الفصل الأول
(عيادة طبيب. مكتب الدكتور. حجرة لها بابان. الدكتور
سامي يخلع على عجل المِعطف الأبيض، ويرتِّب هندامه الخارجي بعناية بعد أن
ينظر في ساعة ذهبية في معصمه. ويتأهَّب للخروج … جرس التليفون يدقُّ فوق
المكتب.)
سامي
(يجري على صوت جرس التليفون)
:
ألو … أنا الدكتور سامي نفسه، مين؟ … أهلًا وسهلًا … حاضر يا فندم …
عنوان البيت شارع القصر العيني … بعد ساعة أكون عندكم … قبل كده مشغول …
بس خلِّيه ياخد مسهِّل. (يفتح أحد البابين ليخرج وهو يصفِّر بفمه
مبتهجًا؛ فيصطدم بشخص حسن الهندام، داخلًا في هياج واضطراب) بسم الله
الرحمن الرحيم! … جرى إيه؟ … ما لك يا نجيب؟
نجيب
(وهو يلهث، يرتمي على أقرب مقعد)
:
اسكت … أنا تُوفِّيت!
سامي
:
حد قابلك من ايَّاهم … قلت لك ألف مرة اقصِر الشر وابعد عن الشوارع
اللي بيطلعوا لك فيها أصحاب الدِّيون بالنهار!
نجيب
(في صوتٍ مُتداعٍ وهو مُغمِض العينين)
:
مش ديون.
سامي
:
أمَّال إيه الحكاية … ما لك؟ ما تضيَّعش وقتي … أنا لازم أقابل
خطيبتي حالًا … (ينظر في ساعته).
نجيب
:
ابعت حالًا هات لي واحد حكيم.
سامي
:
وأنا يعني أمَّال هنا طرطور؟
نجيب
(ممدَّدًا على المقعد)
:
آه ياني … رحت خلاص مأسوفًا على شبابي!
سامي
:
اسمع يا نجيب … إن كان غرضك تتسلبط علشان عايز لك ريال أو نص ريال قل
لي بلاش ضياع وقت.
نجيب
:
مش مسألة فلوس … بقول لحضرتك أنا ميِّت … هوَّ يعني علشان ما اكون
ميِّت لازم يدفنوني في قرافة المجاورين؟
سامي
:
والكلام المفيد دلوقت إيه بقا؟
نجيب
:
الكلام المفيد، انِّي دلوقت مضروب بالرصاص.
سامي
(في استغراب)
:
رصاص؟
نجيب
:
انضربت بالرصاص قدَّام «جروبي»
سامي
:
يا خبر! … بتقول إيه؟ … جَد يا نجيب؟ … وساكت ليه من الصبح؟ … فين؟ …
(ينادي) يا عوضين! … التمرجي مش هنا … انت لازم لك إسعاف حالًا.
نجيب
:
أيوه اسعفني.
سامي
(يدنو منه ويخلع ملابسه)
:
اكشف الجرح بسرعة … دخلت فين الرصاصة؟
نجيب
(يشير إلى قلبه)
:
هنا!
سامي
(في دهشة)
:
مش ممكن!
نجيب
(يشير إلى قلبه بشدة)
:
بقول لك هنا.
سامي
:
مش معقول … انت يظهر ما عندكش فكرة عن الطب بالمرة.
نجيب
:
ما ليش دعوة بالطب … أنا بصفتي مضروب رصاصة أقول لك انها واقفة هنا …
وانت حر، تصدَّق والَّا ما تصدَّقش.
سامي
:
دا القلب يا مغفَّل … رصاصة في القلب ولسه عايش؟ … انت عايز تطيَّر
من عقلي حبة الطب اللي باكل بهم عيش!
نجيب
:
ومين قال لك اني لسه عايش؟
سامي
:
بتقول إيه؟
نجيب
:
بلغ عن وفاتي حالًا بصفتك حكيم!
سامي
:
لازم الرصاصة دخلت في عقلك!
نجيب
:
الرصاصة هنا في القلب.
سامي
(يجس نبض نجيب)
:
مفيش حاجة أبدًا عندك … نقطة دم مفيش … النبض طبيعي … القلب
سليم.
نجيب
:
القلب سليم … سليم يا جاهل … افحصني كويس … انت شايفني نجيب بتاع
الصبح؟ … أنا شخص آخر يا سامي، من مدة ٧ دقائق … أنا في عالم آخر من مدة
٧ دقائق.
سامي
(ينظر إلى نجيب لحظة)
:
انت بتحب!
نجيب
:
لأول مرة في حياتي.
سامي
:
كل نوبة تقول دي أول مرة في حياتك.
نجيب
:
أبدًا … المرة دي بس … لأن الرصاصة هنا.
سامي
:
رصاصة إيه!
نجيب
:
عينيها يا سامي! … نظره واحدة مافيش غيرها! … عينينا تقابلت عفوًا!
خلاص … شعرت في الحال بحاجة دخلت هنا … (يشير إلى قلبه) ولا طلعتش … لسه
موجودة … هات إيدك (يمسك يد سامي) شوف … جس.
سامي
(يجذب يده)
:
مين دي؟ … ما عرفتهاش؟
نجيب
:
أبدًا … كانت راكبة أتوموبيل طول الأودة دي مرة ونص … وواقفة قدَّام
جروبي تاكل «جلاس».
سامي
:
وانت كنت فين؟
نجيب
:
كنت باخد واحد ويسكي على البار … واحد بس «أبيرتيف» مفيش غيره … وأنا
خارج، لقيت عينيها في عيني، راح قلبي عامل كده … (يقبض يده) وراح ساقط
تحت رجليَّ، واتدحرج في الشارع على الأسفلت.
سامي
:
لغاية ما وقع في بلَّاعة! عامل كده … (يقبض يده) وراح.
نجيب
:
ما أعرفش راح فين.
سامي
:
وبعدين؟
نجيب
:
وبعدين شفتها نزلت، ومشيت في شارع المناخ، في اتجاه الأوبرا.
سامي
:
مشيت وراها طبعًا.
نجيب
:
انت مجنون! وأنا أقدر امشي في شارع المناح؟ عايز يقفشوني قدَّامها،
وأبات الليلة في القسم؟
سامي
:
أيوه صحيح … دا من الشوارع الممنوعة … مش واخد بالي … لك فيه على
الأقل زباين من ايَّاهم … كوستا الترزي، وشالوم الجزمجي، وماريو
الحلَّاق.
نجيب
(في حنق)
:
مسألة الشوارع دي بقت حاجة تجنِّن … أروح فين يا ناس؟ مفيش شوارع
كفاية في مصر … إن ما كنش مصلحة التنظيم تفتح حالًا شوارع جديدة، والَّا
يعملوا مترو تحت الأرض، أو ترمواي في السما … اللهم أنا خلاص، ما ليش عيش
في البلد.
سامي
(باسمًا)
:
أنت ممنوع من المرور في كام شارع؟
نجيب
(ناظرًا في أجندته)
:
أقول لك يا سيدي: خد عندك، المدابغ لغاية النص، وقصر النيل بعد
سليمان باشا، والمناخ جزء منه، وبعض شارع فؤاد، وشارع كوبري قصر النيل …
وأمَّا الضواحي، فصاحب المُلك ساكن في الزيتون.
سامي
:
وأخيرًا عملت إيه في حكايتك؟ طارت منَّك.
نجيب
:
طبعًا.
سامي
:
والنتيجة؟
نجيب
:
النتيجة؟ مفيش نتيجة، غير اني دلوقت محسوب في عداد الأموات، وشوف لي
طريقة؛ لأن المسألة جد مش لعب.
سامي
:
أشوف لك طريقة ازَّاي؟ ما سألتش مين دي؟ بنت مين؟
نجيب
:
أبدًا … أبدًا.
سامي
:
ما شفتش نمرة الأوتوموبيل كام؟
نجيب
:
أبدًا … أبدًا.
سامي
:
طيب تعرف ماركته إيه الأوتوموبيل، على الأقل؟
نجيب
:
أبدًا … أبدًا … ما أخدتش بالي … هو أنا كنت فاضي أشوف ماركة
الأوتوموبيل، والَّا ماركة وِشها.
سامي
:
وما خدتش تاكسي ورحت وراها تشوف ساكنة فين؟
نجيب
:
أبدًا … أبدًا.
سامي
:
اديني عقلك! عايزني أعمل لك إيه بقا بذمتك؟ كل حاجة أبدًا … شارلوك
هولمز أنا والَّا شمهورش؟ والَّا عايزني أضرب لك الرمل!
نجيب
:
انت مستحيل تعرف الحب … آدي كل اللي أقدر أقوله بالاختصار لواحد
مغفَّل زيَّك.
سامي
:
أشكرك … أورفوار … (يتحرَّك للخروج).
نجيب
:
اسمع … أنا لأول مرة في حياتي اتلخمت … وبقيت واقف تايه مش حاسس
بالدنيا … وفجأة طلعت أجري حاطط إيدي هنا … (يشير إلى قلبه) زي واحد
مضروب عيار ناري … لغاية وما وصلت عيادتك … تسمِّي ده إيه؟
سامي
:
أسمِّيه مرستان!
نجيب
:
الحب الحقيقي … اللي ما يحصلش إلا مرة واحدة في الحياة!
سامي
:
عندها أتومبيل طول الأوده دي مرة ونص تمام … أهو ده الحب الحقيقي …
هسبانو … ريزوتا … فراسكيني … باكار … ماركة من دول تفتح لك جميع الشوارع
الممنوعة، ولا تحتاجش لمصلحة التنظيم.
نجيب
(يبصق في الأرض ازدراء)
:
أنت رجل مادِّي!
سامي
:
اسمع يا نجيب نصيحة: أنا أشجَّعك انك تغوى العربيات اللي طول الأوده
دي مرة ونص … ماليِّتك تنتظم، وتعيش مرتاح.
نجيب
:
أنا أحتقر الكلام اللي بتقوله ده.
سامي
:
انت حر.
نجيب
:
وأحتقر الفلوس.
سامي
:
طيِّب … أورفوار … (يتحرَّك).
نجيب
:
رايح فين؟
سامي
:
رايح لخطيبتي في أمر مهم … وراجع بعد ربع ساعة … لأن عندي
عيَّانين.
نجيب
(يتمدد كالمريض)
:
أنا عيان.
سامي
:
انت قاعد هنا … أنا رايح بقى … (يتَّجه إلى الباب).
نجيب
:
رايح فين؟
سامي
:
مش ضروري أقول لك ألف مرة أنا رايح فين؛ لأن عقل حضرتك تايه
النهارده!
نجيب
:
عندي هبوط في القلب.
سامي
:
أحسن … نهارك سعيد … (يحاول الخروج).
نجيب
(ينهض على قدميه بسرعة ويصيح به)
:
اقف عندك … رايح فين؟ أنا باقول لك عندي هبوط في القلب يا ابن الكلب
… ومضروب بالرصاص، وحالتي خطرة.
سامي
:
برده حانرجع للرصاص؟!
نجيب
(في صوت قاصف)
:
شوف لي دوا في الحال لهبوط القلب، وإلَّا وشرفك أطربأ العيادة عليك
وعلى العيَّانين.
سامي
:
بقا دا صوت واحد عنده هبوط في القلب؟!
نجيب
(ينزل صوته بسرعة إلى طبقة منخفضة)
:
انت يا سامي يا خويه، عندك دوا عجيب ضد هبوط القلب.
سامي
:
إيه هوَّ؟
نجيب
(يترنَّم)
:
ورقة بجنيه يا عزيزي، جنيه مصري، والَّا إنجليزي، ينحط كده في الجيب،
يجمِّد القلب ويطيَّب.
سامي
(ينظر إليه شزرًا لحظةً)
:
بقا اسمع … يعني يصح تضيَّع من وقتي ربع ساعة، في اختراع الحكاية
الطويلة العريضة دي، علشان كده؟!
نجيب
(يمدُّ يده)
:
لا أبدًا … مسألة الحب حقيقية، ولا شك فيها، وبكره تشوف … أما
الجنيه، فده من زمان موصوف لي في الحالات الخطرة اللي زي دي!
سامي
(يخرج محفظة نقوده)
:
وشرفك أنا لازم أعزِّل حالًا من شقتي اللي في قصر النيل … دا مين
يسكن في عمارة ساكن فيها انت.
نجيب
(يخطف ورقة بجنيه من يد سامي)
:
هات الله لا يحرمك منِّي … ابق ضيف على الحساب!
سامي
(في تهكُّم)
:
حساب؟ نهارك سعيد … (يخرج).
نجيب
(يضع الورقة في جيبه بعناية)
:
سعيد مبارك يا افندم … (ثم يرتِّب هندامه) دلوقت بقا، حيث إننا
اطمأنينا على مستقبلنا الباهر، لمدة ٢٤ ساعة … يجب البحث عن صاحبتنا اللي
عنيها ماركة (بروننج) … (يخرج علبة سجاير ويتناول سيجارة).
(الباب الآخر للحجرة يطرق.)
نجيب
:
مين؟ (الطرق يعود فيشتد) اسكت يا عيان، الدكتور جاي حالًا …
(الطرق يشتد.)
سيدة
(من الخارج تصيح)
:
أدخل والَّا لأ.
نجيب
(في غير اكتراث)
:
لأ.
السيدة
(من الخارج)
:
ليه ما أدخلش؟
نجيب
:
كده
السيدة
(صائحة)
:
لازم ادخل!
نجيب
(وهو يشعل سيجارته)
:
ادخلي …
(الباب الأيمن يفتح وتظهر (فيفي) غادة مصرية أرستقراطية،
رشيقة جميلة، ذات أعين فتاكة، وبمجرَّد أن يراها نجيب يبغت ويبهت، وتسقط
منه سيجارته من فمه.)
فيفي
:
فين الدكتور؟ (تبحث بعينيها في أنحاء القاعة).
(نجيب بلا حراك.)
فيفي
(تتأمَّل جموده في دهشة)
:
الدكتور فين؟
نجيب
:
…
فيفي
:
الدكتور مش هنا من فضلك؟
نجيب
(كأنما كان يخاطب نفسه)
:
مش ممكن … (ثم يصحو لنفسه ويلتفت بسرعة إلى فيفي) أفندم.
فيفي
:
فين هوَّ؟
نجيب
:
هوَّ مين؟
فيفي
(في شيء من الصبر النافد والحدَّة)
:
الدكتور سامي طبعًا!
نجيب
:
آه … طبعًا … ما تأخذنيش … أنا …
فيفي
(صائحة في ضيق عصبي فجائي)
:
الدكتور سامي.
نجيب
(في الحال وقد خاف من صيحتها العصبية
الفجائية)
:
ما اعرفوش.
فيفي
(صائحة في ضيق عصبي كذلك كالمرة السابقة)
:
انت في عيادته هنا، ما تعرفوش ازَّاي؟
نجيب
(في خوف كذلك كالمرة السابقة)
:
طيِّب أعرفه!
فيفي
(تتأمَّله لحظة من رأسه لقدمه، كمن حسِبته
مخبولًا)
:
يعني حضرتك ما تقدرش تقول لي، إذا كان الدكتور موجود والَّا مش
موجود؟
نجيب
:
أقدر أقول لحضرتك.
فيفي
(في تهكُّم)
:
امتى ان شاء الله؟
نجيب
:
حالًا إن شاء الله … بسِّ …
فيفي
:
بسِّ إيه؟
نجيب
:
حلم حضرتك عليَّ شويَّة.
فيفي
(تنظر إليه في استغراب وضيق)
:
أنا منتظرة.
نجيب
(يتمالك)
:
أيوه يا افندم … حضرتك منتظرة … مين؟
فيفي
(تنظر إليه نظرة نافد الصبر، الذي يحلم لآخر
مرة)
:
منتظرة أعرف الدكتور سامي هنا والَّا لأ؟
نجيب
(كمن يُفيق)
:
آه. الدكتور سامي … آه … يعني الدكتور سامي؟ أيوه يا افندم أقدر
أقول لحضرتك …
فيفي
:
أظن المسألة مش محتاجة للوقت ده كلُّه، علشان تقول لي هنا والَّا مش
هنا.
نجيب
:
تحبِّي أكون صريح شويَّة؟
فيفي
:
تفضَّل.
نجيب
:
أنا محتاج خمس دقايق علشان أرجع لحالتي الطبيعية.
فيفي
(تنظر إليه لحظة)
:
يعني دلوقت بأي حال، ما تقدرش تجاوبني؟
نجيب
:
مستحيل أقدر أجاوب حضرتك على أي سؤال بالشكل ده.
فيفي
:
بالشكل ده ازَّاي؟
نجيب
:
ولو فيها رزالة، غمَّضي عينيك شويَّة.
فيفي
(تنظر إليه شزرًا)
:
يعني إيه؟
نجيب
:
يعني اعملي كده. (يغمض عينيه).
فيفي
:
مش فاهمة.
نجيب
:
لأ؛ لازم تفهمي من فضلك.
فيفي
:
أفهم إيه؟
نجيب
:
تفهمي إن البروننج فيه ست رصاصات بس … وانطلقوا كلُّهم خلاص، أكتر من
كده يبقى متروليوز … وروحي راحت من أوِّل رصاصة … وإذا كنت سيادتك فاهمة
انِّي بسبع أرواح، أو انِّي معجون بالأسمنت المسلَّح، يبقى ظلم … وانت ما
يخلَّصكيش … والَّا أنا غلطان في الكلام ده؟
(لحظة صمت.)
فيفي
(تنظر إليه من رأسه لقدمه كالمرتاب في
عقله).
:
أنا كنت فاكرة الدكتور سامي حكيم باطني بس!
نجيب
(فاهمًا قصدها)
:
قصد حضرتك إيه بقا؟
فيفي
:
ولا حاجة … أنا ما قلتش حاجة زيادة عن كده.
نجيب
:
أولًا أنا مش عيَّان.
فيفي
:
طبعًا مش ببطنك.
نجيب
:
يعني سيادتك عايزة تقولي عيَّان بحاجة تانية؟
فيفي
:
أنا مش عايزة أقول حاجة أبدًا … ولا فيش داعي لكده بالمرة، لأنِّي مش
جاية هنا دلوقت، علشان أقول لك انت عيَّان بإيه.
نجيب
:
أمَّال حضرتك جاية هنا علشان إيه؟
فيفي
:
جاية بالطبع لشيء تاني … أقابل الدكتور سامي.
نجيب
:
لأسباب صحية طبعًا؟
فيفي
:
أيوه … وكمان علشان … أولًا … اسمح لي أعرف … حضرتك مين هنا؟
نجيب
:
حضرتي مين هنا؟
فيفي
:
أيوه لو تسمح لي أعرف.
نجيب
:
حاضر … أقول لحضرتك حالًا.
فيفي
:
تفضَّل … منتظر إيه؟
نجيب
(يخرج علبة سجايره ويقدِّمها إلى فيفي)
:
سيجارة؟
فيفي
(بلا حراك)
:
مرسي … ما ادخَّنش.
نجيب
:
برافو … عملتِ طيِّب قوي … أنا ما أحبِّش السِّت اللي تدخَّن.
(يتناول سيجارة ويضعها في فمه.)
فيفي
:
أنا كمان ما احبِّش الراجل اللي يدخَّن.
(نجيب في حركة غريزية ينزع في الحال السيجارة من فمه
ويلقي بها في الأرض.)
فيفي
(في تهكُّم خفي)
:
لأ مفيش لزوم … اشرب سيجارتك أحسن!
نجيب
(في قوة)
:
لأ … مش ممكن … أنا مجنون؟! خلاص من اللحظة دي بطَّلت السجاير … أنا
مستعد أتعهِّد لك وأقسم لك بشرفي وحياة …
فيفي
(في برود)
:
وإيه الدَّاعي؟ دا شيء ما يهمِّنيش.
نجيب
(مصدومًا)
:
ما يهمِّكيش انِّي أبطَّل السجاير؟
فيفي
:
بالتأكيد لأ … يهمِّني في إيه؟
نجيب
:
مش لمَّا ابطَّل السجاير صحتي تتحسِّن؟
فيفي
:
وأنا ما لي؟ دا شيء يهمَّك انت.
نجيب
:
يهمِّني أنا بس؟ ما يهمِّش حد تاني أبدًا؟
فيفي
:
ما اعرفش … انت بالطبع أدرى بظروفك.
نجيب
:
إن كان على ظرفي، تأكَّدي انَّها ألعن ظروف خلقها ربِّنا. أولًا أنا
مقطوع من شجرة ولا فيش حد يهتم إن كنت أدخَّن والَّا انحرق … ثانيًا، أنا
ساكن لوحدي في (أبَّارتمان) في شارع قصر النيل … ومحمد السُّفرجي سابني
امبارح وطفش … والدي الله يرحمه ويحسن إليه، وكذلك والدتي الله يرحمها
ويحسن إليها، كانوا الاثنين من خيار الناس، كان عندهم …
فيفي
(تقاطعه وتلتفت جهة الباب)
:
مع الأسف: عوضين التمرجي مش هنا علشان أسأله عن الدكتور سامي!
نجيب
(مصدومًا)
:
حضرتك متضايقة للدرجة دي من كلامي؟
فيفي
(في تردُّد)
:
لأ … إنَّما بس انا شايفة الوقت غير مناسب علشان تحكي لي تاريخ
حياتك.
نجيب
:
وإمتى امَّال تشوفي الوقت مناسب، علشان أبقى أحكي لك تاريخ حياتي
بالتفصيل؟
فيفي
:
وإيه الضَّرورة انَّك تحكي لي تاريخ حياتك، بتفصيل أو من غير
تفصيل؟
نجيب
:
مفيش ضرورة أبدًا؟
فيفي
:
بالتأكيد مفيش أبدًا.
نجيب
:
إيه السبب؟
فيفي
:
طبعًا … أولًا أنا … ما تأخذنيش … ما اعرفكش.
نجيب
(مصدومًا)
:
أشكرك.
فيفي
:
لأ … ما تشكرنيش … دي الحقيقة.
نجيب
:
صحيح دي الحقيقة … لكن …
فيفي
:
لكن إيه؟
نجيب
:
لكن برده ما كنتش أحب انك انت اللي تذكَّريني بها.
فيفي
:
أنا مضطرَّة.
نجيب
(يطرق في شبه إذعان وألم)
:
طيِّب.
فيفي
(تنظر إليه في صمت ثم تقول)
:
انت مع ذلك لغاية دلوقت ما فهِّمتنيش حضرتك مين هنا؟
نجيب
(في كآبة)
:
وإيه الفايدة؟!
فيفي
:
بس أحب أعرف أنا بكلِّم مين.
نجيب
:
بتكلِّمي مين؟ بتكلِّمي شخص مخلوق جديد لنج، من مدة ١٠ دقايق … ما
لوش مستقبل … مالوش غير حاضر جميل، يدوم كمان بالكتير ٥ دقايق.
فيفي
:
مش فاهمة كلامك.
نجيب
:
أحسن.
فيفي
:
بدِّي أعرف بس انت صفتك إيه في العيادة؟
نجيب
:
ما ليش صفة.
فيفي
:
انت لك صلة بالدكتور سامي؟
نجيب
:
صاحبي.
فيفي
:
حكيم زيُّه طبعًا؟
نجيب
(شاردًا)
:
طبعًا.
فيفي
(باسمة)
:
الطيور على أشكالها تقع.
نجيب
(كمن يخاطب نفسه)
:
صحيح أنا وقعت.
فيفي
:
بالتأكيد.
نجيب
(يرفع رأسه ويلتفت إليها فجأةً)
:
إيش عرَّفك؟
فيفي
:
أنا أعرف انَّك ما وقعتش على الدكتور سامي هنا، إلَّا النهارده، لأني
سبق جيت له كتير في الوقت ده.
نجيب
:
سبق جيتي كتير هنا قبل النهارده؟ وأنا كنت ساعتها في انهي
داهية؟
فيفي
:
ما اعرفش.
نجيب
(صائحًا)
:
اسمحي لي أقول لك انِّي أنا إنسان يستحق الضرب بعشرين أو خمسة وعشرين
صرمة نضيفة!
فيفي
:
ما اقدرش اقول لك بالضبط انت تستحق كام … لكن كل اللي أقدر أقوله انك
بتضيَّع وقتي بشكل غريب … المهم في كل اللي فات، الدكتور سامي هنا والَّا
مش هنا؟
نجيب
(مصدوم منفعل)
:
الدكتور سامي مش موجود … دا كل اللي أقدر أقوله … وعشان ما اضيَّعش
وقت حضرتك بشكل غريب، أقول لك أورفوار، أو … آديو (يتحرَّك).
فيفي
:
فيه عيَّانين برة منتظرين الدكتور … مين رايح يشوفهم؟
نجيب
:
ما اعرفش.
فيفي
:
الدكتور سامي ما قالش مين يشوف العيَّانين؟
نجيب
:
مفيش هنا عيَّانين.
فيفي
:
فيه.
نجيب
:
مفيش.
فيفي
:
فيه.
نجيب
:
مفيش.
فيفي
:
بقول لك فيه برَّة في الصالة، وفي أودة الانتظار.
نجيب
:
بقول لك مفيش هنا عيَّانين.
فيفي
:
طيِّب روح شوف بعينك برة!
نجيب
:
أنا ما أكدِّبش نفسي وأصدَّق عيني … مفيش في العيادة، بل في العالم
كلُّه، دلوقت، غير شخص واحد بس اقدر أعترف بصحيح انه عيَّان.
فيفي
:
مين هوَّ؟
نجيب
:
المخلوق اللي واقف قدَّامك.
فيفي
:
انت بتقول انك حكيم مش عيَّان.
نجيب
:
عيان.
فيفي
:
مش باين عليك.
نجيب
:
هوَّ يعني علشان ما اكون عيَّان لازم يشيلوني على نقَّالة!
فيفي
:
وعيَّان بإيه؟
نجيب
:
وأنا مجنون اقول لك أنا عيَّان بإيه، وحاسس بإيه؟ مستحيل أقول، ولو
شنقوني.
فيفي
:
ليه بقا؟
نجيب
:
كده … ما أقولش أبدًا.
(لحظة صمت.)
فيفي
(تنظر إليه قليلًا)
:
أحسن … برده ما تقولش.
نجيب
:
أنا نفسي ما يمكنش أقول.
فيفي
:
أيوه ما تقولش.
نجيب
:
ما أقولش أبدًا.
فيفي
:
أيوه كده.
نجيب
:
أيوه.
فيفي
:
نرجع للموضوع … الدكتور سامي ما قالش حايرجع هنا إمتى؟
نجيب
:
أؤكِّد لك لو قلت لك أنا عيَّان بإيه، مستحيل تصدَّقي.
فيفي
:
قلت لك خلاص ما تقولش … انتهينا.
نجيب
:
علشان كده ما يمكنش أقول.
فيفي
:
ما تقولش.
نجيب
:
أيوه ما أقولش.
فيفي
:
أيوه كده.
نجيب
:
أيوه.
فيفي
:
إذا كان الدكتور سامي مش راجع دلوقت، أقدر أسيب له كلمة (فجأة تضع
يدها على ضرسها متألِّمة) آه.
نجيب
(في لهفة)
:
ما لك؟
فيفي
(تخرج منديلها وتضعه على فمها)
:
سنِّتي.
نجيب
(في اهتمام وقلق)
:
بتوجعك؟
فيفي
:
قوي.
نجيب
(يهرول في الحجرة كأنَّه يبحث عن شيء)
:
فين؟ فين؟!
فيفي
:
بتبحث عن إيه هناك؟ سنِّتي هنا (تشير إلى فمها).
نجيب
:
أيوه فاهم … أنا ببحث عن الدَّوا … فين الدَّوا … أولًا إيه هوَّ
الدوا بالضبط؟ على كل حال أنا لازم أشوف لك طريقة … لأني مقدرش أشوفك
متألمة من أي شيء … فين التمرجي؟ فين الدكتور؟ انت لازم لك واحد دكتور
حالًا.
فيفي
:
انت مش بتقول انَّك دكتور؟
نجيب
:
آه … أيوه برضه … لكن حتى على فرض انِّي دكتور، ما اقدرش أعالجك
انت.
فيفي
:
ليه؟
نجيب
:
مقدرش أقول لك ليه … المهم دلوقت، إيه اللي في إمكاني أعمله علشانك؟!
سنِّتك بتوجعك قوي؟
فيفي
:
أيوه … دلوقت بس وجعتني مش عارفة ليه؟
نجيب
:
ورِّيني، افتحي بقِّك … فين السِّنة دي؟ (تفتح فمها فتظهر أسنانها)
أوًّا ده ضرس مش سِنة … علشان تصدَّقي انِّي دكتور … ثانيًا فين هيَّ
الأسنان؟ أنا مش شايف غير صفِّين لولي من الغالي! انت يلزمك واحد
جواهرجي، مش واحد حكيم.
فيفي
:
لأ … أرجوك … ضرسي بيوجعني … شوف لي أي علاج حالًا.
نجيب
:
علاج زي إيه؟
فيفي
:
مش أنا طبعًا اللي أقول لك.
نجيب
:
أصل أنا بس مش حكيم أسنان.
فيفي
:
أمَّال حكيم إيه؟
نجيب
(في تردد)
:
حكيم … (ينظر إلى عينيها الساحرتين) عيون … أيوه أنا حكيم عيون …
لأنِّي أفهم في العيون … ودرست العيون … وقاسيت من العيون.
فيفي
:
لكن احنا دلوقت في الأسنان … واللي بيوجعني ضرسي.
نجيب
:
تأكَّدي ان ضرسك عزيز عليَّ قوي … لكن بقى مع الأسف.
فيفي
:
اسمع يا دكتور … أنا أعرف ان الألم دايمًا جاي من عصب الضِّرس؛ لمَّا
الواحد ياكل حاجة مثلجة … ولذلك أي مسكِّن بسيط.
نجيب
(بسرعة)
:
أيوه مسكِّن … عليك نور … أهو ده الدَّوا اللازم، بس كان تايه عن
بالي … إنَّما بقى المسكِّن ده، يعني الواحد يتعاطاه سفوف، والَّا معلقة
شوربة قبل الأكل، والَّا إيه؟
فيفي
(تنظر إليه مليًّا)
:
يظهر انَّك مش دكتور أبدًا.
نجيب
:
دكتور في العيون بس يا افندم.
فيفي
:
ولا حتَّى في العيون.
نجيب
:
الله يسامحك … المهم عندي ان ألمك يزول بأي طريقة … أنا مصرَّح لك:
اشتميني … اضربيني … أنا أفتكر ان أحسن مسكِّن هو انك تشغلي نفسك عن
الألم ببهدلتي ولعن أبو خاشمي … أظن دي أحسن طريقة.
فيفي
:
لكن ده مش علاج طبِّي.
نجيب
:
مش ضروري العلاج يكون طبِّي … مش أنا حكيم … لكن أؤكِّد لك ان
البلاوي التقيلة، ما تجيش الَّا من تحت راس الحكما.
فيفي
(في سخرية)
:
انت حكيم مدهش!
نجيب
:
جايز … إنَّما الأصح انِّي بني آدم متألِّم دلوقت بشكل مدهش.
فيفي
:
مش باين عليك أبدًا.
نجيب
:
ما هو برده، ده من سوء حظِّي.
فيفي
:
ومع ذلك كونك انت كمان متألِّم، دا شيء ما يهمِّنيش.
نجيب
:
وانت إيه اللي بيهمِّك؟!
فيفي
:
المهم عندي حاجة تسكِّن ضرسي.
نجيب
:
ضرسك لسَّه بيوجعك؟
فيفي
:
أيوه.
نجيب
:
خالص؟
فيفي
:
خالص.
نجيب
:
أحسن.
فيفي
:
ازَّاي أحسن؟
نجيب
:
علشان تاني مرة تحرَّمي الوقوف قدَّام جروبي تاكلي (جلاس) … توجعي
ضرسك وتموِّتي الناس!
فيفي
(في دهشة)
:
وعرفت ازَّاي انِّي أكلت جلاس قدَّام جروبي؟
نجيب
:
حاجة بسيطة.
فيفي
:
لازم شفتني قبل دلوقت بشويَّة.
نجيب
:
لأ.
فيفي
:
أمَّال عرفت ازَّاي؟
نجيب
:
ما تعرفيش انِّي أقدر اقرا كل شيء في فكرك، وفي ضميرك، وفي
قلبك؟
فيفي
:
حكيم روحاني حضرتك؟
نجيب
:
بالضبط!
فيفي
(في تهكُّم)
:
أظن زي ما انت حكيم عيون؟
نجيب
:
أحسن شويَّة.
فيفي
:
طيِّب اقرا اللي في ضميري.
نجيب
(يقف وقفة صناعية وينظر إليها مليًّا ثم
يتنحنح)
:
في ضميرك إنِّي شخص ضيَّع وقتك بشكل غريب.
فيفي
:
كدَّاب.
نجيب
(في فرح)
:
صحيح؟
فيفي
:
ما تسألنيش. العالِم الرُّوحاني الحقيقي، ما يسألش الزبون.
نجيب
:
بدِّي أطمئن.
فيفي
:
مش من وظيفتك انك انت اللي تطمئن، يا حضرة الساحر العجيب؟
نجيب
:
أؤكِّد لك إنك ألطف إنسانة شفتها.
فيفي
:
أنا مش عاوزة تقرا اللي في ضميرك انت!
نجيب
:
عندك حق … اللي في ضميري أنا مفهوم طبعًا … وسحرك انت بس اللي قدر
يكشف ضميري.
فيفي
:
احنا في سحرك انت!
نجيب
(فرحًا)
:
وأنا لي سحر؟!
فيفي
:
انت اللي بتقول.
نجيب
(متذكِّرًا)
:
آه.
فيفي
:
قريت إيه كمان في فكري؟
نجيب
(ناظرًا إليها مليًّا)
:
انت مدهشة!
فيفي
:
دا شيء مش في فكري طبعًا.
نجيب
:
انت مش بسيطة أبدًا.
فيفي
:
ومين بسيط في الزمن ده؟
نجيب
:
أنا بقرا في قلبك كلام يخوِّف.
فيفي
:
يخوِّف ليه؟ ويخوِّف مين؟
نجيب
:
يخوِّفني.
فيفي
:
يخوِّفك انت؟ انت كل حاجة تحشر نفسك فيها؛ حتَّى قلبي؟
نجيب
:
يا ريت أقدر أنحشر في قلبك.
فيفي
(تبتسم)
:
إيه بقى اللي خوِّفك؟
نجيب
:
أولًا بصِّيت في قلبك لقيته فاضي، أفضى من جيب نجيب من قبل عشر
دقايق!
فيفي
:
كدَّاب.
نجيب
:
ازَّاي؟! قلبك مش فاضي؟
فيفي
:
لأ.
نجيب
:
مشغول؟
فيفي
:
طبعًا.
نجيب
(في فرح)
:
كويِّس … تسمحي لي بقا أسألك سؤال واحد؟
فيفي
(في تقطيب)
:
أنا عارفة السؤال الواحد ده، وما أسمحش به أبدًا.
نجيب
:
لأ … اعملي معروف، أنا محسوبك، متجيش لغاية النقطة الحساسة وتعاكسيني
… كلمة واحدة يتوقَّف عليها مستقبل حياتي.
فيفي
:
كلمة إيه؟
نجيب
:
مين هوَّ؟ … مين هوَّ السعيد اللي …؟
فيفي
:
مستحيل … يظهر اني تساهلت معك في الكلام أكتر من اللازم … عاوز كمان
تعرف أسراري الخصوصيَّة؟!
نجيب
:
وما له؟ انت أولًا أجمل وأذكى وأشجع آنسة مصرية عرفتها.
فيفي
:
مش عاوزة تقريظ من فضلك.
نجيب
:
تقريظ؟ دي حقائق، أنا عاوز أقول لك انك زي ما ظهر لي، واحدة مش بسيطة
من بتوع زمان … انت واحدة فاهمة كل شيء في الدنيا … تعليم، وتهذيب، وذكاء
… بالطبع دي أكبر قوَّة وأعظم سلاح في يد السِّت، تقدر تعيش به في وسط
العفاريت … إيه اللي يهم واحدة زيِّك دلوقت، انها تكون صريحة مع واحد
زيِّي؟!
فيفي
:
ما تبلفنيش من فضلك.
نجيب
:
مش بلف أبدًا والله.
فيفي
:
عاوزني أكون صريحةً في إيه؟
نجيب
:
أولًا، أنا مش عاوز أعرف إنت مين … ولا ماركة أتوموبيلك إيه، ولا
ساكنة فين!
فيفي
:
أمَّال عاوز إيه؟
نجيب
:
عاوز أعرف بكل صراحة … فاهمة؟ بكل صراحة، مين هوَّ المخلوق اللي شاغل
قلبك؟
فيفي
:
واحد من الناس.
نجيب
:
مفهوم، قصدي مين هوَّ يعني؟
فيفي
:
وإيه يهمَّك إن كان زيد والَّا عمرو؟
نجيب
(في تردُّد)
:
هوَّ موجود؟
فيفي
:
طبعًا على قيد الحياة.
نجيب
(متردِّدًا)
:
لأ … قصدي موجود … هنا؟
فيفي
:
أيوه … موجود في مصر.
نجيب
(خائفًا)
:
قصدي، كمان، يعني … بس جاوبيني بالصَّراحة … فاهمة؟ بكل صراحة هوَّ
موجود هنا في الأودة دي، والَّا لأ؟
فيفي
(مندهشة)
:
سؤال غريب؟
نجيب
:
عاوز الصراحة … هوَّ موجود قدَّامك دلوقت، والَّا لأ؟!
فيفي
:
طبعًا لأ.
نجيب
(يحاول الهدوء)
:
آه.
فيفي
(تلاحظ تغيُّره)
:
ما لك؟
نجيب
:
لأ … مفيش حاجة أبدًا … يعني قصدك انُّه واحد تاني … مش موجود
هنا؟
فيفي
:
طبعا.
نجيب
(يُطرق)
:
آه.
فيفي
(تنظر إليه)
:
زعلت؟
نجيب
(يرفع رأسه)
:
لأ … ما فيش زعل أبدًا.
فيفي
:
أظن أنا جاوبتك بصراحة، زي انت ما طلبت تمام؟
نجيب
(في إطراق)
:
أيوه … تمام … مِرسي.
فيفي
:
أقدر أقول لك كمان، إذا كنت عاوز إيضاح أكثر من كده، إنُّه
خطيبي.
نجيب
:
مش مهم.
فيفي
:
وإنُّه حكيم زيَّك، لكن يمكن يعرف صنعته أحسن منَّك شويَّة.
نجيب
:
طبعًا.
فيفي
:
أقدر أقول لك، إنَّك يمكن تعرفه.
نجيب
:
جايز.
فيفي
:
وإنه ربَّما يكون صاحبك.
نجيب
:
زي بعضه.
فيفي
:
تستعلم عن حاجة تانية كمان؟
نجيب
:
لأ … خلاص متشكِّر … ده كل اللي أنا كنت عاوز أعرفه … نهارك سعيد.
(يًنحني ويتناول سيجارته التي ألقاها على الأرض، ويمسحها في كمِّه،
ويضعها في فمه … صمت طويل.)
نجيب
:
نهارك سعيد. (يتَّجه إلى الباب ليخرج).
فيفي
(تنظر إليه باسمة، وعندئذ تتحرَّكَ نحو الباب
الآخر)
:
يا عوضين! (تخرج).
(نجيب لا يزال يفكِّر.)
سامي
(داخلًا من الباب الواقف أمامه نجيب)
:
انت لسَّه هنا … لسَّه هنا ومعاك جنيه؟! مارحتش ليه تبحث عن
صاحبتك.
(نجيب ينظر إليه ولا يجيب.)
سامي
(يترك نجيب ويُهرع باحثًا)
:
فيفي … (لنجيب) فيفي خطيبتي هنا. ما شفتهاش؟
فيفي
(تدخل)
:
سامي!
سامي
:
أنا يظهر رحت لك من هنا، وانت جيتي من هنا … تعالي أولًا، لمَّا
أقدِّم لك نجيب صاحبي وصديقي وجاري في السَّكن (يقدِّم أحدهما
للآخر).
فيفي
(بتهكُّم)
:
تشرَّفنا.
نجيب
(لا يجسُر على النظر إليها)
:
تشرَّفنا يا افندم.
فيفي
:
حضرته طبعًا حكيم زيَّك يا سامي.
سامي
:
أبدًا … ده موظف مهم.
فيفي
(لنجيب في تهكُّم)
:
كده؟!
سامي
:
وفضلًا عن ذلك، معروف في كل مكان، انه من أظرف شخصيات البلد، ما
يغرِّكيش إنه واقف كده مبلِّم، زي اللي خطفوا محفظته … ده بس علشان حصلت
له حادثة من مدة نصف ساعة.
فيفي
:
حادثة إيه لا سمح الله؟
سامي
:
شاف واحدة في أتومبيل قدَّام جروبي بتاكل جلاس …
نجيب
(بسرعة)
:
قصدي حادثة أتوموبيل … كان حايحصل تصادم.
سامي
:
بلاش كدب يا نجيب.
فيفي
:
وجرى إيه؟
سامي
:
ما فيش تصادم ولا حاجة … الحكاية كلَّها إنه بيحب.
نجيب
(في حيرة)
:
كلام إيه ده يا سامي؟
سامي
:
فيفي «سبور» ما تخفش … هو الحب عيب؟ مش كده يا فيفي؟ بدليل اننا
حبِّينا بعض.
فيفي
:
طبعًا يا سامي.
نجيب
(يدير وجهه ويتحرَّك)
:
نهاركم سعيد!
سامي
:
الله … انتظر … قل لنا نويت على إيه … احنا لازم نساعدك ونشوف لك
طريقة … ما دمت أوِّل ما شفتها اتلخمت، وغرقت في شبر ميَّه، ولا عرفتش
هيَّ مين ولا ساكنة فين؟ فأظن مش لطيفة إنَّا نسيبك كده وحلان
لشوشتك.
نجيب
:
أرجوك يا سامي تريَّح نفسك من جهتي!
سامي
:
إنت مكسوف تقول انك بتحب؟
نجيب
:
وبعدين معاك؟!
سامي
:
انت مش قايل لي أبلَّغ عن وفاتك؛ لأن عينيها قتلتك ومُت خلاص،
وانضربت بالرصاص، ولا تقدرش تعيش من غيرها … حصل والَّا ماحصلش؟
فيفي
:
للدرجة دي؟
نجيب
:
كلام.
فيفي
:
طبعًا كلام!
نجيب
:
والدَّليل على كده، إني عايش أهوه كويِّس، بصحة جيدة أربعة وعشرين
قيراط.
فيفي
:
دا من حسن الحظ.
سامي
(وهو يخلع جاكتِّته ويرتدي معطف العمل)
:
ما تصدَّقيش! شوفي وشُّه أصفر ازَّاي؟ أنا أراهن إن ما كان وزنه نزل
النُّص.
نجيب
(صائحًا)
:
يا سيدي ما لكش دعوى بوزني اعمل معروف! انت حد مسلَّطك عليَّ
النهارده؟!
سامي
:
شوف انت بقيت عصبي ازَّاي؟ ما يصحِّش توصل حالتك للدرجة دي
وأسيبك.
نجيب
:
وعاوز منِّي إيه بقا انت دلوقت؟
سامي
:
أشوف لك طريقة حالًا … أنا كنت الأول مستعجل، ودلوقت فضيت لك … اسمع:
أحسن حل انك تروح (جروبي) وتسأل …
نجيب
:
أسأل عن إيه؟
سامي
:
عن الست صاحبة الأتومبيل الفخم اللي كانت بتاكل جلاس، يمكن تكون
معروفة هناك.
نجيب
:
طيِّب وان عرفتها يجرى إيه في الدنيا؟ إيه اللي راح يتغيَّر في
حياتي؟
سامي
:
إيه التغفيل ده؟ إن عرفتها تبقى خلاص المسألة انحلِّت، تبقى نجحت يا
عزيزي واهنِّيك، واستحق منك الحلاوة. مش كده والَّا إيه يا فيفي؟
فيفي
(باسمة)
:
بالتأكيد!
نجيب
(خافتًا وهو ينظر إليها)
:
شيء غريب!
سامي
:
يلَّله طيران على جروبي … ما تضيَّعش دقيقة واحدة!
نجيب
(يتحرَّك)
:
حاضر … نهاركم سعيد.
سامي
(بسرعة)
:
انتظر يا نجيب (يدنو منه ويهمس إليه) … اسمع … انت مش لازم لك كمان
فلوس؟
نجيب
:
لأ.
سامي
:
عجيبة! لأول مرة في حياتك، الفلوس مش لازماك!
نجيب
(يخرج الجنيه من جيبه)
:
خد … ده كمان مش لازمني.
سامي
(في دهشة)
:
مش ممكن!
نجيب
(يعطيه الجنيه)
:
لأول مرة في حياتي أسلِّف فلوس!
سامي
:
قصدك … ترد السَّلف.
نجيب
:
الاثنين واحد، نهارك سعيد.
سامي
:
اسمع … ورايح تقابلها ازَّاي، وانت ما معكش فلوس.
نجيب
(صائحًا)
:
أقابل مين؟ مين هيَّ اللي أقابلها؟ ما تقولش الكلام ده بقا، أحسن ما
يحصلَّكش طيِّب … أنا مش مقابل حد أبدًا … سبني اعمل معروف بقا، خلِّيني
أروح لأشغالي … أنا واحد عندي شغل في الوزارة … وانت النهارده ضيَّعت
وقتي النفيس!
سامي
:
وقتك النفيس (يلتفت إلى فيفي) بقول لك أصبح عصبي … ما كانش كده
أبدًا.
فيفي
(لنجيب في تهكُّم خفي)
:
اشرب فنجان ينسون دافي يا نجيب بك!
نجيب
(ينحني)
:
أشكرك!
سامي
:
صحيح … الينسون الدافي ده مدهش.
نجيب
:
حاضر! حاشرب ينسون دافي.
فيفي
:
وحمَّام سخن قبل النوم.
نجيب
:
حاضر.
سامي
:
صحيح الحمَّام السُّخن قبل النوم مدهش.
نجيب
:
آخذ حمَّام سخن!
فيفي
:
وخد بعد كده …
نجيب
:
إيه تاني … دُش بارد كمان؟! اعملوا معروف كفاية … اسمحوا لي أروح
لحالي.
فيفي
:
«الباكار» بتاعتي تحت، تقدر توصَّلك.
نجيب
:
ممنون … أنا ما اركبش لا باكار ولا دوكار.
سامي
:
سيبيه يمشي على رجليه … ودا وِش نعمة؟
فيفي
:
علشان أظن البك مستعجل … احنا يظهر ضيَّعنا وقتك النفيس يا نجيب
بك؟!
نجيب
:
بشكل غريب!
سامي
(يلتفت إليه مقطِّبًا)
:
ازَّاي؟
نجيب
(صائحًا منفجرًا)
:
أقسم بالله العظيم، لو تكلَّمت كلمة زيادة، لأطربأ عليك العيادة،
وزي ما ترسى … أنا لا قابلت ست في جروبي بتاكل جلاس، ولا سِم هاري …
والحكاية ملفَّقة من أولها لآخرها، علشان ألطش منَّك جنيه … ولو أسمعك
تجيب لي سيرة الست دي مرة تانية، أنا أضربك بالرصاص!
سامي
:
الرصاص إيَّاه اللي انضربت به النهارده؟!
نجيب
:
أنا باكلِّمك جد … وانت الجاني على نفسك.
سامي
:
انت جرى لك إيه يا نجيب؟
نجيب
:
أنا متأسِّف أكلِّمك باللهجة دي قدَّام الست … لكن أنا مضطر (لفيفي)
ما تأخذنيش!
فيفي
(باسمة)
:
خد راحتك في الكلام.
سامي
:
معذور! أنا مش قادر أفهم يا نجيب، ازَّاي تيئس للدرجة دي؟ احنا نبحث
لك عنها يا سيدي من تحت الأرض … بس اهدأ وروَّق دمَّك، وكن مطمئن … دي
مسألة في غاية البساطة … أنا أتعهَّد لك وأكون مسئول.
نجيب
:
أصل المصيبة انك ما بتفهمش عربي أبدًا … دماغك متركِّبة شمال … أعمل
لك إيه؟ الأمر وما فيه يا سيدنا الأفندي، ان حكاية ما لهاش أساس بالمرة.
فهمت كلامي؟ يعني لا كان فيه ست، ولا جلاس، ولا أتوموبيل.
سامي
:
مفهوم … لأنك ضيَّعت ده كلُّه بلخمتك.
نجيب
:
ما فيش فايدة!
سامي
:
لأنك انت لما تحب.
نجيب
(مقاطعًا)
:
قلت لحضرتك ما فيش حب!
سامي
:
كده؟!
نجيب
:
تصدَّق ما تصدَّق انت حر … أولًا، أنا ما أقدرش أدخل جروبي، لأن
مرسيل اللي واقف على البار، له في ذمِّتي ٢٠ جنيه، من حساب وغيره.
سامي
:
حتَّى البارمان اللي واقف على البار؟ والله انت لو دخَّلوك الجنة،
برده تستلف من سيِّدنا رضوان، اللي واقف على الباب!
نجيب
:
ما حدِّش له بيَّ شأن.
فيفي
:
طبعًا ما لناش شأن أبدًا.
نجيب
:
على كل حال … يكون في معلومكم، اني ما أحبِّش الست اللي كانت بتاكل
جلاس قدَّام جروبي … ما احبِّهاش … أنا حر … ما احبِّهاش أبدًا … حد
شريكي؟ بالعكس … أنا أكرهها دلوقت، زي ما اكره فاتورة الحساب! فاهمين …
ما احبِّهاش … ما احبِّهاش.
سامي
:
أقطع دراعي ان ما كان ده هوَّ الحب.
فيفي
(ضاحكة وتقول بصوت خافت)
:
مسكين يا نجيب!