بَيْتٌ آخَرُ جَدِيدٌ
كَانَتْ إِقَامَةُ الطَّبِيبِ مُمْتِعَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْجَمِيعِ. اسْتَمْتَعَ الْجَدُّ بِصُحْبَةِ رَجُلٍ كَبِيرٍ يَتَشَارَكُ مَعَهُ الْقَصَصَ وَيَقْضِي مَعَهُ الْوَقْتَ. وَفَرِحَتْ هايدي بِعَرْضِ كُلِّ رُكْنٍ فِي الْجَبَلِ عَلَى صَدِيقِهَا، فَقَدْ حَصَلَتْ أَخِيرًا عَلَى الْفُرْصَةِ لِإِثْبَاتِ الْجَمَالِ الَّذِي كَانَتْ فِي وَقْتٍ سَابِقٍ لَا تَمْلِكُ إِلَّا التَّحَدُّثَ عَنْهُ. وَالطَّبِيبُ … اسْتَمْتَعَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَصْدِقَاءَ طَيِّبِينَ وَبِالْهَوَاءِ النَّقِيِّ وَحُرِّيَّةِ الْجَبَلِ. كَمَا أَنَّ الِابْتِعَادَ عَنِ الْمَدِينَةِ أَعْطَاهُ الْفُرْصَةَ لِنِسْيَانِ مَشَاكِلِهِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَيَاةِ مُجَدَّدًا.
لِذَلِكَ كَانَ يَوْمُ رَحِيلِهِ فِي النِّهَايَةِ يَوْمًا حَزِينًا. تَأَلَّمَ قَلْبُ هايدي كَثِيرًا حَتَّى إِنَّهَا بَكَتْ وَطَلَبَتْ أَنْ تُرَافِقَهُ.
قَالَ الطَّبِيبُ بِلُطْفٍ: «لَا، لَا يَا طِفْلَتِي الْعَزِيزَةَ. يَجِبُ أَنْ تَبْقَيْ وَإِلَّا سَتَمْرَضِينَ مُجَدَّدًا. وَلَكِنْ إِذَا احْتَجْتُ يَوْمًا لِأَحَدٍ يَرْعَانِي، فَسَتَكُونِينَ أَوَّلَ شَخْصٍ أَتَّصِلُ بِهِ. هَلْ يُمْكِنُنِي فِعْلُ ذَلِك؟»
أَجَابَتْ هايدي: «نَعَمْ، سَآتِي فِي أَوَّلِ يَوْمٍ تُرْسِلُ فِي طَلَبِي. فَأَنَا أُحِبُّكَ مِثْلَمَا أُحِبُّ جَدِّي تَقْرِيبًا.»
وَهَكَذَا لَوَّحَ الطَّبِيبُ مُوَدِّعًا إِيَّاهُمْ وَشَرَعَ فِي طَرِيقِهِ. رَاقَبَتْهُ هايدي حَتَّى أَصْبَحَ نُقْطَةً صَغِيرَةً عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ. وَعِنْدَمَا اسْتَدَارَ الطَّبِيبُ لِيَرَى هايدي وَالْجَبَلَ الْمُشْمِسَ مَرَّةً أَخِيرَةً، قَالَ لِنَفْسِهِ: «مِنَ الْجَيِّدِ الْوُجُودُ فِي الْأَعْلَى هُنَاكَ … جَيِّدٌ لِلْجِسْمِ وَلِلرُّوحِ. يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفَ يُصْبِحُ سَعِيدًا مَرَّةً أُخْرَى هُنَا.»
بَدَا أَنَّ بَاقِيَ الْخَرِيفِ يَمْضِي بَطِيئًا بِالنِّسْبَةِ لِهايدي، لِأَنَّهَا افْتَقَدَتْ صُحْبَةَ صَدِيقِهَا. وَلَكِنْ أَخِيرًا جَاءَ الثَّلْجُ الْجَدِيدُ إِلَى الْجَبَلِ. حَافَظَ الْجَدُّ عَلَى كَلِمَتِهِ وَنَقَلَ هايدي وَالْمَعْزَ إِلَى دورفلي. كَانَ ثَمَّةَ بِنَاءٌ قَدِيمٌ مَهْجُورٌ لِأَعْوَامٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكَنِيسَةِ، فَعَمِلَ الْجَدُّ طَوَالَ شُهُورَ الْخَرِيفِ لِجَعْلِهِ سَلِيمًا وَمُتَمَاسِكًا.
كَانَتْ هايدي مُبْتَهِجَةً بِمَنْزِلِهَا الْجَدِيدِ. كَانَ الْعَيْشُ فِي دورفلي يَعْنِي أَنَّهَا سَتَتَمَكَّنُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ كُلَّ صَبَاحٍ وَبَعْدَ الظُّهْرِ. وَعَمِلَتْ جَاهِدَةً فِي الْمَدْرَسَةِ وَتَعَلَّمَتْ بِشَغَفٍ كُلَّ مَا دُرِّسَ لَهَا. كَانَتْ بِالْكَادِ تَرَى بيتر هُنَاكَ. قَالَ إِنَّ الثَّلْجَ كَثِيفٌ جِدًّا فِي الْجَبَلِ وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ. وَلَكِنَّهُ كَانَ دَائِمًا يَجِدُ طَرِيقَةً لِيَتَخَطَّى الثَّلْجَ لِيَزُورَ هايدي بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَدْرَسَةِ.
كَانَتْ هايدي تُحِبُّ رُؤْيَةَ بيتر كُلَّ لَيْلَةٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ جَعَلَهَا تَشْتَاقُ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ لِلْجَدَّةِ. كُلَّ مَرَّةٍ تَطْلُبُ فِيهَا الذَّهَابَ لِلزِّيَارَةِ، يُخْبِرُهَا الْجَدُّ أَنَّ الثَّلْجَ كَثِيفٌ جِدًّا. وَلَمْ تَتَمَكَّنْ هايدي مِنْ زِيَارَةِ السَّيِّدَةِ الْعَجُوزِ إِلَّا بَعْدَ مُرُورِ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الشِّتَاءِ وَظُهُورِ الشَّمْسِ مُجَدَّدًا.
تَفَاجَأَتْ هايدي لِرُؤْيَتِهَا فِي الْفِرَاشِ وَلَيْسَ فِي رُكْنِهَا الْمُعْتَادِ مِنَ الْمَنْزِلِ.
سَأَلَتْ هايدي بِسُرْعَةٍ: «هَلْ أَنْتِ مَرِيضَةٌ يَا جَدَّتِي؟»
أَجَابَتِ السَّيِّدَةُ الْعَجُوزُ: «لَا، لَا يَا صَغِيرَةُ. إِنَّ الْبَرْدَ يُؤَثِّرُ عَلَيَّ فَقَطْ.»
– «إِذَنْ سَتَتَحَسَّنِينَ عِنْدَمَا يُصْبِحُ الْجَوُّ دَافِئًا مَرَّةً أُخْرَى؟»
قَالَتِ الْجَدَّةُ: «أَجَلْ. أُرِيدُ أَنْ أَعُودَ إِلَى الْغَزْلِ.»
قَرَأَتْ هايدي لِلسَّيِّدَةِ الْعَجُوزِ حَتَّى هُبُوطِ الظَّلَامِ. وَكَانَتْ تَرَى بِالْفِعْلِ الْهُدُوءَ وَالسَّكِينَةَ تَعْتَرِيَانِ وَجْهَ السَّيِّدَةِ الْعَجُوزِ بَيْنَمَا تَسْتَمِعُ إِلَى كَلِمَاتِ تَرَانِيمِهَا. كَمْ كَانَتِ الْآيَاتُ تُطَمْئِنُهَا! وَمَعَ ذَلِكَ، بَدَا أَنَّ وَقْتًا طَوِيلًا لَمْ يَمْضِ حَتَّى تَوَجَّبَ عَلَى بيتر أَنْ يَضَعَ الْفَتَاةَ عَلَى ظَهْرِ مِزْلَجَتِهِ لِتَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهَا. انْدَفَعَ الِاثْنَانِ عَلَى جَانِبِ الْجَبَلِ كَعُصْفُورَيْنِ يُحَلِّقَانِ فِي الْهَوَاءِ.
عِنْدَمَا كَانَتْ هايدي مُسْتَلْقِيَةً فِي الْفِرَاشِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، خَطَرَتْ لَهَا فِكْرَةٌ كَادَتْ لَا تَتَحَمَّلُ الِانْتِظَارَ حَتَّى تَتَحَدَّثَ بِهَا مَعَ أَحَدٍ. وَلَكِنَّهَا لَمْ تُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا إِلَّا عِنْدَمَا جَاءَ بيتر فِي الْيَوْمِ التَّالِي.
قَالَتْ لِصَدِيقِهَا: «يَجِبُ أَنْ تَتَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ يَا بيتر.»
قَالَ: «أَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ.»
– «أَجَلْ، وَلَكِنِّي أَعْنِي الْقِرَاءَةَ الْحَقِيقِيَّةَ حَتَّى تَسْتَطِيعَ أَنْ تَقْرَأَ لِلْجَدَّةِ. يَجِبُ أَنْ تَقْرَأَ لَهَا التَّرَانِيمَ.»
حَدَّقَتِ الْفَتَاةُ الصَّغِيرَةُ فِي عَيْنَيِ الصَّبِيِّ وَقَالَتْ: «سَأُعَلِّمُكَ.»
فَتَسَاءَلَ: «وَلَكِنْ لِمَاذَا؟ يُمْكِنُكِ قِرَاءَتُهَا لَهَا فِي زِيَارَاتِكِ.»
– «إِنَّهَا بِحَاجَةٍ لِسَمَاعِهَا كُلَّ يَوْمٍ يَا بيتر. إِنَّهَا تَجْعَلُهَا تَشْعُرُ بِتَحَسُّنٍ كَبِيرٍ. هَذِهِ هَدِيَّةٌ يُمْكِنُكَ أَنْ تُعْطِيَهَا لَهَا. لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَكُونَ مَوْجُودَةً بِجَانِبِهَا مِثْلَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ.»
نَكَّسَ الصَّبِيُّ رَأْسَهُ وَكَأَنَّمَا يُفَكِّرُ فِي إِجَابَتِهِ.
قَالَ بيتر أَخِيرًا: «سَأَتَعَلَّمُ إِذَا اسْتَطَعْتِ تَعْلِيمِي.»
ارْتَسَمَتِ ابْتِسَامَةٌ عَلَى وَجْهِ هايدي، كَانَتْ تَعْلَمُ فِي قَلْبِهَا أَنَّهُ سَيُبْلِي بَلَاءً حَسَنًا.