شَبَحٌ فِي الْمَنْزِلِ
أَخِيرًا جَاءَ يَوْمُ رَحِيلِ الْجَدَّةِ. كَانَ هذا وَقْتًا حَزِينًا بِالنِّسْبَةِ لِكلارا وَهايدي. مَضَتِ الْأَسَابِيعُ وَكَانَتِ الْبَهْجَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي تَعْرِفُهَا هايدي هِيَ الْكِتَابُ الَّذِي كَانَتْ تَقْرَأُهُ فِي غُرْفَتِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ. بَدَا أَنَّ آمَالَهَا فِي رُؤْيَةِ جَدِّهَا وَبَقِيَّةِ الْجَبَلِ قَدْ بَدَأَتْ تَتَبَدَّدُ قَلِيلًا كُلَّ يَوْمٍ.
فِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ، كَانَ شَيءٌ غَرِيبٌ وَغَامِضٌ يَحْدُثُ فِي مَنْزِلِ آلِ سيسمان. كُلَّ صَبَاحٍ عِنْدَمَا يَنْزِلُ الْخَدَمُ كَانَوا يَجِدُونَ الْبَابَ الْأَمَامِيَّ مَفْتُوحًا عَلَى مِصْرَاعَيْهِ. لَمْ يَكُنْ أَيُّ أَحَدٍ فِي الْمَنْزِلِ يَعْلَمُ السَّبَبَ. فِي الْبِدَايَةِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِصٌّ يَتَسَلَّلُ إِلَى الدَّاخِلِ وَلَكِنْ لَمْ يُفْقَدْ أَيُّ شَيْءٍ. كَانَ الْخَدَمُ يَتَأَكَّدُونَ مِنْ إِغْلَاقِ الْبَابِ مَرَّتَيْنِ فِي اللَّيْلَةِ. حَتَّى إِنَّ سيباستيان كَانَ يَضَعُ قَضِيبًا خَشَبِيًّا عَلَيْهِ لِمَزِيدٍ مِنَ التَّأْمِينِ، لَكِنْ ذَلِكَ لَمْ يُفْلِحْ أَيْضًا. وَفِي الصَّبَاحِ التَّالِي، يَكُونُ الْبَابُ مَفْتُوحًا كَالْعَادَةِ.
تَبَادَلَ الْخَدَمُ الْأَدْوَارَ لِحَلِّ اللُّغْزِ. لَكِنْ بَدَأَ الْكِبَارُ — وَاحِدًا تِلْوَ الْآخَرِ — يَفْقِدُونَ الْأَمَلَ وَالشَّجَاعَةَ. هَلْ كَانَ ثَمَّةَ غُرَبَاءُ يُحَاوِلُونَ التَّسَلُّلَ فِي اللَّيْلِ؟ هَلْ كَانَ ثَمَّةَ أَشْبَاحٌ أَوْ أَرْوَاحٌ أُخْرَى تَجُوبُ الْمَنْزِلَ؟ فِي النِّهَايَةِ، لَمْ تَعُدِ السَّيِّدَةُ روتينماير تَتَحَمَّلُ أَكْثَرَ وَقَرَّرَتْ أَنْ تَكْتُبَ خِطَابًا لِلسَّيِّدِ سيسمان. كَانَ الْخِطَابُ يَتَحَدَّثُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمَنْزِلِ وَيَشْرَحُ كَيْفَ أَنَّهَا هِيَ وَالْآخَرِينَ خَائِفُونَ. كَمَا قَالَتْ لَهُ إِنَّ كلارا كَانَتْ مُنْزَعِجَةً جِدًّا بِسَبَبِ الشَّبَحِ. وَلَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ كَانَتْ كلارا وَهايدي تَجِدَانِ قِصَّةَ الشَّبَحِ سَخِيفَةً جِدًّا.
نَجَحَ الْخِطَابُ فِي مهِمَّتِهِ، وَحَضَرَ السَّيِّدُ سيسمان إِلَى الْمَنْزِلِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَتَحَدَّثَ إِلَى الْفَتَاتَيْنِ وَإِلَى كُلِّ الْخَدَمِ فِي الْمَنْزِلِ. بَعْدَ ذَلِكَ، اتَّصَلَ بِصَدِيقِهِ الطَّبِيبِ.
قَالَ لِلرَّجُلِ عِنْدَمَا حَضَرَ: «لَا يُوجَدُ أَحَدٌ مَرِيضٌ بِالْمَنْزِلِ، هُنَاكَ مَا هُوَ أَسْوَأُ مِنْ ذَلِكَ يَا صَدِيقِي، لَدَيْنَا شَبَحٌ!»
ضَحِكَ الطَّبِيبُ بِصَوْتٍ عَالٍ.
أَكْمَلَ السَّيِّدُ سيسمان: «أَرَى أَنَّكَ تَشْعُرُ بِالسُّوءِ مِنْ أَجْلِنَا.»
– «حَقًّا يَا سيسمان، شَبَحٌ؟»
– «أَعْلَمُ، أَعْلَمُ. أَنَا نَفْسِي أَشُكُّ فِي هَذَا.» وَأَخْبَرَهُ السَّيِّدُ سيسمان أَنَّ الْبَابَ الْأَمَامِيَّ كَانَ يُفْتَحُ كُلَّ لَيْلَةٍ. فَإِمَّا أَنَّ أَحَدًا مَا يَقُومُ بِدُعَابَةٍ عَلَى الْخَدَمِ أَوْ أَنَّ هُنَاكَ لِصًّا حَقًّا.
وَأَخِيرًا وَافَقَ الطَّبِيبُ عَلَى الْمُسَاعَدَةِ. وَبِالْقُرْبِ مِنْ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ جَلَسَ الرَّجُلَانِ فِي مَقْعَدَيْنِ وَثِيرَيْنِ وَبَدَآ فِي التَّحَدُّثِ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ. وَضَحِكَا عَلَى الْحَدِيثِ عَنِ الشَّبَحِ وَثَرْثَرَا بِسَعَادَةٍ عَنِ الْأَيَّامِ الْخَوَالِي.
فَجْأَةً رَفَعَ الطَّبِيبُ إِصْبَعَهُ.
– «صَهٍ! سيسمان، هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا؟»
أَنْصَتَ الِاثْنَانِ. كَانَا مُتَأَكِّدَيْنِ أَنَّهُمَا سَمِعَا شَخْصًا مَا يُنْزِلُ الْقَضِيبَ الْخَشَبِيَّ مِنْ عَلَى الْبَابِ وَيَضَعُ الْمِفْتَاحَ فِي الْقُفْلِ. قَامَ السَّيِّدُ سيسمان بِبُطْءٍ.
صَاحَ الطَّبِيبُ وَهُوَ يَنْهَضُ: «مَنْ هُنَاكَ؟» وَتَقَدَّمَ الرَّجُلَانِ إِلَى الْأَمَامِ مُوَجِّهَيْنِ الْمِشْعَلَ صَوْبَهُ.
اسْتَدَارَ الْجَسَدُ الصَّغِيرُ الَّذِي رَأَيَاهُ وَأَطْلَقَ صَرْخَةً مُنْخَفِضَةً. هُنَاكَ كَانَتْ هايدي تَقِفُ فِي ثَوْبِ نَوْمِهَا الْأَبْيَضِ. كَانَتْ قَدَمَاهَا حَافِيَتَيْنِ وَعَيْنَاهَا تَائِهَتَيْنِ. كَانَتْ تَرْتَجِفُ مِنْ رَأْسِهَا حَتَّى أَخْمَصِ قَدَمَيْهَا كَوَرَقَةٍ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ. نَظَرَ الرَّجُلَانِ إِلَى بَعْضِهِمَا فِي دَهْشَةٍ.
سَأَلَ السَّيِّدُ سيسمان: «يَا صَغِيرَةُ، مَاذَا تَحْتَاجِينَ؟ لِمَاذَا نَزَلْتِ إِلَى هُنَا؟»
كَانَ وَجْهُ هايدي شَاحِبًا مِنَ الْخَوْفِ وَبِالْكَادِ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْطِقَ بِصَوتٍ مَسْمُوعٍ: «لَا أَعْلَمُ.»
تَقَدَّمَ الطَّبِيبُ مِنَ الطِّفْلَةِ قَائِلًا: «هَذِهِ الطِّفْلَةُ مَرِيضَةٌ يَا صَدِيقِي. دَعْنِي آخُذْهَا إِلَى غُرْفَتِهَا.»
وَبِهَذَا أَنْزَلَ مِشْعَلَهُ، وَأَخَذَ يَدَ الطِّفْلَةِ وَقَادَهَا إِلَى أَعْلَى. «لَا تَخَافِي. كُلُّ شَيْءٍ عَلَى مَا يُرَامُ. لِنَذْهَبْ فِي هُدُوءٍ.»
عِنْدَمَا وَصَلَ الطَّبِيبُ إِلَى غُرْفَةِ هايدي، أَخَذَ هايدي بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ وَوَضَعَهَا فِي الْفِرَاشِ. وَغَطَّاهَا بِرِفْقٍ ثُمَّ جَلَسَ بِجَانِبِهَا لِيَنْتَظِرَ حَتَّى تَتَوَقَّفَ عَنْ الِارْتِجَافِ. ثُمَّ أَخَذَ يَدَهَا وَقَالَ فِي صَوْتٍ هَادِئٍ مُطَمْئِنٍ، «اهْدَئِي، اهْدَئِي، الْآنَ تَشْعُرِينَ بِتَحَسُّنٍ. أَخْبِرِينِي إِلَى أَيْنَ كُنْتِ تُحَاوِلِينَ الذَّهَابَ.»
قَالَتْ هايدي: «لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ الذَّهَابَ إِلَى أَيِّ مَكَانٍ. لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ أَنِّي ذَهَبْتُ إِلَى الْأَسْفَلِ، وَلَكِنْ فَجْأَةً وَجَدْتُ نَفْسِي هُنَاكَ.»
– «فَهِمْتُ. وَهَلْ كُنْتِ تَحْلُمِينَ؟»
– «نَعَمْ. أَحْلُمُ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَدَائِمًا حَوْلَ نَفْسِ الْأَشْيَاءِ. أَعْتَقِدُ أَنِّي قَدْ عُدْتُ مَعَ جَدِّي. وَأَسْمَعُ الرِّيَاحَ تَمُرُّ بِأَشْجَارِ التَّنُّوبِ فِي الْخَارِجِ وَأَرَى النُّجُومَ تَبْرُقُ بَرِيقًا لَامِعًا، فَأَفْتَحُ الْبَابَ بِسُرْعَةٍ وَأَجْرِي خَارِجَةً. كُلُّ شَيْءٍ جَمِيلٌ جِدًّا! وَلَكِنْ عِنْدَمَا أَسْتَيْقِظُ، أَجِدُنِي مَا زِلْتُ فِي فرانكفورت.» جَاهَدَتْ هايدي لِكَيْ تَمْنَعَ الشَّهَقَاتِ الَّتِي بَدَتْ وَكَأَنَّهَا تَخْنُقُهَا.
سَأَلَ الطَّبِيبُ: «هَلْ لَدَيْكِ أَلَمٌ فِي رَأْسِكِ أَوْ ظَهْرِكِ؟»
– «لَا، فَقَطِ أشعر وَكَأَنَّ هُنَاكَ صَخْرَةً كَبِيرَةً تَجْثِمُ فَوْقِي.»
عَبَسَ الطَّبِيبُ: «كَأَنَّكِ أَكَلْتِ شَيْئًا وَلَمْ يَنْزِلْ إِلَى مَعِدَتِكِ؟»
أَجَابَتْ هايدي: «لَا، لَيْسَ كَذَلِكَ. كَأَنَّنِي أُرِيدُ أَنْ أَبْكِيَ بِشِدَّةٍ.»
قَالَ الطَّبِيبُ: «أَفْهَمُ ذَلِك. هَلْ تَبْكِينَ كَثِيرًا؟»
قَالَتْ هايدي: «أُوه، لَا. قَالَتِ السَّيِّدَةُ روتينماير إِنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوحٍ لِي بِالْبُكَاءِ.»
سَأَلَ الطَّبِيبُ: «إِذَنْ أَنْتِ تَكْتُمِينَ الْبُكَاءَ بَدَلًا مِنَ التَّنْفِيسِ عَنْهُ؟»
– «أَجَلْ.»
– «وَأَيْنَ كُنْتِ تَعِيشِينَ مَعَ جَدِّكِ؟»
– «أَعْلَى فِي الْجَبَلِ.»
سَأَلَ الرَّجُلُ: «أكان هَذَا مُمِلًّا وَمُضْجِرًا؟»
– «أُوه، لَا. لَقَدْ كَانَ جَمِيلًا.» لَمْ تَتَمَكَّنْ هايدي مِنَ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ. بَدَأَتِ الدُّمُوعُ تَنْهَمِرُ مِنْ عَيْنَيْهَا بِسُرْعَةٍ وَانْخَرَطَتْ فِي نَوْبَةِ بُكَاءٍ عَنِيفَةٍ.
وَقَفَ الطَّبِيبُ وَأَرَاحَ رَأْسَهَا عَلَى الْوِسَادَةِ: «حَسَنًا، حَسَنًا. اسْتَمِرِّي فِي الْبُكَاءِ. سَيُفِيدُكِ، بَعْدَ ذَلِك نَامِي. سَيَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ أَفْضَلَ غَدًا.»
تَرَكَ الْغُرْفَةَ وَنَزَلَ لِلْأَسْفَلِ إِلَى السَّيِّدِ سيسمان.
– «صَغِيرَتُكَ تَمْشِي وَهِيَ نَائِمَةٌ. هِيَ الشَّبَحُ الَّذِي فَتَحَ الْبَابَ الْأَمَامِيَّ وَأَرْعَبَ الْجَمِيعَ فِي مَنْزِلِكَ. الطِّفْلَةُ تَحِنُّ إِلَى مَنْزِلِهَا. يَجِبُ أَنْ نَفْعَلَ شَيْئًا فِي الْحَالِ. هُنَاكَ عِلَاجٌ وَاحِدٌ لِذَلِكَ. يَجِبُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْجَبَلِ. يَجِبُ أَنْ تَرْحَلَ الْفَتَاةُ مِنْ هُنَا غَدًا.»
وَقَفَ السَّيِّدُ سيسمان وَمَشَى عَبْرَ الْغُرْفَةِ ذَهَابًا وَإِيَابًا.
ثم هَتَفَ: «مَاذَا! الطِّفْلَةُ تَمْشِي وَهِيَ نَائِمَةٌ وَمَرِيضَةٌ؟ كُلُّ هَذَا حَدَثَ فِي مَنْزِلِي وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟ هَلْ تَعْنِي يَا دكتور أَنَّ الْفَتَاةَ جَاءَتْ إِلَى هُنَا سَعِيدَةً وَبِصِحَّةٍ جَيِّدَةٍ وَسَأُعِيدُهَا إِلَى جَدِّهَا فَتَاةً صَغِيرَةً بَائِسَةً وَمَرِيضَةً؟ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ! اجْعَلِ الْفَتَاةَ تَتَحَسَّنُ وَعِنْدَئِذٍ نُعِيدُهَا.»
رَدَّ الطَّبِيبُ: «سيسمان، فَكِّرْ فِيمَا تَقُولُهُ. لَا يُمْكِنُكَ مُعَالَجَةُ الْفَتَاةِ بِالدَّوَاءِ. هَذِهِ الطِّفْلَةُ قَوِيَّةٌ. فَلْو أَعَدْتَهَا فَوْرًا، يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَسَّنَ فِي هَوَاءِ الْجَبَلِ الْمُنْعِشِ، وَلَكِنْ إِنِ انْتَظَرْتَ، يُمْكِنُ أَلَّا تَتَحَسَّنَ أَبَدًا.»
وَقَفَ السَّيِّدُ سيسمان بِلَا حِرَاكٍ. كَلِمَاتُ الطَّبِيبِ كَانَتْ صَادِمَةً بَالنِّسْبَةِ لَهُ.
– «إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ يَا دكتور، إِذَنْ لَا يُوجَدُ سِوَى خِيَارٍ وَاحِدٍ. سَتَرْحَلُ الْفَتَاةُ غَدًا.» فَكَّرَ السَّيِّدُ سيسمان وَالطَّبِيبُ لِفَتْرَةٍ فِي مَا سَوْفَ يَفْعَلَانِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَرَحَلَ الطَّبِيبُ بَيْنَمَا كَانَ نُورُ الصَّبَاحِ يَتَسَلَّلُ إِلَى دَاخِلِ الْمَنْزِلِ. كَانَتْ خُطَطُ رِحْلَةِ عَوْدَةِ هايدي إِلَى وَطَنِهَا قَدْ وُضِعَتْ بِالْفِعْلِ.