العلاقات الثقافية بين البلاد العربية١
١
كل من يستعرض نُظم التعليم المقررة، ومناهج التدريس المتَّبعة في مختلِف الأقطار العربية، يندهش من الفروق الكبيرة التي يلاحظها خلال هذا الاستعراض.
لأنه يلاحظ مثلًا أن مدة الدراسة في مختلِف مراحل التعليم، تختلف اختلافًا غريبًا من قُطْر إلى قُطْر:
فإن مدة الدراسة الثانوية تبلغ ٧ سنوات في لبنان، في حين أنها تقتصر على ٦ سنوات في سوريا، و٥ سنوات في مصر والعراق، و٤ سنوات في فلسطين والأردن. وأما مدة الدراسة الابتدائية فهي تبلغ ٧ سنوات في فلسطين والأردن، في حين أنها تقتصر على ٦ سنوات في العراق، و٥ سنوات في سوريا ولبنان. وأما في مصر، فإن تعبير «المدرسة الابتدائية» يطلق على نوع خاص من المدارس التي لا مثيل لها في أي قطر من الأقطار العربية الأخرى؛ لأنها تتألف من ٤ سنوات دراسية، غير أنها لا تقبل من الأطفال إلا من كان قد تعلَّم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب في إحدى رياض الأطفال أو المدارس الأولية.
وهذا الاختلاف الكبير الذي يُلاحَظ في مُدد الدراسة، يترافق بطبيعة الحال باختلاف في مواد الدراسة ومناهجها أيضًا، ويذهب اختلاف المناهج إلى مدًى بعيد جدًّا من وِجهة تعليم اللغات الأجنبية بوجه خاص؛ لأن اللغة الأجنبية تدخل بين مواد الدراسة الابتدائية اعتبارًا من السنة الأولى في لبنان، ومن السنة الرابعة في فلسطين وشرق الأردن، ومن السنة الخامسة في العراق، ولكنها تبقى خارجةً عن نطاق الدراسة الابتدائية في سوريا. وأما في مصر فإنها تُدرس في السنتين الأخيرتين من المدارس التي تُسمَّى باسم الابتدائية، وتبقى خارجةً عن مناهج سائر «مدارس المرحلة الأولى» بوجه عام.
وغنيٌّ عن البيان أن الفروق التي ذكرناها آنفًا — من وِجهة عدد سِنِي الدراسة من ناحية، ومن وِجهة تدريس اللغة الأجنبية من ناحية أخرى — تؤدي إلى حدوث فروق هامة من سائر الوجوه أيضًا.
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد؛ أن هذه الفروق الكبيرة، لم تكن وليدة الحاجات التي شعر بها أبناء الأقطار المذكورة من تلقاء أنفسهم، والقرارات التي اتخذوها بعد إمعان النظر في منافع البلاد بمحض إراداتهم، بل هي وليدة الظروف السياسية التي سيطرت على مقدَّرات الأقطار العربية المختلفة، وصنيعة الأيدي الأجنبية التي وجَّهت سياسة التعليم في الأقطار المذكورة طوال سِني الاحتلال أو الحماية أو الانتداب.
ونستطيع أن نقول بكل تأكيد إن مرد جميع الفروق التي تُشاهَد بين نُظم التعليم المتَّبعة في مختلِف الأقطار العربية، هو اختلاف هذه الظروف السياسية من قُطْر إلى قطر، منذ عدة عقود من السنين، ولا سيما منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى.
ومن المعلوم أن السيطرة السياسية على البلاد العربية، كانت قد آلت إلى الإنجليز في بعض الأقطار، وإلى الفرنسيس في البعض الآخر. كما أن هذه السيطرة كانت طويلة الأمد في بعض الأقطار، وقصيرة الأمد في بعضها، وكانت شديدة الوطأة في بعضها، وكثيرة المرونة في بعضها. وأما الجهود التي بُذلت لمقاومة هذه السيطرة الأجنبية، فكانت جريئةً في بعض الأقطار، ومترددةً في بعضها؛ فأسفرت عن نتائج سريعة في بعضها، وبطيئة في بعضها. واختلاف هذه الأسباب والظروف السياسية من قُطْر إلى قطر، هو الذي أدَّى إلى تكوين الفروق العظيمة التي أشرنا إليها آنفًا، دون أن يكون لرغبات أهل البلاد، ولحاجات الأقطار ومنافعها الحقيقية أي دخْل وتأثير في هذا المضمار.
لهذا السبب كان من الطبيعي أن تسترعيَ هذه الفروق أنظار المهتمين بشئون الثقافة والتربية والتعليم في مختلِف الأقطار العربية، كلما تكاملت فيها معالم الاستقلال.
وكان من الطبيعي أن ينبريَ هؤلاء المفكرون إلى البحث عن الوسائل التي تضمن توثيق الصلات الثقافية بين مختلِف الأقطار العربية، وكان من الطبيعي أن تتولد في نفوسهم رغبة قوية لإزالة الفروق المذكورة بصورة تدريجية؛ وذلك بُغْية الوصول إلى نُظم تعليمية متقاربة ومتماثلة في جميع الأقطار العربية، والانتهاء من ذلك إلى تكوين ثقافة عربية موحدة.
و«المعاهدة الثقافية» التي أقرها مجلس «جامعة الدول العربية» سنة ١٩٤٥م، إنما وُضِعت تحت تأثير هذه الرغبة القوية، بُغْية تحقيق هذه الغاية السامية.
- (أ)
تبادل المدرسين والأساتذة.
- (ب)
تبادل الطلبة والتلاميذ.
- (جـ)
تعادل مراحل التعليم وشهاداته.
- (د)
تشجيع الرحلات الثقافية والكشفية والرياضية بين البلدان العربية.
- (هـ)
إحياء التراث الفكري والفني العربي، والمحافظة عليه ونشره وتيسيره للطالبين بمختلِف الوسائل.
- (و)
تنشيط الجهود التي تُبذل لترجمة عيون الكتب الأجنبية القديمة والحديثة، وتنظيم تلك الجهود.
- (ز)
تشجيع الإنتاج الفكري في البلاد العربية بمختلِف الوسائل؛ كإنشاء معاهد للبحث العلمي والأدبي، وتنظيم مسابقات في التأليف، ووقف جوائز على المتفوقين من رجال العلم والأدب والفن.
- (ﺣ)
توحيد المصطلحات العلمية بواسطة المجامع والمؤتمرات واللجان المشتركة.
- (ط)
ترقية اللغة العربية والوصول بها إلى تأدية جميع أغراض التفكير والعلم الحديث، وجعْلها لغة الدراسة في جميع المواد، في كل مراحل التعليم في البلاد العربية.
- (ي)
توثيق الصلات بين دور الكتب والمتاحف العلمية والتاريخية والفنية الموجودة في البلدان العربية.
- (ك)
توثيق الصلات وتسهيل التعاون بين العلماء والأدباء ورجال الصحافة والمهن الحرة، وأهل الفن والتمثيل والموسيقى والسينما والإذاعة.
- (ل)
تشجيع عقْد المؤتمرات الثقافية والعلمية والتعليمية.
- (م)
إنشاء متاحف للحضارة والثقافة العربية.
- (ن)
إقامة معارض دورية للفنون والمنتجات الأدبية.
- (س)
إقامة مهرجانات عامة ومدرسية في مختلِف البلاد العربية.
- (ع) تشجيع إنشاء نوادٍ عربية ثقافية اجتماعية في جميع البلدان العربية، وعلاوةً على ذلك، فقد اتفقت الدول العربية بموجب هذه المعاهدة على:
-
أن تُدخِل في مناهجها التعليمية من تاريخ البلاد العربية وجغرافيتها وأدبها، ما يكفي لتكوين فكرة واضحة عن حياة هذه البلاد وحضارتها.
-
وأن تعمل على تعريف أبنائها بالأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في سائر البلاد العربية، بكل الوسائل الممكنة.
-
تتخذ دول الجامعة العربية الوسائل اللازمة للتقريب بين اتجاهاتها التشريعية، وتوحيد ما يمكن توحيده من قوانينها، وإدخال الدراسات القانونية المقارنة للبلاد العربية في برامج معاهدها.
وتسهيلًا لتنفيذ الأحكام التي تضمنتها المعاهدة الثقافية، قد قرر «مجلس جامعة الدول العربية» تأليف «لجنة ثقافية» يشترك فيها ممثلون من جميع الدول العربية، على أن ينضم إليهم من يُمثِّل بعض البلاد غير المستقلة أيضًا. كما قرر إنشاء «إدارة ثقافية» تتولى مهمة تحضير المشاريع وتنفيذ المقررات، بمساعدة «المكتب الدائم» الذي يُمثِّل وزارات معارف الدول العربية بصورة مستمرة.
وقد عقدت «اللجنة الثقافية» المذكورة اجتماعها الأول في ٢٧ فبراير ١٩٤٦م، وكوَّنت «الإدارة الثقافية» و«المكتب الدائم» بعد ذلك بمدة وجيزة، وأنجزت منذ ذلك التاريخ عدة أعمال، وهيَّأت كثيرًا من المشاريع.
هذا، ولا يجوز أن يُظن أن المعاهدة الثقافية التي ذكرناها وشرحناها آنفًا قد خرجت إلى عالم الوجود بغتة، بل يجب أن يُعلم العلم اليقين أن هذه المعاهدة كانت «نتيجةً طبيعيةً» لسلسلة طويلة من العوامل والمقدمات التي مهَّدت لها السبل، ووجَّهت إليها النفوس.
ونستطيع أن نقول بكل تأكيد: إن التفكير في أمر «تكوين ثقافة عربية موحدة»، كان قد بدأ مع بدء النهضة العربية الواعية، بعد الحرب العالمية الأولى.
وكانت سوريا أسبق الأقطار العربية إلى هذا التفكير؛ لأنها كانت أسبقها إلى «الشعور بالعروبة» شعورًا واضحًا، وإلى التنعُّم بنعمة «الاستقلال التام»، ولو لمدة قصيرة من الزمن.
فالدولة العربية التي تكوَّنت في سوريا عقب الحرب العالمية الأولى، قررت منذ بادئ الأمر أن تسير على منهج قومي عربي صريح، وأن تستفيد من جميع الكفاءات العربية؛ فقد توجهت على الفور نحو مصر لتستعين بالكتب المطبوعة فيها، ولتستفيد من خبرتها في تعليم اللغة العربية والأدب العربي بوجه خاص. كما أنها أسرعت إلى تأليف لجنة لجمع المصطلحات العلمية المستعملة في الكتب العربية القديمة والحديثة، تمهيدًا لانتخاب الأوفق منها. وأقدمت في الوقت نفسه على تأسيس «المجمع العلمي العربي»، ولم تتردد في جعْل اللغة العربية لغة التعليم لجميع المواد الدراسية في جميع المدارس الثانوية والعالية.
غير أن انقراض الدولة العربية السورية بعد ضربة «ميسلون»؛ أدى إلى وأد هذه الحركة في مهد نشوئها.
ومع ذلك فإن «الفكرة» الباعثة على تلك الحركة لم تتلاشَ بانقراض الدولة المذكورة، بل إنها حافظت على حيويتها إلى أن وجدت في العراق ظروفًا ملائمةً لترعرعها، فأخذت تنمو هناك وتنتشر شيئًا فشيئًا.
والحكومة الوطنية التي تأسست في العراق بعد الثورة المشهورة اعتزمت على النهوض بمعارف البلاد بسرعة كبيرة، غير أنها لم تجد في داخل القُطْر العدد الكافي من المعلِّمين والمدرسين الذين يستطيعون أن يقوموا بأعباء هذه النهضة بالسرعة اللازمة؛ فتوجهت إلى سائر الأقطار العربية، وأخذت تستقدم من سوريا ولبنان وفلسطين ومصر من تحتاج إليهم من المدرسين؛ لتنظيم شئون المدارس الثانوية والعالية ودور المعلِّمين.
وكانت وزارة المعارف العراقية تتصل بالمدرسين الذين تستقدمهم من ديار الشام اتصالًا مباشرًا، دون أن تُوسِّط الحكومات في شأن من شئونهم، نظرًا للأوضاع الانتدابية القائمة هناك عند ذاك. غير أنها كانت تلجأ إلى وساطة وزارة المعارف المصرية في شأن المدرسين الذين تستقدمهم من القطر المصري.
والاتصال الذي بدأ بهذه الصورة بين وزارة المعارف العراقية ووزارة المعارف المصرية من أجل المدرسين، أخذ يتوسع ويتوثق شيئًا فشيئًا، وأدى بطبيعة الحال إلى مفاوضات ومذاكرات تتناول شتى شئون التعليم. وقد رأت الوزارتان بعد هذه الاتصالات المتوالية أن المصلحة تقضي بعقد معاهدة ثقافية بين المملكتين، على أن تُترك معروضةً إلى انضمام سائر الدول العربية المستقلة فيما بعد.
وقد تم وضع مشروع هذه المعاهدة الثقافية بكل تفاصيله خلال سنة ١٩٤٣م، غير أنه لم يتم التوقيع عليه للأسباب التالية:كانت الجمهوريتان السورية واللبنانية أخذتا تسيران سيرًا حثيثًا نحو الاستقلال الفعلي التام، كما أن مشاورات الوحدة العربية التي جرت بين رئيس وزراء الحكومة المصرية، وبين رؤساء وزراء الحكومات العربية الأخرى، كانت أخذت تسير سيرًا حسنًا يدعو إلى التفاؤل والاطمئنان؛ ولهذا السبب تقوَّى اعتقاد الجميع في إمكان عقْد معاهدة ثقافية عامة، تربط جميع الدول العربية رأسًا ومباشرةً، فتحوَّلت الأنظار عن فكرة «المعاهدة الثقافية الثنائية»، إلى فكرة «المعاهدة الثقافية العربية العامة».
وكل من يقارن بين مشروع «المعاهدة الثقافية» الذي وضعته مصر والعراق سنة ١٩٤٣م، وبين المعاهدة الثقافية التي أقرَّها مجلس جامعة الدول العربية سنة ١٩٤٥م، يتأكد من أن المشروع الأول كان بمثابة الغرسة الأصلية التي أنتجت المعاهدة الأخيرة.
هذا ويجب ألا يغرب عن البال، أن الصلات الثقافية بين الأقطار العربية لم تبقَ محصورةً بنطاق «الأعمال الرسمية» التي ذكرناها آنفًا، بل إن جهود وأعمال بعض الأفراد والجماعات أيضًا أثَّرت في هذا المضمار تأثيرًا عميقًا، ولا نغالي إذا قلنا إنها مهَّدت السبل إلى عمل السلطات الرسمية تمهيدًا كبيرًا.
- (أ)
كانت المجلات الأدبية من أقدم العوامل في إيجاد الصلات الثقافية بين مختلِف الأقطار العربية؛ لأنها كانت تُقرأ في مختلف الأقطار العربية، كما أنها كانت تنشر ما يكتبه الأدباء والمفكرون من جميع تلك الأقطار، حتى إنها كثيرًا ما كانت تصبح ميدانًا لمباحثات ومناقشات تجري بين هؤلاء المفكرين والكُتَّاب.
- (ب)
إن بعض النوادي والجمعيات أيضًا قامت بخدمات جليلة في هذا السبيل.
وكان طلاب العرب الذين يدرسون في الجامعات الغربية أسبق الكل إلى تأسيس أمثال هذه النوادي والجمعيات، وإلى توثيق صِلات التعارف والتعاون بين أبناء الأقطار العربية المختلفة.
وربما كان لطلاب الجامعات السويسرية والألمانية فضل السبق على غيرهم في هذا المضمار.
- (جـ)
إن الرحلات التي قام بها جماعات من المدرسين والطلاب والفِرَق الكشفية والرياضية إلى مختلِف البلدان العربية، كانت من العوامل الفعالة في توثيق الصلات الثقافية بين البلدان المذكورة، قبل إنشاء جامعة الدول العربية وتأسيس شعبتها الثقافية.
فلا بد لنا من أن نشير في هذا المضمار إلى الرحلة التي قام بها جماعة من أساتذة الجامعة المصرية، مع فريق من طلابها إلى العراق سنة ١٩٣٠م، وإلى الجولة الطويلة التي أقدم عليها فريق من الكشافة العراقية في السنة التالية، إلى سوريا وفلسطين ومصر.
ومن المعلوم أن أمثال هذه الرحلات صارت بعد ذلك من الأمور المألوفة، وأصبحت من أهم وسائل التعارف بين شبيبة الأقطار العربية، ومن أفضل العوامل في توثيق الصلات الثقافية بين تلك الأقطار.
- (د)
إن التمثيل والغناء والإذاعة والسينما، أيضًا صارت من وسائل التعارف والتقارب بين مختلِف الأقطار العربية.
- (هـ)
إن المهرجانات الأدبية التي أقيمت في مختلِف العواصم العربية بمناسبات شتى، أيضًا خدمت الصلات الثقافية خدمةً كبيرة.
فإن مهرجان شوقي الذي أُقيم في القاهرة سنة ١٩٢٨م، ومهرجان المتنبي الذي أُقيم في دمشق سنة ١٩٣٦م، ومهرجان المَعَرِّي الذي طاف مختلِف المدن السورية سنة ١٩٤٤م، كانت من أهم العوامل التي خدمت الغاية المذكورة أجلَّ الخدمات.
كما أن حفلة «أربعين الملك فيصل الأول» التي أقيمت ببغداد سنة ١٩٣٣م، تحولت إلى مهرجان أدبي تعارف وتبارى خلاله كثيرون من رجال الفكر والأدب، الذين أمُّوا عاصمة العراق من مختلِف الأقطار العربية.
- (و)
وأخيرًا يجب علينا أن نذكر المؤتمرات الاختصاصية العربية أيضًا؛ فإنها كانت من أفعل الوسائل لتوثيق الصلات الثقافية بين الأقطار العربية.
والأطباء كانوا السبَّاقين في هذا المضمار، وقد أعقبهم المحامون، ثم المهندسون. عُقِدَ المؤتمر الطبي العربي الأول ببغداد سنة ١٩٣٨م، وعُقِدَ المؤتمر الأول للمحامين العرب بدمشق سنة ١٩٤٤م، والمؤتمر الأول للمهندسين بالإسكندرية سنة ١٩٤٥م.
وقد عقد أطباء البلاد العربية بعد ذلك ثمانية مؤتمرات؛ في القاهرة وأسوان والإسكندرية وبيروت وحلب. كما عقد مهندسو البلاد العربية ثلاثة مؤتمرات أخرى؛ بالقاهرة ودمشق وبيروت.
في كل هذه المؤتمرات اجتمع طائفة من أصحاب الاختصاص من جميع الأقطار العربية، وتناقشوا وتباحثوا في الأمور التي تدخل في نطاق اختصاصهم بوجه عام، وفي الشئون العربية والاصطلاحات العلمية التي تتصل بمهنتهم بوجه خاص، وخدموا بذلك الثقافة العربية خدمةً كبيرة.
وبعد تأسيس جامعة الدول العربية، عقدت الإدارة الثقافية مؤتمرين آخرين في صيف سنة ١٩٤٧م؛ كان أحدهما المؤتمر الأول لآثار البلاد العربية الذي انعقد بدمشق، وثانيهما المؤتمر الثقافي العربي الأول الذي انعقد ببيت مري في لبنان.
إن المؤتمر الأخير عالج شئون الثقافة العربية مباشرة، وتناقش في المسائل المتعلقة بالتربية الوطنية، وبمناهج تدريس التاريخ والجغرافيا واللغة العربية والأدب العربي، واتخذ قرارات هامةً لتوجيه التربية والتعليم في جميع الأقطار العربية إلى الطريق القويم.
«هذا وقد انعقد المؤتمر الثقافي العربي الثاني في الإسكندرية في صيف سنة ١٩٥٠م.»
نظرة إلى المستقبل
بعد أن استعرضنا ماضي العلاقات الثقافية بين البلاد العربية استعراضًا سريعًا، يجدُر بنا أن نوجِّه أنظارنا إلى الاستقبال فنتساءل؛ إلى أي مدًى ستتوسع وستتوطد هذه العلاقات في المستقبل القريب والبعيد؟
لا مجال للشك في أن العلاقات الثقافية بين البلاد العربية لا تزال في أول طور من أطوار التنظيم والتنسيق، فهي لا تزال بعيدةً عن بلوغ حد النضج والإثمار، ولا تزال في حاجة إلى الشيء الكثير من العمل المنسق، والنشاط الواعي، والتدابير الحازمة، والجهود المتواصلة. ولا نكون من المغالين إذا قلنا؛ وإن ما تم عمله في هذا المضمار إلى الآن لا يعدو كثيرًا حدود التمهيد والتحضير. ولا نكون من المخطئين إذا جزمنا بأن العمل في هذا السبيل سيستمر طويلًا، وبأن هذه العلاقات ستتوسع وستتوطد بسرعة متزايدة بعد أن تجتاز هذا الطور التمهيدي العام.
ومع هذا يجدُر بنا أن نتساءل؛ ما هي النتيجة التي ستئول إليها هذه العلاقات في نهاية الأمر؟ هل ستتقارب مناهج التعليم في مختلِف الأقطار العربية تقاربًا مطَّردًا، إلى أن تتوحد تمامًا؟ أم أنها ستبقى متغايرةً بعض التغاير مهما توطدت العلاقات الثقافية بين الأقطار المذكورة، واستمرت مدةً طويلةً من الزمن؟ وهل ستتعاون جميع الأقطار العربية على تكوين ثقافة موحدة بكل معنى الكلمة؟ أم ستبقى هذه الأقطار مختلفةً بعض الاختلاف من الوِجهة الثقافية؟
إن آراء المفكرين والكُتَّاب في مختلِف البلاد العربية قد تضاربت تضاربًا غريبًا حيال هذه المسائل الهامة؛ تضاربت أولًا في أمر الإمكان أو عدم الإمكان؛ فقد زعم فريق من الكُتَّاب والمفكرين أن الأقطار العربية لا يمكن أن تتوحد، لا من الوِجهة السياسية، ولا من الوجهة الثقافية. وذهب فريق آخر منهم إلى أن الأقطار العربية يمكن أن تتوحد من الوجهة الثقافية، إلا أنها لا يمكن أن تتوحد من الوجهة السياسية. واعتقد فريق ثالث منهم أن البلاد العربية يمكن أن تتوحد من الوجهتين السياسية والثقافية في وقت واحد.
زد على ذلك أن القائلين بإمكان توحيد الثقافة أنفسهم، قد اختلفوا فيما بينهم في أمر جواز أو عدم جواز هذا التوحيد؛ فرأى البعض منهم أنه يجب علينا أن نبذل أقصى الجهود لتوحيد الثقافة في مختلِف البلاد العربية، وادَّعى البعض الآخر منهم أن توحيد الثقافة يكون مخالفًا لمصالح الثقافة نفسها، فلا يجوز لنا أن نُقدِم على توحيد الثقافة بين مختلِف البلاد العربية، بل يجب علينا بعكس ذلك، أن نسعى إلى تنويعها.
فما هي وجوه الخطأ والصواب في هذه الآراء المتضاربة، وهذه النزعات المتخالفة؟ هذه من أهم المسائل التي يجب على كل مفكر عربي أن يمعن النظر فيها، وأن يُكوِّن لنفسه رأيًا صريحًا وسليمًا عنها.
إن الذين يزعمون أن البلاد العربية لا يمكن أن تتوحد من الوجهة الثقافية، يحاولون البرهنة على صحة زعمهم هذا — قبل كل شيء — بالإشارة إلى اختلاف البيئات الطبيعية. فإنهم يقولون؛ إن البلاد العربية يختلف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا من وجهة الأحوال الطبيعية، وهذه الأحوال تؤثر تأثيرًا عميقًا في الأوضاع القومية والثقافية، فلا تترك مجالًا لتكوين وحدة ثقافية.
غير أني أعتقد أن هؤلاء يغالون مغالاةً كبيرةً في أمر «تأثير البيئة الطبيعية في الأحوال البشرية»، ويخطئون خطأً فادحًا عندما يزعمون أن اختلاف البيئات يؤدي حتمًا إلى اختلاف الثقافات. فيجب علينا أن نلاحظ أولًا أن الإنسان المتمدن والمتقدم، فإنه يتحرر من إسار البيئة بفضل علومه وصنائعه المختلفة؛ لأنه يكافح تأثيرات البيئة الطبيعية، وكثيرًا ما يتغلب عليها، ويستفيد منها في قضاء حاجاته المتنوعة.
كما يجب علينا أن نلاحظ بعد ذلك أن «تجانس البيئة الطبيعية»، مما لا يتحقق إلا بالنسبة إلى العشائر الصغيرة والأقوام البدائية. وأما الدول الكبيرة والأمم العظيمة التي تؤلِّف تلك الدول، فإنها تعيش بوجه عام على مساحات فسيحة من الأرض، وهذه المساحات الفسيحة تشتمل بطبيعتها على كثير من البيئات والأقاليم المتنوعة. وكل ما نعرفه عن أحوال الأمم يدل دلالةً قاطعةً على أن هذا التنوع لا يَحُول دون التوحد بوجه من الوجوه. ونستطيع أن نقول؛ إن الأُمَّة كلما كانت عظيمة، والدولة كلما كانت كبيرة؛ كانت البيئات الطبيعية التي تعيش فيها وتسيطر عليها أكثر تنوعًا وأشد تخالفًا بطبيعة الحال.
هذا ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد، أن البيئات الطبيعية المتنوعة قد تتمم ويُكمل بعضها بعضًا، ولهذا السبب فهي لا تعرقل الوحدة، بل بعكس ذلك قد تستوجبها، وقد تزيد قوةً وصلابة.
إن نظرة إمعان بسيطة إلى أحوال بعض الأمم وأوضاع بعض الثقافات تكفي لإظهار هذه الحقائق للعيان بكل وضوح وجلاء. فلنلقِ نظرةً سريعةً إلى الأمة الفرنسية مثلًا، التي كانت أسبق الأمم الأوروبية إلى تكوين الوحدة القومية، والتي لا تزال أشدها اهتمامًا وأكثرها عنايةً بالوحدة الثقافية؛ نجد أن بلاد هذه الأمة متنوعة تنوعًا كبيرًا من حيث الأحوال الطبيعية؛ إذ إن فيها مناطق ساحلية، وأخرى جبلية، سهلية، وأخرى يوجد بين سواحلها ما هو دافئ وهادئ، وما هو بارد وهائج، كما يوجد بين جبالها ما هو مكسوٌّ بالثلوج الدائمة، وما هو مستور بالغابات الكثيفة، وما هو قاحل أجرد، ويوجد بين سهولها ما هو في حالة مراعٍ خضراء، وما هو في حالة مستنقعات شاسعة، وما هو في حالة حقول مزروعة. ولا حاجة إلى القول بأن سكان هذه الأقاليم والمناطق المتنوعة يختلفون بعضهم عن بعض اختلافًا كبيرًا، من حيث وسائل المعيشة وأساليب الحياة، ومن حيث سائر التقاليد والعادات. ومن المعلوم أن هذا التنوع العظيم لم يقف حائلًا دون وحدة فرنسا من الوِجهتين القومية والثقافية، بل ربما كان هذا التنوع من عوامل قوتها؛ لأنه ساعد على جعلها مستكفيةً بنفسها في الكثير من معالم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولذلك كله لا أتردد في القول بأن الذين يتخذون «اختلاف البيئات والأقاليم الطبيعية» دليلًا على عدم إمكان الوحدة الثقافية بين الأقطار العربية يتباعدون عن مناحي الحق والحقيقة تباعدًا كبيرًا.
إن خطأ رأي هؤلاء يظهر للعيان بوضوح أعظم عندما تلاحظ أحوال العضويات الحيوانية؛ فإنه من المعلوم أن الحيوانات التي تتألف من نسيج واحد، فتتصف بتجانس عضوي تام، كلها من العضويات الدنيا ذات الحيوية الضعيفة بوجه عام. وأما الحيوانات التي تشغل المراتب العليا من سلسلة الأحياء، فكلها تتألف من أنسجة وأعضاء متنوعة تنوعًا كبيرًا. والرُّقِي في الأحياء — كما قال ذلك العالِم الشهير ميلن إدوارد — يكون متناسبًا مع تنوع الأنسجة والأعضاء، وتوزُّع الوظائف الحيوية بين هذه الأنسجة والأعضاء المتنوعة.
إن «الوحدة العضوية» في الكائنات الحية لا تنشأ عن «التجانس في أعضاء البدن وأنسجته»، بل إنها تنشأ عن «التناسق بين أفعال هذه الأعضاء والأنسجة».
والمجتمعات البشرية تشبه العضويات الحيوانية بهذا الاعتبار، فإن الوحدة في الأمور البشرية والاجتماعية لا تتطلب التجانس التام، إنما تتطلب التناسق العام. ولهذا السبب نستطيع أن نجزم بأن اختلاف البيئات والأقاليم في مختلِف الأقطار العربية، لا يَحُول دون توحيد الثقافة بين تلك الأقطار بوجه من الوجوه.
وأما الذين يدَّعون أن توحيد الثقافة بين مختلِف البلاد العربية يضر بمصالح البلاد المذكورة، ويحُول دون تقدُّمها، فإنهم يحاولون البرهنة على صحة مُدَّعاهم هذا بقولهم: «إن التعليم يجب أن يختلف باختلاف البيئات، ومعاهد التعليم يجب أن تتنوع بتنوع الحاجات.»
غير أنه يجب علينا أن نلاحظ أن هؤلاء يخلطون — خلال ملاحظاتهم هذه — بين الثقافة والتعليم، كما أنهم لا يميِّزون بين مواد التعليم وتفرعاته، وبين نُظم التعليم وأهدافه. في حين أنه من الأمور التي يجب ألا تغرب عن البال في هذا المضمار، أن وحدة التعليم شيء، ووحدة الثقافة شيء آخر، وأن تنوُّع معاهد التعليم لا يعني تنوُّع الثقافة بوجه من الوجوه.
إن نظرة إمعان بسيطة على شئون التعليم والثقافة في أرقى البلاد الديمقراطية تكفي لإظهار هذه الحقائق إلى العيان بكل وضوح وجلاء؛ فمن المعلوم أن إنجلترا تسير في شئون التعليم على نظام اللامركزية الواسعة؛ ولذلك تفتح أمام أطفالها وشُبَّانها أنواعًا كثيرةً من معاهد التعليم، وألوانًا شتى من مناهج الدراسة. ومع هذا لا يستطيع أحد أن يدَّعيَ بناءً على هذه الحالة أن الإنجليز محرومون من وحدة الثقافة، ولا يستطيع أحد أن يُنكر أن للإنجليز ثقافةً موحدةً على الرغم من تنوُّع المعاهد العلمية والتعليمية التي تتولى أمر تكوين هذه الثقافة ونشرها.
ونستطيع أن نؤكد أن «توحيد الثقافة» لدى أُمَّة من الأمم لا يعني حمْل الناس على تعلُّم أشياء متماثلة تمام التماثل، أو تعويدهم التفكير على نمط واحد في كل الأمور؛ بل إنما يعني تنسيق أفكار الناس وعواطفهم تنسيقًا يؤدي إلى توليد «وحدة معنوية سامية»، مثل الوحدة الموسيقية التي تتكون من توافق وتلاحق عشرات الأصوات والأنغام الصادرة من عشرات الآلات المتنوعة والحناجر المختلفة. فمن المعلوم أن الأجواق الموسيقية تتألف عادةً من عدد كبير أو صغير من المغنِّين والعازفين المزوَّدين بالآلات المتنوعة، وأن كثرة العناصر المكونة للجوقة وتنوُّعها لا تحُول دون «العزف الموحد المنسق»، الذي تنشده النفوس؛ بل إنها بعكس ذلك تساعد على تكوين «الوحدة المركَّبة الراقية» التي تُكسِب الموسيقى سموًّا وجلالًا.
إن وحدة الثقافة التي يجب أن نصبوَ إليها وأن نسعى لتحقيقها، هي هذا اللون من «الوحدة المركَّبة العالية»، التي تتولَّد من تمازج الكثير من الأمور المختلفة المتنوعة، لا «الوحدة البسيطة» العادية التي تكون فقيرة العناصر وضئيلة القيمة بوجه عام.
يظهر من هذا بكل وضوح أن الذين يعارضون فكرة «توحيد الثقافة»، ويقولون بوجوب «تنويع الثقافة» — زاعمين أن الوحدة مضرة بتقدُّم الثقافة — إنما يفعلون ذلك لأنهم لم يلاحظوا ملاحظةً دقيقةً ما يُقصد من كلمة «الثقافة» بوجه عام، ومن تعبير «وحدة الثقافة» بوجه خاص.
وأما فيما يختص بالتعليم والتدريس، فإني أعتقد أن الذين يقولون بوجوب توحيد مناهج الدراسة على الإطلاق، والذين يقولون بوجوب تنويع هذه المناهج دون قيد وشرط، يتساوون في الانحراف عن طريق الصواب؛ إذ يجب علينا أولًا أن نميِّز في المناهج بين ما يتعلق بالمفردات والتفرعات، وما يتعلق بالأسس والاتجاهات، وأن نبحث أمر التوحيد أو التنويع في كل منها على حدة. ويجب أن نعلم جيدًا أن تنويع الدراسة من حيث المفردات والتفرعات، لا يمنع توحيدها من حيث الأسس والاتجاهات.
إن الذين يقولون بوجوب تنويع مناهج الدراسة يشرحون رأيهم في هذا المضمار بقولهم: «لا يجوز أن تجريَ الدراسة في القاهرة مثلًا كما تجري في دمشق وبيروت وبغداد.» وإني أُسلِّم بصحة ملاحظة هؤلاء، غير أني أذهب في هذا السبيل إلى مدًى أبعد من ذلك بكثير، فأقول؛ إن الدروس يجب أن تختلف ليس من قُطْر إلى قطر فحسب، بل من إقليم إلى إقليم، ومن مدينة إلى مدينة، داخل القطر الواحد أيضًا؛ لأن الدراسة — لا سيما في المدارس الابتدائية — يجب أن تستند بوجه عام إلى ملاحظات الأطفال ومشاهداتهم المباشرة، وجميع الدروس — من المطالعة والإنشاء، إلى الحساب والجغرافيا والأشياء — يجب أن تبدأ بملاحظة ما هو مُشاهَد ومألوف في البيئة التي يعيش فيها الطلاب، ويجب أن تستمد قوةً من ملاحظة البيئة المحلية على الدوام. فنستطيع أن نقول لذلك: إن الدراسة يجب أن تختلف اختلافًا بيِّنًا باختلاف البيئات، ويجب أن تتنوع تنوُّعًا كبيرًا من حيث المفردات.
ومع كل ذلك يجب علينا أن نلاحظ أن هذه المفردات لم تكن مقصودةً بالذات، بل هي واسطة للوصول إلى بعض الغايات، كما يجب علينا أن نلاحظ أن تنويع الدروس من حيث المفردات والتفرعات، لا يتنافى مع توحيدها من حيث الأسس والغايات. فيترتب على رجال التربية والتعليم أن يضعوا الخطط الكافلة لتحقيق هذه الوحدة وذلك التنوع في وقت واحد.
ولتوضيح رأيي في هذه القضية الهامة، أكرر هنا ما كتبته قبل عدة سنوات عن الدروس الجغرافية في مختلِف الأقطار العربية؛ فلنفرض أننا وضعنا قاعدةً عامة، وقررنا خطةً أساسيةً لتنظيم هذه الدروس وتوجيهها، فقلنا: «البدء من المحيط الذي يعيش فيه الطالب، وبتعبير آخر من المدينة أو القرية التي تقوم فيها المدرسة، ودرس ما يشاهد فيها وحولها من الظواهر الأرضية، والأحوال الجوية، والأعمال البشرية، والحركات الاقتصادية، ثم الانتقال بالتدريج إلى القرى والمدن المجاورة، ثم إلى مركز الوحدة الإدارية، ثم إلى عاصمة القطر، وبعد درْس القطر الانتقال إلى الأقطار العربية الأخرى، ثم إلى البلاد المجاورة، فالقارات الكبيرة حسب علاقاتها الاقتصادية وأهميتها العالمية.» فإنه من البديهي أن هذه القاعدة العامة تفرض على معلِّم القاهرة أن يسير في دروسه على خطة تختلف لا عن الخطة التي يسير عليها معلِّم دمشق أو بيروت أو بغداد فحسب، بل معلِّم حلوان ودمنهور وأسوان أيضًا. كما أنها تفرض على معلِّم دمشق أن يسلك في دروسه مسلكًا يختلف عن مسالك معلِّمي بيروت وبغداد ودوما وبلودان. بهذه الصورة تتكيف الدروس بمقتضيات المحيط والبيئة على الدوام، وتأخذ أشكالًا متنوعةً جدًّا، من غير أن تخرج عن نطاق الخطة العامة المرسومة، ومن غير أن تُخالف القاعدة العامة الموضوعة للدروس الجغرافية.
إن الوحدة التي نريد تحقيقها في مناهج التعليم بين مختلِف الأقطار العربية هي هذا النوع من الوحدة الذي يتناول الأُسس ويقر الاتجاهات، من غير أن يتدخل في التفرعات، ومن غير أن يقضيَ على التنوعات.
وأنا لا أشُك في أن ذلك سيتحقق بصورة تدريجية كلما توطدت العلاقات الثقافية بين مختلِف الأقطار العربية، وكلما تخلصت مدارسها من خططها التقليدية واستنارت بأنوار العلم الصحيح والتربية السليمة.
لاحقة٢
كثيرًا ما لاحظت أن البعض يفهمون المقصود من «الوحدة الثقافية» على غير وجهه الصحيح، والبعض يستغلون هذا الفهم السيئ لمعارضة الفكرة معارضةً صريحة.
يقول هؤلاء: «إن الأقطار العربية يختلف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا، من حيث الطبيعة والمناخ والأخلاق والعوائد من جهة، ومن حيث المستوى العلمي والاجتماعي من جهة أخرى؛ فلا يمكن توحيد الثقافة بينها. زد على ذلك أن محاولة توجيه الثقافة بين هذه الأقطار المختلفة تعني القضاء على خصوصيات كل واحد منها، وتؤدي إلى ارتداد ثقافة الأقطار الراقية إلى دركة ثقافة الأقطار المتأخرة، وفي ذلك ما فيه من الأضرار الفادحة التي يجب تفاديها.»
إني أُشبِّه أقوال هؤلاء بمُدَّعيات من يقول: «إن العظام تختلف عن الأعصاب كثيرًا، واللحم لا يشبه الدم أبدًا، والدماغ يختلف عن الأمعاء اختلافًا كُليًّا. فهل يمكن تكوين وحدة من هذه الأشياء التي يختلف بعضها عن بعض كل هذا الاختلاف؟ وإذا طلبنا توحيد هذه الأشياء المتخالفة، ألا نكون قد طلبنا إزالة الفوارق القائمة بينها، وحاولنا إرجاع الدماغ إلى دركة الأمعاء، والدم إلى دركة الشحم؟»
من البديهي أن أمثال هذه المُدَّعيات لا يمكن أن تُقابَل بغير السخرية والاستهزاء؛ لأن بدن الإنسان دليل على سخافة هذه الملاحظات، والوحدة المثالية التي تتجلَّى في هذا البدن تدل دلالةً قاطعةً على إمكان تكوين وحدة من أشياء متنوعة.
إن الوحدة الثقافية التي نتوق إلى تكوينها في الأقطار العربية لا تختلف كثيرًا عن الوحدة الحياتية التي نشاهدها فعلًا بين أعضاء البدن.
لو قال قائل: «إن الطبل يختلف عن البوق، والمزمار لا يشبه الكمان، والكمان يختلف عن البيان اختلافًا كبيرًا؛ فكيف يمكن تكوين وحدة من هذه الآلات المختلفة؟» لا شك في أن كل الناس يهزءون به ويشفقون عليه.
إني أعتقد أن الذين يعترضون على فكرة توحيد الثقافة، مستندين إلى اختلاف الأقطار العربية، بحجة وجوب المحافظة على خصوصيات هذه الأقطار، لا يكونون أكثر سلامةً في تفكيرهم، وأشد إصابةً في مُدَّعاهم من مثل هذا الشخص المفروض الذي لا يرى إمكانًا لتوحيد الآلات الموسيقية، بحجة اختلاف أشكالها وأصواتها اختلافًا كبيرًا.
إن الوحدة الثقافية التي نطلبها لا تختلف عن وحدة الألحان التي يطالب بها هواة الطرب وعشاق الموسيقى.
ومن المعلوم أن الموسيقى الغربية تمتاز عن الموسيقى الشرقية — في جملة ما تمتاز به عنها — بتنوُّع الآلات التي تشترك فيها، وكثرة الأنغام التي تترافق وتتمازج خلال عزفها وترتيلها. إن كثرة العناصر المكونة وتنوُّعها لا تَحُول دون تكوين الوحدة الموسيقية المنشودة، بل إنما تساعد على تكوين وحدة مركَّبة تُكسِب الموسيقى سموًّا وجلالًا.
إن الثقافة المُوحدة التي نصبو إليها لا تعني إزالة الفوارق الفكرية من بين الناس. إننا لا نحاول إزالة أمثال هذه الفوارق من بين الأفراد، فضلًا عن الجماعات، إننا لا نطلب ذلك، ولا نقول بإمكان ذلك، ولا نرى لزومًا إلى ذلك. وجُل ما نرمي إليه في هذا الصدد هو الوصول إلى وحدة عضوية، وحدة تناسقية، مثل وحدة الحياة في البدن، ووحدة الأنغام في الأوركسترا، ولا نعني بذلك قط إفراغ جميع العقول وجميع النفوس في قالب واحد كما يتوهم أو يوهم ذلك البعض.