحمت الباب هي و«ريما» … وعلى فراش حديدي كان «خالد» مربوطًا … وأسرعت الفتاتان تفكان وثاقه …
كان «عثمان» وبقية الشياطين قد ضربوا ثلاثةً من الحراس … بالإضافة إلى الحارس الذي سجنته «ريما» و«زبيدة» … لم يبقَ سوى حارسين مع «كراون»، وكان الثلاثة مشغولين بانتشال الغواصين من الماء … وبعد أن انتشلوا اثنين من الحراس أخذوا ينتظرون الباقين … ولكن انتظارهم لم يطل … فسرعان ما اشتغلت كرة عثمان الجهنمية في الرءوس … وأخذ الشياطين يقفزون في الظلام كالأشباح … ومع كل قفزة كانت لكمة ساحقة تصيب أحد الرجال … أو ضربة على الرأس … وفي دقائق قليلة … كانت عصابة «جولدن كراون» التي كانت تحلم بكنوز الملك «حيرام» … قد سقطت في أيدي الشياطين … وأسرع «أحمد» يضم زورق الشياطين إلى جانب السفينة، ونقل إليها الغوَّاصَين الأسيرَين … وهكذا اكتملت العصابة … ثم أضاء الشياطين أنوار السفينة كلها … وبعد لحظات سمعوا صوت زوارق الشرطة وهي تطلق صفيرها المتقطِّع … فانسحب الشياطين مسرعين … وكم كانت دهشة رجال الشرطة عندما صعدوا إلى السفينة ووجدوا العصابة كلها على السطح … بين مغمًى عليه ومقيد … دون أن يجدوا أثرًا للذين قاموا بكل هذا!