نظرية معيبة
لا يوجد شيء عملي أكثر من نظرية جيدة.
ذات مرة، التقى رجل كان يسير على إحدى الطرقات في الريف براعٍ وقطيع كبير من الأغنام. قال الرجل للراعي: «أراهنك على ١٠٠ دولار مقابل إحدى نعاجك على أنني أستطيع أن أخبرَك بالعدد الفعلي للأغنام في هذا القطيع.» فكر الراعي في الأمر؛ ونظرًا لأن القطيع كان كبيرًا، قَبِل الرهان. قال الرجل: «٩٧٣». ذُهل الراعي لأن إجابة الرجل كانت دقيقة تمامًا؛ لذا قال: «حسنًا، أنا ملتزم باتفاقي معك، تخير إحدى النعاج.» اختار الرجل الغريب نعجة وبدأ يسير مبتعدًا.
صاح الراعي قائلًا: «على رِسلك، امنحني فرصة كي نتعادل. أراهن أن أخبرك بوظيفتك نظير أن ترد لي نعجتي أو تأخذ أخرى.» قال الرجل بعد أن ظن أن الراعي المسكين لن يستطيع قط أن يخمن وظيفته: «حسنًا.» قال الراعي: «أنت اقتصادي لدى هيئة بحثية حكومية.» أجابه الرجل قائلًا: «مدهش! أنا بالضبط كذلك، كيف عرفت هذا؟»
قال الراعي: «حسنًا، اقتل كلبي أولًا وسوف أخبرك» (بولدينج، ١٦ أبريل، ٢٠٠١: ٢).
•••
استند تفسير دراكر إلى المردود المذهل للإبداع خلال فترة الثورة الصناعية على رؤيته التي مفادها أنه كما هو ثابت تاريخيًّا، فإن إدخال أو تقديم أداة معينة يسبق التحقق النظري منها. على سبيل المثال، استُخدمت الرافعة لقرون قبل أن يضع أرشميدس معادلته العلمية لتفسير آلية عملها. وظهرت النظارات في العصور الوسطى دون نظرية لها إلى أن قدم لنا إسحاق نيوتن وجوتفريد فيلهلم لايبنتس نظرية البصريات في القرن الثامن عشر. واستغرق الأمر نحو خمس وسبعين سنة قبل أن يقدم ويليام طومسون الذي اشتُهر فيما بعد باسم لورد كلفن تفسيرًا نظريًّا للديناميكا الحرارية لمحرك جيمس واط البخاري. واستغرق الأمر عدة عقود قبل أن تتمكن نظرية ديناميكا الهواء من تقديم تفسير مُرضٍ لسبب تمكن الآلة الطائرة التي ابتكرها الأخوان رايت من الطيران فعليًّا.
ذهب دراكر إلى الاعتقاد بأنه خلال حقبة الحضارة الغربية بأكملها، انفصلت التكنولوجيا عن العلم؛ فنظرًا لأن التكنولوجيا (فن الفعل) تُركِّز على النفعية ونظرًا لأن العلم (فن التفكير) يُركِّز على التجريدات الميتافيزيقية، لم يكن بينهما سوى الاحتكاك الأكثر تزامنًا وتباعدًا. ولم يحدث ارتباط وثيق بين المنحنيين التكنولوجي والعلمي إلا عند حلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ما أدى إلى انفجار المعارف الجديدة. (فلاهيرتي، ١٩٩٩: ٢٣٠)
ليس الهدف هنا هو الجدل العقيم حول ما إذا كانت النظرية تسبق التطبيق أو العكس. فكل منهما له أهميته بالطبع. بالتأكيد يوجد من التطبيقات القائمة على نظرية شركات الخدمات المهنية ما يكفي لفحص مدى صحة قواعدها النظرية. في الواقع، إن الغرض من هذا الفصل هو فحص جوانب الخلل في النظرية القديمة لبناء نظرية أفضل. فبرغم كل شيء، عززت شركة بوينج النظرية التي فسَّرت في الأساس آلة الطيران التي ابتكرها الأخوان رايت لتستمر طائراتها بوينج ٧٧٧ في التحليق في الهواء. تلك هي الكيفية التي تتطور بها النظريات، ومن الممكن أن يكون لها تأثير هائل على سلوكنا. لذا حتى بالرغم من أن مناقشة النظرية قد تكون أكثر خفاءً في بيئة الأعمال الحالية، أعتقد أن عملية التعلم برمتها تبدأ بنظرية، ومِن ثَمَّ سنبدأ بفحص نقدي للنظرية السائدة لشركات الخدمات المهنية.
(١) «تحليل» معادلة الممارسة السائدة
الإيراد = قوة الموظفين × الكفاءة × المعدل بالساعة
يمكن أن يطرح المرء رؤية جدلية مقنعة كثيرًا مفادها أن هذا النموذج قد حَكَم نمط تفكير شركات الخدمات المهنية، ومِن ثَمَّ سلوكها منذ بداية ظهورها.
•••
واستطعنا من فوق المنصة أن نرى ما يُطلق عليه البعض «عامل الإيماء». والمقصود بهذا العامل، مثلما تتوقع، هو إيماء الناس برءوسهم تعبيرًا عن الموافقة، ولسان حالهم يقول: «نعم أنا متفق معك». لقد حصلنا على الكثير من إيماءات الموافقة هذه. وعلمنا أننا نقف على أرض صلبة من تلك اللحظة فصاعدًا، لكن داخل دردشاتنا التي تعقب الندوات، علمنا أيضًا أن ثمة شيئًا ما لا يسير على ما يرام. فالنموذج كان به عيب جوهري. لماذا؟ ببساطة لأنه لم يكن يناسب ما كنا نؤمن به (رغم أننا كنا نمتلك مهارة تكفي لجعله يبدو قابلًا للتصديق على المنصة)؛ كما أنه لم يناسب بالتأكيد ما كنا نتوصل إليه في شركات المستقبل التي كنا نتشارك معها الأفكار الجديدة. الفكرة أن هذا النموذج قد هيمن على تفكير قادة الشركات دون أي تشكيك فيه، ونعتقد أن بعض الأسئلة المهمة قد طُرحت قبل فوات الأوان.
•••
استند نموذج الشركات الهرمي الأصلي إلى تعزيز قوة الموظفين، ويمكن التعبير عن النظرية على النحو التالي: حيث إن عاملَي الربحية الأساسيين هما زيادة عدد أفراد فريق العمل في الشركة وزيادة الطاقة الإنتاجية بناءً على ساعات العمل، فلو استطاع كل شريك أن يُشرف على مجموعة من المهنيين، فإن هذا من شأنه أن يمنح الشركة قدرة إضافية على تحقيق إيرادات كبيرة؛ ومِن ثَمَّ يُضيف المزيد إلى ربحية وحجم الشركة. لو أرادت شركة أن تزيد من قاعدة إيراداتها، فأمامها خياران؛ إما أن تطلب من موظفيها العمل لعدد ساعات أكبر وإما أن تُعين مزيدًا من الموظفين. ولا يخفى على أحد الخيار الذي تختاره الشركات عادةً، ما يزيد من معاناة وإحباط موظفيها المنهكين بالفعل. مرَّت فترة، ربما في أيام الازدهار — على الأغلب في فترة الثلاثينيات وصولًا إلى الخمسينيات من القرن العشرين، ومن جديد في فترة السبعينيات وصولًا إلى منتصف فترة الثمانينيات من القرن العشرين — شهدت فيها قوة عمل المحاسبين في الولايات المتحدة ازدهارًا، عندما كانت الشركات تُعين على الأرجح موظفين جددًا بمعدل أسرع من توسيعها لحجم أعمالها. ومع ذلك، ينتظر الشركاء في أغلب الشركات حتى يبلغ معدل الطلب ذروته قبل أن يضيفوا أي مهنيين جدد.
لو شعرت أن هذا الجزء من النظرية منطقي، اصمت لبرهة وفكر في هذه القاعدة البديهية. مقارنةً بالمجالات الأخرى، تعد عملية إضافة طاقة إنتاجية جديدة «بعد» الإيراد عملية عكسية. فإذا فكرت في أي مجال آخر أو شركة أخرى — من إنتل إلى جنرال إلكتريك، ومن فيدكس إلى مايكروسوفت — تُضاف الطاقة الإنتاجية على نحو شبه دائم «قبل» الإيراد. فكر في فيدكس على وجه التحديد: قبل أن يقرر فريد سميث تسليم الطرود خلال أربع وعشرين ساعة، تعين عليه توفير شاحنات وسائقين وطائرات ومرافق في أنحاء البلاد، بتكاليف ثابتة هائلة (في الواقع، تلك التكاليف الثابتة الضخمة أدَّت تقريبًا إلى إفلاس فيدكس في الأيام الأولى). ومع ذلك، فإن الشركة لن تضيف عادةً شخصًا جديدًا حتى تضمن «معدل استفادة» كبير (عادة ما يتراوح بين ٦٠٪ إلى ٨٠٪)، وهذا له تداعيات كثيرة، ربما أسوءُها أنها تجعل الشركة باستمرار تعمل بإيقاع متسارع ومنهك، وهذا بدوره يقيِّد قدرة الشركة على الخروج عن نهجها المعتاد واجتذاب عملاء أكثر إدرارًا للربح. كما أن هذا لا يترك كثيرًا من الموارد والوقت من أجل تخصيصهما لجوانب نمو إضافية وعروض خدمات جديدة للعملاء الحاليين. بعبارة أخرى، يصبح التركيز منصبًّا على استغلال الطاقة الإنتاجية وبيان دخل السنة الحالية بدلًا من الاستثمار في البحث والتطوير وبناء الميزانية العمومية للشركة. من الواضح أن الاستثمار الأخير هو الذي يحدد مستقبل الشركة.
لننظر الآن إلى العنصر الثاني من عناصر النظرية القديمة ألا وهو الكفاءة. الكفاءة كلمة يمكن أن تُقال بكل أريحية؛ إذ إنه لا أحد في كامل قواه العقلية يمكن أن ينازع في هدف العمل بكفاءة. في الواقع، من المعلوم جيدًا أنه في اقتصاديات الأسواق الحرة تُعدُّ الكفاءة عنصرًا حاسمًا؛ إذ إنها تضمن عدم إهدار موارد المجتمع، كما أنه من الثابت أن المستويات المختلفة من الإنتاجية تفسر بصفة أساسية الفروقَ في الأجور في أنحاء البلاد؛ فالمُزارع الأمريكي سوف يحقِّق دخلًا من الحرث باستخدام جرار أكثر من المُزارع الكوبي الذي يستخدم محراثًا يدويًّا وثورًا؛ المزارع الأمريكي أكثر إنتاجية، ومِن ثَمَّ فإنه يحقق دخلًا أعلى وربحًا أكبر.
ليس ثمة تأثير فيما يبدو على الإنتاجية التي تقاس على أساس نسبة الساعات المحتسبة إلى إجمالي الساعات المتاحة. فالإنتاجية الشاملة بناءً على هذا المقياس كانت تتراوح على ما يبدو بين ٦٠ و٧٠ بالمائة منذ البداية. والنتيجة التي لا مهرب منها أن مرات الذهاب إلى دورات المياه والدردشات عند مبردات المياه والإدارة والتسويق وعدد هائل من الأنشطة الأخرى التي تُوصف بأنها غير منتجة تستهلك القدر نفسه من الوقت بصرف النظر عمَّا إذا كانت تُستخدم ريشة كتابة أو كمبيوتر.
بعبارة أخرى، لم تسهم التكنولوجيا في زيادة متوسط عدد الساعات التي يقضيها الناس في إنجاز ما يُكلَّفون به، بالرغم من أنها زادت من إنتاجيتهم كما هو واضح.
يبدو أنه بقدر ما وفرت وقتًا للممارس العادي، أخذ هذا الممارس يبحث عن مزيد من العمل المنخفض المستوى وأصبح على استعداد لتخفيض الأسعار للفوز به. لو كان تبنِّي التكنولوجيا قد يسَّر في واقع الأمر حدوث تحول نحو خدمات استشارية وتحليلية أكثر قيمة، لاستطعنا أن نتوقع أن نرى صافيَ هوامش ربحية أعلى تُجنى ونسبة أصغر من الإيرادات الناشئة عن خدمات الامتثال. ولكن أيًّا من تلك الأشياء لا يحدث على ما يبدو. (باين، ٢٠٠٢: الجزء الثاني، ٢)
استنادًا إلى تلك الحقائق، من العجيب أنه عند طرح سؤال في الندوات التي تُعقد حول العالم حول أي «الروافع الثلاث» يمكن أن يسحبها المحاسب لو تعين عليه اختيار عنصر واحد فقط من المعادلة السابقة — قوة الموظفين أو الكفاءة أو المعدل بالساعة — غالبًا ما يقع الاختيار على الكفاءة في أكثر من ٥ بالمائة من الوقت. لا شك أن زيادة الكفاءة — أو على الأقل عدم الانجرار إلى عدم الكفاءة — أمر مهم، لكن البندول تحرك نحو الكفاءة على نحو بالغ بحيث طغت على ما عداها. يبدو أن الابتكار والديناميكية وخدمة العملاء والاستثمار في رأس المال البشري والفعالية قد ضُحيَ بها لصالح الكفاءة. من المهم أن نضع في الاعتبار أن أي شركة لا تتواجد لمجرد أنها ذات كفاءة فحسب، وإنما تتواجد لتحقق ثراءً لعملائها.
•••
وباعتبار هذا صحيحًا — أن الطريقة التي نتصرف بها تكون محكومةً بمعتقداتنا وأفكارنا — فكر في الجوانب التي يُهدر فيها الكثير جدًّا من الجهد والوقت. إن ما تحاول الكثير من البرامج التدريبية تحقيقه هو تعديل السلوك. وهذا لا يُجدي، لا سيما على المدى الطويل.
في الواقع، تحاول الكثير من الحكومات تعديل السلوك أيضًا. لا يروق للدولة (أ) ما تفعله الدولة؛ (ب) لذا تحاول تعديل سلوكها بفرض عقوبات مثلًا أو حتى باستخدام المدافع والقنابل. الآن، وفي مواجهة المدافع، تضطر إلى تعديل سلوكك، لكنك تفعل ذلك فقط حال استمرار وجود المدافع. بيد أنه إذا لم تساعدك المدافع على تعديل أفكارك وطريقة تفكيرك، فلن تعدل سلوكك على المدى الطويل. هذا هو بالضبط سبب كون الطريقة التي تفكر بها والنظرية التي تستخدمها كأساس لأفعالك على قدر بالغ من الأهمية. نحن نتحدث عن تعديل أفكارك.
لكن لنعد إلى موضوع الكفاءة.
•••
الفكرة هي أنه في مجال بعد آخر، لم يكن محور تاريخ التقدم الاقتصادي الوصول إلى أقصى درجات الكفاءة، بل تغيير النموذج لتحقيق ثراء بطريقة أكثر فعالية. فلم يصل رواد الأعمال، من والت ديزني وفريد سميث إلى بيل جيتس ولاري إليسون، إلى ما وصلوا إليه بالتركيز على الكفاءة. (يبحث المرء دون جدوى عن مثال مشابه في مهنة المحاسبة. الشخص الوحيد الذي قد يخطر لنا هو هنري بلوخ، مؤسس «إتش آند آر بلوك»، الذي من المؤكد أنه قد غيَّر الطريقة التي تُقدَّم بها الخِدْمات الضريبية لملايين الأمريكيين، محققًا إيرادات بقيمة ثلاثة مليارات دولار أمريكي من هذه السوق). إن رواد الأعمال هؤلاء جميعهم حققوا ثروة ضخمة عن طريق تقديم الأشياء التي يرغب العملاء في دفع مقابل لها بطريقة أكثر فعالية وليس بالتركيز على الكفاءة. حان الوقت لأن يفهم المشتغلون بالمهنة أن سعيهم الذي لا يهدأ وراء الكفاءة — سواء بإنجاز كم العمل المطلوب خلال ساعات العمل أو بتحقيق الأهداف التشغيلية — يؤدي إلى خسائر فادحة تتعلق بفقدان فرص الابتكار وتدني مستويات خدمة العملاء وضياع فرص بيع المزيد من الخدمات للعملاء الحاليين وانخفاض الروح المعنوية لدى أفراد الفريق. المشكلة، بطبيعة الحال، أن هذه الخسائر لا يُجرى احتسابها في أي مكان؛ لأن معظم الشركات ليس لديها طريقة فعالة لرصد هذه النوعية من المعلومات. وهذه التكاليف — وما يصاحبها من فقدان للفعالية في تلبية احتياجات العملاء — تفوق أي مكاسب تتعلق بالكفاءة يمكن أن تحققها بأن تلعب دور المراقب مع أفراد فريقك أو عن طريق تعليق سجل لساعات العمل وساعة إيقاف حول أعناقهم.
ويأتي المعدل بالساعة أخيرًا، وبالتأكيد ليس آخرًا، فيما يتعلق بالتأثير على المهن بطرق كثيرة للغاية. فمنذ بدأت حياتي المهنية في مجال المحاسبة العامة في عام ١٩٨٤ لدى شركة «كيه بي إم جي» في سان فرانسيسكو، أخبرني شركائي وعملائي مرارًا وتكرارًا قائلين: «ليس لديك مخزون سلعي يا رون، وليس لديك شيء مادي تقدمه لعملائك، كما أنه ليس لديك سلعٌ تعرضها؛ الشيء الوحيد الذي تبيعه هو «وقتك».» وسرعان ما تدرك أن حياتك المهنية بأكملها سوف يُحكم عليها من منظور عدد ساعات العمل ومعدلات الاستفادة وفعالية معدلك بالساعة. وكل ترقية تكون بمنزلة وسام تكريم؛ إذ يدل على زيادة معدلك بالساعة. ولا يترسخ هذا الموقف العقلي لديك فحسب، بل إنك تنقله إلى عملائك أيضًا، مخبرًا إياهم بمدى أهمية الوقت في كل شيء تفعله من أجلهم؛ إذ إنه عنصر لا يتجزأ من سعرك.
يشبه المعدل بالساعة كثيرًا «عائد دوبون على معادلة الاستثمار»، وهو أيضًا شكل من أشكال سعر الكلفة. لكن الأقرب شبهًا من المعدل بالساعة هو «نظرية قيمة العمل» التي وضعها لأول مرة كارل ماركس في أواخر الثمانينيات من القرن التاسع عشر. وقد تبين خطأ تلك النظرية على نحو شبه فوري — فيما يتعلق بقدرتها على التوضيح أو التنبؤ أو الوصف — كطريقة لتحديد القيمة في السوق. وقد بيَّن الكتاب الأول لي الذي يحمل عنوان «دليل المهني في التسعير القيمي» خطأ هذه النظرية، وقدم نظرية أفضل وهي «نظرية ذاتية القيمة»، ومفادها أن الشخص الذي يدفع مقابل الخدمة في نهاية المطاف — وليس النفقات الداخلية الثابتة للبائع أو الأرباح المرغوب فيها أو ساعات العمل — هو من يحدد قيمة أي شيء. فالقيمة مثل الجمال، تكون في عين الرائي.
•••
قد لا يعرف المسئولون التنفيذيون الذين يُديرون فريق «كولورادو روكيز» كيفية تشكيل فريق جيد لدوري كرة البيسبول الأساسي، لكنهم كانوا على ما يبدو يضعون نظرية اقتصادية.
لقد اتخذوا خطوة جذرية بأن اعترفوا بأن مشجعيهم يُفضلون مشاهدة فريق «روكيز» وهم يلعبون ضد فريق «نيويورك يانكيز»، الذي فاز بأربعة من نهائيات كأس العالم الستة الأخيرة لكرة البيسبول، عن مشاهدة فريق «بيتسبرج بايرتس» الذي لم ينجح في تحقيق أي بطولات خلال عشر سنوات.
تكلفة الجلوس لمشاهدة فريق «روكيز» في مبارياته الثلاث الشهر القادم ضد فريق «يانكيز» أعلى من المباريات التي تُلعب ضد فريق «بايرتس». فمقعد في السطح العلوي أسفل خط أول قاعدة يتكلف مثلًا ٢٣ دولارًا بالنسبة إلى فريق «يانكيز» و١٥ دولارًا بالنسبة إلى فريق «بايرتس». (ليونهارت، ٢٠٠٢: ٨)
بناءً على أسعار تذاكر مشاهدة الأفلام، يبدو أن هوليود تعتقد أن من يذهبون لمشاهدة الأفلام لا يشعرون بحماس لمشاهدة فيلم «الرجل العنكبوت» قدر حماسهم لمشاهدة فيلم «سوروريتي بويز». فقد كانت تكلفة مشاهدة كلا الفيلمين واحدة في أي مجمع سينمائي.
في الوقت نفسه، يفرض المسئولون عن رسوم عبور الطرق في سان فرانسيسكو رسمًا قيمته خمسة دولارات أمريكية على معظم السائقين الذين يعبرون جسر «جولدن جيت»، سواء عبروه في الساعة الثانية فجر يوم الأحد أو خلال ساعة الذروة صباح يوم الاثنين. ولا يزداد سعر الجريدة بعد إحدى الفعاليات الضخمة عن أي يوم آخر.
كل هذا يتعارض مع مبادئ الاقتصاد الأساسية التي تقضي بأن الأسعار من المفترض أن ترتفع بارتفاع معدل الطلب. وعندما يحدث ذلك، كما أشار آدم سميث منذ أكثر من ٢٠٠ عام، تُخصص المجتمعات سلعها وخدماتها بفعالية وتزدهر. (المرجع السابق: ٨)
هنا تكمن النقطة الأساسية: «تُخصص الجمعيات سلعها وخدماتها بفعالية وتزدهر.» يعبر ليونهارت عن هذه الفكرة بقوة وفعالية قائلًا: «في القطاع العام، بدأت هيئة موانئ نيويورك ونيوجيرسي في فرض رسم قيمته خمسة دولارات أمريكية على من يعبرون جسر جورج واشنطن من بين جسور أخرى في ساعة الذروة، وأربعة دولارات أمريكية في غير ذلك من الأوقات. بعد تغير الرسوم، تراجع عدد السيارات التي تستخدم الجسور خلال ساعة الذروة الصباحية وزاد عدد السيارات التي استخدمتها من الساعة الخامسة صباحًا إلى السادسة صباحًا عندما تصبح الطرق أقل ازدحامًا. ونظرًا للتغيير الذي اعترى التدفق المروري، أصبح السائقون يقضون وقتًا أقل في الانتظار على الجسور» (نفس المرجع السابق: ٨).
يختتم ليونهارت مقاله بفكرة مختلفة ومثيرة للاهتمام، فيعلق على مسألة كيف أن فرق الترفيه مثل «رولينج ستونز» على وعي بالتسعير القيمي حاليًّا، إذ أصبحوا يُسعِّرون التذكرة بما يصل إلى ٣٥٠ دولارًا أمريكيًّا (المتاجرون في تلك التذاكر كانوا يبيعون الواحدة بنفس هذا السعر بعد دفع ١٠٠ دولار أمريكي للفرقة مقابل التذكرة). ويختتم كلامه قائلًا: «تذاكر اليانكيز ورولينج ستونز إضافة إلى حيز على الطريق في أكثر الأوقات مناسبة سوف تصبح على نحو متزايد من نصيب الأثرياء» (نفس المرجع السابق: ٨).
سوف نسلط الضوء على هذه النقطة بمزيد من التفصيل لاحقًا. الآن دعونا نتذكر أن الجمال دائمًا ما يكون في عين الرائي ونعود إلى مناقشتنا حول المعدل بالساعة.
•••
•••
•••
الآن لنتأمل الإيرادات. بما أن شركات الخدمات المهنية لديها هوامش المساهمة الكبيرة تلك (التي تُعرف بأنها الإيراد لكل فرد مخصومًا منه التكلفة المباشرة لكل موظف)، والتي تتراوح متوسطاتها بين ٥٩ بالمائة و٦٧ بالمائة — فهي ليست مثل متاجر البقالة التي تعمل على أساس محصلة نهائية أو صافي دخل تتراوح نسبته بين ١ و٢ بالمائة — فإن التوجه السائد يكون فيما يبدو على النحو التالي: عندما يُضاف الإيراد الحدي إلى إجمالي إيرادات الشركة، سوف تتدفق نسبة أكبر وأكبر إلى المحصلة النهائية، استنادًا إلى أن معظم تكاليف الشركات ثابتة، على الأقل على المدى القصير والطويل (نظريًّا، جميع التكاليف يمكن تجنُّبها على المدى الطويل). والإيراد الحدي يمكن أن يؤدي إلى تعزيز ربحية الشركة. واستنادًا إلى هذا النمط من التفكير، سوف تقبل الكثير من الشركات في سعادةٍ عملاء إضافيين يطلبون النوع نفسه من الخدمات التي تقدمها الشركة لقاعدة عملائها الدائمين؛ وما دامت الشركة قادرة على تحقيق متوسط معدلها بالساعة، فسوف تكون راضية.
لكن لا يُولى الكثير من التفكير لربحية هذا العمل الهامشي؛ فثمة فارق بين الحصول على أعمال «أكثر» والحصول على أعمال «أفضل». إن عقلية «الأكثر أفضل» هي وعد زائف لمعظم الشركات. فكسب المزيد من العملاء ليس بالضرورة أفضل. إن استهداف النمو كغاية في حد ذاته أيديولوجية مدمرة، وليس استراتيجية لشركة رابحة قابلة للنمو. وقد أوضح زميلي دان دوريس هذا الأمر قائلًا إنه عندما بدأ شركته أجرى اختبار «الضباب على المرآة» على جميع العملاء الجدد المحتملين. وإليك طريقته: إذا وُضعت مرآة أمامهم وظهر ضبابٌ عليها (وكان لديهم دفتر شيكات) فإنهم يكونون مؤهلين كعملاء ضريبيين (وبالمناسبة، إذا لم يظهر الضباب على المرآة، فإنهم يكونون مؤهلين للعمل العقاري). ما مصدر هذه الأيديولوجية؟ بالتأكيد يمكنك أن تلاحظ التأثير الجبري عن طريق النظر إلى معادلة الممارسة، وربما يكون هذا قد أثَّر في طريقة تفكير المهنيين على مدى العقود. ومع ذلك، ثمة سببان أكثر خفاءً يقفان وراء الاعتقاد بأن أي عميل هو عميل جيد.
يرجع السبب الأول على الأرجح إلى ذلك الجدل الأبدي بشأن كون المرء متخصصًا أو غير متخصص. بعد أن بدأ المحاسبون إعداد الإقرارات الضريبية في فترة الأربعينيات من القرن العشرين، زاد الطلب على الخدمات الضريبية والتخطيط الضريبي زيادة هائلة. ولما كان من السهل نسبيًّا إعداد إقرار ضريبي آخر، دائمًا ما كان يضيف العميل الهامشي إلى المحصلة النهائية للشركة. حقيقة، حتى في أيامنا هذه، نرى أنه في الشركات التي ترتفع فيها الإيرادات إلى ما يتراوح بين مليون وعشرة ملايين دولار أمريكي، يجري إعداد إقرارات ضريبية تتراوح بين ٥٠٠ و١٠٠٠ دولار أمريكي، ويكون تبريرهم دائمًا: «صحيح أن هؤلاء عملاء هامشيون وصغار، لكننا نحقق أرباحًا من ورائهم.»
لكن الجدل بين المتخصصين وغير المتخصصين انتهى بانتصار المتخصصين. وتعد مهنة المحاسبة واحدة من آخر المهن التي تخصصت؛ فقد بدأ تخصُّص الأطباء في أربعينيات القرن العشرين والمحامين في خمسينيات القرن نفسه. حتى ميكانيكيو السيارات ومتاجر بيع لعب الأطفال ومتاجر الحيوانات الأليفة ومحلات الأطفال ومحلات الملابس ومحلات الأثاث جميعها تخصصت؛ إذ اختاروا التركيز على جانب معين في السوق يخدمونه على نحو أفضل. وأخيرًا، في وقت ما بين أواخر عقد السبعينيات ومنتصف الثمانينيات من القرن العشرين، بدأ المحاسبون يدركون أن المتخصصين أعلى مرتبة على منحنى القيمة؛ ومِن ثَمَّ رأينا نمو العديد من جوانب الممارسة المتخصصة، بدءًا من الخدمات الاستشارية ورعاية المصالح القانونية لكبار السن وصولًا إلى كتابة وصايا التركات وتقديم الدعم في الدعاوى القضائية. هذا ليس معناه أن شركتك يجب أن يكون لها جانبٌ واحدٌ تُركز عليه في نشاطها؛ فالكثير من الشركات لديها العديد من جوانب الخبرة المتخصصة. ما يعنيه هذا هو أنك بحاجة إلى الالتزام بجد ومثابرة بجوانب الخبرة التي قررت استراتيجيًّا أن تتعقبها — وأن تنتقي عملاءك بعناية — وألَّا تدع النمو أو الشريحة السوقية يغريك بالانحراف عن خطتك. تأمَّل المصباح المتوهج وشعاع الليزر. كلاهما يحتاج إلى القدر نفسه من الطاقة للعمل، لكن أحدهما يمكنه أن يُحدِث ثقبًا في المعدن بسبب شدة تركيزه.
السبب الثاني وراء الاعتقاد بأن أي عميل هو عميل جيد يعود أيضًا إلى زمن الحرب العالمية الثانية. عندما كانت هناك وفرة في الطلب والعملاء، بدأ المسوقون في الاعتقاد بأن الحصة السوقية بمنزلة «الكأس المقدسة» في نهاية المطاف. وقد جسَّدت شركة «بروكتر آند جامبل» هذا الأمر أفضل من أي شركة أخرى؛ إذ اختارت أن تبيع أكبر عدد من عبوات المنظفات وأنابيب معاجين الأسنان لأكبر عدد من العملاء. ومع بداية حقبة التسعينيات من القرن العشرين وصولًا إلى القرن الحالي، بدأ هذا التوجه يتغير؛ فقادة التسويق والمبيعات التقليديون مثل «بروكتر آند جامبل» و«فورد» و«جنرال إلكتريك» بدءوا في تحويل تركيزهم من تنمية الإيرادات والحصة السوقية إلى زيادة الربحية. على سبيل المثال، رفعت شركة «فورد» الأسعار بين عامي ١٩٩٥ و١٩٩٩، وبالرغم من أنها فقدت نقطتين في الحصة السوقية، سجلت الشركة إيرادات قياسية خلال هذه الفترة.
ثمة مثال أكثر شيوعًا وهو عن شركة «ساوث وست إيرلاينز» الرائدة في مجال الرحلات منخفضة التكلفة، والتي لا تزال تركز على هذا الجانب من السوق؛ كما أوضح رئيسها التنفيذي السابق هيرب كيلهر: «لا علاقة للحصة السوقية بالربحية. فالحصة السوقية تقول إننا نريد أن نكون كبارًا فحسب، ولا نهتم بتحقيق ربح خلال ذلك أم لا. وهذا ما ضلَّل جزءًا كبيرًا من قطاع الخطوط الجوية على مدى ١٥ عامًا، بعد تخفيف الرقابة عليه. وللحصول على نسبة إضافية مقدارها ٥ بالمائة من السوق، زادت بعض الشركات من تكاليفها بما يصل إلى ٢٥ بالمائة. وهذا في واقع الأمر غير مناسب إذا كان هدفك الربحية» (فرايبرج، ١٩٩٦: ٤٩).
لو كانت الحصة السوقية تُفسر الربحية، لأصبحت «جنرال موتورز» و«يونايتد إيرلاينز» و«سيرز» و«فيليبس» الأكثر ربحية، كلٌّ في مجالها. ومع ذلك فإن هذه الشركات جميعها لديها سجلات أرباح عادية. فنمو الأرباح يسبق الحصة السوقية وليس العكس. فمثلًا «وول مارت» كانت أكثر ربحية من سيرز قبل أن تتمكن من الاستحواذ على حصة سوقية كبيرة. يبدو أن الربحية والحصة السوقية تنموان بالتزامن مع عرض قيمة قابل للتطبيق يكون لدى العملاء الاستعداد لدفع تكلفته. أما التركيز على الحجم وحده فهو كفيل بتدمير أي مشروع. لا تقع في هذا الخطأ. فكثيرًا ما يكون القليل أفضل كما سنوضح.
مُوجز ونتائج
لقد سلطنا الضوء على مثالب نظرية معادلة الممارسة التقليدية. وبالرغم من عدم وجود سعي لأن يكون النقاش السابق شاملًا، فإنه يؤسس لرؤية جدلية مثيرة ضد النموذج التقليدي. فمع تراجع نمو أعداد المحاسبين وتسطح منحنى التكنولوجيا وتعثر معدلات الاستفادة بين ٦٢ و٧٥ بالمائة من البداية — ناهيك عن التركيز على الكفاءة ما يؤثر سلبًا على عنصر الابتكار والفعالية في المهنة — بدأت عناصر الاستفادة المثلى من الإمكانات تختفي على ما يبدو. لكن هل هي تختفي حقًّا أم أننا لا ننظر إلى مسألة الرفع من المنظور الصحيح؟ بعبارة أخرى، هل توجد نظرية أفضل لشركة الخدمات المهنية المستقبلية؟ نعتقد أن تلك النظرية موجودة، ومهمتنا فيما تبقى من هذا الكتاب أن نبرهن على تفوق النظرية الجديدة على النظرية القديمة، بل أن نقنعك بتبنيها باعتبارها نظريتك الخاصة.