الأخلاق الفعَّالة والفضائل الإيجابية١
إنني لا أشك في أنكم تعلمون خطورة الأخلاق ومكانتها في حياة الأفراد والجماعات، وكلكم تُسلِّمون بأن الأخلاق من أثمن مزايا الأفراد وأهم قُوى الجماعات، وبتعبير أقصر؛ إنها قوام الحياة المعنوية في الأفراد والأمم.
هذه حقائق ثابتة، لاكتها الألسُن والأقلام منذ قرون طوال، بأشكال وأساليب مختلفة، ولا تزال تردِّدها بصور وعبارات متنوعة.
إنني لا أود أن أُكرر على مسامعكم تلك الحقائق المسلَّمة، ولا أن أحاول تأييدها بدلائل جديدة، أو التعبير عنها بأساليب طريفة.
إنما أود أن أُوجِّه أنظاركم إلى نقطة هامة في هذا الباب، وهي أن الناس إذا كانوا أجمعوا على تقدير أهمية الأخلاق ومكانتها في كل دور وقُطْر، غير أنهم لمَّا يتفقوا على تحديد «مفهوم» الأخلاق، ولا سيما على تقدير «قِيم» مظاهرها المختلفة. ولذلك نجد أن «المعيار المعنوي» الذي تُقدَّر به قيم الأخلاق والفضائل يتحول من بلد إلى بلد، ويتطور من قرن إلى قرن.
فيمكننا أن نقول إن لكل أُمَّة ولكل عصر «نزعةً أخلاقيَّةً» خاصة، ليس من «الوِجهة العملية» فحسب، بل ومن «الوِجهة النظرية» أيضًا.
ويمكننا أن نزيد على ذلك ونقول؛ إن «قيم الأخلاق» لا تخلو من التحوُّل في البلد الواحد وفي العصر الواحد أيضًا، وذلك حسب مهن الأفراد ومراكزهم الاجتماعية، فالمزايا الأخلاقية التي تظهر كافيةً بالنسبة إلى عامة الناس، قد تكون ناقصةً بالنسبة إلى رجال بعض المهن؛ فإن الواجبات التي تترتب على الطبيب مثلًا لكونه طبيبًا، هي غير الواجبات التي تترتب على كل فرد لكونه من أفراد المجتمع على الإطلاق. كما أن الواجبات التي تترتب على المعلِّم، نظرًا لِما يُعهد إليه به من الوظائف الاجتماعية، وتزيد على الواجبات التي تترتب على جميع الأفراد، وكذلك الأمر في السياسي والجندي والكاتب والتاجر، وهلم جرًّا.
وهناك أخلاق وفضائل وواجبات تشمل جميع أفراد الأُمَّة على حدٍّ سواء، وأخرى تترتب على كل صنف من أصنافها بوجه خاص.
فإذا ما بحثنا عن مكانة الأخلاق، وتطرَّقنا إلى أنواع الفضائل، فلا يجوز لنا أن نكتفيَ بكلمات عامة، حتى إنه لا يكفي أن نتغلغل في البحث عنها في عالم المجردات، بل يجب علينا أن نبحث عنها بنظرة اجتماعية تشمل جميع هذه الوجوه المختلفة.
فلْنمعن النظر إذن في أسلوب فهمنا للأخلاق، ولْنلاحظ ما ننزع إليه في تقدير الفضائل، ولْنفكر في مبلغ مطابقة هذا الأسلوب وهذه النزعة لمقتضيات الحياة الاجتماعية العصرية.
إننا إذا نعتنا شخصًا بنعت اﻟ «خَلُوق»، قصدنا بذلك — في أغلب الأحيان — أنه رجل حليم لا يغضب ولا يتعدى على أحد، وعفيف لا يرتشي ولا يأكل حقوق الناس، وأنه قنوع لا يطمع، متواضع لا يتكبر، متساهل لا يعاند، وأنه لا يكذب، ولا يشتم، لا يسكر ولا يتعاطى المنكرات، مسندين إليه بهذه الصورة سلسلةً طويلةً من الأوصاف والمزايا السلبية، بدون أن نلاحظ فيما إذا كان متصفًا في الوقت نفسه بمزايا فعَّالة وإيجابية. نحن نُوجِّه أنظارنا في مسائل الأخلاق إلى ناحية «النفي والسلب»، أكثر من ناحية «الإيجاب والإثبات»، ونهتم بما هو «لازم ومنفعل» من الأوصاف والفضائل والأعمال، أكثر مما نهتم بما هو «متعدٍّ وفعَّال». فالأخلاق والفضائل التي ننزع إليها على الأكثر، هي «أخلاق وفضائل انفعالية»، لا «أخلاق وفضائل فعالية».
لا شك في أن الصفات السلبية التي بحثنا عنها من مستلزمات الأخلاق، ولكنها ليست من مقوماتها؛ فإن الحياة حياة كفاح وفعالية، والجماعات البشرية جماعات حية وفعَّالة، فالصفات السلبية والفضائل الانفعالية وحدها لا تكفي لتكوين الأخلاق الاجتماعية الحقيقية، مهما كثُرت ومهما تراكمت.
نعم، يجب على الإنسان ألا يكذب، غير أن عدم الكذب وحده لا يكفي لإتمام واجبات الإنسان في الكلام. لا شك في أنه يجب على الإنسان ألا يكذب، ولكن عليه في الوقت نفسه — وزيادة على ذلك — أن يقول الحقيقة التي يعرفها، ويُصرِّح بما يفكر به، ويجاهر بما يرتئيه بشجاعة مدنية، بل وعليه أن يسعى لنشر آرائه، ويناضل في سبيلها بحزم وثبات.
نعم، على الإنسان ألا يتعدى على الغير، ولكن عدم التعدي وحده لا يكفي لتعيين واجباته نحو أبناء نوعه، إذ إنه لا يكفي الإنسان ألا يكون ضارًّا بالمجتمع، بل عليه — زيادة على ذلك — أن يكون مفيدًا له، لا يكفي الإنسان ألا يؤذي الغير، بل عليه أن يواسيَ الغير أيضًا …
ويمكننا أن نزيد على ذلك ونقول؛ ليس من واجب الإنسان «ألا يؤذيَ أبدًا»، بل قد يتحتم عليه أن يؤذيَ بعض الناس أحيانًا؛ فنزعة «عدم الإيذاء» قد تكون «سيئةً ونقيصة»، عوضًا عن أن تكون «حسنةً وفضيلةً» في بعض الأحوال.
افرضوا أن هناك امرأً رقيق القلب يتحاشى «إيذاء الغير» بأي وجهٍ كان، وافرضوا أن في معيته موظفًا قليل الكفاءة وكثير الحاجة، لا يتمكن من أداء واجباته، ويتهامل فيها أو يسيء استعمالها. فالآمر إذا تساهل معه لرقة قلبه وبُغْية عدم إيذاء عائلته، أليس من البديهي أنه بعمله هذا يكون قد سبَّب إيذاءً شاملًا من حيث لا يقصد ولا يشعر؟ أفليس من البديهي إذن أن «الواجب الحقيقي» يقضي على الآمر أن لا يحصر نظره في إيذاء آخر، ولو كان خفيًّا وبعيدًا؟ أفلا يمكننا أن نقول لذلك إن الواجب الحقيقي يقضي على الآمر أن يكون قاسي القلب عند الحاجة، وأن يؤذيَ ويعاقب من يستحق الإيذاء والعقاب، حالما تستلزم ذلك منفعة المجتمع؟
إننا نقول دومًا «على الإنسان ألا يطمع»، وننسى أن الطمع قريب من الطموح، فكثيرًا ما نخلط الأول بالثاني، ونستهجن الطموح كالطمع العادي.
إننا نقول دومًا: «على الإنسان ألا يعاند»، وننسى أن العناد قريب من الثبات، فكثيرًا ما نخلط هذا بذاك، ونستقبح الثبات كالعناد.
وهكذا الأمر في معظم الأحوال والأحكام، فيجب علينا أن نضع هذه الحقائق نُصْب أعيننا في جميع مسائل الأخلاق، وأن نغيِّر وِجهة نظرنا إليها، ونُبدِّل معيار تقديرنا لها، ويجب أن ننظر إلى هذه المسائل كلها بنظرات اجتماعية، كما يجب أن نقيس قِيم الفضائل بأجمعها بمقياس اجتماعي.
فعلينا ألا ننسى أبدًا أن «الأخلاق الشخصية» ما هي إلا جزء صغير من الأخلاق الحقيقية، إذ إن الإنسان لا يعيش منفردًا، بل يعيش مجتمعًا مع أبناء نوعه وأبناء قومه. فالأخلاق الاجتماعية هي التي تجعله «أكثر نفعًا» للإنسانية بوجه عام، وللأُمَّة التي ينتسب إليها بوجه خاص.
فيجب أن نُحوِّل أنظارنا من السلبيات إلى الإيجابيات، ومن الانفعاليات إلى الفاعليات؛ ونُبدِّل منازعنا الأخلاقية من «المزايا والفضائل الانفعالية»، إلى «المزايا والفضائل الفعالية».
هذا ومما يجدُر الانتباه إليه من جهة أخرى، أن المحافظة على حُسْن الخُلق في حياة خاملة ومنزوية — كأنها منكمشة على نفسها ومنقطعة عن العالم والمجتمع — لا تحتاج إلى جهد كبير ومزية كبيرة، فلا تُكسِب صاحبها شرفًا أخلاقيًّا كبيرًا. إن المزية كل المزية، والشرف كل الشرف، هو في التمكن من المحافظة على الخصال الحميدة في حياة مملوءة بالعمل، ومحبوكة بالفعالية، بين معاشرة فعلية، وتجاه مشاكل حقيقية، وخلال مناضلات مستمرة.
فلا مجال ولا محل للأخلاق السامية في حياة قليلة الفعالية.
وهكذا كلما أنعمنا النظر في الأمر، وتعمَّقنا في البحث، نزداد تأكدًا من أن قِيم الأخلاق والفضائل الحقيقية لا يمكن أن تُقدَّر حق قدرها ما لم تُلاحَظ من زاوية الفعالية والوِجهة الإيجابية.
مع هذا، إن النظر إلى الأخلاق والفضائل من هذه الزاوية أيضًا يحتاج إلى تعمُّق وتدبُّر؛ لأن هناك فعاليات متقطعة واندفاعية تتولد من هيجانات حالية وفورية، وفعاليات منتظمة ومستمرة لا تحدث إلا بفضل اعتيادات راسخة وعواطف دائمة وسجايا ثابتة. فيجب علينا أن نُميِّز بين هذين النوعين من الفعاليات، وأن نلاحظ قِيم كل نوع منها من حيث الأخلاق.
قد يندفع أبخل الناس في بعض الأحيان إلى الكرم والإحسان، بتأثير بعض العوامل الوقتية والدوافع الخارجية، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى شيمته الأصلية بزوال تلك العوامل والدوافع الوقتية.
وكذلك قد ينساق الجبان في بعض الأحيان إلى عمل جريء بتأثير هياج وحماس فوري، ولكنه لا يعود إلى عمل مثله بعد هذا الاندفاع الوقتي.
إننا كثيرًا ما نُخدع «بالاندفاعات» الفورية، وقلَّما تُقدَّر قيمة العواطف المستديمة، فلو فكَّرنا مليًّا لعرفنا بأن فعاليةً تظهر من حين إلى حين، قد تكون أخف تأثيرًا وأقل فائدةً من فعالية تعمل بدون انقطاع، ولو كانت أشد اندفاعًا وقوةً منها. كما أن «عاطفةً تثور بفواصل كبيرة»، قد تكون أقل قيمةً من عاطفة «تبقى مستيقظةً وعاملةً» مدةً طويلة، ولو كانت أشد قوةً وحماسةً منها. ويمكننا أن نقول؛ إن التأثير هو «ابن الاستمرار» أكثر منه «ابن الشدة»، وذلك في الأمور المعنوية كما هو في الأمور المادية. قارنوا بين العواصف الوقتية وبين الرياح المنتظمة، أو بين السيول الجارفة وبين المياه الجارية، من وِجهة تأثيراتها الحقيقية على الأحوال الأرضية؛ تروا أن الأولى أقل عملًا في تكوين أشكال الأرض من الثانية، وإن ظهرت أكثر ضجةً وأشد ضوضاءَ منها.
هذا والاندفاع لا يحدث عادةً إلا بتأثيرات خارجية، كما أن الهياج لا يتولد إلا من جرَّاء عوامل حالية، وكلاهما لا يتكرَّر عادةً إلا بتكرُّر تلك التأثيرات والعوامل. إن العوَّامة قد تتحرك أكثر من القارب، بل أكثر من الزوارق البخارية، غير أن حركتها هذه لا تكون إلا بتأثير قُوًى وعوامل خارجة عنها، فهل تكون لها مزية في حركتها؟
إن الإنسان الذي يعمل عمل العوَّامات ويندفع اندفاعها، لا يستحق النعت بالفضائل الأخلاقية، مهما كانت وِجهة تلك الأعمال والاندفاعات.
إن الأخلاق والفضائل الحقيقية لا تتجلَّى إلا في الأفعال التي تتم بتأثير القُوى والعوامل الباطنية.
من المعلوم أن القُوى والعوامل الباطنية تنشأ من الإرادة والعاطفة، أما الأسلوب الغالب والثابت الذي تظهر به إرادة الإنسان وعواطفه فتُسمَّى «السجية»، فيمكننا أن نقول بناءً على ذلك؛ إن أهم وأثمن ميزات الإنسان الأخلاقية تتجلَّى في قوة «السجية».
إذا لخَّصنا التحليلات الآنفة، توصَّلنا إلى النتائج الأساسية التالية:
«إن أهم الأخلاق والفضائل هي الأخلاق والفضائل الفعالية والإيجابية.»
«إن قيمة الإنسان الأخلاقية تُقدَّر بقوة الإرادة العاملة فيه، ونوع العواطف المؤثرة في نفسه. وبتعبير أقصر؛ بقوة السجيَّة التي تظهر في أعماله.»
إن هذه النتائج والأساسات وإنْ كانت ذات بالٍ في حد ذاتها وبالنسبة إلى جميع أفراد المجتمع، إلا أنها ذات مكانة خاصة في الحياة العسكرية؛ لأنَّها حياة عمل وفعالية أكثر من جميع أنواع الحياة، فهي تتطلب من المنتمين إليها مجموعة خصال ومزايا كلها إيجابية، تحتاج إلى إرادة قوية، وعواطف دائمة، وسجايا ثابتة، أكثر مما تحتاج إليها أي مهنة أخرى.
هذا ومما هو جدير بالتأمُّل، أن التطورات التي حدثت في أساليب الحروب ووسائطها، قد زادت أهمية الفضائل الإيجابية والسجايا الثابتة زيادةً كبيرة.
وذلك لأن مهالك الحروب ومخاطرها قد زادت زيادةً مهولة، ووصلت إلى درجة لا تقبل القياس مع مخاطر الحروب الماضية بوجه من الوجوه؛ فإنها صارت تُباغت الجندي من جهات مختلفة وبأشكال متنوعة، وصارت تأتي من مدافع غير مرئية موضوعة في أبعاد شاسعة وراء جبال شاهقة، أو طائرات تُحلِّق في الجو؛ تارةً بشكل قذائف مميتة، وطورًا بشكل غازات خانقة. فمقاومة هذه المخاطر المتنوعة والفجائية صارت تستلزم من الجَلَد ورباطة الجأش وقوة الإرادة، ما لم تكن تتطلب الحروب الماضية عُشْر مِعْشارها.
هذا ومن جهة أخرى، قد كان في الحروب الماضية مجال واسع للاندفاع والانجراف بتأثير تيارات الحماسة التي كانت تسري من كتيبة إلى كتيبة، ومن كتلة إلى كتلة، وتستولي بسرعة عظيمة على جموع الجيش بأجمعها.
غير أن الحروب الحالية لم تترك مجالًا يُذكَر لسراية الحماس بهذه الصورة، ولا فائدة تُرجى من الاندفاع والانجراف على تلك الأساليب؛ لأن حُروب الخنادق والطائرات غيَّرت أساليب الحرب — كما تعلمون — تغييرًا كليًّا وحاسمًا، وجعلت الأفراد مُضطرين للحرب وهم مُنقسمون إلى كتل صغيرة، لا يُخالط بعضها بعضًا إلا بمقياس صغير، ولا تشاهد الواحدة منها من أعمال الأخرى إلا شيئًا قليلًا. فلم يَعُدْ في إمكان الجيش أن يُعوِّل الآن كما كان يُعوِّل قبلًا على قوة تيار الحماسة، ولا على قوة اندفاع المعاشر والجموع؛ ولذلك أصبح من الضروري أن يكون في نفس كل فرد من أفراد الجيش دافع باطني قوي، وعاطفة وطنية مستمرة، يحملانه على القيام بواجباته الخطيرة بشجاعة ورباطة جأش.
فمكانة الأخلاق الفعَّالة والسجايا الثابتة — بما فيها محبة الوطن وشيمة التضحية — في حياة الجندية أصبحت أشد وأقوى مما كانت عليه قبل الحروب الأخيرة بمئات ومئات من الدرجات.
إنني رأيت أن أتكلَّم عن هذه الخصال والفضائل الفعالة؛ لكي تعملوا على تقويتها في نفوسكم أولًا، وفي نفوس الجنود الذين ستتولون تنشئتهم وقيادتهم ثانيًا.