فِي الْمَنْزِلِ أَخِيرًا
أَمْضَتْ هايدي مَا يَكْفِي مِنَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْجَدَّةِ لِتَتَأَكَّدَ أَنَّهَا بِخَيْرٍ وَلِتُعْطِيَهَا بَعْضًا مِنَ الْخُبْزِ الْأَبْيَضِ الَّذِي كَانَتْ تَحْمِلُهُ بِحِرْصٍ شَدِيدٍ.
قَالَتِ السَّيِّدَةُ الْعَجُوزُ وَهِيَ تَقْضِمُ رَغِيفًا: «لَمْ أَذُقْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِك أَبَدًا. وَلَكِنَّ الْمُتْعَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ اسْتِعَادَتُكِ. احْتَضَنَتْ هايدي السَّيِّدَةَ الْعَجُوزُ حِضْنًا أَخِيرًا وَوَعَدَتْ أَنْ تَأْتِيَ لِزِيَارَتِهَا غَدًا. الْآنَ كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى الْمَنْزِلِ لِجَدِّهَا. لَمْ تَكُنِ الْفَتَاةُ الصَّغِيرَةُ قَادِرَةً عَلَى تَحَمُّلِ فِكْرَةِ أَنْ تَكُونَ بِهَذَا الْقُرْبِ مِنْ جَدِّهَا دُونَ أَنْ تَرَاهُ.
صَعِدَتْ هايدي الْجَبَلَ بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ حَتَّى إِنَّهَا وَصَلَتْ إِلَى كُوخِ جَدِّهَا فِي غُضُونِ دَقَائِقَ. وَقَبْلَ أَنْ يَتَّسِعَ الْوَقْتُ لِيَرَى الرَّجُلُ الْعَجُوزُ مَنِ الْقَادِمُ، أَسْرَعَتْ هايدي نَحْوَهُ، وَأَلْقَتْ بِسَلَّتِهَا وَلَفَّتْ ذِرَاعَيْهَا حَوْلَ عُنُقِهِ. وَظَلَّتْ تُرَدِّدُ: «جَدِّي، جَدِّي!»
لَمْ يَقُلِ الرَّجُلُ الْعَجُوزُ شَيْئًا. لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ أَعْوَامٍ كَانَتْ عَيْنَاهُ دَامِعَتَيْنِ وَكَانَ عَلَيْهِ مَسْحُهُمَا. فَكَّ ذِرَاعَيْ هايدي مِنْ حَوْلِ عُنُقِهِ وَأَجْلَسَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ. وَنَظَرَ لَهَا لِلَحْظَةٍ ثُمَّ قَالَ: «إِذَنْ لَقَدْ عُدْتِ إِلَيَّ يَا هايدي. هَلْ طَرَدُوكِ؟»
قَالَتْ هايدي: «أُوه، لَا يَا جَدِّي.»
قَضَتِ الدَّقَائِقَ التَّالِيَةَ تُخْبِرُهُ عَنْ كلارا وَالسَّيِّدِ سيسمان. ثُمَّ أَعْطَتْهُ الْخِطَابَ وَرَاقَبَتْهُ وَهُوَ يَقْرَؤُهُ.
– «لَقَدْ أَعْطَاكِ مَالًا كَافِيًا لِشِرَاءِ فِرَاشٍ وَمَلَابِسَ تَكْفِيكِ لِعِدَّةِ أَعْوَامٍ.»
– «لَا أَحْتَاجُهُ يَا جَدِّي. لَدَيَّ فِرَاشٌ بِالْفِعْلِ. وَوَضَعَتْ كلارا الْكَثِيرَ مِنَ الْمَلَابِسِ فِي صُنْدُوقِي. لَنْ أَحْتَاجَ لِلْمَزِيدِ أَبَدًا.»
قَالَ الرَّجُلُ الْعَجُوزُ: «ضَعِيهِ فِي الْخِزَانَةِ إِذَنْ. أَنَا مُتَأَكِّدٌ أَنَّكِ سَتُرِيدِينَهُ يَوْمًا مَا.»
فَجْأَةً، سَمِعَتْ هايدي صَوْتَ صَفِيرٍ حَادٍّ فِي الْخَارِجِ، فَوَثَبَتْ إِلَى الْخَارِجِ بِسُرْعَةِ الْبَرْقِ: «الْبَجَعَةُ الصَّغِيرَةُ! الدُّبُّ الصَّغِيرُ! هَلْ تَتَذَكَّرَانِنِي؟ مَرْحَبًا يَا بيتر!»
كَانَتْ هايدي فِي قِمَّةِ السَّعَادَةِ لِكَوْنِهَا بَيْنَ أَصْدِقَائِهَا الْقُدَامَى مُجَدَّدًا. كَانَ كُلُّ شَيْءٍ كَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ. اسْتَلْقَتْ هايدي هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِقَلْبٍ سَعِيدٍ. كَانَ نَوْمُهَا هَادِئًا كَمَا لَمْ يَكُنْ مُنْذُ شُهُورٍ. اسْتَيْقَظَ الْجَدُّ عَشْرَ مَرَّاتٍ عَلَى الْأَقَلِّ خِلَالَ اللَّيْلِ وَتَسَلَّقَ السُّلَّمَ لِيَرَى إِذَا كَانَتْ هايدي بِخَيْرٍ. وَلَكِنَّ هايدي لَمْ تَتَحَرَّكْ. لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الْقَلَقُ حِيَالَ الْأَلَمِ فِي قَلْبِهَا. لَقَدْ سَمِعَتِ الرِّيَاحَ تَمُرُّ عَبْرَ أَشْجَارِ التَّنُّوبِ. لَقَدْ كَانَتْ فِي الْمَنْزِلِ عَلَى الْجَبَلِ مُجَدَّدًا.
فِي الصَّبَاحِ التَّالِي نَزَلَ الْجَدُّ إِلَى أَسْفَلِ الْجَبَلِ لِإِحْضَارِ صُنْدُوقِ هايدي. وَسَارَتِ الْفَتَاةُ الصَّغِيرَةُ مَعَهُ حَتَّى كُوخِ الْجَدَّةِ ثُمَّ لَوَّحَتْ لَهُ وَانْطَلَقَتْ إِلَى الْبَابِ.
لَمْ تَكُنِ الْجَدَّةُ تَسْتَطِيعُ الِانْتِظَارَ حَتَّى تُخْبِرَ هايدي كَمِ اسْتَمْتَعَتْ بِرَغِيفِ الْخُبْزِ الْأَبْيَضِ وَكَمْ شَعَرَتْ بِالْقُوَّةِ بَعْدَ أَكْلِهِ. وَأَخْبَرَتْ وَالِدَةُ بيتر هايدي أَنَّ أُمَّهَا سَتَسْتَرْجِعُ بَعْضًا مِنْ صِحَّتِهَا بِالتَّأْكِيدِ إِذَا تَمَكَّنَتْ مِنَ الْأَكْلِ هَكَذَا لِمُدَّةِ أُسْبُوعٍ. وَلَكِنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تُبْقِيَ الْأَرْغِفَةَ لِوَقْتٍ طَوِيلٍ؛ لِذَا أَكَلَتْ وَاحِدًا فَقَطْ حَتَّى الْآنَ.
فَجْأَةً ابْتَسَمَتْ هايدي وَهَتَفَتْ: «لَدَيَّ الْكَثِيرُ مِنَ الْمَالِ يَا جَدَّتِي. أَعْلَمُ مَاذَا سَأَفْعَلُ بِهِ! يَجِبُ أَنْ تَتَنَاوَلِي رَغِيفًا طَازَجًا مِنَ الْخُبْزِ الْأَبْيَضِ كُلَّ يَوْمٍ، وَرَغِيفَيْنِ يَوْمَ الْأَحَدِ. يُمْكِنُ أَنْ يُحْضِرَهَا لَكِ بيتر!»
أَجَابَتِ السَّيِّدَةُ الْعَجُوزُ: «لَا يُمْكِنُنِي تَرْكُكِ تَفْعَلِينَ ذَلِك. عَلَيْكِ إِعْطَاءُ الْمَالِ لِجَدِّكِ. وَهُوَ سَيُخْبِرُكِ كَيْفَ تُنْفِقِينَهُ.»
– «لَا، يَجِبُ أَنْ نَجْعَلَكِ قَوِيَّةً. سَنُحْضِرُ لَكِ هَذِهِ الْأَرْغِفَةَ! رُبَّمَا إِذَا أَصْبَحْتِ قَوِيَّةً سَيُضِيءُ كُلُّ شَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ لَكِ مُجَدَّدًا. رُبَّمَا يَكُونُ هَذَا الظَّلَامُ لِأَنَّكِ ضَعِيفَةٌ.»
بَيْنَمَا كَانَتْ هايدي تَقْفِزُ فَرَحًا، لَاحَظَتْ كِتَابَ تَرَانِيمِ الْجَدَّةِ: «أُوه، يَا جَدَّتِي أَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ الْآنَ! دَعِينِي أَقْرَأْ لَكِ تَرْنِيمَةً.»
أَشْرَقَ وَجْهُ هايدي بِالسَّعَادَةِ حِينَمَا ظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ نَظْرَةٌ لَمْ تَرَهَا الْفَتَاةُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَتِ السَّيِّدَةُ الْعَجُوزُ عِنْدَمَا أَنْهَتْ هايدي الْقِرَاءَةَ: «لَقَدْ أَضَأْتِ قَلْبِي يَا طِفْلَتِي الْعَزِيزَةَ. اقْرَئِيهَا مُجَدَّدًا. مَرَّةً وَاحِدَةً بَعْدُ.»