الْوَدَاعَ حَتَّى نَلْتَقِيَ مُجَدَّدًا
قَالَتِ الْجَدَّةُ وَهِيَ تَقْتَرِبُ مِنَ الْكُوخِ: «هَلْ هَذِهِ أَنْتِ حَقًّا يَا طِفْلَتِي الْعَزِيزَةَ؟ لَقَدْ أَصْبَحَتْ وَجْنَتَاكِ مُمْتَلِئَتَيْنِ وَوَرْدِيَّتَيْنِ! هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ أَنْتِ حَقًّا يَا كلارا؟»
لَقَدْ رَكَضَتِ الْجَدَّةُ تَقْرِيبًا نَحْوَ الْفَتَاتَيْنِ الْجَالِسَتَيْنِ عَلَى الْمَقْعَدِ.
– «لِمَاذَا لَسْتِ عَلَى كُرْسِيِّكِ يَا كلارا؟ يُمْكِنُ أَنْ تَقَعِي مِنْ عَلَى ذَلِك …»
نَظَرَتْ هايدي وَكلارا إِلَى بَعْضِهِمَا الْبَعْضِ ثُمَّ وَقَفَتَا مِنْ عَلَى الْمَقْعَدِ. بَدَأَتِ الطِّفْلَتَانِ فِي السَّيْرِ نَحْوَ السَّيِّدَةِ الْمُنْدَهِشَةِ.
«كلارا! حَبِيبَتِي كلارا! أَنْتِ تَمْشِينَ!» جَرَتِ الْجَدَّةُ فِي اتِّجَاهِ الْفَتَاتَيْنِ وَهِيَ تَضْحَكُ وَتَبْكِي، عَانَقَتْ كلارا أَوَّلًا ثُمَّ هايدي. وَفَجْأَةً لَمَحَتِ الْجَدَّ يَقِفُ بِجَانِبِ الْكُرْسِيِّ. رَكَضَتْ نَحْوَهُ وَعَانَقَتِ الرَّجُلَ الْعَجُوزَ الْعَزِيزَ.
– «هُنَاكَ الْكَثِيرُ لِأَشْكُرَكَ عَلَيْهِ! كُلُّ هَذَا مِنْ فِعْلِكَ أَنْتَ! لَقَدْ حَدَثَ بِسَبَبِ عِنَايَتِكَ.»
أَضَافَ مُبْتَسِمًا: «وَشَمْسِ اللهِ الْمُشْرِقَةِ وَهَوَاءِ الْجَبَلِ.»
شَرَحَتْ كلارا كَيْفَ عَمِلَ الْجَدُّ مَعَهَا فِي الْأَسَابِيعِ السَّابِقَةِ. كَمَا وَصَفَتْ كَيْفَ قَضَتْ هايدي كُلَّ دَقِيقَةٍ مِنْ يَوْمِهَا تَبْحَثُ عَنْ أَشْيَاءَ تَفْعَلَانِهَا. كَانَتْ كلارا تَقْضِي أَسْعَدَ أَيَّامِ حَيَاتِهَا.
لَمْ تُصَدِّقِ الْجَدَّةُ التَّغَيُّرَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ. كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْهَا عِنْدَمَا رَأَوْا شَخْصًا يَصْعَدُ التَّلَّةَ. لَمْ تُمَيِّزْ كلارا مَنْ هُوَ حَتَّى اقْتَرَبَ.
صَاحَتْ وَهِيَ مُنْدَهِشَةٌ لِرُؤْيَتِهِ: «أَبِي!»
تَوَقَّفَ السَّيِّدُ سيسمان فَجْأَةً وَهُوَ يُحَدِّقُ إِلَى الطِّفْلَتَيْنِ أَمَامَهُ. فَجْأَةً امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ. كَمْ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ تَجَدَّدَتْ فِي قَلْبِهِ. فَقَدْ كَانَ يَرَى فِي وَجْهِ كلارا وَجْهَ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا. لَطَالَمَا كَانَتْ كلارا نَحِيفَةً جِدًّا، وَلَكِنَّهَا الْآنَ بِصِحَّةٍ جَيِّدَةٍ وَتَبْدُو تَمَامًا مِثْلَ أُمِّهَا. لَمْ يَعْرِفِ السَّيِّدُ سيسمان هَلْ هُوَ مُسْتَيْقِظٌ أَمْ أَنَّهُ يَحْلُمُ.
نَادَتْهُ كلارا: «أَلَا تَعْرِفُنِي يَا أَبِي؟ هَلْ تَغَيَّرْتُ كَثِيرًا مُنْذُ آخِرِ مَرَّةٍ رَأَيْتَنِي؟» كَانَتْ تَشْعُرُ بِسَعَادَةٍ بَالِغَةٍ.
رَكَضَ السَّيِّدُ سيسمان نَحْوَ طِفْلَتِهِ وَضَمَّهَا بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ.
– «نَعَمْ، لَقَدْ تَغَيَّرْتِ بِالْفِعْلِ! كَيْفَ يُمْكِنُ ذَلِك؟ هَلْ مَا أَرَاهُ حَقِيقِيٌّ؟» خَطَا الْأَبُ السَّعِيدُ خُطْوَةً إِلَى الْوَرَاءِ لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا مُجَدَّدًا. تَمَنَّى أَلَّا يَخْتَفِيَ مَنْظَرُهَا مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْهِ.
ظَلَّ يَقُولُ: «هَلْ أَنْتِ ابْنَتِي الصَّغِيرَةُ كلارا؟ حَقًّا أَنْتِ صَغِيرَتِي كلارا؟» جَاءَتِ الْجَدَّةُ الْآنَ، مُتَشَوِّقَةً لِرُؤْيَةِ ابْنِهَا: «لَقَدْ فَاجَأْتَنَا بِمَجِيئِكَ إِلَى هُنَا، وَلَكِنْ أَظُنُّ أَنَّنَا أَعْطَيْنَاكَ مُفَاجَأَةً أَفْضَلَ.»
أَخْبَرَهُمُ السَّيِّدُ سيسمان أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِيَجِدَ أَنَّ وَالِدَتَهُ وَكلارا قَدْ رَحَلَتَا لِزِيَارَةِ الْجَبَلِ، فَظَنَّ أَنَّهَا سَتَكُونُ فِكْرَةً رَائِعَةً أَنْ يَنْضَمَّ لَهُمَا. قَابَلَ بيتر فِي طَرِيقِهِ، وَقَدْ أَحْضَرَهُ الصَّبِيُّ إِلَى أَعْلَى الْجَبَلِ. كَمْ كَانَ سَعِيدًا لِوُجُودِهِ هُنَاكَ. كَانَ هَذَا وَاحِدًا مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِ حَيَاتِهِ. فَقَدْ كَانَتْ فَتَاتُهُ الصَّغِيرَةُ تَمْشِي!
جَلَبَ مَا تَبَقَّى مِنْ فَتْرَةِ مَا بَعْدَ الظُّهْرِ سَعَادَةً غَامِرَةً لِلْجَمِيعِ. أَرَادَتْ كلارا وَعَائِلَتُهَا التَّعْبِيرَ عَنْ شُكْرِهِمْ عَلَى كُلِّ الطِّيبَةِ الَّتِي تَلَقَّوْهَا.
قَالَتِ الْجَدَّةُ: «بيتر، لَقَدْ شَارَكْنَاكَ فِي هايدي لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ.» كَانَ بيتر قَدْ شَعَرَ بِالْخَجَلِ فِي وَقْتٍ سَابِقٍ وَأَخْبَرَ الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ بِأَمْرِ الْكُرْسِيِّ. وَعِنْدَمَا شَرَحَ كَمْ كَانَ يَشْعُرُ بِالْوَحْدَةِ، سَامَحَاهُ عَلَى الْفَوْرِ. فَرَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ، هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ لَمْ تَكُنْ لِتَحْدُثَ إِذَا ظَلَّ الْكُرْسِيُّ لَدَى كلارا.
قَالَتِ الْجَدَّةُ لِلصَّبِيِّ: «إِنَّكَ بِحَاجَةٍ لِشَيْءٍ لَطِيفٍ لِتَتَذَكَّرَنَا بِهِ. وَأَنَا أَعْرِفُ هَذَا الشَّيْءَ. سَنُخَصِّصُ لَكَ مَبْلَغًا مِنَ الْمَالَ لِتَصْرِفَهُ كُلَّ أُسْبُوعٍ.»
سَأَلَ الصَّبِيُّ بِسُرْعَةٍ: «لِبَقِيَّةِ حَيَاتِي؟»
أَجَابَتِ الْجَدَّةُ: «أَجَلْ، لِبَقِيَّةِ حَيَاتِكَ.» أَوْمَأَ السَّيِّدُ سيسمان بِرَأْسِهِ تَعْبِيرًا عَنِ الْمُوَافَقَةِ وَصَافَحَ الصَّبِيَّ. رَكَضَ بيتر مُنْصَرِفًا وَهُوَ يَقْفِزُ فَرَحًا.
قَالَ السَّيِّدُ سيسمان لِلْجَدِّ: «وَالْآنَ يَا صَدِيقِيَ الْعَزِيزَ. لَقَدْ أَعْطَيْتَنَا هَدِيَّةً أَكْبَرَ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُمْكِنُنَا رَدُّهُ. مِنَ الْمُؤَكَّدِ يُوجَدُ شَيْءٌ يُمْكِنُنَا فِعْلُهُ مِنْ أَجْلِكَ؟»
فَكَّرَ الْجَدُّ قَلِيلًا ثُمَّ قَالَ: «أَنَا أَتَقَدَّمُ فِي الْعُمُرِ. وَلَا بُدَّ أَنَّنِي سَأَرْحَلُ بَعْدَ وَقْتٍ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ. أَحْتَاجُ لِلِاطْمِئْنَانِ عَلَى وُجُودِ مَنْ يَرْعَى هايدي بَعْدَ رَحِيلِي.»
أَجَابَ السَّيِّدُ سيسمان: «لَا تَجْعَلْ هَذَا يَشْغَلُ تَفْكِيرَكَ حَتَّى يَا صَدِيقِي. أَنَا أَعْتَبِرُ الطِّفْلَةَ كَطِفْلَتِي. لَنْ نَسْمَحَ بِأَنْ تَكُونَ تَحْتَ رِعَايَةِ أَيِّ شَخْصٍ آخَرَ.» ابْتَسَمَ الْجَدُّ ابْتِسَامَةَ عِرْفَانٍ بِالْجَمِيلِ.
سَأَلَتِ الْجَدَّةُ: «وَمَاذَا عَنْكِ يَا هايدي؟ هَلْ هُنَاكَ مَا تَتَمَنَّيْنَهُ؟»
فَكَّرَتْ هايدي لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ قَبْلَ أَنْ تُجِيبَ بِحَزْمٍ: «أَجَلْ، أُرِيدُ أَنْ يَتِمَّ إِرْسَالُ فِرَاشِي مِنْ فرانكفورت لِلْجَدَّةِ. بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَنْ تُضْطَرَّ أَنْ تُطَأْطِئَ رَأْسَهَا وَسَتَظَلُّ دَافِئَةً بِمَا يَكْفِي حَتَّى فِي أَكْثَرِ اللَّيَالِي بُرُودَةً.»
قَالَتِ الْجَدَّةُ وَهِيَ تُعَانِقُهَا: «كَمْ هُوَ جَمِيلٌ أَنَّكِ تُفَكِّرِينَ فِي الْآخَرِينَ! بِالطَّبْعِ يُمْكِنُنَا فِعْلُ ذَلِك. وَأُرِيدُ أَيْضًا أَنْ أُقَابِلَ هَذِهِ الْجَدَّةَ الرَّائِعَةَ.»
جَلَبَتْ زِيَارَةُ الْجَدَّةِ سَعَادَةً بَالِغَةً لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ تَتَخَيَّلُ هايدي. فَقَدْ كَانَتْ مَعْرِفَةُ أَنَّ هايدي لَنْ تَتْرُكَهَا مُجَدَّدًا وَحْدَهَا أَمْرًا رَائِعًا بِمَا يَكْفِي. أَمَّا مَعْرِفَةُ أَنَّ هايدي لَدَيْهَا أَصْدِقَاءُ يَكْتَرِثُونَ لِأَمْرِهَا بِحَقٍّ فَقَدْ جَلَبَتْ دِفْئًا لَا يَنْتَهِي لِقَلْبِهَا.
فِي الصَّبَاحِ التَّالِي كَانَ عَلَى كلارا أَنْ تُوَدِّعَ الْجَبَلَ الْجَمِيلَ. وَلَكِنَّ الصَّيْفَ سَيَأْتِي مُجَدَّدًا وَبِحُلُولِ ذَلِك سَتَكُونُ كلارا تَسِيرُ عَلَى نَحْوٍ أَفْضَلَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى، وَسَتَكُونُ زِيَارَتُهَا الْقَادِمَةُ لِلْجَبَلِ أَفْضَلَ بِكَثِيرٍ.
رَكَضَتْ هايدي حَتَّى طَرَفِ الْمُنْحَدَرِ وَلَوَّحَتْ بِيَدِهَا لِكلارا حَتَّى اخْتَفَتْ آخِرُ لَمْحَةٍ مِنَ الْفَتَاةِ.
•••
وَصَلَ الْفِرَاشُ مِنْ فرانكفورت بَعْدَ عِدَّةِ أَيَّامٍ. وَلِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ سَنَوَاتٍ عَدِيدَةٍ، نَامَتِ الْجَدَّةُ نَوْمًا هَنِيئًا. اسْتَمَرَّتْ فِي النَّوْمِ عَلَى الْفِرَاشِ وَغَدَتْ أَقْوَى مَعَ كُلِّ يَوْمٍ يَمُرُّ. جَلَسَ بيتر وَهايدي بِجَانِبِ الْجَدَّةِ وَأَخْبَرَاهَا قَصَصًا مِنْ قَصَصِ الصَّيْفِ. كَمَا وَصَفَا لَهَا جَمَالَ جَانِبِ الْجَبَلِ فِي الرَّبِيعِ، حَيْثُ لَا يُوجَدُ مَكَانٌ أَفْضَلُ مِنْهُ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ.
عَادَ الطَّبِيبُ إِلَى الْبَلْدَةِ، هَذِهِ الْمَرَّةَ لِلْبَقَاءِ. أَصْلَحَ مَنْزِلًا قَدِيمًا فِي دورفلي وَعَاشَ هُنَاكَ مَعَ هايدي وَالْجَدِّ. وَكَانَ فِي الْمَنْزِلِ حَظِيرَةٌ دَافِئَةٌ فِي الْخَلْفِ لِلْمَاعِزَيْنِ لِيَقْضِيَا شُهُورَ الشِّتَاءِ فِي رَاحَةٍ.
أَمَّا الْفَتَاةِ الَّتِي جَاءَتْ إِلَى الْجَبَلِ مُنْذُ عِدَّةِ أَعْوَامٍ، فَقَدْ أَقْسَمَتْ أَلَّا تَتْرُكَ جَمَالَهُ الرَّائِعَ أَبَدًا. كَانَ لَدَى هايدي كُلُّ السَّعَادَةِ الَّتِي تَحْتَاجُهَا هُنَاكَ عَلَى الْجَبَلِ. لَقَدْ أَعْطَاهَا الْجَدُّ أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ مَنْزِلٍ عِنْدَمَا اسْتَضَافَهَا. لَقَدْ أَعْطَاهَا حَيَاةً مَلِيئَةً بِالْحُبِّ وَالدِّفْءِ وَالرِّعَايَةِ. وَكَانَتِ الْآنَ سَعَادَتُهَا فِي مُشَارَكَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ الْآخَرِينَ. فَهِيَ تَعْلَمُ الْآنَ فِي أَعْمَاقِ قَلْبِهَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَيَكُونُ عَلَى مَا يُرَامُ فِي النِّهَايَةِ.