ذكريات بعيدة
وفي يوم دخلت إلى حجرتها لأجدها تجفِّف دموعها وتودِع الكراسة صندوقها دون أن تهتم بإدخالها إلى الدولاب؛ فقد أصبحت مطمئنة أنني لم أمد إليها يدي.
كانت تبيح لي كل مكان في حجرتها، فكلها ملعبي وكل شيء فيها من لعبي، لا يذودني عن شيء فيها أحد، بل كانت تنهر كل من يحاول أن يبعدني عن شيء لها، فكل عزيز عندها رخيص لي، وكل آنية أو علبة أو منضدة قربان مقدم لنزوات طفولتي وعبث يدي، وحين تصل إلى يدي مقتنياتها تصبح بين يدي القدر، لا ينقذها من الكسر أو التلف إلا الحظ وحده، ولم يكن الحظ رفيقًا بأشياء جدتي؛ فيا طالما حطمت لها من أشياء ويا طالما أتلفت لها من أدوات، ويا طالما انتهرت جدتي أبي أو أمي إذا حاول واحد منهما أن يعاقبني أو يردعني عن حجرتها.
وقد كنت أجد نفسي أسيرًا لأوامر أبويَّ في أي غرفة أدخلها في البيت؛ فأنا مقيد حينئذٍ بخوفي أن أحطم شيئًا أو ألمس شيئًا أو ألهو بشيء، ويظل هذا القيد من الخوف يلازمني حتى أدخل إلى غرفة جدتي فأنا إذن حر طليق أحطِّم ما أشاء أن أحطم وألهو ما شاء لي اللهو، أحسُّ أنني في هذه الغرفة أقوى من أمي وأبي جميعًا، أقف منهما بحصن يعجزان أن ينفذا دونه إليَّ، وألهو.
شيء واحد لم تُبحه لي جدتي ولم أكن أدرى سر حبها له ومنعي عنه، ولم يكن هذا الشيء جديرًا بانتباهي، ولا مما يغري الطفل أن يلهو به، إنما هو صندوق قديم لا يبدو من قِدمه إلا صنعته التي تدل دلالةً واضحةً على الزمن الذي صُنع فيه، أما هو فقد كان أنيقًا دائمًا؛ فنحاسه الذي يحلِّيه ذو بريق لم يكن يومًا خابيًا، وخشبه أنيق نظيف لم تستطع السنون أن تعدو على نظافته أو أناقته.
وكنت أرى جدتي في كل يوم تمسك به وتفتحه فينفرج عن كراسة ذات شريط جديد دائمًا، يعلو الكراسة الكثير من غبار السنين أحال بياض أوراقها إلى غبشة كتلك التي تغشى نظرة الناظرة إلى التاريخ البعيد. وكانت جدتي تقلِّب صفحاتها الواحدة بعد الأخرى وتظل رانية إليها بنظرات حسيرة، ولا تنتهي إلى الصفحة الأخيرة حتى تذرف سكبًا من الدموع وحينئذٍ تُعيد الكراسة إلى شريطها ثم تودعها في إعزازٍ صندوقها الأثير.
وهكذا أصبح هذا الصندوق طلبتي الوحيدة، فهو الشيء الوحيد عند جدتي الذي لم أستطع الوصول إليه، فكنت كلما أقبلت عليه أريد أن أمسك به تفزع جدتي قائلة: إلا هذا.
وتسارع إلى الكراسة تقفلها وتحيطها بالشريط في عجل ثم تعيدها إلى الصندوق دون أن تصل إلى مرحلة البكاء، وهكذا كنت أعدو أيضًا على هذه الدمعات التي كانت ترتاح لها جدتي فأحرمها منها. وقد كان هذا على إيلامه لها أهون عندها من أن تترك الكراسة أو الصندوق بين يدي ويدي الحظ.
وكبرت رغبتي في الوصول إلى هذا الصندوق بل أصبحت كلما دخلت غرفة جدتي ألعب حول الدولاب الذي يستقر فيه الصندوق، أملي ومطلبي، لم أكن أفكر فيه إلا لأنه الشيء الوحيد الذي منعتني عنه جدتي، وحين كبرت بعض الشيء وذهبت إلى المدرسة ووجدتني أقلب في كراسات وأكتب فيها وأقرأ، أصبحت أعجب من نفسي أنني لا أبكي كما تبكي جدتي حين تنظر في كراستها، وهكذا أصبح الصندوق والكراسة التي تستلقي في أحضانه سرًّا عجيبًا لا يفارق ذهني غموضه ولا يكف تفكيري عن محاولة الوصول إلى حقيقته واستجلاء ما يخفيه من أسباب تستجلب هذه الدمعات إلى عيني جدتي، إنني أقرأ فلا أبكي فماذا يبكيها هي، إنني قد أبكي حين أعجز عن القراءة وتمتد عصا المدرس إليَّ ولكنني حين أقرأ لا أجد ما يُبكي، ولقد حاولت مرارًا أن أثير في نفسي مكامن الدموع حين أقرأ فإذا الدموع جامدة وإذا البكاء عصي عنيد لا يسعفني فيزداد سر جدتي وصندوقها استغلاقًا عليَّ.
وفي مرة فاجأت جدتي وهي تقفل كراستها وقد بلغت مرحلة الدموع وراحت دمعات تنهمر على وجهها الناصع البياض تركت فيه آثار السِّمَن الذي أصبح نحافةً وآثار السنين التي مرَّت غضونًا كثيرة.
ونظرت إلى جدتي مليًّا وسألتها: لماذا تبكين؟
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ألقيت فيها هذا السؤال ولكنها كانت دائمًا لا تقول شيئًا سوى أن تنظر إلى صورة جدي التي علَّقتها بحيث تظل رانية إليها من أريكتها التي لا تكاد تتركها، ثم هي تتمالك أمر نفسها في سرعة حازمة وتحيد عن السؤال الذي ألقيته وتقدم بين يدي قربانًا جديدًا مما تحفظه عندها لألعب به وأحطمه، وكنت دائمًا أنخدع بهذا القربان عن السؤال الذي أبحث عن جوابه وأنصرف إلى ما قدمته إليَّ ألعب به أو أحطمه حسبما يقضي الحظ. وفي هذه المرة حين سألت جدتي أجابتني بنفس طريقتها وقدمت إليَّ كراسة وقلمًا وقالت: اكتب هنا ما تعلمته اليوم.
وكنت قد أعددت نفسي ألا أنخدع، إلا أن الهدية كانت شيقة؛ فقد كنت أحب الكراسات حبًّا عارمًا لا أدري لماذا؟ ألأنني ظللت سنوات عديدة أهفو إلى كراسة جدتي أم لأن شكل الكراسة الجديدة كان أثيرًا عندي دائمًا؟ لا أدري! ولكن الذي أذكره أنني خُدعت في هذه المرة أيضًا وتناولت الكراسة ورحت أهوش صفحاتها بحروف ما تلبث أن تصبح رسومًا، وقامت جدتي إلى الدولاب فأودعته صندوقها وعادت إلى جلستها وراحت ترنو إليَّ وأنا أكتب أو ألهو في كراستي التي كانت جديدة، وكان لا بدَّ لعينيها أن تتجها إلى ما أخطه في الكراسة وثبتت نظرتها في كتابتي فترة طويلة ثم قالت: هشام، أتعلِّمني؟
ونزل عليَّ السؤال كحدث مفاجئ لم أتوقعه ولم أجد بين شفتي إلا: ماذا؟
فعادت جدتي ترنو إليَّ في ابتسامة طيبة ودود وقالت: أتعلِّمني؟
قلت لجدتي وأنا أضحك: أتضحكين عليَّ؟
وظلت ابتسامتها الطيبة على وجهها وهي تقول: لماذا؟
فقلت في براءة: إنك تقرئين الكراسة كل يوم وتبكين.
وعلت وجهها حُمرة أكسبت السنين على وجهها جمالًا ورونقًا وقالت: آه يا عفريت.
ومدت يدها تدغدغ ملتقى صدري بذراعي، موطن تعلم أنه لا يُخطئ في إضحاكي، فضحكت وضحكنا، ومرت الأعوام.
كبرت وأصبحت أعرف أن لجدتي في كراستها سرًّا، وأصبحت أدرك أنه لا بدَّ أن يكون هذا السر وثيق الصلة بذكرياتها، وأصبحت أدرك أيضًا أنه لا يجوز لي أن أُقحم نفسي على ذكريات جدتي وسنين شبابها، ولكن شوقي إلى معرفة هذا السر لم تخفف منه السنون بل لعلها زادته تحرقًا.
وعرفت مع الأيام أيضًا أن جدتي لا تعرف القراءة والكتابة، وزادت معرفتي هذه السر استغلاقًا، كما زادت رغبتي في معرفته تغلغلًا في نفسي، ولكن حرصي على ألا أُقحم نفسي على أسرارها أو على سرها الوحيد بالنسبة إليَّ جعلني أحيط رغبتي هذه بسياج محكم من الصمت والتجاهل كلما رأيت كراستها الحبيبة بين يديها.
وفي يوم دخلت إلى حجرتها لأجدها تجفف دموعها وتودع الكراسة صندوقها دون أن تهتم بإدخالها إلى الدولاب؛ فقد أصبحت مطمئنة أنني لم أمد إليها يدي. حولت جدتي عينيها عن صورة جدي وابتسامة دافئة ما تزال معلقة بشفتيها وقالت: هشام، ألا تنوي أن تعلمني القراءة؟
وكدت أن أقول، لماذا، ولكنني سرعان ما نظرت إلى الصندوق فاختطفت الكلمة من على شفتي قبل أن أطلقها وقلت: أنا تحت أمرك.
وقالت وقد أشرق وجهها بالفرح: صحيح؟!
فقلت شاعرًا أنني أحقق لها أملًا كبيرًا: طبعًا.
فقالت في حزم والإشراق على وجهها لا يبارحه: قم إلى هذا الدرج ستجد كراسات وأقلامًا هات واحدة وقلمًا وتعالَ علِّمني.
وبدأت أعلِّم جدتي، دون أن أشق عليها في التعليم فكنت أعلمها حرفين أو ثلاثة في اليوم، ولكن قليلًا ما دامت هذه الأيام؛ فقد هاجم جدتي مرض بدا في أول أمره هيِّنًا ثم ازداد خطورة، وحاولت أن ألهيها عن مرضها بالتعليم.
وحاولت هي أن تستجيب لي ولكن المرض كان أقوى منها ومني فلم تستطع.
مرت أيام مرضها الأول وهي تستطيع أن تصل إلى الدولاب لتحضر الصندوق وتستطيع أيضًا أن تصل إليه فتعيده، ثم أقعدها المرض فكانت تطلب إليَّ أن أحضره لها وتطلب إليَّ أن أُعيده. وكانت دموعها تزداد غزارة، حتى كان يوم قالت لي فيه: هشام، يُخيَّل إليَّ أنني سأموت قبل أن أتعلم القراءة.
فقلت لها في تأثُّر بالغ: بعد الشر عنك يا ستي.
فقالت وقد علت وجهها حمرة من الخجل كخجل العذارى: أتعرف ما تحويه هذه الكراسة. واحتضنت الكراسة في حب كأنها تحتضن السنين والذكريات وقلت لها: لا.
فازداد وجهها حمرة وعذرية وقالت: إنها مذكرات جدك. فقلت: مذكرات جدي؟
– دخلت إلى مكتبه فوجدته يقرؤها وسألته عنها فقال: إنها مذكرات حبي لك كنت أكتبها أيام خطبتنا.
– أكان يراك وأنتما خطيبان؟
– ألا تعرف أن أبي عقد عقدي على جدك ثم انتظرنا فترة طويلة حتى يتم جدك التعليم وهكذا كان يراني دون أن نتزوج. وكان يكتب هذه المذكرات بعد كل لقاء لنا وكنا نلتقي كل يوم تقريبًا.
ونظرت إليها في خبث وقلت: أكنت ترينه وحدك؟
فازدادت خجلًا وخالط صوتها نغم من الفرح النشوان وهي تقول: امشِ يا قليل الأدب، كنت ألقاه أمام أمي وإخوتي.
– آه، طيب، طيب، لا تزعلي.
وقالت جدتي والنشوة لا تزال في عينيها القديمتين وقد خالطهما البريق فهما عينا فتاة في بواكير الشباب حتى خُيِّل إليَّ أن جدتي عادت بعينيها ووجهها القاني من الخجل إلى تلك السن التي خطبها فيها جدي، قالت: هشام.
ثم صمتت فقلت: نعم.
فقالت: هشام، أتقرأ لي هذه المذكرات؟
فسارعت أقول وقد أحسست أنني موشك أن أصل إلى أعماق سرها: يا سلام يا ستي، أقرؤها وأقرؤها وأقرؤها.
فقالت على عادتها: صحيح؟
فقلت: صحيح جدًّا.
فقالت في استخذاء: قم إلى الباب واقفله بالمفتاح؛ فإنك أول من يقرؤها، فأنا كما تعلم لم أقرأها أبدًا ولم أبحها لأحد أبدًا، اقرأها لي أنت، هل أحسنت إقفال الباب؟
وكنت قد رجعت عن الباب واستويت على كرسي بجوارها، وأعطتني الكراسة فأخذتها بيد ملهوفة وراحت هي ترنو إلى صورة جدي متهيئة لأن تسمع هذا الكلام الذي استغلق عليها السنوات الطوال. وفتحت الكراسة وقبل أن أعلو بصوتي لأسمعها رحت أمر بعيني على الصفحة الأولى.
لقد كانت كراسة ذكريات لا شك في ذلك. ولكن لم تكن جدتي هي محور هذه الذكريات، كان جدي يحب فتاة أخرى غير زوجته، رعاك الله يا جدتي كم أضعت من دموع وكم أفنيت من أوقات وكم بذلت من جهد في تجديد الشريط الذي يلم الذكريات وفي تنظيف الصندوق الذي ينضم على المذكرات، وانتاب لساني نوع من الشلل الداهش الحزين، واجتاح قلبي عاصف من الألم والحرقة والإشفاق على جدتي والحب لها، وفي لمحة خاطفة اتجه ذهني إلى طريق آخر، هل كانت سدًى هذه الدموع، هل كانت هذه المجهودات التي بذلتها في المحافظة على الصندوق وتجديد الشريط بلا جدوى، هل كانت نظراتها الطويلة على السنين الطويلة في صفحات الكراسة هباءً، أكانت جدتي تسعد بشيء قدر سعادتها بهذه النظرات الجاهلة وهذه الدموع المنسكبة وهذه العناية البالغة، ألم يستطع جدي أن يترك لها في هذه الكراسة الخادعة حياة لها تحيا بها في سنوات الكهولة والشيخوخة، لقد سعدت جدتي بالكراسة سواء كان ما تحويه حبًّا لها أم خداعًا لها، لقد سعدت. لقد خُيِّل إليَّ أن الصفحات قد أصبحت مطبوعة برسوم حروفها في عقل جدتي وعلى قلبها، مطبوعة بحروف أكثر ثبوتًا وبقاء وعمقًا من هذه الحروف الملقاة على صفحات الكراسة. وخيل إلى أن نظرات جدتي قد احتفرت على السنين حفرًا في أوراق المذكرات أكثر جمالًا من كل حب وأصدق إحساسًا من كل كلام، أيذهب هذا جميعه سدًى، وأيقظتني جدتي من سرحتي الطويلة لتقول في صوت تردد بين الخجل والتشوق والفرح: اقرأ.
ونظرت إلى جدتي طويلًا وقلت: يا سلام يا ستي، كم كان يحبك جدي، كم كان يحبك!
ونظرت جدتي إلى الصورة المطلة عليها وابتسمت وهي تقول وقد تعثرت الألفاظ بخجلها: نعم، أعرف، اقرأ.
ورحت أقرأ جاعلًا اسم الحبيبة التي تُروى عنها المذكرات هو اسم جدتي، حذرًا دائمًا مبتعدًا دائمًا عن كل لقاء لم يكن في بيت، مختارًا الكلام العام الذي لا توحيه مناسبة بعينها، وظللت أقرأ وظل وجه جدتي يتهلل ونظرتها إلى الصورة تزداد إنعامًا فإن غشت عينيها الدموع راحت تزيحها عن عينيها وتُنعم في صورة جدي حتى انتهيت من المذكرات ولم تكن طويلة وهدأت، لقد بلغت آخرها ولم أخطئ ونظرت إلى جدتي ورأيتها في سبحتها ما تزال رانية إلى الصورة فحوَّلت نظري إلى الصورة معها وخُيِّل إليَّ أن جدي يبتسم لي شاكرًا فابتسمت له أنا أيضًا رغم ما جعلني أعاني من حيرة وحسرة على ذكريات جدتي، ورغم المجهود الذي بذلته لأستر حقيقة مذكراته.
نعم لقد حطمت في غرفة جدتي كل مقتنياتها العزيزة ولكني تركت لها أحلامها المودعة في صندوق الذكريات والسنوات الطوال من الحب التي عاشتها في ظله لم أحطم منها شيئًا.