بعض الكلمات بشأن المستقبل
التاريخ لا يُعيد نفسه لكنه ينسجِم مع ما يقَع من أحداث.
هنالك مُؤلِّفون آخرون لديهم الرأي نفسه؛ فقد قال مايكل هامر في كتاب «إعادة هندسة المؤسسات»: «لن نُهدر الوقت فيما بين أيدينا، بل سنتخلَّص منه.» كما كتب نيكولاس نيجروبونتي: «التدرُّج أسوأ عدوٍّ للابتكار.» كما اعتاد ليو بلات — الرئيس التنفيذي السابق لشركة «هوليت–باكارد» — أن يقول: «كل ما جعلك ناجحًا في الماضي لن يجعلك ناجحًا في المستقبل.»
عندما تنظر إلى مِهنة المحاسبة في الوقت الحالي، من المؤكد أن هذه الكلمات يكون لها وقْعُها أكثر من أي وقتٍ مضى. ومع ذلك، فإنَّ القوى المُخوَّلة قانونًا، لا سيما الهيئات الصناعية، لا تتصرَّف بهذه الطريقة؛ فهي تُجري دومًا إصلاحاتٍ هامشية. وبالطبع، يُمكن للمرء أن يُخمِّن أنها تفعل ذلك لأن أعضاءها دائمًا ما يُجرون إصلاحاتٍ هامشية أيضًا. وكما قال لي مؤخرًا أحد الرؤساء السابقين لمعهد المحاسبين القانونيين في إنجلترا وويلز في عام ١٩٩٩، «كيف يُمكنني أن أقود هذه المؤسسة إلى أمجادها بينما ما زلت أتلقَّى رسائل من بعض الأعضاء مطبوعةً على آلاتٍ كاتبة قديمة؟»
•••
(الانتقال إلى مشهد اجتماع مجلس إدارة مُصغَّر، حيث يقف محاسب ويقرأ …):
نعرض هذا المشهد الهزلي في دَوراتنا وهو دومًا ما يُثير حالةً من الضحك الصاخِب لدى الجمهور، ولكن على الرغم من الصور النمطيَّة الموجودة في المهن — المحاسبون المنشغلون فقط بتحقيق الربح والمحامون المنشغلون فقط بكتابة العرائض — فإنَّ كِلتا المهنتَين نبيلة. إن الغرض من هذا الفصل ليس المُفاضلة بين المهن، بل التحدُّث عن بعض المشكلات التي ستواجهها خلال العقود القادمة.
إنني محاسب قانوني، ولا أدَّعي أي خبرة خاصة في مجال القانون أو المحاماة؛ ومِن ثَمَّ سأقتصر في تعليقاتي على تلك القضايا التي تُواجِهُ المُحاماة والتي أعرِف عنها أشياء؛ على وجه التحديد، المُمارسات المُتعدِّدة التخصُّصات، وإصلاح نظام الفواتير المحتَسَبة بالساعة، ونماذج التسعير البديلة. أمَّا بالنسبة إلى مِهنة المحاسبة القانونية، فأنا أعرِف أكثر وسأُناقِش الوضْع الحالي لمُراجعة القوائم المالية، ونموذج التقرير المالي الجديد، والإصلاح المحاسبي في أعقاب واقعة «إنرون» وغيرها من الفضائح، ومناهج التعليم المحاسبية، وسُبُل جذْب الطُّلَّاب إلى المهنة.
إن الغرض من هذه المُناقَشات ليس ادِّعاء البصيرة والعلم المُسبَق، ولا تشجيعك على التفكير «مِثلي»، بل هدَفي هو أن تُفكِّر معي في هذه القضايا المُهمَّة التي تُواجِه مِهنتنا؛ فالفصل الأخير من المهنة لم يُكتَب بعد، وهناك دائمًا مساحة للمزيد الذي يمكن أن يُقال.
(١) هل سيلقى التدقيق المالي نفس مصير السيارة إدسل؟
يجب أن تكون هذه النِّسب الضعيفة جرس إنذارٍ واضحًا يلفت الانتباه إلى أن مهنة المحاسبة لدَيها مشكلات جوهرية خطيرة فيما يتَّصِل بعلاقتها بالعملاء تختلف عن القضايا التي تُهيمن على العناوين التي تصدَّرت الصُّحف بشأن فضيحتَي «أندرسن» و«إنرون». وكما تقول شوبرا رامشانداني، رائدة ممارسات إدارة أصحاب المصلحة في أمريكا الشمالية لدى شركة «أن أف أو وورلد جروب»، المشكلة ليست مشكلة نزاهة، إنما مشكلة قِيمة. يُولي مُعظم العملاء أخلاقيات العمل الخاصة بالمحاسبين الخارجيين اهتمامًا كبيرًا، لكن ما يتساءلون عنه هو أداء وقيمة الخدمات التي يتلقَّونها. (تاوب، ٢٠٠٢)
مُعظم المحاسبين يسلكون الطريق السهل ويدَّعون أن عملية التدقيق إنما هي سلعة، وهي فكرة خادعة قد فنَّدناها في الفصل التاسع. صحيح، أنَّ التدقيق مَطلب يجب على معظم الشركات مُراعاته؛ ولكن من المهم أن نتذكَّر أن عمليات التدقيق أُجرِيَت للغالبية العظمى من الشركات العامة المُدرَجة في البورصة قبل أن تفرضها هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية بوقتٍ طويل. إن التدقيق هو في الواقع مُنتج تأميني، مُصمَّم للتخفيف من مشكلة المالكين والوكلاء؛ أي إن أصحاب رأس المال (المالكين) يُعيِّنون مُديرين (وكلاء) لإدارة أعمالهم، وإحدى طرق مُراقبتهم ومُحاسبتهم هي إجراء تدقيق مستقل، ولهذا السبب، أولى السُّوق اهتمامًا بعمليات التدقيق قبل أن تفرِضها الحكومة على الشركات العامَّة بوقتٍ طويل.
وبالرغم ممَّا سبق، فإن مِهنة المحاسبة قد تبنَّت منذ ثمانينيات القرن العشرين وجهة النظر القائلة إنَّ تدقيق الحسابات ليس أكثرَ مِن مُجرَّد سلعة، وقد سُعِّرت باعتبارها سلعة اجتذاب (بيع بالخسارة لجذب العملاء) على أمل الحصول على عملٍ ضريبي واستشاري أكثر ربحًا. إنه الامتياز الوحيد المُعتمَد من الحكومة — وهو ما يعني بوضوحٍ أكثر الاحتكار — وقد اعتاد المحاسبون التنازُل عنه، والأسوأ من ذلك، أنَّ المحاسبين لم يُقيِّموا أسعارها على أساس نماذج المخاطر الاكتوارية (التأمينية)، بل على أساس مُعدَّل سعرٍ تعسُّفي — وغالبًا ما يكون حسب ساعات عملٍ مخفَّضة إلى حد كبير — لتغدو فريسةً لنظرية قيمة العمل. ربما لم يكن السعر كافيًا لتتولَّى «أندرسن» التدقيق المحاسبي لشركة «إنرون»، وبإدراكي المتأخِّر للأحداث الماضية، أُخمِّن أنَّ الشركاء كان بإمكانهم تطبيق قانون بيكر؛ إذ إنه في هذه الحالة تسبب أحد العملاء السَّيِّئين في الإطاحة «بجميع» العملاء الجيدين.
إن عملية تزويد المستثمرين بالمعلومات المالية لاتِّخاذ القرارات معطوبة، ومهما حدث من تغييرٍ، فلن يصلُح ذلك إذا ما واصلْنا وضعَ العبء بأكمله على كاهل مهنة المحاسبة.
[تحدَّث عن عيوبٍ جوهرية في إعداد التقارير المالية] لقد جعلنا مهنة المحاسبة لعبة ذات قواعد وثغرات وحجج قانونية مثل قانون الضرائب.
يجب أيضًا تحديد مؤشرات الأداء على نحوٍ أكثر وضوحًا، ويحتاج المستثمرون إلى رؤية معلومات أكثر اتِّزانًا حول مخاطر الأعمال.
[اقترح] على المُدقِّقين التوجُّه نحوَ نظام تصنيف لجودة القوائم المالية: بطاقات تقارير مع تعقيب. فإذا كانت النتائج غير منطقية، يجب على المُدقِّق أن يعترض ويُحدِّد السبب.
أرغَب في مناقشة التعليق الأخير هنا أولًا. إنَّني أجِدُ أنه من المؤسِف أنَّ رجلًا مثل بيراردينو يمكنه الارتقاء إلى قِمة شركة مُحاسبة كانت مرموقة في يوم من الأيام، ولا يُدرِك أن نموذج التسعير به خَلَل إلى أن تنهار الشركة، وأنا لا أعرف عن مُعادلة الممارسة القديمة والساعات المُفوتَرة أكثر ممَّا يعرفه بيراردينو. في بعض الأحيان، أظلُّ مُتشائمًا للغاية بشأن قُدرة مهنتنا على تعلُّم أي شيءٍ جديد وليس مُجرَّد ارتكاب الأخطاء نفسها مرارًا وتكرارًا. لو كان ثمة درس واحد تعلَّمْناه من «إنرون» و«آرثر أندرسن»، لتمثَّل ذلك الدرس في أنَّ التدقيق المحاسبي ليس سلعةً قطعًا؛ إذ إنه ما مِن سلعة — ولا حتى الخسُّ أو المياه المُعبأة أو القهوة — يمكن أن تُحدِث هذا القدر الكبير من الدَّمار في الأسواق المالية وتؤثر على حياة العديد من المستثمرين.
لقد حان الوقت لكي تُدرك المهنة قيمة التدقيق واعتباره مُنتجًا تأمينيًّا يحتاج إلى تسعيرٍ يعتمِد على الحسابات التأمينية، حتى لو تطلَّب هذا أن نُوظِّف خبراء تأمين، فليكن ذلك؛ إذ يُمكننا على الأقل أن نتعلم منهم قاعدةً بديهية جوهرية للاستفادة منها في جميع عمليات التدقيق المستقبلية: «لا تُوجَد مخاطر سيئة، ولكن هناك أسعارًا سيئة.»
إن الفضائح المحاسبية التي وقعَتْ في عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٢ — والتي تصدَّرَت «إنرون» فيها عناوين الأخبار في البداية، لكن كانت هناك فضائح أخرى — هزَّت عالم المحاسبين بالتأكيد، أو على الأقل ١٥ بالمائة من المحاسبين القانونيين الذين يعمَلون في تدقيق الحسابات بالولايات المتحدة، لكن لديَّ وجهة نظر بشأن هذه الفضائح أكثر اختلافًا عن المنظور السائد، وسأُخالِف هنا آراء زُملائي مُنضمًّا إلى صفوف الاقتصاديين.
أعتقد أن الفضائح المحاسبية لا تتعلَّق كثيرًا بالاحتيال أو المُخالفات القانونية أو الجرائم الأخرى، بل تُسلِّط الضوء، عوضًا عن ذلك، على تراجُع مستوى أهمية ومُلاءمة نموذج إعداد التقارير المحاسبية التقليدي. إذا كُنَّا جادِّين في إصلاح مهنة المحاسبة، فإنَّنا مُضطرُّون إلى مواجهة بعض الحقائق البغيضة. إن عمر نموذج المحاسبة الحالي أكثر من ٥٠٠ عام وهو في حالة سيئة للغاية. في اقتصاد رأس المال الفكري، قد يكون من الممكن تتبُّع الإيرادات والنفقات، ولكن من الصعب معرفة كيفية ارتباط النفقات بالنتائج المتحققة خارج الشركة.
إن القوائم المالية التقليدية المُستنِدة إلى المبادئ المحاسبية المقبولة بصفةٍ عامة تعتمد على قيمة تصفية الشركة، وهي في الأساس التكلفة التاريخية للأصول مخصومًا منها الديون. وقد وُضعت قائمة الدخل لمُراعاة أهمِّ تكلفةٍ في مجتمع صناعي: تكلفة السلع المبيعة. ولكن في اقتصاد رأس المال الفكري، تكون تكلفة السلع المبيعة — تكلفة العائدات — أقلَّ أهمية؛ إذ بلغ مُتوسِّط مبيعات «مايكروسوفت» ١٤ بالمائة من المبيعات، وبلغ متوسط مبيعات «كوكاكولا» نحو ٣٠ بالمائة، وبالنسبة إلى شركة «ريفلون»، بلغ متوسط المبيعات ٣٤ بالمائة. وعلى الرغم من أن رأس المال الفكري هو المُحرِّك الرئيس للثروة، فسوف تبحث دون جدوى للعثور عليه في القوائم التقليدية المُعدَّة وفقًا للمبادئ المحاسبية المتعارَف عليها؛ بعبارةٍ أخرى، في الميزانية العمومية وفي قائمة الدخل وقائمة التدفُّقات النقدية. وعلى نحوٍ مُتزايد، يُشار إلى هذه العبارات باسم «الفئران الثلاثة العمياء».
أهم ما في الأمر أن الاتهام المُوجَّه للمحاسبة التقليدية أصبح — على ما يبدو لأكثر المراقبين — في غاية الوضوح: فمن الصحيح على نحوٍ لا يقبَل الجدل أن المحاسبة المالية والإدارية الحالية لا تُعطي المستثمرين أو المديرين أو الجمهور أو الإدارة المعلومات التي يحتاجون إليها لاتخاذ قراراتٍ مدروسة. لقد حان الوقت للقضاء نهائيًّا على المحاسبة التقليدية التي تستنزِف الحياة من الأعمال التجارية. (ستيوارت، ٢٠٠١: ١٤)
لستُ على استعدادٍ لأن أذهبَ بعيدًا مثلما ذهب ستيوارت، ولكنَّني أتفهَّم الحجج التي يطرحها؛ إذ يجب على المحاسبين أن يعترفوا — بل أن يبدءوا في تعليم العامة — أنَّ التدقيق هو مؤشر «مُتأخِّر»، وإن كان ضروريًّا وثمينًا، إلا أنه ليس كل ما يحتاجه جميع المستثمرين وغيرهم من المستخدمين. لم يعُدْ كافيًا أن يأتي المدقِّقون بعد المعركة ليُحصوا الجرحى، إنهم بحاجةٍ لأن يشرعوا في وضع مُؤشِّرات «مُوجِّهة» لعملائهم، وأن يشهدوا على صحة هذا أيضًا. للأسف، لم تؤدِّ المهنة دورًا رائدًا في هذا المجال، ممَّا سمح للشركات الاستشارية وحتى المنظمات غير الحكومية بالدُّخول إلى الميدان والاستحواذ على جزءٍ كبيرٍ من هذا العمل.
قد يعتقد المرء أنه في هذه البيئة الحالية، ربما تُعلن شركة، «سايبريس سيميكوندكتور»، حصريًّا عن «الموافقة» على مبادئ المحاسبة المتعارَف عليها، لكنَّنا لا نفعل ذلك. نحن ننشُر مجموعتَين من الأرقام المالية؛ مجموعة حسب معيار المبادئ المحاسبية التقليدية المتعارَف عليها والأخرى حسب معيار «شكلي/أولي»، اعتمدنا عليه كأساسٍ لتواصُلنا مع مُستثمِرينا على مدى السنوات القليلة الماضية.
لماذا نُصدِر مجموعتَين من الأرقام المالية، في الوقت الذي يُعدُّ فيه من الأفضل تقديم تقريرٍ واحد بسيط في ظلِّ البيئة الحالية؟ ببساطة، لأن قواعد المحاسبة وفقًا للمبادئ المحاسبية المتعارَف عليها، كما هو منصوص عليه من قبل «مجلس معايير المحاسبة المالية»، لم تَعُد مُتوافِقةً مع الواقع. إنَّ تقريرَنا المُستنِد إلى المبادئ المُحاسبية المتعارَف عليها يُعطي مُستثمرينا معلوماتٍ غير صحيحة عن الأمور المالية لشركتنا، ممَّا يستلزِم تقديم تقريرٍ شكليٍّ ثانٍ.
أي شركة تلك التي قد تُخاطر بالابتعاد عن معايير المبادئ المحاسبية المتعارَف عليها في حقبة ما بعد «إنرون»؟ الجواب: «إنتل»، «أدفانسد مايكرو ديفايسز»، «كونسانت»، «فيرتشايلد»، «أل أس آي لوجيك»، «موتورولا»، «أس تي مايكروإلكترونيكس»، «تكساس إنسترومنتس»، «سايبريس»، وغيرها الكثير. في الواقع، وجَد استطلاع أجرتْهُ شركة «برايس ووترهاوس كوبرز» أنَّ ٧٤ بالمائة من شركات أشباه الموصِّلات تُصدر قوائم أرباح شكلية كذلك … ثمَّة عزوف جماعي عن المبادئ المحاسبية المتعارَف عليها في المجالات الأخرى العالية التقنية أيضًا.
وأخيرًا، إذا لم نتمكَّن من جعل المبادئ المحاسبية التقليدية المُتعارَف عليها تعمل على نحوٍ صحيح — وهذا هو ما أتوقَّعُه — فسوف نحتاج إلى تشكيل إطارٍ من المعايير المحاسبية خلف المحاسبة الشكلية لمنحِها «موافقة» حقيقية. ربما سيقبل السيد شوتزه [رئيس الحسابات السابق لدى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية] أنْ يُصبح رئيسًا لمجلس معايير المحاسبة الشكلية؛ فمن المؤكد أنَّ احتكار الحكومة لمجلس معايير المحاسبة المالية يحتاج إلى مُنافسٍ يتمتَّع بالحصافة والحسِّ السليم. (روجرز، ٢٠٠٢: ١، ٩)
ببساطة، من السهل للغاية استبعاد رودجرز باعتباره عضوًا ساخطًا في صناعةٍ لها مصلحة في الترويج لمبدئه. إنه «عميل لمُدقِّقي الحسابات»، وينبغي ألا نتسرَّع في نبْذِ مُلاحظته الختامية المتعلقة بإنشاء منافس لمجلس معايير المحاسبة المالية؛ فهناك العديد من الأفكار المشابهة في مجال التنظيم وإصلاح التعليم وجوانب أخرى من الاقتصاد، حيث يرغب الاقتصاديُّون في فتح الباب أمام المنافسة من أجل تحسين كفاءة وفعالية الهيئات الرقابية (سوف نُسلِّط الضوء على واحدةٍ من تلك الأفكار الرائعة في موضعٍ لاحق في هذا الفصل).
إن مهنة المحاسبة مجال ناضج، وكما أُشير في السابق، لم يكن لدَيها ابتكارٌ جديد منذ عام ١٩٧٨، عندما قدَّمت لعملائها تصنيفاتٍ ومُراجعات مالية لقوائم مالية. ثمة ثلاثُ طرُق مُمكنة يُمكن للمِهنة أن تسلُكها. في البداية، يُمكنها ألَّا تفعل شيئًا، وعادةً ما يكون هذا هو الطريق الذي تصِل إليه الصناعات الراكدة؛ فالاعتقاد بأنَّ الماضي سوف يُشبِهُ المستقبل بشكل أو بآخر يجعل القادة لا يَرَون أيَّ سببٍ للتغيُّر. لا شكَّ في أن المهنة ستظلُّ قائمة بصورةٍ ما أو بأخرى؛ إذ إن الكثير من أعمالها يجري تفويضه من قِبَل الحكومة، ولكنها ستتخلَّى عن مكانتها كمهنةٍ مالية رئيسة إذا اختارت هذا الطريق.
على الطريق الثاني، يمكن لآخرين من خارج المهنة أن يحلُّوا محلَّ أصحاب المهنة، وهو ما أسماه جوزيف شومبيتر «العاصفة الدائمة للتدمير الخلَّاق». في بعض الأحيان، يحدُث هذا بالفعل فيما يتعلَّق بمؤشرات الأداء الرئيسة، والتدقيق الاجتماعي، وتقييم العلامات التجارية، وقياسات رأس المال الفكري، من بين أمور أخرى، تؤدِّيها الشركات الاستشارية والمنظمات غير الحكومية، وهذا أمر مُؤسف لأن مهنة المحاسبة يجب أن تكون في المقدمة من هذه الجوانب، لكنها اعتمدت ببساطة على نجاحاتها السابقة.
وأخيرًا، على الطريق الثالث، يمكن للمهنة أن تبتكِر وأن تُصبح هي هي نفسها سبب تدميرها الخلَّاق. لا شيء من هذه الخيارات يُمثِّل خيارًا سعيدًا، وسيتسبَّب في حالةٍ من الاضطراب للوضع الراهن، ولكن هل يُمكن أن يكون ثمة أيُّ شكٍّ في أنَّ العرض الحالي لمُدقِّقي الحسابات هو خيبة أمل كبيرة في عصرنا كإخفاق شركة «فورد» في تسويق سيارتها «إدسل»؟ أليس لزامًا على المهنة أن تُقرر مصيرها، بدلًا من أن تُسنَد إلى البيروقراطيين الحكوميين غير المتفرِّغين الذين يتعين عليهم الامتثال لقانون الضرائب المتعاظِم، والقواعد المتزايدة للمبادئ المحاسبية المتعارَف عليها التي تُعلنها هيئةٌ ما يُمكن أن تخضع للتأميم حسب أهواء السياسيين؟ ألا نَدين لأنفسنا بأن نخلُق مستقبلًا أفضل للأجيال القادمة من المحاسبين القانونيين تاركين لهم تُراثًا ذا صِلةٍ بواقع السوق؟ ليست السيارة هي ما يُرفض بل طريقة الصنع والطراز؛ لنبدأ بالبحث في كيفية إصلاح النموذج المالي الحالي.
(٢) إصلاح النموذج المالي
في شهر مارس من عام ٢٠٠١، أعلنت الشركات المدرجة على مؤشر «ستاندرد آند بورز ٥٠٠» (وهي من بين أكبر ٥٠٠ شركة في الولايات المتحدة) أن قيمتها الدفترية مِقدارها دولار واحد مُقابل ستة دولارات لقيمتها السوقية. بعبارة أخرى، يُمكن إيجاد سُدس قيمة الشركة في ميزانيتها العمومية فقط.
أستاذ المحاسبة البارز باروك ليف — الذي يشغل كرسي فيليب بارديس للمحاسبة والمالية بكلية «ستيرن» لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك — كتب باستفاضة حول أوجه القصور في نموذج القائمة المالية الحالي الذي يُعدُّ وفقَ مبادئ المحاسبة المتعارَف عليها. ويعتقد أن المعلومات المتعلقة بالأصول غير المادية — تلك الموجودات غير المُدرَجة في الميزانية العمومية، هي السبب في ثراء مُعظم الشركات، ممَّا يؤثِّر سلبًا في رأس مالها الفِكري — يمكن الإفصاح عنها طواعيةً من قِبَل الشركات بطرُقٍ أخرى إلى جانب القوائم المالية، مِثل الاجتماعات والمؤتمرات والمكالمات، أو التقارير البحثية من قِبَل المُحلِّلين.
ويُشير كذلك إلى أنَّ القوائم المالية تنقل أكثر بكثيرٍ من مُجرَّد أرقام التكلفة التاريخية، وذلك من خلال دفعه بأن أغلب الحسابات المُدرَجة على الميزانية العمومية تتطلَّب تقديرات ذاتية عن المستقبل، مثل احتياطيات حسابات الذمم المدينة، وتقديرات استهلاك الأصول، والالتزامات المتعلقة بالمعاشات التقاعدية، وما إلى ذلك. إنه لا يزال يعتقد أن النظام المحاسبي الحالي يحتاج إلى تغيير ولكنه يتطلَّب تدخُّلًا رقابيًّا (انظر ليف، ٢٠٠١: ١٨-١٩، ٨١، ١٢٢).
لا أجِدُ حُجَج «ليف» مُقنعة؛ فهناك أوجه قصور جسيمة في النموذج المالي الحالي. هل من طريقةٍ أخرى غير هذه يمكن بها تفسير عجز الميزانية العمومية عن إظهار جزءٍ صغير فقط من قيمة الشركة، أو الأرباح الشكلية المُبلَّغ عنها كشيءٍ تكميلي من جانب العديد من الشركات؟ كما أن فكرته القائلة إن مزيدًا من الضوابط الحكومية مطلوبة من أجل الإصلاح أمر مشكوك فيه أيضًا؛ فلدَينا بالفعل كمٌّ هائل من الضوابط والإشراف على مهنة المحاسبة والقواعد والمعايير التي تنشرها؛ لماذا يظنُّ أيُّ شخص أن المزيد من التعقيد سيحلُّ المشكلة الأساسية، بدلًا من مجرَّد التعامُل مع بعض الأعراض القليلة؟ وكما هو الحال في أي صناعة خاضعة للرقابة، عادة ما يُخنَق الابتكار، ولا تُعطى مَصلحة المستهلك الأولوية، وهي قضية سنناقشها لاحقًا.
المقترَحات التي قدَّمها روبرت جي إيكلس، وروبرت أتش هيرتس، وماري كيجان، وديفيد أم فيليبس في كتاب «ثورة تقارير القيمة: تجاوز لعبة الأرباح»، أكثر إقناعًا وإثارةً بكثيرٍ من تلك التي قدَّمها ليف. لقد كانت ثمة لفتة تدعو للتفاؤل في حركة الإصلاح عندما قَبِلَ روبرت هيرتس مُؤخَّرًا منصب رئيس مجلس معايير المحاسبة المالية؛ إذ يعتقد هيرتس أنَّ المبادئ، وليس القواعد الآلية الجامدة، هي ما يجب أن يلعب دورًا أكبر في عملية وضع المعايير.
ما الذي يُمكن أن تقوم به شركات المحاسبة لخدمة عملائها ومُساهميها وغيرهم من أصحاب المصلحة على أتم نحوٍ ممكن؟ ما الذي يجب عليهم فعله للرجوع إلى دورهم السابق في حثِّ العملاء على فعل الأشياء الصحيحة، وليس فقط الشيء المطلوب؟
-
تحديد جميع المكونات الرئيسة ومُحركات القيمة [مؤشرات الأداء الرئيسة].
-
تمكينهم من أن يُصبِحوا خبراء في العمليات التجارية والضوابط ذات الصِّلة المُحيطة بقياس مُحركات القيمة والمخاطر المالية والتشغيلية.
-
تحديد العلاقة بين برامج مُحركات القيمة (نموذج العمل).
-
ابتكار منهجيَّات لقياس مُحركات القيمة.
-
المشاركة في تنظيم أو حتى تولِّي مهمة تنظيم تحالفات بين شركات عاملة بالمجال التي ستُحوِّل المنهجيات إلى معايير خاصة بالمجال.
-
تشجيع عملائهم على الإبلاغ عن المعلومات المتعلقة بالمعايير في الوقت المناسب وبأفضل طريقةٍ تفصيلية مُمكنة.
ولا تستطيع شركات المحاسبة الاضطلاع بذلك الدَّور إذا اقتصر دَورها على مجرَّد إجراء عمليات التدقيق القانوني، بل يجب أن يكون لها دَور استشاري أوسع نطاقًا يتضمَّن ابتكار نماذج عملٍ ووضع منهجيَّات قياس، وتطبيق هذه المنهجيات في العمليات، والتي يتطلَّب الكثير منها مستوًى عاليًا من تقنية المعلومات. وفي عالم مُتسارِع الإيقاع وفي ظل وجود العديد من مقاييس الأداء، يختفي الفرْق بين المُراقبة والرقابة وبين المراجعة والمشورة إلى حدٍّ كبير. (إيكلس وآخرون، ٢٠٠١: ٢٦٦)
يبدو أن شركات المحاسبة لديها فُرصة بالتأكيد لاستعادة مكانتها المرموقة التي تستحقُّها، لكن هل ستنجح في ذلك؟ هذا يعتمِد على شيئَين؛ أوَّلًا، يجِب أن يكون لدَيها الإرادة؛ فيجب على شركات المحاسبة أن تُعيد إرساء دعائم الدور الذي لعبته منذ سنوات عديدة عندما كانت هي التي تقود عملاءها بدلًا من انقيادها لهم فيما يتعلق بوضع معايير وممارسات إعداد التقارير، وثانيًا، يجب المواءمة بين الإرادة والإمكانات؛ إذ يجب أن يكون لدى شركات المحاسبة أشخاص لديهم المهارات اللازمة لفعل ذلك. (المرجع السابق: ٢٦٧-٢٦٨)
بطبيعة الحال، سيتطلَّب ذلك من مهنة المحاسبة أن تدخل ساحة فرض النظريات، واختبارها باستمرار على أرض الواقع، ومِن ثَمَّ مُراجعتها، في عملية تكرارية لا تنتهي. وإجمالًا لا تمتلك هذه المهنة الكثير من المعلومات في هذا الصدد، ولكن سيتعيَّن عليها أن تستعيرها إذا أرادت البقاء على قِمة مُنحنى القيمة الخاص بالتقارير المالية.
لكن ثمة بعض العلامات المُشجِّعة الدالَّة على أن المهنة بدأت في اغتنام الفرص التي تسنَحُ لها. يعتقد المؤلفون — وأتَّفِق معهم في اعتقادهم — أن هذه الإصلاحات يمكن أن تتحقق دون مزيدٍ من التدخُّل الحكومي، لكن ثمة الكثير الذي يتعيَّن فعله؛ فقد فقدت هذه المهنة الكثير لصالح مؤسساتٍ أخرى، وما لم تُعِد فرْض نفسها بوصفها الاختصاصي المالي المهيمِن، فستستحيل إلى إجراء عمليات التدقيق القانوني واستيفاء الإقرارات الضريبية. وأحد المؤشرات على المكانة المفقودة هو الإصلاحات التشريعية الأخيرة التي أجازها الكونجرس، والتي سنتناولها الآن.
(٣) التغطية على فشل الحكومة بادِّعاء فشل السوق
الفرق بين الشركة الخاصة والهيئة الحكومية أنه إذا اقترفت الأولى خطأَ فادحًا ربما أعلنت إفلاسها وأوقفت نشاطها، أما إذا فعلت الثانية ذلك فمن المرجَّح أنها ستحصل على ميزانية أكبر.
سيبدأ المُدقِّقون دراسة المزيد من طُرق الاحتيال ووضع الفرضيَّات للتنبُّؤ باحتمالية حدوثه. لقد أحرز العمل تقدُّمًا بالفعل في هذا المجال، وسوف يستمرُّ التقدُّم، ومع ذلك، فإن معظم الأسباب الكامنة وراء ما يُسمَّى الفضائح تمَّت التغطية عليها بالضجَّة المبالَغ فيها فيما يخصُّ إصلاح المحاسبة والموقف السياسي. ضع في اعتبارك أنَّ السوق الحرَّة كان أداؤها جيدًا في كشف هذه الفضائح؛ فمن خلال اكتشاف أن هذه الشركات كانت تتلاعب بالتقارير والأرقام — وإن جاء هذا الاكتشاف مُتأخرًا — كان مصير تلك الشركات الإفلاس، وبعض المديرين سيُواجِهون المُحاكمة الجنائية وعقوباتٍ أخرى كذلك بلا شك. من الصعب تصوُّر أن بإمكان البشر ابتكار نظامٍ لا تَرتكِب فيه أي شركة على الإطلاق أعمالًا احتيالية أو لا يُواجِهُ المستثمر فيه أيَّ نوع من المخاطر.
خُذ على سبيل المثال الشركات التي تُنشئ فروعًا وهميَّةً لها لإخفاء التعامُلات الذاتية والديون الضخمة؛ تُعرَف هذه النوعية من الشركات باسم الكيانات ذات الأغراض الخاصة. يتحمَّل قانون الضرائب نصيب الأسد من المسئولية عن هذه المتاهة المُعقَّدة والمراوغة للكيانات ذات الأغراض الخاصة. ولكن كم مرة أُتي حتى على ذِكر هذه المشكلة؟ أو حقيقة أن القانون الضريبي لعام ١٩٩٣ قصر اقتطاعات الرَّواتِب على مليون دولار أمريكي، الأمر الذي شجع على استخدام خيارات الأسهم، والتي يُلقى عليها اللَّوم حاليًّا بوصفها جزءًا من المشكلة (ولكنها في الواقع تعدُّ مبلغًا زهيدًا في اقتصادٍ قيمته ٩ تريليونات دولار أمريكي)؟
لم يذكُر الكثير من المُعلِّقين الازدواج الضريبي في الأرباح الموزَّعة على المساهمين. فالولايات المتحدة واحدة من الدول القليلة في العالم التي يُعاقِب نظامها الضريبي الأرباح الموزَّعة على المساهمين، بفرضِها ضرائب على تلك الأرباح مرَّتَين. ولولا هذه الضريبة المزدوجة، لوزعت العديد من الشركات الأرباح على المساهمين. وبالرغم من أنَّ الإدارة يمكنها التلاعُب بالدفاتر، فإن من الصعب حقًّا الاحتيال في شيكات أرباح المساهمين؛ لأنها نقدٌ حقيقي وليست بندًا محاسبيًّا. على مدى جُلِّ تاريخ البورصة، وزَّعَت الشركات ما يقرُب من نصف أرباحها السنوية في صورة أرباحٍ وُزِّعت على المساهمين؛ وفي عام ٢٠٠٠، وهو عام بلغت فيه الأرباح مستوياتٍ قياسية، لم تدفَع رُبع الشركات المُدرَجة على قائمة مؤشر «ستاندرد آند بورز» أيَّ أرباح على الإطلاق، وهي النسبة الأعلى في التاريخ.
كما أن الشائعة القديمة حول تعارُض المصالح الذي تسبَّبت به شركات المحاسبة التي تُقدِّم خدماتٍ تتعلَّق بكلٍّ من تدقيق الحسابات والاستشارات قد طفتْ على السطح من جديد وأصبحت جزءًا من النقاش الوطني. وعلى الرغم من عدم وجود دليل يدعم الادِّعاء بأن استقلال مُدقِّق الحسابات يفسده تقديمه الاستشارات إلى جانب عمله، فقد تدخلت الحكومة حاليًّا في آلية عمل السوق الحرة من خلال حظر بعض الأنشطة الاستشارية. إذا أخَذْنا المسألة إلى أقصى الحدود المنطقية، فإن حقيقة تلقِّي المُدقِّقين أجورًا من الشركات التي يقومون بتدقيق حساباتها تخلُق تعارُضًا في المصالح كما تدعم الحجج القائلة بضرورة إجراء جميع عمليات التدقيق من قبل هيئات حكومية (أو شبه حكومية)، إذا كان الوضع بحقٍّ هو أن العمل الاستشاري ليس من شأنه أن يُحقِّق تحسُّنًا في عمليات التدقيق، فإنَّ السوق الحرة ستدفع تلقائيًّا المزيد من الأموال مُقابل عمليات التدقيق التي تؤدِّيها الشركات التي لم تقدِّم خدماتٍ استشارية لعملائها. وحقيقة أنَّ هذا الزيادة لم تنعكِس على سعر عمليات التدقيق — أو أنَّ مُستخدِمي القوائم المالية أصرُّوا عليها — يُثير الشكوك حول صحة الفرضية الأولى.
تُركِّز هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية على إرضاء السياسيين والحصول على تقييمات إطرائية في العناوين الرئيسة للصحف. وهذه الحوافز عادةً ما تؤدي إلى زيادة الأعمال الورقية إلى أقصى درجةٍ وتقليل الجدَل إلى أدنى درجة. فالبيروقراطيون الأذكياء «ينتظرون حتى النهاية قبل أن يكشِفوا الأمر» أخيرًا، ولا يفعلون ذلك مُبكِّرًا؛ لأن خطر إعلان أحدهم قبل الأوان عن اكتشاف مشكلة أو مُخالَفة يكمن في خسارة وظيفته إذا تبيَّن أنه مُخطئ؛ فهو يُوازن بين حجم المكافأة التي قد يحصُل عليها إذا أقدَم على هذه المخاطرة وبين الراتِب الذي قد يفقِده إذا تبيَّن خطؤه. كما أنه لن تكون هناك زيادة في راتِب الموظف الذي قام بهذه المخاطرة؛ لذلك، تنتظر هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية في العادة حتى يمرَّ وقتٌ طويل على وقوع المشكلة قبل أن تشرع في التحقيق العالي الكُلفة فيها لمعرفة الأسباب المؤدية إليها.
لدى الهيئات الرقابية أيضًا حوافز مُؤسَّسية للفشل. فكلَّما كان الفشل أكبر، كُوفئت الهيئة بمزيدٍ من السلطة وبميزانية أكبر. وهذا يحدُث حاليًّا مع هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية.
لا يزال جهل هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية بشأن مُلابسات فضيحة «إنرون» مُحرجًا بما فيه الكفاية؛ لأن الهيئة كانت تحاول أن تبدو فعالة بصورة مُفرطة، وبدأت في إجراء تحقيقات أحاطتْها دعايةٌ هائلة بشأن شركات «زيروكس» و«كويست» و«بي أن سي فاينانشيال سرفسيز» و«هوليت-باكارد» وشركة «وست ماندجمنت إنك»، على سبيل المثال لا الحصر. وعلى الرغم من أن هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية مُكلَّفة بحماية حاملي الأسهم، فإنَّ السوق تستجيب لما تُظهِره هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية من تعاطفٍ باعتباره نوعًا من القهْر وليس الإغراء. (رينولدز، ٢٠٠٢)
أجد أنه من المُحيِّر أن هذه المهنة لا تستميل الاقتصاديين للمشاركة في النقاش حول فعالية هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية نفسها. لقد درس العديد من الاقتصاديين هذه الهيئة، وخلُصوا، عمومًا، إلى عدم وجود أدلَّةٍ يمكن إثباتها على أنها تُساعد المساهم العادي؛ وقد وَجَد البعض أنها تُسبِّب ضررًا بوجهٍ عام للمُساهمين.
أنشأ قانون الأمن لعام ١٩٣٣ هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، التي تتألَّف من خمسة أعضاء يُعيِّنهم رئيس الولايات المتحدة كلَّ خمس سنوات. كان أول رئيس لها هو جوزيف بي كينيدي. يُكلِّف إشهار شركة في الولايات المتحدة ما يقرُب من ٥٠٠ ألف دولار أمريكي؛ إذ يتعيَّن على الشركة الحصول على مُوافقة من جميع الولايات الخمسين، وقد يَستغرِق ذلك مدَّةً قد تَصِل إلى عام. نتيجة لذلك، تتَّجِهُ العديد من الشركات الأمريكية الجديدة إلى كندا، حيث يكون التسجيل والإدراج أسرَعَ وأرخَصَ بكثير (عادةً ما يكون أقلَّ من ١٠٠ ألف دولار).
كان لهيئة الأوراق المالية والبورصة بالِغ الأثر في إصدارات الأسهُم الجديدة؛ إذ إن المستثمرين لدَيهم أقل قدْر من المعلومات بشأن تلك الأسهم؛ بينما توجد وفرة في المعلومات المتعلقة بإصدارات الأسهم الجذَّابة. اقترح ستيجلر اختبارًا بسيطًا: «كيف كان أداء المستثمرين قبل وبعد منْح هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية السيطرة على تسجيل إصدارات جديدة؟ نأخُذ جميع الإصدارات الجديدة من الأسهم الصناعية التي تزيد قيمتها على ٢٫٥ مليون دولار في الفترة بين ١٩٢٣ و١٩٢٧، وتتجاوز خمسة ملايين دولار في الفترة بين ١٩٤٩و١٩٥٥، ونقيس قيمة هذه الإصدارات (مُقارنةً بسعر الطرح) في خمس سنوات لاحِقة. من الواضح أنه من غير المناسب الوثوق في هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية أو إلقاء اللوم عليها فيما يتعلق بالفروق المُطلَقة بين الفترتَين في ثروات المستثمرين، ولكن إذا قِسنا أسعار الأسهم نسبة إلى متوسط السوق، فسنكون قد استبعدنا معظم الآثار المترتِّبة على ظروف السوق بوجهٍ عام.» وقد خلُص إلى أنَّ «المستثمرين في الأسهم العادية في خمسينيات القرن العشرين لم يكن أداؤهم أفضلَ بكثيرٍ من أدائهم في عشرينيات القرن نفسه، ومن الواضِح أنه لم يكن ليُصبح أفضل حالًا لو احتفظوا بالأوراق المالية سنةً أو سنتَين فقط. في الحقيقة إن الاختلافات بين المتوسطات في الفترتَين ليست ذات دلالةٍ إحصائية في أي سنة … فتُشير هذه الدراسات إلى أن مُتطلَّبات التسجيل لدى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية لم يكن لها تأثير مُهمٌّ على جودة الأوراق المالية الجديدة التي تُباع للجمهور … تُوجَد شكوك كبيرة حول ما إذا كان أخْذُ تكاليف اللوائح التنظيمية في الاعتبار قد يُمكِّن هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية من توفير دولارٍ واحد لمن يشترون إصدارات جديدة.»
أكد ستيجلر أنَّ المستثمرين يستفيدون من أسواق رأس المال ذات الكفاءة أكثر من استفادتهم من لوائح هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، وأشار إلى أنَّ ثمة تراجعًا خطيرًا في أسواق رأس المال، أجازته هيئة الأوراق المالية والبورصات بالتواطؤ مع شركات «وول ستريت» لتثبيت عمولات السمسرة.
بعد ظهور هذه المقالات، اختبَرَ العديد من الاقتصاديين آثار اللوائح التنظيمية، وكانت النتائج التي توصَّلوا إليها أكثر راديكاليةً من نتائج ستيجلر وفريدلاند؛ إذ جاءت آثار اللوائح التنظيمية على النقيض مِمَّا كان يقصِدُه الساسة. وردًّا على ذلك، كتب ستيجلر «نظرية الضوابط الاقتصادية»، وهو مقال مُؤثِّر بشدَّةٍ ظهر في عدد ربيع عام ١٩٧١ من دورية «بيل جورنال إيكونوميكس آند ماندجمنت ساينس»، وأعرب فيه عن رؤيةٍ كاشفة أوصلَتْه إلى المراتِب العُليا للمُفكِّرين الاقتصاديين: «كقاعدةٍ عامَّة، فإن الضوابط أو اللوائح التنظيمية من مكاسب الصناعة ويجري تصميمُها وتشغيلها في الأساس من أجل مصلحة تلك الصناعة.» وأوضح أن الغرَض الفِعلي من الضوابط هو توفير امتيازاتٍ خاصَّة لمجموعات المصلحة الأقوياء الذين يرغبون في تقييد المنافسة ورفع الأسعار، ومِن ثَمَّ فإنَّ الضوابط تُلحِق الضَّرَر بالجمهور. (باول، ٢٠٠٠: ٣٧٤-٣٧٥)
يأتي أحد أكثر العروض ابتكارًا لإصلاح لوائح الأوراق المالية من الاقتصادية روبرتا رومانو، على النحوِ المُبيَّن في كتاب «اقتصاد ريادة الأعمال: أفكار ساطعة من العلم الكئيب»: إنها تقترح أن يكون لدى الشركات الاختيار في أن «تنسلِخ» من ضوابط هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية لتتبَعَ ضوابطَ حكوميَّةً أخرى من اختيارها. هذا من شأنه أن يمنع الضرورة المُكلِّفة والمُرهِقة للتسجيل في جميع الولايات التي ستُباع فيها الأوراق المالية. أيضًا، من شأنه أن يدفع الولايات الخمسين إلى التنافُس على أفضل نموذجٍ تنظيمي. عندها سيكون المستثمرون قادِرين على تحديد مِقدار القيمة التي يجِب وضعُها على كلِّ جهازٍ رقابي في كل ولاية؛ تلك الولايات التي عرَضَت المزيد من القيمة من شأنها أنْ تجذب المزيد من الإصدارات الجديدة. في الواقع، ستتنافس الولايات الخمسون بعضها ضدَّ بعضٍ على الإصدارات الجديدة، مِثلما تتنافَس على شهادات التأسيس. وهذا إصلاح تنظيمي هائل ومُبتكَر، يفرِض التنافُس على الجهات الرقابية بدلًا من التسليم الأعمى بأنها تتمتَّع بالبصيرة وتُحقِّق دائمًا النتائج المرجوَّة التي تعتزِم تحقيقها.
يجب أن تخضع اللوائح التنظيمية الحكومية، إلى أقصى حدٍّ مُمكن، لنفس الاختبار القائم على النتائج الذي تخضع له مُنتجات وخدمات السوق الحرة. إنَّ وضع العوائق أمام المنافسة وفرض اللوائح التنظيمية المبالَغ فيها ليس السبيل إلى تكوين الثروة، وهناك الكثير من الأدلَّة التجريبية التي تدعم هذه الرأي. يحتاج المرء فقط إلى دراسة الفشل الذريع للاقتصادات ذات التخطيط المركزي في خلق الديناميكية ومؤسَّسات الملكية الخاصة التي لا غِنى عنها في تحقيق الثروة.
(٤) المِهَن المتعدِّدة الاختصاصات
- (١)
سيسمَح اقتراح اللجنة لشركة «سيرز» أو «مونتجمري وارد» أو «أتش آند أر بلوك» أو شركات المحاسبة الثماني الكُبرى بفتح مكاتب قانونية في مُنافَسة مع مكاتب المحاماة التقليدية.
- (٢)
تملُّك غير المحامين لشركات المحاماة من شأنه أن يتعارَض مع الاستقلال المهني للمحامي.
- (٣)
تملُّك غير المحامين لشركات المحاماة من شأنه أن يُدمِّر قُدرة المحامي على أن يكون مُهنيًّا بغضِّ النظر عن التكلفة الاقتصادية.
- (٤)
التغيير المقترَح سيكون له تأثيرٌ جوهري ولكن غير معلوم على مِهنة المحاماة. (مُقتبَس في مونيك، ٢٠٠١: ٥٢-٥٣)
-
«الاعتراض الأول»: لماذا الاعتراض على المنافسة؟ نحن نعلم أنَّ المستهلكين يستفيدون استفادةً هائلةً من المنافسة، وأي إجراء يُقيِّد المنافسة بأمرٍ من الحكومة — وهو ما يُعرَف بين الاقتصاديين باسم «السعي وراء الريع» — يُلحِق ضررًا بالمستهلكين الذين تهدف مِهنة المحاماة إلى حمايتهم.
-
«الاعتراض الثاني»: مشكوك فيه أيضًا؛ نظرًا لأنَّ المالكين غير المشتغِلين بالمحاماة يمكن أن يخضعوا لقواعد مُختلفة لضَمان الاستقلالية.
-
«الاعتراض الثالث»: فيه مُبالغة كبيرة؛ إذ لا ينبغي أن يكون هناك أي ارتباط بقواعد الملكية وسلوك المرء كمهني يخضع لقواعد الأخلاق والمبادئ.
-
«الاعتراض الرابع»: ولعلَّ هذا الاعتراض هو أكثرُ ما يبعَثُ على السخرية، ويمكن تلخيصه على النحو التالي: «نحن لا نعرِف النتائج، لكنَّنا سنُعارضها على أي حال.» ألا تُعدُّ أي فكرة أو نموذج عمل جديد بمنزلة تجربة؟ ما دام لم يحدُث انتهاك لأي قوانين، يجب أن يكون الأفراد قادرين على اختبار أفكارهم في السوق الحرة.
تخيَّل أنْ يُوجَّهَ هذا الاعتراض إلى شركة «فيدكس» بحجة أن من شأنها أن تفتح الباب على مصراعيه لمنافسي هيئة البريد الأمريكية، وأنَّ عواقب ذلك ستكون غير معلومة. هذا أمرٌ سخيفٌ للغاية ولا يرقى أن يكون حجَّةً وجيهةً يُقدِّمها مهنيون يُفترَض أنهم يتصرفون بما يحقق المصلحة العامة.
إن عدد الاقتصاديين الذين سيُؤيِّدون الاعتراضات ضدَّ المؤسسات المُتعددة الاختصاصات التي طرحها المنتقِدون محدود. يجِب السماح للمؤسَّسات المُتعدِّدة الاختصاصات، وترك السوق الحرة — بمعنى أن يتصرَّف المستهلكون طوعًا ويكون لهم السيادة الكاملة على قراراتهم — كي تُقرِّر مصيرها النهائي. إذا تبيَّن أنها غير قادرة على المنافسة، فإن الوضع الراهن ليس به ما يدعو للقلق مُطلقًا. وإذا نجحت، فمن الصعب للغاية القول إنَّ العملاء لا يتصرَّفون وفق مصالحهم الشخصية، فضلًا عن عدم معرفة ماهية هذه المصالح.
مُوجَز ونتائج
-
انخفضت نِسبة طُلَّاب الجامعات الذين تخصَّصوا في المحاسبة إلى ٢ بالمائة عام ٢٠٠٠ مُقابل ٤ بالمائة عام ١٩٩٠.
-
انخفضَتْ نِسبة طلَّاب المدارس الثانوية الذين يعتزِمون التخصُّص في المحاسبة إلى ١ بالمائة عام ٢٠٠٠ مُقابل ٢ بالمائة عام ١٩٩٠.
-
قال أكثرُ من ٨٠ بالمائة من أعضاء هيئة التدريس الذين شملهم الاستطلاع إنَّ عدَدَ طُلَّاب المحاسبة المؤهَّلين أقلُّ من عدَدِهم منذ خمس سنوات مضت.
-
أفاد رؤساء قِسم المحاسبة أن خريجي نظم المعلومات حصلوا على أعلى رواتب مبدئية بين الخريجين ذوي الصِّلة بمجال الأعمال.
-
اتَّفَق أعضاء هيئة التدريس والمُمارِسون على أن دفع رواتب مبدئية أعلى كانت الخطوة الأكثر أهمية التي يمكن أن تتَّخِذها شركات المحاسبة لجذْب طُلَّاب أفضل إلى مهنة المحاسبة.
-
مُعظم اختصاصِيِّي المحاسبة والمحاسبين الممارسين قالوا إنهم لو عاد بهم الزمان لما تخصَّصوا في التعليم المحاسبي. (ألبريخت وساك، ٢٠٠٠)
وفي حين أن التخصُّص الأول المرغوب فيه بين طُلَّاب الجامعات «غير محدد» بعد، فإن انخفاض التسجيل في تخصُّص المحاسبة لا يُبشِّر بالخير بالنسبة إلى مستقبل المهنة. كان ثمة ارتفاع طفيف في نِسبة الالتحاق بعد أن تصدَّرَت جميع الفضائح المحاسبية عناوين الأخبار – وهو ما يُسمَّى بتأثير آل كابوني، الذي أُشير إليه للمرة الأولى عندما ازدادت طلبات دائرة الإيرادات الداخلية عقب إدانة كابوني لتهرُّبِه الضريبي. ما السَّبب الذي يدفع طالِبَ المدرسة الثانوية الذي يأخذ دورة في المحاسبة لأن يكون في الواقِع أقلَّ إقبالًا على التخصُّص في المحاسبة حالما يلتحِق بالمرحلة الجامعية؟ ربما هناك حاجة إلى اضطلاع المزيد من المحاسبين القانونيين بتدريس المحاسبة على مستوى المدارس الثانوية، لإعطاء الطُّلَّاب صورةً حقيقية عمَّا يقومون به بالفعل.
قد لا يكون هذا مُفيدًا أيضًا، بالنظر إلى النِّسبة المئوية الكبيرة من المحاسبين القانونيين الذين يرون أنهم لو عاد بهم الزمان لما سلكوا مجال المحاسبة، أو بالنظر إلى عدد الآباء الذين «يَصدُّون» أبناءهم عن أن يُصبِحوا مُحاسبين قانونيين. هذه هي المؤشرات الموجِّهة المهمَّة على مستقبل المهنة، يُمكننا مُناقشة ما إذا كان منهج التعليم المحاسبي يتطلَّب مُراجعةً كبيرة من أجل تدريس مجموعةٍ واسعةٍ من المهارات التي يحتاج إليها المحاسبون القانونِيُّون الحاليُّون. بل يُمكننا حتى إلغاء شرْط المائة والخمسين ساعة، لكن كلَّ هذا لن يُحسِّن الوضع كثيرًا إذا لم نغرس في الشباب شغفًا بالمهنة.
لحُسن الحظ، يتَّخِذ «المعهد الأمريكي للمُحاسبين القانونيين المعتمَدين» والجمعيات الحكومية خطوات لتوعية الطلَّاب الشباب بالمهنة وتزويدهم بمجموعةٍ من الموارد التي يمكنهم استغلالها في معرفة ما يفعله المحاسِبون القانونيون بالضبط والخيارات المهنية الكثيرة المتاحة في المجال، لكن ما زال هناك الكثير الذي يتعيَّن القيام به، ونأمل من خلال رفع مستوى جودة الحياة بين المهنيين الذين يعملون في شركات المستقبل — من خلال نقل الأفكار الواردة في هذا الكتاب إلى حيِّزِ التنفيذ — أن نتمكَّن من العمل معًا لإشعال الحماسة من جديد بين زملائنا، تلك الحماسة التي جعلَتْهم يختارون أن يُصبِحوا مُحاسبين قانونيين في المقام الأول.