ذيل: عَود إلى قضايا اليونسكو١
ألبوم معرضي عن حقوق الإنسان
إن آخِر المؤلفات التي نشرتها «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة» المعروفة باسم «اليونسكو»، هو الألبوم المعرضي عن حقوق الإنسان.
يتألف هذا الألبوم من ١٤٣ لوحةً في حجم كبير (٣٣ × ٤٨). إن ١١٠ من هذه الألواح معدَّة للعرض على الجدران، وأما اﻟ ٣٣ الباقية منها فتتضمن الشروح المتعلقة بالألواح المذكورة، مطبوعةً بحروف كبيرة.
وقد قُسِّمت كل لوحة من لوحات الشروح إلى ثلاثة أقسام أفقية، ينفصل بعضها عن بعض بسهولة كبيرة؛ لكي يُوضع كل واحد منها تحت اللوحة التي تخصه عند العرض على الجدران.
والصور المطبوعة على الألواح كثيرة ومتنوعة، والغرض منها هو تبيان التقدُّم الذي أحرزه البشر في سبيل تقرير «حقوق الإنسان المختلفة» منذ أقدم العصور الحجرية والهمجية؛ صور الرجال الذين خدموا تقرير حقوق الإنسان بكتاباتهم أو بأعمالهم، صور الوثائق المتعلقة بتقرير مختلِف حقوق الإنسان في مختلِف أدوار التاريخ، صور تُقارِن بين الأحوال التي كانت سائدةً قبل تقرير كل حق من الحقوق، وبين الأحوال التي صارت تسود بعد تقرير ذلك الحق.
إن بيان حقوق الإنسان الذي صدر في ١٠ ديسمبر (كانون الأول) سنة ١٩٤٨م … يتضمن منهج عمل لكل إنسان؛ لأن «كل فقرة من فقراته تدعو إلى بذل الجهود، وكل سطر من سطوره يُصدر حُكْمًا على التواكل، وكل عبارة من عباراته تستنكر جزءًا من ماضينا الفردي أو القومي، وكل كلمة من كلماته تحملنا على التأمُّل والتدبُّر في أحوالنا الحاضرة.»
وبناءً على كل ما ذكرته آنفًا، أستطيع أن أقول إن فكرة الألبوم المعرضي كانت طريفةً ومفيدةً جدًّا، وهي تستحق بهذا الاعتبار التقدير والاستحسان.
هذا كان انطباعي الأول من الألبوم عندما انتهيت من إلقاء نظرة عَجْلَى عليه بُغْية تكوين فكرة عامة عنه.
ولكن، عندما أخذت أتعمَّق في درْسه، مع إمعان النظر في كل لوحة من لوحاته المتتالية، والتأمل التام في كل كتابة من كتاباته التفسيرية، صُدمت ببعض الصور وبعض الكتابات التي عدَّلَت آثار هذه الانطباعات الأُولى.
هذه كانت فتوحات البشر في ميادين حقوق الإنسان عندما استولى هتلر على الحكم في ألمانيا …
إن هذا العنوان، وهذه العبارة، والعبارات التي تليها، أثارت في ذهني سلسلةً طويلةً من الأسئلة الانتقادية، وأعادت إلى ذاكرتي ما كنت كتبته عن المزالق والمنحدرات التي تكتنف طريق اليونسكو، من جرَّاء تبعيتها إلى هيئة سياسية لا تعبأ كثيرًا بالحق والحقيقة بحكم طبيعتها الأساسية، وإني أجد هنا دليلًا جديدًا على ذلك، لأني أعتقد أنه يجدُر بكل قارئ أن يتساءل بعد قراءة العبارة المذكورة:
هل كانت حقوق الإنسان في حرز حريز من الأمان قبل أن يتولَّى هتلر الحكم في ألمانيا؟
وأظن أنه ليس في استطاعة أي مفكر منصف أن يَرُد على هذا السؤال بالإيجاب، إلا إذا اعتبر «عالم المستعمرات» خارجًا عن الكرة الأرضية، و«أهالي المستعمرات» خارجين عن نطاق شمول مفهوم الإنسان؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يُنكر الحقيقة التالية بوجه من الوجوه:
إن حقوق الإنسان كانت مهضومةً ومهدورةً في المستعمرات قبل أن يتولى هتلر الحكم في ألمانيا.
صحيح أن هتلر تعدَّى على مبادئ حقوق الإنسان في هولندا، وظلم الهولنديين بالاستيلاء على بلادهم، ولكن الهولنديين أنفسهم أمَا كانوا يتعدون على حقوق الإنسان في إندونيسيا قبل قيام الحكم الهتلري؟ أمَا كانوا يظلمون الإندونيسيين منذ مدة طويلة؟ ثم، أفلم يعودوا إلى سيرتهم الأولى واستأنفوا نشاطهم في ظُلْم سكان تلك البلاد، عقب تخلُّصهم من احتلال الألمان؟
صحيح أن هتلر تعدَّى على مبادئ حقوق الإنسان في فرنسا، وظلم الفرنسيين بالاستيلاء على عاصمتهم واحتلال بلادهم، ولكن، هؤلاء الفرنسيون أنفسهم، هل كانوا يراعون مبادئ حقوق الإنسان في مستعمراتهم الكثيرة؟ أفما كانوا يتعدَّون على الدوام على حقوق الإنسان في جميع تلك المستعمرات قبل ظهور هتلر بمدة طويلة؟ ثم، أفلم يستأنفوا هذا التعدي فيسترسلون في الظلم والعدوان في مختلِف البلاد التي كانوا يحتلونها ويستعمرونها، من الجزائر وسوريا إلى الشرق الأقصى … عقب تحرير بلادهم من احتلال النازيين؟
فكيف يسوغ لهيئة علمية أن تغض النظر عن كل ما كان يجري ولا يزال يجري في المستعمرات فتقول: إن حقوق الإنسان تعرضت إلى خطر عندما تولَّى هتلر الحكم في ألمانيا؟!
أنا من الذين يعتقدون أن نظام الاستعمار لن يدوم طويلًا، وأنه سيزول من الأرض كما كان زال قبلًا نظام الاسترقاق. لا أدري متى، ولا أقطع بعد كم من الفظائع والضحايا، ولكني لا أشك في أن هذا النظام سينتقل إلى أغوار التاريخ في مستقبل ليس ببعيد بُعْدًا كبيرًا.
وإذا قامت عندئذٍ — أي عندما تجتاز البشرية هذه المرحلة الهامة من التقدم — هيئة علمية وأرادت أن تؤلِّف ألبومات جديدةً عن حقوق الإنسان، أسوة بما فعلته منظمة اليونسكو الآن؛ فسترى من الضروري أن تُخصِّص عددًا غير قليل من ألواحها وصورها إلى عرْض واستعراض فظائع المستعمِرين في مختلِف المستعمرات.
وأنا لا أشك في أن المؤرخين المدققين والمفكرين المحايدين الذين سينبغون عندئذ، إذا ما لاحظوا ما كتبته اليونسكو عن هتلر في الألبوم الذي نشرته أخيرًا؛ سيُعلِّقون على ذلك قائلين:
«إن هتلر عمل في أوروبا ما كان يعمله الأوروبيون في مستعمراتهم.»
«إنه عامل الأوروبيين كما كانوا هم يعاملون سكان المستعمرات.»
وعلى كل حال أنا أعتقد أن اليونسكو تباعدت عن جادة الحق والحقيقة، وانحرفت عن مناحي البحث العلمي المحايد، بربطها قضية حقوق الإنسان بقضية النازية، بالأسلوب الذي التزمته في ترتيب الألبوم المعرضي عن حقوق الإنسان.
عندما واصلت تقليب لوحات الألبوم — بعد اللوحة التي تكلمت عنها — توقفت عند اللوحة ٤٦ أيضًا؛ لأني وجدت في هذه اللوحة صورةً شمسيةً لم أفهم شيئًا عن دلالتها ومغزاها في الوهلة الأولى، صورة تشبه إلى حدٍّ كبير الصور التي تُقتطع من الأفلام السينمائية، وتُعرَض في مداخل دور السينما للإعلان عن الأفلام والدعاية لها؛ عربة زبالة يدفعها رجل، اختفى وجهه وراء جندي واقف بجانبه، وهناك جندي أو شرطي يبتسم، وفي الجهة الثانية من الشارع رجل وشرطي يتكلمان.
ما معنى هذه الصورة؟ ما هو محلها بين الصور المتعلقة بحقوق الإنسان؟ لم أفهم ذلك إلا بعد مراجعة ألواح الشروح؛ إذ وجدت هناك الشرح العائد إلى هذه الصورة:
«يهودي يجبره النازيون على نقْل الزبالة.»
إذن إن غاية مؤلفي الألبوم من طبْع هذه الصورة كانت إظهار ضرْب من ضروب التعدي على حقوق الإنسان، ولكن يجدُر بنا أن نسأل هؤلاء: هل هذا النوع من التعدي مما يختص به النازيون دون غيرهم؟ وهل إن المعتدى عليهم في أمثال هذه المعاملات هم اليهود وحدهم؟
إني عرفت الكثيرين من رجال العرب الذين قضَوا شطرًا من حياتهم في المعتقلات، وكان بينهم ساسة وصحفيون، ومحامون وأطباء ومعلِّمون، وكان بينهم من عرف المعتقلات الفرنسية، ومن عرف المعتقلات الإنجليزية، ومن عرف المعتقلات الأمريكية. وكلهم كانوا يُجبَرون على تكنيس المحلات، وحمْل الزبالة، بل على نقْل القاذورات. وقد صادفت أحدهم هذه الأيام وعرضت عليه الصورة المطبوعة في ألبوم اليونسكو، وسمعته يقول — ضاحكًا ومستغربًا: «يا ليتنا كنا نحظى بمثل هذه العربة؛ لأننا كنا نُضطر إلى نقل الزبالة والقاذورات في السطول بأيدينا!»
فإني أدعو رجال اليونسكو إلى القيام بتحقيق بسيط في هذا الشأن، وأقترح عليهم أن يُوجِّهوا بعض الأسئلة إلى مديري المعتقلات في مختلِف الدول الأوروبية؛ ليستعلموا منهم الطريقة التي كانوا يتَّبعونها في أمر تنظيف المعتقلات ونقل زبالاتها وقاذوراتها. فإنهم لو فعلوا ذلك لعلموا العلم اليقين بأن إكراه المعتقَلين لحمل الزبالة ونقل القاذورات، لهو من الأمور المعتادة في جميع المعتقَلات الديمقراطية وغير الديمقراطية منها على حدٍّ سواء.
ولذلك أسأل مصنِّفي الألبوم من رجال اليونسكو: لماذا خصُّوا بالذِّكر النازيين واليهود وحدهم في مثل هذه الأمور العامة؟
إني أظن أن التوصُّل إلى جواب هذا السؤال لا يحتاج إلى بحث طويل؛ ذلك لأن معظم موظفي اليونسكو من اليهود، وهؤلاء ينتهزون كل الفرص لدس قضاياهم في كل شيء وفي كل محل لاستدرار عطف العالم لقوميتهم. والجو السياسي الذي يحيط بمنظمة اليونسكو من كل جانب، جو يُفسح مجالًا واسعًا لمثل هذه الدعايات السياسية مع الأسف الشديد.
كان يجب عليها ألا تربط مقدَّراتها بمقدَّرات هيئة سياسية مثل هيئة الأمم الحالية؛ لأن هذه الهيئة السياسية محكومة بطبيعتها لأن تكون مسرحًا تتنافس وتتخاصم وتتقاتل عليه الأطماع الدولية بشتى الصور، وتتوالى عليه مشاهد المخادعات السياسية بأبشع الأشكال، وتختنق خلالها أصوات الحق والحقيقة بأفظع الأساليب. فكان على الهيئة التي أخذت على عاتقها مهمة خدمة السلام عن طريق التربية والعلم والثقافة، أن تُقدِّر هذه الحقيقة حق قدرها، وأن تتباعد عن هذا المسرح السياسي كل الابتعاد.
أختم كلامي بدعوة مدير اليونسكو إلى التدبُّر في أمثال هذه الأمور، والتبصُّر في عواقب هذه الاتجاهات، والسعي وراء تبعيد أعمال التربية والعلم والثقافة عن نطاق تأثير الأطماع والمخادعات السياسية.
أفلا يحق لي أن أُكرِّر هذه الكلمات الآن بشدة أعظم من ذي قبل، بعد أن كشفتُ النقاب عن الأغراض السياسية التي لعبت دورها حتى في «الألبوم المعرضي» الذي طبعته الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة عن «حقوق الإنسان»؟