الثقافة العربية وثقافة الشرق الأدنى١
رسالة إلى جوليان هكسلي
عزيزي الدكتور جوليان هكسلي:
لقد فرغت حديثًا من مطالعة التقرير الذي قدَّمتموه إلى مؤتمر اليونسكو الأخير، بصفتكم مديرًا عامًّا للمؤسسة المذكورة، ولاحظت فيه — مع حيرة عظيمة ومرارة عميقة — بأنكم سمحتم لنفسكم بتوجيه اتهامات خطيرة جدًّا نحو جميع الذين لم يشاطروكم الرأي في أمر إحداث مركز إقليمي خاص بالشرق الأدنى والأوسط؛ فقد وصفتم موقف هؤلاء ﺑ «المحاولة المخاتلة»، وزعمتم بأن أعمالهم مستوحاة من «تعصب ديني وانعزالية ثقافية».
في الشرق الأوسط كنت برفقة الدكتور رعدي، الذي كان يقوم بمهمة المستشار لأجل مشروع إنشاء مكتب اتصال ثقافي خاص بالمنطقة المذكورة. وكلانا لاحظنا استعداد أهل البلاد المذكورة لتصوُّر وجود منطقة إقليمية واسعة — تشمل تركيا وإيران والأفغان، وكذلك بلاد الجامعة العربية — مضادًّا إلى القومية الثقافية الخاصة بكل بلد على حدة، أو إلى المحاولة التي هي أشد مخاتلةً من ذلك؛ ألا وهي إقليمية ضيِّقة قائمة على الثقافة العربية وحدها.
… يوجد في الشرق الأوسط حزب قوي يعمل بإيحاء مزيج من القومية السياسية والتعصب الديني والانحصارية الثقافية، التي تغار من كل حركة ترمي إلى توسيع المنظمة الثقافية بقَبول عناصر من غير المسلمين، أو من غير العرب، وتؤْثر الانعزال الثقافي المبني على أساس إقليمي.
لا يخفى عليكم سيدي الدكتور، بأنني كنت من الذين حاربوا المشروع الآنف الذكر؛ لأنني كنت شرحت رأيي في هذه القضية إلى الدكتور رعدي بصراحة تامة. ولهذا السبب أعتقد أنكم لن تلوموني إذا ما سارعت إلى الدفاع عن رأيي، وذلك بعرض آرائكم على نقاش دقيق؛ لكي أُظهر عظيم الجور الذي تتضمنه، ولأكشف القناع عن سوء الفهم المؤسف الذي تنطوي عليه.
١
اسمحوا لي أن أبدأ بتلخيص وتحديد موضوع هذا النقاش:
تدرس اليونسكو مشروعًا يقضي بإحداث منظمة خاصة بالشرقَين الأدنى والأوسط، تُسمونها تارةً ﺑ «مكتب اتصال ثقافي»، وطورًا ﺑ «مركز إقليمي للتعاون الثقافي». والوثيقة «ب ﻫ س/١» المؤرخة بتاريخ ٧ نيسان ١٩٤٨م، تتضمن «الأسباب الموجِبة» لهذا المشروع، وتُظهر بوضوح الدافع الأصلي له، والغرض الأساسي منه.
وقد وقع نظري على الملاحظات التالية بين هذه الأسباب الموجبة:
«إن البلاد المختلفة التي تُكوِّن الشرق الأدنى والأوسط، أخذت تتباعد بعضها عن بعض خلال العصور الأخيرة.» ومما يجب أن يتمناه المرء بشدة أن «تتعاون هذه البلاد بعضها مع بعض في ميادين التربية والثقافة بمساعدة اليونسكو.»
يظهر من ذلك أن مركز اليونسكو الإقليمي الخاص بالشرقَين الأدنى والأوسط يجب أن يتأسس وفقًا لهذه الأمنية، وتحقيقًا لهذا الغرض، ويجب أن يشمل حسب نصوص تقريركم الواضحة تركيا وإيران والأفغان، مع بلاد الجامعة العربية. وإني أُلاحظ جيدًا بأنكم تقولون بلاد الجامعة العربية، ولا تقولون البلاد العربية، حتى ولا «بلاد اللغة العربية أو الثقافة العربية».
يجب عليَّ أن أُصرِّح لكم عزيزي هكسلي بأنني وقفت موقفًا معارضًا لهذا المشروع، بناءً على سلسلة طويلة من الملاحظات المبنية على أسباب قوية.
وأول هذه الأسباب وأهمها يتلخص فيما يلي:
إن إحداث أمثال هذه المراكز الإقليمية من الأمور التي يصعب تآلفها مع الروح التي كوَّنت اليونسكو، لماذا نُقدِم على إحداث «حظائر إقليمية» داخل نطاق اليونسكو، ما دمنا ندعو جميع أمم الأرض إلى التعاون والتكاتف في ميادين العلم والتربية والثقافة؟
إن العلم بطبيعته عالمي، فجميع الأمم تستطيع أن تتعاون في هذا المضمار بدون أي تحفُّظ كان. ولكن التربية بطبيعتها قومية، وإنها تبقى قوميةً حتى عندما تستوحي أعمالها من فكرة التفاهم الإنساني، فتتغلغل في سُبل التعاون الأممي؛ وذلك لأن الفكرة الأممية ترمي إلى تنوير التربية وتوجيهها، دون أن تنزع عنها صفتها القومية. ولهذا السبب نستطيع أن نؤكد أن التربية لا تستفيد شيئًا من إحداث منظمة إقليمية متفرعة من منظمة أممية، ولا سيما إذا قامت هذه المنظمة الإقليمية على أُسس جغرافية لا قومية.
وأما الثقافة فإنها تتألف من عناصر كثيرة؛ قِسْم منها قومي وقسم آخر منها أممي. ولهذا السبب هي أيضًا لا تستفيد شيئًا من إحداث منظمة إقليمية تنحشر بين المنظمات القومية والمنظمات الأممية. زد على ذلك، فإن الثقافة لا يمكن أن تأتلف أبدًا بمنظمة قائمة على أُسس جغرافية؛ إذ يجب علينا أن نلاحظ عندما نتكلم عن الثقافة بأنها تتلاعب بالمسافات، ولا تخضع أبدًا للتحديدات الجغرافية. لا بد أنكم تعرفون جيدًا عزيزي هكسلي أن بلاد المكسيك والأرجنتين مثلًا، قريبتان جدًّا من إسبانيا من الوِجهة الثقافية، بالرغم من عِظَم المسافات التي تفصل بينهما. في حين أنه بعكس ذلك، مدينة دوفر الإنجليزية بعيدة جدًّا عن مدينة كاليه الفرنسية من الوِجهة الثقافية، بالرغم من القنال الذي يُقرِّبهما. وعلى هذا الأساس يجب أن تُسلِّموا معي أن سوريا من الوِجهة الثقافية، أقرب إلى تونس منها إلى تركيا، والعراق أكثر جوارًا من مراكش منه إلى إيران.
أفلا يحق لي إذن أن أقول — مستندًا إلى هذه الحقائق التي لا يمكن لأحد أن يُنكرها — إن الإقدام على إنشاء مراكز إقليمية في قلب اليونسكو، مثل المركز المقترح للشرق الأدنى والأوسط، يكون عملًا منافيًا لطبيعة الأشياء ولمصالح اليونسكو في وقت واحد؟
هذا هو عزيزي هكسلي السبب الأساسي الذي حملني على معارضة المشروع الذي تُعِزونه معارضةً مبدئية.
وغنيٌّ عن البيان أن هذه الملاحظات المبدئية كانت متبوعةً بملاحظات فرعية أخرى، ولا سيما بملاحظات تتعلق بأحوال العالم العربي، وبحاجات الثقافة العربية.
أنا لا أود أن أسترسل في تطويل هذا الكتاب بسرد جميع هذه الملاحظات، بل سأكتفي بالتعبير عن رأيي في هذا المضمار ببضعة أسطر:
نحن العربَ قد انضممنا إلى منظمة اليونسكو وهي غير منقسمة إلى حُجَر متحاجزة، ونتمنى لهذه المنظمة العالمية أن تتجنب مغبة الانقسام إلى حجرات إقليمية. ومهما كان الأمر فنحن لا نود أن نُحجَز في حجرة خاصة، ولا سيما في هذه الحجرة المشهورة التي تُسمُّونها أنتم باسم الشرق الأدنى والأوسط. نحن نريد أن نتعاون مع جميع أمم العالم داخل منظمة اليونسكو، بصفتنا عربًا لا بصفتنا شرقيين، وأما علاقاتنا الثقافية مع بعض الدول بوجه خاص، فنحن نود أن نقوم بتنظيمها باتفاقات خاصة نعقدها بعد مذاكرات مباشرة، كما فعلتْ ذلك، ولا تزال تفعل، جميع الدول الأوروبية والأمريكية، وذلك دون وساطة اليونسكو، ودون مداخلة منظمة إقليمية متفرعة من اليونسكو. وبكلمة واحدة نحن نود أن يكون لنا داخل هذه المنظمة الأممية موقف مماثل تمام المماثلة إلى مواقف الأمم الأخرى؛ مثل البلجيك والدنمارك وإيطاليا.
وبعد هذه البيانات الصريحة أود أن أسألكم عزيزي هكسلي؛ ماذا يوجد من الشذوذ في هذا الموقف؟ وما هي المخاتلة التي تنطوي عليها هذه الخطة؟
يحق لكم ألا تحبذوا موقفنا هذا، ويحق لكم ألا تشاطرونا رأينا في هذا المضمار، ويحق لكم أن تنتقدوا هذا الموقف وذلك الرأي، وأن تناقشونا بهما، غير أنه لا يحق لكم قط أن تتهمونا بالمخاتلة، وأن تصفوا آراءنا بجميع تلك التعابير المشينة التي رصَّعتم بها جُمَلكم المذكورة آنفًا.
اسمحوا لي الآن أن أدرس مزاعمكم عن كثب:
تزعمون أن موقفنا ناجم عن تعصُّب ديني، وقد فاتكم أن بلاد تركيا وإيران والأفغان التي ستدخل في المركز الذي اقترحتموه، كلها إسلامية، فالمعارضة التي يقابَل بها هذا الاقتراح لا يمكن منطقيًّا أن تُعزى إلى التعصب الديني.
لا شك في أنه يوجد في الشرق الأدنى أُناس متصفون بالتعصب الديني، كما يوجد أمثالهم في جميع البلاد. غير أنه لا يمكن التأكيد بأن الذين عارضوا مشروعكم لم يكونوا من جملة هؤلاء؛ وذلك لأن المشروع المذكور يساير ويساعد تلك النزعات الدينية، ولا يخالفها بوجه من الوجوه.
أفما ترون عزيزي الدكتور كم كان مخالفًا للحق والمنطق معًا الاتهام الذي وجَّهتموه بهذه الوسيلة إلى معارضي المشروع الذي تُعِزونه؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنكم تَصِمون معارضيكم بانحصارية ثقافية، وتزعمون بأنهم من أنصار انعزالية قائمة على أساس إقليمي.
أعترف بأنني مندهش تمامًا من هذه المزاعم. إنكم تقترحون إنشاء مركز إقليمي لليونسكو لأجل شعوب الشرق الأدنى والأوسط، ثم تتهمون من يستنكر هذا الاقتراح بانعزالية إقليمية! أفلا تلاحظون بأن إنشاء مركز إقليمي خاص بهذه الشعوب ضِمْن اليونسكو يعني عزلهم نوعًا ما عن سائر الشعوب التي تؤلف هذه المنظمة الأممية؟ أفلا تعترفون لذلك أن وصم الأشخاص الذين يعارضون إنشاء هذا المركز الخاص بالنزعة «الانعزالية» يكون في منتهى الغرابة؟ أفتزعمون أن العلاقات الثقافية لا يمكن أن تزدهر إلا في مركز إقليمي من النوع الذي تدعون إلى إنشائه؟ هل تعتبرون البلجيك مثلًا في حالة «انحصار ثقافي» بحجة أنها ليست داخلةً في مركز ثقافي خاص بأوروبا الغربية؟ وهل تقولون إن إيطاليا الآن في حالة «انعزال ثقافي»؛ لأنها لا تنتسب إلى أي مركز إقليمي خاص بشعوب أوروبا الجنوبية، أو بشعوب البحر الأبيض المتوسط؟
إني أرى جيدًا أنكم لم تعالجوا هذه القضية بشيمة الفكرة الانتقادية التي تتحرى الحقيقة بصورة مجرَّدة عن الآراء السابقة، بل إنكم عالجتموها بالفكرة التحزُّبية التي تزعم بأنها تملك الحقيقة، فلا تُكلِّف نفسها أعباء تفهُّم الآراء المخالفة لرأيها.
إن قليلًا من «التفكير الحيادي» كان يكفي لإظهار الحقيقة بكل وضوح، ولإقناعكم بأن موقف الذين لم يحبِّذوا مشروع إنشاء المركز الإقليمي لم يكن ناجمًا عن تعصُّب ديني أو انعزالية ثقافية، بل إنه ناجم عن فهْم أصح لِمَا يُسمَّى الشرق والثقافة الشرقية.
فاسمحوا لي أن أُصارحكم القول في هذا المضمار؛ إنكم تنظرون إلى الشرق من خلال المزاعم الباطلة المستولية على عالم السياسة الذي يحيط بكم ويغمركم. في الحقيقة، إن هذا العالم السياسي قد اعتاد أن ينظر إلى الشرق كوحدة، إن تعبير «المسألة الشرقية» قد أيَّد هذا الاعتياد، ونشره بين الأنام منذ مدة طويلة، فقد كان الشرق في نظر الغرب ميدانًا فسيحًا واحدًا مفتوحًا للاستغلال والاستعمار الاقتصادي والثقافي والسياسي، وكانت الدول الغربية تُوفِد إلى الشرق إرسالياتها الدينية والعلمانية، وترسل رءوس أموالها الفردية والحكومية، وهذه الإرساليات والأموال كانت تؤدي مهماتها تحت حماية الامتيازات الأجنبية مع تهديد الأسلحة والحملات العسكرية، وكل ذلك كان يقوِّي في الأذهان النزوع إلى تصوُّر الشرق كوحدة متميزة.
هذا الشرق قد تفكَّك في آخِر الأمر، وهذا التفكك أدى إلى اختلال التوازن السياسي الذي كان قائمًا بين الدول الكبرى في هذه الناحية من العالم، وهذا الاختلال أوجد أوضاعًا جديدةً قلبت الخطط الاستراتيجية القديمة رأسًا على عَقِب، وألقت رجال السياسة في بحر من القلق والارتباك، وحملتهم على البحث عن الوسائل اللازمة لإعادة التصاق قِطَع هذا الشرق، بصورة تسهل معها صيانة مصالح حكوماتهم فيه.
وأنتم سيدي الدكتور، اسمحوا لي أن أقول بأنكم تقتفون أثر هؤلاء الساسة — ربما بدون إرادة أو شعور — عندما تتمسكون بمشروع إحداث مركز إقليمي خاص بالشرقَين الأدنى والأوسط، وعندما تسترسلون في الدفاع عن المشروع بكل ما لديكم من قوة، وتُوصِّلون الأمر إلى حد التهجم على معارضيكم باتهامات خطيرة وجائرة.
هذا ونحن نعلم جيدًا أن رجال السياسة قد اعتادوا أن يَصِموا بالتعصب الديني أو بكُرْه الأجنبي جميعَ حركات المقاومة ونزعات الاستقلال التي تبدو بين شعوب الشرق. وأنا أُلاحظ — بمرارة عميقة — بأنكم الآن تسيرون سيرتهم عندما تتهمون معارضيكم بالتعصب الديني والانعزالية الثقافية.
٢
وقبل أن أختم هذه المناقشة، أود أن أعود إلى أساس الموضوع، وأن أُلقيَ نظرةً فاحصةً على سيماء هذه المنطقة الثقافية الواسعة، التي تُعزُّونها كل هذا العز، وترتبطون بها كل هذا الارتباط.
إن الأسباب الموجبة المسرودة في مشروع إنشاء مركز إقليمي لليونسكو في الشرقَين الأدنى والأوسط، تعترف بأن البلاد التي تؤلِّف هذه المنطقة تباعَد بعضها عن بعض خلال العصور الأخيرة، ولكنها لا تدرك جيدًا الأسباب الأصلية التي أدت إلى هذا التباعد؛ لأنها تميل إلى تعليل ذلك بجذب التقدم العظيم الذي تم في الغرب في ميادين العلوم والصناعات. ولكني أعتقد بالأحرى أن هذا التباعد إنما جاء نتيجةً طبيعيةً لاختمار باطني، وبتعبير أصح لنمو عضوي، ولحمْل داخلي.
اسمحوا لي أن أعرض عليكم بسرعة أهم صفحات هذا النمو العضوي، وأُظهر لكم أهم العوامل التي أثَّرت فيه:
تعرفون جيدًا أن بلاد الشرق الأدنى والأوسط منقسمة بين ثلاث لغات كبيرة يختلف بعضها عن بعض اختلافًا جوهريًّا، وإذا كانت هذه البلاد تتشابه إلى حدٍّ كبير من الوِجهة الثقافية، بالرغم من تخالُفها من الوِجهة اللغوية؛ فإن سبب ذلك يعود إلى الفتح العربي القديم، وتأثير الدين الإسلامي المستمر. والقِسْم الأدنى من هذا الشرق كان ينمُّ عن تشابه أكبر وأتم من ذلك، وكان هذا التشابه يقترب أحيانًا من درجة الوحدة والعينية؛ وذلك لأنه كان ينضم هناك إلى تأثير الدين الحاكم، عمل سلطنة دينية منظمة تنظيمًا قويًّا. وأهم العناصر التي كانت تؤلِّف هذه السلطنة كان العنصر التركي والعنصر العربي، وكلاهما كان يعيش في حالة تشارك ثقافي يشبه حالة اﻟ «سيمبيوز» المعروف في عِلْم الحياة؛ التركية كانت اللغة الرسمية، والعربية كانت اللغة الدينية في هذه السلطنة، وكانت التركية لغة التعليم حتى في مدارس الولايات العربية، وكانت اللغة العربية اللغة الكلاسيكية حتى في الأقسام التركية البحتة من الدولة. إن هذه اللغة كان يتدارسها النخبة المفكرة في جميع أقسام المملكة، وقواعدها الصرفية كانت تُعلَّم حتى في المدارس الأولية التركية، وعدد كبير من الكلمات العربية كان دخل في صميم اللغة العامية التركية، واستولى على اللغة الأدبية، والعَروض العربي كان قد احتكر الأدب الراقي التركي، وأبعده عن أساليب الشِّعر التركي القديم.
وأما التاريخ فكان يُدوَّن ويُدرَّس من الوِجهات النظرية الدينية البحتة، وكان تاريخ الإسلام يُعتبر التاريخ القومي لدى العنصرين على حدٍّ سواء.
وسلاطين آل عثمان كانوا يُحترَمون بصفتهم أمراء المؤمنين، وكانوا يحكمون البلاد العربية بمهابتهم الدينية، أكثر مما يحكمونها بسطوتهم العسكرية.
إن مجموع هذه العوامل والأحوال كان أوجد ثقافةً مختلطةً تُرضي الطرفين على حدٍّ سواء؛ فالأتراك والعرب كانوا يؤثِّرون بعضهم في البعض دون أن يتذمروا من هذه التأثيرات المتقابلة، وأستطيع أن أقول دون أن يشعروا بها.
غير أنه من الأمور البديهية أن هذه الأحوال الناجمة عن أوضاع دينية خاصة، ما كان يمكن أن تدوم إلا بقدر ما تستطيع السلطنة العثمانية أن تسير على مبادئ الحكم الديني، وبقدر ما تستطيع الأذهان أن تبقى متحجرةً في مواقفها الدينية السياسية القديمة.
وغنيٌّ عن البيان أن ذلك كان محكومًا عليه بالانقلاب رأسًا على عَقِب، حالما تضعف وتتراخى سيطرة الدين على الدولة.
وهذا ما حدث فعلًا، فقد أخذ كلا الفريقين يفقدان الارتياح من أوضاعهما؛ العرب بدءوا يشعرون بأنهم محكومون من الأتراك بالرغم من المظاهر التي كانت تستر وتخفي هذه المحكومية، وأخذوا يشتكون من أن لغتهم غير معترَف بها في دواوين الدولة، كما أنها لم تكن لغة التعليم، حتى في المدارس الابتدائية المؤسسة في الولايات العربية. وصار ذلك نقطة البدء لحركات القومية العربية التي بدأت بطلب الحكم الذاتي، وانتهت إلى النزوع إلى الاستقلال التام من الوِجهتين السياسية والثقافية.
والأتراك أيضًا من ناحيتهم بدءوا يشعرون بأن ثقافتهم بقيت تحت سيطرة شديدة من اللغة العربية والدين الإسلامي، وأخذوا يعملون للتخلص من هذه السيطرة المزمنة، بغية تكوين ثقافة تركية بكل معنى الكلمة، وصار ذلك نقطة البدء لحركات القومية التركية التي عُرِفت تارةً باسم التركية، وطورًا باسم الطورانية.
إن الحركة القومية التركية تقدمت بسرعة هائلة في ميدان الثقافة إلى أن أخذت شكلًا ثوريًّا تمامًا، وأوجدت انقلابًا كبيرًا في اللغة والأدب وفي فهم التاريخ.
إن حذف العربية من مناهج الدراسة الابتدائية ثم الثانوية، والعدول عن استعمال القواعد العربية في اللغة التركية والأدب التركي، والانصراف عن العَروض العربي في الشِّعر التركي، واستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية، والجهد المتواصل لإخراج الكلمات العربية والفارسية من لغة العوام ومن لغة الأدب، والعمل المستمر لإيجاد كلمات وتعبيرات جديدة مشتقة من أصول تركية بحتة، وإعادة النظر في التاريخ بنظرات قومية تركية، كل هذه الأمور تُظهر صفحات هذا الانقلاب الثقافي، وتبيِّن نطاق هذا الانقلاب وعمقه.
وأرجو أن تلاحظوا بأنني أسرد هذه الوقائع هنا سردًا علميًّا حياديًّا، دون أن أسمح لنفسي باستحسانها أو استهجانها، وإنما أستعرض صفحات هذا الانقلاب الثقافي؛ بغية تفهيمكم العوامل الداخلية والعضوية التي أوجدت حادث «التباعد» الذي لفت أنظاركم وأقلقكم في وقت واحد.
لقد استطاع الأتراك أن يحققوا أهدافهم ونزعاتهم الثقافية بسرعة كبيرة؛ لأنهم لم يصطدموا بموانع وعراقيل خارجية خلال هذه الإصلاحات الأساسية.
ولكن العرب لم يسعدوا بمثل هذا الحظ؛ فإنهم لم يكادوا يتخلصون من الحكم التركي حتى وقعوا تحت سيطرة دول أخرى، وهذه السيطرات الجديدة التي كانت سافرةً في بعض الجهات ومقنَّعةً في جهات أخرى، ومرنةً في بعض الجهات، وقاسيةً في جهات أخرى، هذه السيطرات الجديدة أدخلت في ميادين الثقافة عوامل ومؤثرات جديدة، ووضعت أمام نمو الثقافة العربية عراقيل جديدة. وقد انضم إلى الأساس القديم الموروث من العهد العثماني، ومن تأثيرات المدارس الأجنبية المتضاربة؛ المدارس الفرنسية والإنجليزية والأمريكية والإيطالية والألمانية والروسية والكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية والعلمانية، انضم إلى جميع هذه العوامل القديمة عوامل جديدة ناجمة عن الأوضاع السياسية الجديدة، مع تغلُّب الثقافة الأنجلوسكسونية في بعض الأقطار العربية، والثقافة اللاتينية في بعض الأقطار الأخرى، وكل ذلك أكسب الثقافة في البلاد العربية منظر فسيفساء مشوشة إلى آخِر حدود التشويش، لا تكاد تختلف عن الفوضى التامة.
والرجال القائمون على تنظيم شئون التعليم — مثل جميع أفراد النخبة المفكرة — في جميع البلاد العربية، أدركوا حق الإدراك الأخطار العظيمة التي قد تتأتى من هذه الفوضى الثقافية، وانكبوا على العمل لوضع حد لها.
إني لن أحاول أن أصف لكم هنا العراقيل الهائلة التي لاقاها هؤلاء، والمجهودات الشاقة التي اضطُروا إلى تحمُّلها للتغلب على تلك العراقيل، وتخليص الثقافة من التأثيرات القسرية التي فرضتها السلطات الرسمية المسيطرة على البلاد، وكل ذلك بغية تهيئة الوسائل اللازمة لتكوين ثقافة عربية قومية عصرية.
ربما كان منظر هذه الجهود المبذولة للوصول إلى الاستقلال الثقافي في مختلِف البلاد العربية هو الذي أدَّى بكم إلى الخطأ في الحكم، وحملكم على الاعتقاد بوجود انعزالية ثقافية في هذه البلاد.
فاسمحوا لي أن أؤكد لكم بأن الاستقلال لا يعني الانعزال؛ إن الاستقلال من الوِجهة السياسية لا يعني بقاء الأُمَّة في معزل عن جميع أمم العالم، إنما يعني أن تكون الأمة حاكمةً على مقدَّراتها السياسية، حرةً في تنظيم وتوجيه علاقاتها مع الأمم الأخرى حسب ما يتراءى لها من حاجات ومصالح. وكذلك الأمر في الاستقلال الثقافي؛ فهو لا يعني الامتناع عن العلاقات الثقافية، بل إنه يعني حرية العمل في تنظيم وتوجيه هذه العلاقات، حسب ما تقتضيه مصالح الثقافة القومية.
إن الذين حاربوا بشدة السيطرات الثقافية التي كانت فرضتها القُوى الأجنبية على البلاد، كانوا بعيدين جدًّا عن نزعة الانعزال، ورغبتهم في الاستفادة من جميع ثقافات العالم لم تكن أقل من طموحهم إلى رؤية العالم العربي، متمتعًا باستقلال يضمن له ثقافةً قوميةً عصريةً موحدة.
وأنا من ناحيتي أقول لكم بصراحة؛ إنني كنت على الدوام من أنصار الاستقلال الثقافي، ومن العاملين في هذا السبيل، ولكني لم أكن في يوم من الأيام نَزوعًا إلى الانعزالية أو الانحصارية في ميدان الثقافة؛ لأنني كنت أعتقد اعتقادًا لا يتزعزع بأن الثقافة العربية العصرية التي نصبو إليها يجب أن تتغذى بجميع مكتسبات العلوم الحديثة، وتنتعش بأثمن النسوغ والعُصارات التي تدب في مختلِف الثقافات العصرية.
وأنا لم أكن وحيدًا في هذا التفكير وهذا الرأي.
لقد لاحظتم بحق فكرة الاستقلال الثقافي التي تظهر في جميع البلاد العربية، ولكنه كان يجب عليكم أن تُلاحظوا في الوقت نفسه الجهود التي تُبذل في سبيل الاستفادة من الثقافة الغربية. إن نظرةً واحدةً على عدد الطلاب الذين يُوفدون كل عام إلى الجامعات الغربية من ناحية، وإلى عدد الكُتب والمؤلفات الغربية التي تُترجَم وتُقتبَس بدون انقطاع إلى اللغة العربية من ناحية أخرى، كافية لإدراك أهمية هذه الجهود.
ربما تقولون إن هاتين الظاهرتين تتعلقان بتيارين مختلفين، بل متخالفين، غير أني أستطيع أن أؤكد لكم بأنهما ما هما إلا مظهران من مظاهر تيار فكري واحد، ونتيجتان من نتائج نزعة قومية واحدة.
يظهر لي أن فكرة الاستقلال الثقافي أوجدت في نفسكم حيرةً كبيرة، وربما أوصلت تأثُّركم إلى درجة الغضب؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنكم لم تجدوا — قبلًا — فرصةً لدرس ما نُسمِّيه نحن «العبودية الثقافية»، أو «السيطرة الثقافية»؛ فلم تتمكنوا من الاطلاع على الأضرار التي تنجم عن فرض بعض الثقافات بالقوة والقسر.
«في البعض من بلاد الشرقَين الأدنى والأوسط، يعرفون لغات البلاد الغربية وتقاليدها وأساليب تفكيرها، أكثر مما يعرفون أفكار البلاد المتجاورة وطراز معيشتها.»
«إن شعوب الشرق الأدنى قد ركَّزوا ووجَّهوا انتباههم إلى الغرب، وأوصلوا الأمر في هذا المضمار إلى حد إهمال ثقافتهم الخاصة.»
إنني أُسلِّم بأن هاتين العبارتين تتضمنان ملاحظتين ثمينتين جدًّا، غير أني أسألكم؛ ما هو السبب الأصلي لهذه الحالات الغريبة؟ وأما أنا، فلا أتردَّد في القول إن ذلك لم يكن من جرَّاء تقصير صادر عن هؤلاء الشعوب باختيار منهم.
ولا أشك في أنكم إذا كلَّفتم نفسكم مشقة البحث عن المناهج المقررة للمدارس الأجنبية القائمة في البلاد الشرقية، ولا سيما إذا استعرضتم المناهج التي كانت فُرِضت على بعض البلاد، والتي لا تزال مفروضةً على البعض منها من قِبَل الدول التي تُسمَّى باسم الحامية أو الوصية، إذا فعلتم ذلك فلن تلبثوا أن تتبينوا الأسباب التي أوجدت هذه الحالة، وأن تذكروا في آخِر الأمر الحقيقة التالية:
إذا كان العرب يعزون الآن إلى مبدأ «الاستقلال الثقافي» قيمةً كبيرةً جدًّا، فما ذلك إلا لأن ثقافتهم قاست كثيرًا، ولا تزال تقاسي كثيرًا من الحكم الأجنبي ومن مداخلاته الكثيرة.
بعد هذا النقاش الطويل، أفلا يحق لي أن أقول؛ إن الاتهامات الجائرة التي وجَّهتموها إلى معارضيكم تدل على أنكم بقيتم — مع الأسف الشديد — بعيدين جدًّا عن تفهُّم الحاجات والنزعات العقلية والثقافية التي تضطرم في نفوس الشعوب الشرقية تفهُّمًا عادلًا وصحيحًا، تلك الشعوب التي من أجلها وضعتم مشروع إنشاء «مركز إقليمي خاص بالشرقَين الأدنى والأوسط».
ومما يجعل هذه الاتهامات الجائرة أدعى إلى الأسف الشديد، أنها أُدمجت في تقرير رسمي رُفِعَ إلى اليونسكو، مع أن أهم المهام الملقاة على عاتق المنظمة المذكورة هو؛ «ضمان حُسْن التفاهم المتقابل» بين جميع الأمم!
وفي ختام هذه الرسالة أرجو أن تعذروا صراحتي، وأن تتقبلوا مني فائق الاحترام.
لاحقة
إن مشروع جوليان هكسلي الذي كان «موضوع الانتقاد والنقاش» في هذه الرسالة، لم ينل أكثرية الآراء في مؤتمر اليونسكو الذي انعقد في بيروت.
ولذلك فإن «المركز الثقافي للشرق الأوسط» الذي كان هدف المشروع المذكور، لم يخرج — من حُسْن الحظ — إلى عالم الوجود.