التعاون الثقافي بين الأمم المتحدة (اليونسكو)١
يونسكو
كلمة جديدة استُحدثت لتسمية مؤسسة جديدة. إنها جديدة بكل معنى الجدَّة؛ ليس لها أي أصل وأي جذر في أية لغة من لغات العالم، فقد تكونت على طريقة خاصة من النحت والاختزال، على أساس وصْل الحروف الأولى من الكلمات الست التي تدل على اسم المؤسسة الأصلي، حسب ترتيبها في اللغة الإنجليزية:
والمؤسسة التي سُمِّيت بهذا الاسم أيضًا جديدة؛ لأنها لم تُتم بعدُ السنةَ الثالثة من عمرها، ولكنها لم تكن جديدةً بكل معنى الكلمة؛ لأنها قامت في حقيقة الأمر مقام مؤسسة قديمة، كانت أُنشئت عقب الحرب العالمية الأولى، وعاشت إلى حين اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية.
ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إنها وريثة تلك المؤسسة القديمة وخليفتها الطبيعية.
فيجدُر بنا أن نتساءل؛ بماذا تمتاز المؤسسة الجديدة عن القديمة؟ ما هي أوجُه الخلاف بينهما؟ وهل يدل «تحوُّل» المؤسسة من شكلها القديم إلى الجديد على «تطور ارتقائي»، أم يدل على «تطور ارتجاعي»؟
للإجابة عن هذه الأسئلة إجابةً صحيحة، يجب علينا أولًا أن نُلقيَ نظرةً عَجْلَى على تاريخ المؤسسة القديمة، وأن نستعرض استعراضًا سريعًا أهم الأعمال التي قامت بها بين الحربين العالميتين الأخيرتين.
١
والمعهد المذكور بدوره أنشأ عدة شُعَب ودوائر، كان من جملتها؛ شعبة العلاقات الجامعية، شعبة العلاقات العلمية، شعبة العلاقات الأدبية، شعبة العلاقات الفنية، ومركز الاستعلامات المدرسية، ومكتب المتاحف الأممي.
- أولًا: تهيئة الوسائل التي تئول إلى تقدُّم العلوم وصيانة القِيم الفكرية.
- ثانيًا: تنمية روح التفاهم المتقابل، وتقوية النية الحسنة بين الأمم.
وقد اشتغلت مؤسسات «التعاون الفكري» الآنفة الذِّكر لتحقيق هاتين الغايتين حتى الحرب العالمية الثانية بوسائل متنوعة؛ عقدت سلسلةً طويلةً من المؤتمرات، دعت كبار رجال الفكر والأدب إلى الاجتماع من وقت إلى آخر في مختلِف المدن «للمناقشة والمطارحة» في أهم المسائل الفكرية، وقامت بعدة أبحاث وتحقيقات واسعة النطاق حول بعض الأمور التي تهم جميع الأمم على حدٍّ سواء، ووضعت مشاريع عديدةً لتأمين التعاون الفكري بواسطة المعاهدات، ونشرت كثيرًا من الكُتب والمجلات لتدوين نتائج هذه الأبحاث والمناقشات، وإذاعتها على الناس.
وأما أهم هذه النشرات فكانت؛ مجلةً شهريةً تُعنى بشئون التربية والتعليم، وأخرى تبحث في شئون المتاحف بوجه عام.
سلسلة مطارحات في مستقبل الثقافة، وفي مستقبل الفكر الأوروبي، وفي تكوين الرجل العصري، وفي علاقة الفن بالحقيقة وبالدولة، وفي الإنسانيات الجديدة والإنسانيات القديمة.
سلسلة أبحاث وتحقيقات في حقوق المِلكية الأدبية، وأنظمة إبداع المطبوعات، ومهمة المكتبات الشعبية في الحياة الفكرية والاجتماعية، مهمة السينما وخدمتها للتربية والتعليم، مهمة الإذاعة وتأثيرها في الحياة العامة، مهمة الصحافة، الكتب المدرسية، من وِجهة تأثيرها في تفاهم الشعوب.
وقد اهتمت مؤسسة «التعاون الفكري» بجميع القضايا المتعلقة بالمعاهدات الثقافية اهتمامًا كبيرًا؛ فهيَّأت مشروع «التصريح الدولي» المتعلق بتنقية الكتب المدرسية من الأبحاث والعبارات التي تثير الضغائن وتحُول دون استقرار السلم وتفاهم الشعوب، كما أنها جمعت ونشرت جميع «المعاهدات والاتفاقات الثقافية» المعقودة بين الدول المختلفة حتى سنة ١٩٣٨م. وفي الأخير، وضعت مشروع الاتفاقية الذي تضمَّن صيانة المتاحف والمباني الأثرية من ويلات الحروب والغارات الجوية.
ولكن الرجال الذين كانوا أخذوا على عواتقهم إنجاز هذه الأعمال الهامة لاحظوا أن بقاء هذه المؤسسة مرتبطةً بعصبة الأمم لا يخلو من محاذير كبيرة؛ لأن هذا الارتباط يجعلها تابعةً إلى «هيئة سياسية»، ويُعرِّضها إلى تأثير «التقلبات السياسية»؛ فيحُول دون تنظيم وتسيير أمورها وفق ما تقتضيه مبادئ «التعاون الفكري الأممي» السامية، بمعانيها الحقيقية وأصولها العلمية.
فأخذ هؤلاء يدعون إلى فصل مؤسسة التعاون الفكري من عصبة الأمم، وجعْلها مستقلةً عنها، وغير متأثرة بالسياسة التي تتبعها.
فقد أثمرت هذه المساعي الثمرات المطلوبة منها، وأقر المؤتمر الذي انعقد في باريس خلال الشهر الأخير من سنة ١٩٣٨م مشروع «الاتفاق الدولي» الذي وُضِعَ لهذا الغرض.
وقد صرَّحت المادة الأولى من هذا الاتفاق الدولي «أن الدول المتعاقدة تقر أن عمل التعاون الفكري مستقل عن السياسة».
وعيَّنت مواده التالية كيفية مساهمة الدول في هذا التعاون الفكري.
وصرَّحت موادُّه الأخيرة أن الاتفاق المذكور سيُترَك معروضًا إلى توقيع الدول الممثَّلة في المؤتمر حتى ٣٠ نيسان (أبريل) سنة ١٩٣٩م، وإلى انضمام سائر الدول اعتبارًا من أول أيار (مايو) ١٩٣٩م، وأنه سيصبح نافذ المفعول حالما يبلغ عدد الدول الموقِّعة عليه أو المنضمة إليه الثمانية.
ولا حاجة إلى البيان أن كل ذلك جاء متأخرًا؛ لأن الأزمات السياسية الحادة التي أدت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية كانت قد بدأت فعلًا قبل الموعد المذكور، وهذه الحرب عطَّلت بطبيعة الحال أعمال «التعاون الفكري»، و«عصبة الأمم» في وقت واحد.
وقد تأثرت مؤسسة التعاون الفكري من الحرب العالمية تأثرًا شديدًا جدًّا؛ لأن مركزها كان في باريس، ومن المعلوم أن باريس كانت أشد المدن تعرُّضًا إلى التقلبات السياسية والعسكرية طوال سِني الحرب المذكورة.
٢
وأما «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة» — وبتعبير أقصر؛ مؤسسة اليونسكو — فقد تكوَّنت بعد الحرب العالمية الثانية بناءً على قرار هيئة الأمم المتحدة، بموجب اتفاقية دولية وُضِعت في أواخر سنة ١٩٤٥م (١٦ تشرين الثاني (نوفمبر)).
والغرض من إنشاء هذه المنظمة مذكور بصراحة تامة؛ أولًا في ديباجة الاتفاقية، وثانيًا في المادة الأولى منها.
وقد جاء في مستهل الديباجة ما يلي: «من حيث إن الحروب تبدأ في عقول الناس، وجب أن تُوضع أُسس الدفاع عن السلام في هذه العقول.»
وجاء في خاتمة الديباجة: إن الدول المتعاقدة تقصد من تأسيس منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «تقوية أسباب السلم العالمي، وتعزيز الرفاهية العامة بين جميع بني الإنسان، عن طريق التعاون الثقافي والعلمي والتربوي بين شعوب الدنيا قاطبة، وهو الغرض الأسمى الذي من أجله أُنشئت هيئة الأمم المتحدة، والذي نادى به ميثاق هذه الهيئة.»
كما جاء في مستهل المادة الأولى من الاتفاقية: «إن الغرض من تأسيس المنظمة هو خدمة السلام والأمن، بتقوية تعاون الشعوب عن طريق التربية والعلوم والثقافة.»
يُلاحَظ من كل ذلك أن هذه المنظمة نشأت في ظروف مشابهة لظروف نشأة «لجنة التعاون الفكري» كل المشابهة، ولأغراض مماثلة لأغراض تلك اللجنة كل المماثلة؛ ولهذا السبب فقد اعتبرت نفسها بمثابة «الوريثة الشرعية» لها، فطالبت بميراثها من كُتُب وأوراق وإضبارات وأموال، ومع هذا أعلنت أنها مختلفة عنها، وأوسع منهاجًا منها.
ولا شك في أن هذه المنظمة الجديدة تختلف عن المؤسسة القديمة من وجوه عديدة؛ أنها نشأت أشد طموحًا وأوسع ثروة منها، ووضعت لنفسها خطةً أكثر عمليةً وأقل مثاليةً من خطط سالفتها؛ لأنها بدأت بالعمل لمساعدة البلاد المخرَّبة مساعدةً ماديةً في ساحات العلم والتعليم؛ فاستطاعت لذلك أن تحصل على ميزانية أضخم بكثير من الميزانية التي كانت توصلت إليها مؤسسة التعاون الفكري القديمة بين الحربين العالميتين.
غير أن هذه المنظمة الجديدة لم تستفد من تجربة المؤسسة السابقة وخبرتها في الشئون السياسية؛ فلم تحاول الاستقلال عن الهيئات السياسية كما فعلت تلك المؤسسة في أواخر عهدها، بعد التجارب الطويلة التي مرت عليها.
فنشأت منظمة اليونسكو مرتبطةً بهيئة الأمم المتحدة، ومقيَّدة بقيود سياسية عديدة.
في الواقع إنها تدَّعي «البُعد عن السياسة»، غير أن نظامها الأساسي لا يؤيد مُدَّعاها هذا؛ لأن المادة الثانية من هذا النظام تُصرِّح بأن «عضوية هيئة الأمم المتحدة تستتبع ضمنًا حق العضوية في منظمة التربية والعلوم والثقافة.» في الواقع إنها لا تمنع انضمام «الدول غير المشتركة في هيئة الأمم» إلى عضوية هذه المنظمة، غير أنها تشترط لذلك «مراعاة أحكام الاتفاق الذي يتم بين المنظمة وبين هيئة الأمم المتحدة في هذا الشأن». والاتفاق الذي تم فعلًا بين الهيئتين يقضي بإحالة أمثال هذه القضايا إلى «المجلس الاقتصادي والاجتماعي» المتفرع من هيئة الأمم المتحدة، ويُعلق القَبول في عضوية اليونسكو على موافقة المجلس المذكور.
في الواقع إن مديري اليونسكو يُصرِّحون بأن تقرير «مبدأ الرجوع في هذه القضايا إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي عوضًا عن الهيئة العامة للأمم المتحدة»، كان من جملة التدابير التي اتُّخذت لتخليص اليونسكو من التأثيرات السياسية، غير أن العلاقات القوية التي تربط الشئون الاقتصادية بالأغراض السياسية، تجعل هذا التدبير واهيًا جدًّا.
زد على ذلك أن الفقرة الأخيرة من المادة المذكورة تنص على ما يلي: «إذا قررت هيئة الأمم المتحدة إسقاط إحدى الدول من عضويتها، تفقد الدولة المذكورة عضويتها في اليونسكو أيضًا على الفور وبدون إجراءات.»
إن كل ذلك يجعل مؤسسة اليونسكو تابعةً لهيئة سياسية، وخاضعةً لرغبات تلك الهيئة ومقرراتها.
ولا أراني في حاجة إلى البرهنة على أن «هذه المنظمة العلمية والثقافية»، التي لا تستطيع — بحكم نظامها الأساسي — أن تضم إليها بعض الدول إلا بعد أخذ موافقة هيئة أخرى تابعة إلى منظمات ذات أغراض سياسية صريحة، والتي تُضطر إلى فصل البعض من أعضائها لأسباب لا تمتُّ بصلةٍ ما إلى الشئون العلمية والثقافية، بل لمجرَّد صدور قرار من هيئة سياسية بحتة لأسباب سياسية صِرْفة. إن هذه المنظمة لا تستطيع أن تدَّعيَ لنفسها صفة «العلمية والأممية» الحقيقة، إنها تصطبغ بصبغة سياسية لا يمكنها أن تتجرد منها مهما حاولت سترها تحت تعبيرات خلابة؛ مثل «الحياد العلمي، والنزوع العالمي، والعمل الإنساني».
ولذلك أنا لا أتردد في القول بأن النظام الذي أنشأ مؤسسة اليونسكو الجديدة يدل على «رجوع إلى الوراء»، بالنسبة إلى المرحلة التي كانت وصلت إليها مؤسسة التعاون الفكري القديمة، قُبيل الحرب العالمية الأخيرة.
هذا وإذا تركنا دلالة النظام الأساسي جانبًا، واستنطقنا المشاريع التي وضعتها، والاتجاهات التي أظهرتها منظمة اليونسكو منذ تأسيسها؛ توصَّلنا إلى نتائج مماثلة للنتيجة الآنفة الذكر من وجوه عديدة.
- (أ)
تُصرِّح التقارير الصادرة من بعض اللجان في اليونسكو «أن هذه المؤسسة جزء متمم لهيئة الأمم المتحدة، وأن نجاحها يتوقف على نجاح تلك الهيئة.»
في حين أن الأمر كان يجب أن يكون على عكس ذلك تمامًا؛ كان يجب على اليونسكو أن تعمل للمستقبل، فلا تربط مقدَّراتها بمقدَّرات هيئة سياسية مثل هيئة الأمم المتحدة الحالية؛ لأن هذه الهيئة السياسية محكومة بطبيعتها لأن تكون مسرحًا تتنافس وتتخاصم وتتقاتل عليه الأطماع الدولية بشتى الصور، وتتوالى عليه مشاهد المخادعات السياسية بأبشع الأشكال، وتختنق خلالها أصوات الحق والحقيقة بأفظع الأساليب.
فكان على الهيئة التي تأخذ على عاتقها مهمة «خدمة السلام عن طريق التربية والعلم والثقافة»، أن تُقدِّر هذه الحقيقة حق قدرها، وأن تتباعد عن هذا المسرح السياسي كل الابتعاد.
- (ب)
تسعى هذه المؤسسة العالمية إلى تأسيس مراكز إقليمية عديدة قائمة على الاعتبارات الجغرافية، وذلك علاوةً على «الشُّعَب القومية» التي يجب أن تتأسس في كل دولة من الدول المشتركة في المؤسسة.
واللجنة التحضيرية المكلفة بوضع الخطط اللازمة لتكوين هذه المراكز الإقليمية، تقدمت بوصايا واقتراحات عديدة، كان من جملتها؛ أن يجتمع «مكتب اليونسكو الإقليمي» في بناية واحدة، أو في مجموعة بنايات متقاربة مع سائر المكاتب والمراكز والهيئات التي تنبثق من هيئة الأمم المتحدة في ذلك الإقليم؛ وذلك لضمان اتصال مكتب اليونسكو بتلك المكاتب والهيئات اتصالًا مستمرًّا. وقد ذكرت اللجنة بين الفوائد المتوخاة من هذا الاتصال «أنه يساعد على توليد وتكوين وضْع مشترك تجاه المسائل الثقافية والاقتصادية والسياسية.»
يظهر من ذلك بكل وضوح أن محافل اليونسكو تحبِّذ مزْج وخلْط هذه المسائل بعضها ببعض، ولا تُقدِّر أنَّ «التعاون الفكري والثقافي الحقيقي» بين الأمم — خدمةً للأغراض السامية المدونة في نظام اليونسكو — مما لا يمكن أن يتحقق إلا بفصل الأمور الثقافية عن الأغراض السياسية فصلًا تامًّا.
- (جـ)
يوجد بين المشاريع التي أولتها مؤسسة اليونسكو اهتمامًا كبيرًا مشروع لا يخلو من الغرابة بالنسبة إلى أغراضها الأساسية؛ وهو «تأليف وطبع مجموعة من المختارات الأدبية عن ضروب الآلام التي قاستها بعض البلاد خلال احتلال دول المحور لها، وعن جهود المقاومة التي بُذِلت ونُظِّمت في تلك البلاد للتخلص من ذلك الاحتلال.»
تجاه الاهتمام البالغ الذي تُظهره «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة» لهذا المشروع، لا يسعني إلا أن أسأل بكل صراحة وبكل إخلاص:
هل إن تأليف ونشر مثل هذه المجموعة الأدبية مما يدخل في نطاق الأمور التي يجب أن تساهم فيها، وتتعاون عليها جميع الدول والأمم المنتسبة إلى هذه المنظمة العلمية؟
ثم، ألا يوجد شيء من التناقض بين رعاية هذا المشروع، وبين «خدمة السلام عن طريق التربية والعلم والثقافة»، كما يتطلبها نظام اليونسكو بعبارات صريحة؟
أفلا يتنافى ذلك مع ما توصي به هذه المنظمة في عدة مناسبات، من «السعي وراء إزالة الخصومات من النفوس، ووضع أُسس السلام في العقول»؟
وأما إذا قيل لي ردًّا على هذه الأسئلة: «ربما ذهب رجال اليونسكو إلى أن تحقيق هذا المشروع يساعد على توطيد السلام؛ لأنه يستهدف في نهاية الأمر التحذير من الاعتداء والتشجيع على مقاومة الاعتداء.» فأنا أقول في هذه الحالة: إذا كانوا يعتقدون ذلك حقًّا، لماذا يحصرون المشروع داخل نطاق مظالم دول المحور وحدها، ومناقب ضحايا المحور وحدهم؟ أفلا يعلمون أن الشعوب المظلومة والمضطهدة ليست عبارةً عن تلك التي نُكبت باعتداء المحور خلال الحرب العالمية الأخيرة؟ أو يجهلون أن هناك شعوبًا أخرى قاست، ولا تزال تقاسي شتى الآلام وأنواع الشقاء، من جرَّاء أطماع بعض الدول المؤسِّسة لهيئة الأمم المتحدة نفسها، والداخلة في اليونسكو نفسها؟ لماذا لا تسلك «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» مسلكًا واحدًا تجاه هذه وتلك؟
إن كل هذه الملاحظات تدل دلالةً قاطعةً على أن هذا المشروع الذي حَظِيَ باهتمام اليونسكو بشكله المعلوم، لم يكن وليد «تفكير علمي ونزعة عالمية»؛ بل هو محصول مطالبات جماعة بعيدة عن ذلك التفكير وعن تلك النزعة، ومدفوعة بدوافع سياسية واضحة.
أنا لا أرى لزومًا لإطالة البحث وتكثير الأمثلة في هذا المضمار.
وأختم كلامي بدعوة مديري اليونسكو إلى التدبُّر في أمثال هذه الأمور، والتبصُّر في عواقب هذه الاتجاهات، والسعي وراء تبعيد أعمال التربية والعلم والثقافة عن نطاق تأثير الأطماع والمخادعات السياسية.
وإلا، فلن أتردَّد في القول بأن منزلة اليونسكو لن تعلو كثيرًا منزلة الكثير من الجماعات شِبْه العلمية، التي ترعرعت تحت رعاية وزارات المستعمرات أو وزارات الخارجية.
لاحقة٢
١
قابل مندوبُ الجريدة الأستاذ «أبو خلدون» ساطع الحصري، ووجَّه إليه السؤال التالي:
لقد بلَغَنا أنكم نشرتم في مصر مقالةً عن مؤتمر الأونسكو، حملتم فيها عليه حملةً شديدة، فهل لكم أن تُوضِّحوا لنا وجوه انتقادكم له، وأسباب حملتكم عليه؟
ولبَّى الأستاذ طلب المندوب قائلًا: إن ما بلغكم في هذا المضمار صحيح من جهة، وغير صحيح من جهة أخرى؛ صحيح أني نشرت مقالةً «حول الأونسكو» قبل نحو أربعة أشهُر في مجلة الثقافة التي تصدر في القاهرة، غير أنني لم آتِ فيها على ذِكْر المؤتمر الذي ستعقده المنظمة المذكورة هذه السنة؛ لأنني انتقدت المنظمة نفسها، وأظهرت الخميرة الرديئة التي اندسَّت في نظامها الأساسي، والخطأ العظيم الذي سيطر على تشكيلاتها العامة. وأخذت على الأونسكو بوجه خاص، ارتباطها بهيئة سياسية بحتة، هي هيئة الأمم المتحدة. وأشرت إلى الأخطار التي ستنجم عن هذا الارتباط، ودعمت انتقاداتي هذه بذكر البعض من مقرراتها وأعمالها.
- أولًا: لقد لاحظت أن عددًا غير قليل من الشبان والمثقفين انخدعوا كثيرًا بما سمعوه وقرءوه عن الأونسكو، وتوهَّموا بأنها مؤسسة جديدة تمامًا، ستفتح عهدًا جديدًا في تاريخ الحضارة، وستُوجِد انقلابًا عظيمًا في حياة الإنسانية. فرأيت من واجبي أن أضع حدًّا لهذه الأوهام، وأرفع الغشاوة عن أبصار هؤلاء الشبان؛ لأُبيِّن لهم أن هذه المؤسسة ليست الأولى من نوعها، كما أنها لم تكن أحسن نظامًا، ولا أنقى خميرة، ولا أسمى هدفًا من سابقاتها. ولأحذِّرهم من الانخداع بالكلمات الخلَّابة التي تسرف حولها، ومن الاسترسال في التفاءُل بها والاعتماد عليها.
- ثانيًا: لقد لاحظت أن الغايات المذكورة في نظام الأونسكو في واد، والخطط المرسومة لها في النظام نفسه في وادٍ آخر. فإذا كانت الأهداف المعيَّنة لهذه المؤسسة سامية حقيقة، فإن الخطط المرسومة لها تجعلها تابعةً لهيئة سياسية، وتبعدها عن تلك الأهداف السامية بصورة طبيعية. وأنا أعرف أن رجال السياسة يُظهرون براعةً فائقةً ومهارةً خارقةً في «ستر الحقائق»، كما كنت شرحت ذلك في مقالة خاصة،٣ ولم أشك في أنهم لن يتأخروا عن السعي وراء جعْل هذه المؤسسة وسيلةً لستر مطامح الدول الكبرى بالتعبيرات الإنسانية الخلَّابة، والدعايات العالمية الخدَّاعة. وقلت في نفسي: إذا كان بعض العلماء والمفكرين يخدمون الأونسكو مع علمهم بدوافعها السياسية — ولربما لعلمهم بتلك الدوافع — فلا شك في أنه يوجد بين العلماء والمفكرين عدد كبير ممن ينخدعون بتلك الكلمات الخلَّابة، ويضعون عِلْمهم تحت تصرُّف هذه المؤسسة عن غفلة وبحُسْن نية. فأردت لذلك أن ألفت أنظار هؤلاء إلى المنحدر الذي تتجه إليه الأونسكو بنظامها الحالي وتشكيلاتها الحاضرة، وأن أدعوهم إلى العمل لتخليصها من تأثير الاتجاهات السياسية، إذا أرادوا لها النجاح في تحقيق تلك الغايات السامية.
إني كتبت ما كتبته حول الأونسكو لهذين الغرضين الأساسيين، والتزمت في تلك الكتابة غاية الاعتدال؛ لأنني لم أشأ أن أشير فيها إلى شيء غير «المآخذ الأساسية» التي تُظهِر للعيان «المنحدر الخطير» الذي ذكرته آنفًا، وأحجمت عن ذِكْر الكثير من الأمور التي أنتقد الأونسكو عليها أشد الانتقاد.
ويؤلمني أن أقول لكم الآن: إني كلما تتبعت أعمال الأونسكو؛ ازددت يقينًا بخطر المنحدر الذي تنزلق إليه هذه المؤسسة يومًا عن يوم؛ لأنني لاحظت بأنها لا تبذل جهدًا جديًّا للتخلص من سيطرة السياسة؛ فتزداد تباعدًا عن مناحي الاتجاهات العلمية الحقيقية، والنزعات السلمية الخالصة.
فهل تريدون مني أن أذكر لكم بعض الدلائل والأمثلة؟ هاكم مثالًا من الأمثلة التي اطلعت عليها في الأيام الأخيرة.
لقد نشرت إحدى الجرائد الصادرة في بيروت باللغة الفرنسية قبل مدة وجيزة، بعض الفقرات المقتبسة من المحضر الرسمي لإحدى الجلسات التي عقدتها اللجنة التنفيذية للأونسكو، خلال اجتماعها الأخير في باريس.
فقد اقترح العضو الأمريكي في اللجنة المذكورة الدكتور استودارت دعوة حكومة إسرائيل (وهذا تعبير العضو نفسه)، إلى المؤتمر الذي سيُعقد في بيروت قائلًا:
«إن دعوة حكومة إسرائيل المجاورة للبنان لحضور المؤتمر تكون بادرة حياد ودية.»
وأما المدير العام جوليان هكسلي فلم يستحسن قبول «دولة إسرائيل» كمراقبة رسمية، ومع ذلك قال إنه يمكن أن تكون «مدعوَّة شرف».
يظهر من ذلك أن العضو الأمريكي والمدير العام الإنجليزي قد اتفقا في تلك الجلسة على تسمية «الهيئة الصهيونية» المجتمعة في تل أبيب باسم «دولة إسرائيل»، كما اتفقا على وجوب قَبولها إلى مؤتمر الأونسكو الذي سيُعقد في بيروت، وإنما اختلفا في قضية فرعية تافهة، هي قضية اللقب الذي يجب أن يُخلع على ممثلها؛ هل يجب أن يحضر الممثل المذكور هذا المؤتمر بصفة «مشاهد رسمي»، أم بصفة «مدعو الشرف»؟
وكل هذا يجري في مؤسسة تعلن على الدوام بأنها وُجِدت لخدمة العلم الخالص والسلام العام!
نعم إن العضو الأمريكي في اللجنة التنفيذية لهذه المؤسسة العلمية العالمية، يقترح قَبول إسرائيل إلى المؤتمر الذي ستعقده الأونسكو في بيروت!
تلك الهيئة التي اختارت لنفسها اسم «دولة إسرائيل» عقب الجنايات الفظيعة التي ارتكبتها على العجزة والأطفال في دير ياسين.
تلك الهيئة التي تحاول أن تثبِّت أركان كِيانها بشتى المظالم والتعديات الدامية.
تلك الهيئة التي شرَّدت مئات الآلاف من العرب عن ديارهم، وأبت أن تسمح لهم بالعودة إلى بلادهم وبلاد أجدادهم.
تلك الهيئة الغاشمة يجب أن تُقبل إلى مؤتمر الأونسكو الذي سيُعقد بلبنان؛ لأنها، جارة لبنان!
وعلى لبنان، الذي لا يزال يعاني الأمَرَّين في سبيل إعاشة عشرات الألوف من اللاجئين المشرَّدين، ومواساتهم في بؤسهم الأليم. على لبنان هذا أن يُرحِّب بممثل هذه الهيئة أمام أعين ضحاياها المساكين، بصفة «مدعو الشرف» من هذه المؤسسة العلمية العالمية، إن لم يكن بصفة «المراقب الرسمي» فيها!
هذه المؤسسة العلمية العالمية التي كانت قرَّرت فيما قررته من الأمور بالأمس القريب، تأليف كتاب يصف ويشرح مظالم النازية؛ تغض النظر اليوم عن مظالم الصهيونية، وتصم آذانها عن صراخ العرب المشرَّدين عن بلادهم من جرَّاء هذه المظالم، وتتكلم عن كيفية قَبول ممثل الصهيونية إلى المؤتمر القادم ليشرِّفه بحضوره الغالي، «بصفته مدعو الشرف» على الأقل.
أفتريدون مني بعد هذا كله أن أكون من المؤمنين برسالة الأونسكو، والمرتاحين لاتجاهاتها؟
أفتستغربون بعد كل ما شرحته لكم الآن إذا رأيتموني في حالة ارتياب شديد، من نجاح أعمال الأونسكو في سبيل التفاهم الدولي والسلام العام؟
ولكن مندوبنا انتهز هذه الفرصة وقابله بالسؤال الأخير التالي: أفلا تعتقدون مع ذلك يا أستاذ، بأن السلام يجب أن يسود بين الأمم، كما أن الأمن قد ساد بين الأفراد؟
وأجاب الأستاذ عن هذا السؤال بما يلي:
إن مسألة السلام مسألة عويصة لا أود أن أخوض غمارها الآن، ومع هذا أستطيع أن أقول على وجه الإيجاز: أنا لا أدَّعي استحالة ألوية السلام على الأرض في يوم من الأيام، غير أني أقول بلا تردُّد؛ إن ذلك لا يمكن أن يتم على يد المنظمات التي تنبثق عن هيئة الأمم المتحدة وما شاكلها من الهيئات السياسية، التي تكون ألعوبةً في أيدي الدول الكبيرة المتجبرة بطبيعة الحال.
وإذا قُدِّر للبشر أن يعيشوا في يوم من الأيام في طور سلم دائم وسلام عام، فإن ذلك لن يتيسر إلا بعد أن تنتشر فكرة «الحق والعدل» بين جميع الأمم، وأن تزول شهوة السيطرة ونزعة الاستعمار من نفوس الأمم القوية بوجه خاص. وهذا لا يمكن أن يتم إلا بعد أن ينقطع العلماء والمفكرون عن خدمة الساسة والمستعمرين، عن حُسْن نية أو سوء نية، وبعد أن يشعر هؤلاء المفكرون بضرورة القيام بدعايات عارية عن المآرب الخفيَّة، وموجهةً إلى شعوب الدول الكبيرة القوية، لا الدول الضعيفة المغلوبة على أمرها، بعد أن يُقدِم هؤلاء على تأليف الجمعيات العالمية الحقيقية، والتي تعمل بإيمان وإخلاص، مستقلةً عن الدول في ساحة العلم الصحيح والفكر الخالص.
٢
- (أ)
إن هذه المنظمة لم تكن الأولى من نوعها، ولا هي أحسن من سابقاتها، فلا يجوز لنا أن نُعلِّق عليها آمالًا كبارًا.
- (ب)
إن اليونسكو منظمة دولية وثيقة الارتباط بهيئة الأمم المتحدة؛ ولهذا السبب فإنها لا تخلو من صبغة سياسية، على الرغم من كلمات العلم والتربية الثقافية التي تزين اسمها. فيجب علينا ألا ننخدع بهذه الكلمات الرنانة، ولا نتغافل عن الأغراض السياسية التي قد تنطوي عليها أعمال المنظمة ونشراتها.
- (جـ)
إن اليونسكو هيئة وُجِدت لتنظيم شئون العلم والتربية والثقافة بين الأمم، وقد تكون معرضًا لهذه الشئون، ومجالًا للتداول والمناقشة فيها، غير أنها لم تكن قط منبعًا للعلم أو للتربية أو للثقافة؛ فلا يجوز لنا أن نتوهم أن الانتساب إلى هذه المؤسسة يفتح لنا أبواب العلم، ويفيض علينا بفيوض الثقافة، بل يجب علينا أن نعلم العلم اليقين أن للعلم والتربية والثقافة منابع أصليةً عديدة؛ هي المعاهد والجمعيات والمنظمات العلمية الحقيقية. فيجب علينا أن نغترف العلم والثقافة من هذه المنابع الأصلية، ونهتم بتلك الهيئات أكثر من اهتمامنا باليونسكو.
- (د)
إن منظمة اليونسكو تتكلم كثيرًا عن السلام العام، ولكنها لم تعمل شيئًا يخدم السلم خدمةً حقيقية. ولا أُغالي إذا قلت إنها بعيدة عن السبل التي قد تؤدي إلى ذلك بُعْدًا كبيرًا جدًّا، وربما كان من أقطع الأدلة على ذلك؛ أنها تعتمد كثيرًا في هذا المضمار على «تعليم أنظمة هيئة الأمم المتحدة ونشر أغراضها» في مختلِف بلاد العالم، وتزعم أن هذا التعليم من أفعل الوسائل لنشر فكرة السلام بين الأنام. في حين أن أعمال الهيئة المذكورة لا تدل على شيء غير استمرار مبدأ «غلبة القوة على الحق». فلا يجوز لنا أن ننخدع بالدعايات القائمة حول السلام العام، وأن نتقاعس عن استكمال وسائل الدفاع عن أنفسنا وعن حقوقنا، على ضوء الحقائق والوقائع الراهنة.
وأما أهم الأعمال الإيجابية التي يجب أن نقوم بها داخل اليونسكو؛ فهو نشر الحقائق التالية:
إن السلام يجب ألا يعني — كما هو الحال الآن — السلام بين الدول القوية والظافرة وحدها، بل يجب أن يشمل الأقوياء والضعفاء على حدٍّ سواء. والسلام الحقيقي لا يمكن أن يسود العالم إلا إذا زالت من النفوس شهوة السيطرة والاستعمار، وشاعت فيها فكرة «العدل الدولي» بمعناها الحقيقي. فإذا شاءت اليونسكو أن تخدم السلام العالمي فعلًا؛ فعليها أن تشن حربًا على فكرة السيطرة والاستعمار، وأن تتوسل بشتى الوسائل لنشر فكرة العدل بين الأمم. وإلا فلا مجال للشك في أن نتائج أعمالها في هذا السبيل لن تخرج عن نطاق تخدير أعصاب الأمم الضعيفة، وتسهيل سيطرة الأمم القوية عليها؛ وذلك يقوِّي مطامع الدول الاستعمارية، ويذكي نيران التنافس والتخاصم بينها، ويترك أبواب الحروب مفتوحةً على مصراعيها.