يا لها من أيام
زوجان، أُحدِّثها عن شأني وما عرض لي في يومي، وتحدِّثني عن شأنها وما مر بها من أمور، وما كان أتفه ما أرويه لها، وما كان أبسط ما تحكيه لي.
طويل هذا الليل ولكن، أين هو من الزمن؟ إنه نقطة لا تزيد من كتاب الزمن الكبير الذي حارت في بدايته العقول وجهلت المقادير نهايته، نقطة هذا الليل لا تزيد، ولكنه طويل، وما أنا الذي أحسُّه طويلًا، رقم من ملايين الأرقام، بل من ملايين الملايين، ولكن أنا كل شيء، أنا هذا العالم، فما العالم بالنسبة إليَّ إن لم أكن أنا فيه، أحسُّ بذاتي، بعظمتها وقد يراني الناس لا شيء، ولكن ما لي وللناس وما يظنونه، ما يضيرني رأيهم ما دمت أرى نفسي شيئًا خطيرًا جديرًا بالاحترام، آه، يا لها من فلسفة بائسة أصطنعها لنفسي اصطناعًا فما تجدي، وأظل يومي وليلي هذا الطويل ألقنها كرامتي الجريحة فما تُشفي الجراح ولا تُبرئ الطعنة ولا هي تلهمني من الصبر بصيصًا أذود به عن نفسي هذا البؤس الذي يحيطها.
أعظيم أنا؟ يا لها من سخرية كبيرة، أخطير شأني؟ يا لي من ضائع لا قيمة له، ويا لي من أحمق أعجل إلى الأمر لا أدري بواعثه أو عواقبه.
أحببتها، نعم أحببتها كما أحبت طفولتي الباكرة، وشبابي الندي، وأيامي الفتيَّة، وأحلامي المنضورة.
أحببتها منذ الأيام صغار قصار يملؤها مرح الطفولة وبسمات الملعب وعبث الصغر، وكبرنا فكان للقلب عند اللقاء وجيب عرفناه منذ دقَّاته الأولى، إنه الحب يعلن نفسه باسمه الصريح بعد أن كان متخفيًا وراء كرة الملعب وعبث الصبية، هو الحب كاملًا كما عرفه قيس وليلى، وجميل وبثينة، وروميو وجولييت وغيرهم ممن دمغوا التاريخ بحبهم أو ممن خلق الكُتَّاب حبهم.
وكان أبي وأبوها صديقَين، وفي ظل هذه الصداقة اتصل الحب دون أن ينمو؛ فقد كان بالغًا مداه لا يملك بعد عنفه ولا بعد نموه نموًّا. ومرت بنا الأيام أروي حبي بلقاء قصير، أو ابتسامة حلوة، أو كلمة منغومة، لم أخطبها ولم أكن في حاجة إلى خطبتها؛ فقد كان زواجنا أمرًا مقرَّرًا لا يحتاج إلى خطبة.
كان أبي ينتظر أن أتمَّ تعليمي حتى يزوجني لها، وكان أبوها ينتظر الشيء نفسه حتى يتم هذا الزواج.
وكنا جارَين، ولعل هذا الجوار فرض علينا رقابة أشد، والعجيب في الأمر أن أبي كان أشد دقة في رقابته من أبيها؛ فلم يكن يسمح لها أن تخلو إليَّ لحظة؛ فإن جاءت البيت فهو فيه لا يبرحه حتى تخرج مهما يكن وراءه من أعمال. وإن حاولت أن أذهب إلى بيتها كان حريصًا أن يعلم بوجود أبيها هناك.
نعم، كنت يتيم الأم منذ الطفولة الباكرة، وكانت ترعى أمري امرأةٌ كبيرة السن وأنا في المهد، وظلت قائمةً على شأني حتى اليوم، وكان أمرها كأمري، امرأة كبيرة ترعاها منذ لا تعرف متى وما زالت في بيتهم حتى اليوم، نعم حتى اليوم.
لم يكن أبي، ولا أبوها، يكتفي برقابة هاتَين الحاضنتَين، وكانتا تفرضان علينا قيودًا قاسية نلقاها بالبِشر، والابتسامة المختلسة، وبالمخادعة الطويلة أن نحظى بلقاء مهما يكن قصيرًا بعيدًا عن أعين الرقباء.
أتسألني ماذا كنا نقول في هذه اللقاءات؟ زوجان يعلمان أنهما زوجان ويتحدثان كزوجَين بلا قبلات ولا عناق. وما حاجتنا إلى ذلك ونحن ننتظر الغد القريب فنتقبل ونعانق ما شاء لنا الهوى المشبوب والحب الطاهر العميق.
زوجان، أحدِّثها عن شأني وما عرض لي في يومي، وتحدثني عن شأنها وما مرَّ بها من أمور، وما كان أتفه ما أرويه لها، وما كان أبسط ما تحكيه لي، ولكن كأن لنا نحن الدنيا بما وسعت، كانت سعادتي وحياتي التي أحيا لها وأملي الذي أسعى إليه، كان حبي كل شيء لي، وما أظنه إلا كان كل شيء لها.
كنت أحدِّثها عن المدرسين حين كنت تلميذًا صغيرًا، وكانت تحدثني عن المدرِّسات، ثم صرت أحدثها عن الجامعة والمحاضرات، وكانت تحدثني عن البيت وما تلقى فيه من كسل الخادم وإلحاح الباعة حين بلغنا بواكير الشباب. وأظل بعد اللقاء ساعات أعيش اللقاء مرات ومرات، وأتمثلها وهي تحكي أو تسمع، تضحك أو تغضب، ثم أفيق إلى كُتبي أنصبُّ عليها في وعي وإصرار، أتعجَّل الأيام والسنين ليجمعنا البيت بلا رقيب إلا الحب، ولا أعين من أبيها ولا أبي.
لم يكن أبي غنيًّا ولا كان أبوها؛ فقد كانا من الموظفين القدامى الذين يعتمدون على الستر أكثر اعتمادهم على الريع، وكان الستر يكفينا، فملابسنا نظيفة وبيوتنا توفر لنا ما نهفو إليه من راحة، وكان أبوها يعلم دخل أبي، يعلمه كما يعلم دخل نفسه، كما كان أبي يعلم خاصة شأنهم لا يجهل من أمرهم أمرًا، وكانا متفقَين على الزواج وكل منهما على علم تامٍّ بحال الآخر. كان الزواج مقررًا لا شك فيه، كان كذلك، حتى نجحت في السنة الثالثة في الكلية وأصبحت على أعتاب السنة النهائية، وكان رأي أبيها ورأي أبي أن نقضي جميعًا الصيف في الإسكندرية، فانتقلنا إليها.
وهناك كنا نقضي يومنا جميعًا معًا لا نفترق حتى لقد كنا نأكل معًا، وتولت هي القيام بشأنها وأعطاها أبي نصيبًا من المصاريف، وكأنما أراد أبي أن يشعرها بقرب الزواج، وكأنما أراد أن تضم العائلة حياة واحدة، فلم يكن يفصل بين سكناها وسكنانا غير جدار، عشناها حياةً واحدةً تزيدنا الرقابة المفروضة علينا شغفًا ومتعة، وتلتقي العيون منا في عناق طويل يسخر من الرقابة، ويُفضي بنا إلى عالم علوي مليء بالهوى والأحلام والآمال.
يا لها من أيام! إن كنت أحسست بذاتي، أو كنت أحببت حياتي فمن ضياء هذه الأيام.
كنا نجلس إلى الشاطئ، البحر تحت أقدامنا، يعدو الماء على أقدامنا وقد يعدو على ملابسنا ونحن من نجوى العيون في حديث يشغلنا عن الماء والبحر، ويرتفع بنا إلى سموات هيهات أن يبلغها سمو.
وكنت إذا انفردت بنفسي، لم أفكر إلا في هذه الأوقات الهنيئة التي جمعتنا، فلا أنشغل عنها إلا بها. كان أبي يعلم ما أنا فيه؛ فنظرته إليَّ نظرة العالم بشأني، يخيَّل إليه أن الحب الذي بنفسه هو نفسه الحب الذي عرفه الناس منذ عرف الناس الحب، ويا طالما فكرت، أهذا الحب الذي أحمله هو نفسه الحب الذي عرفه الناس، أم هو أشد عنفًا وأعمق جذورًا وأبعد غورًا، ثم يخيَّل إليَّ أن حبي فرد لم يعرفه أحد قبلي ولن يعرفه أحد بعدي.
وبينما أنا في هجعة الأصيل أفكر فيهم تعوَّدت أن أفكر فيه، نادى أبي من حجرته فسارعت إليه، فوجدته يعاني آلامًا بدت آثارها على كل نأمة في وجهه، ماذا بك يا أبي؟
سؤال أطلقته وأنا أرى ما به ولا أدري ما أصنع، ولم أجد ما أفعله إلا أن أتركه عدوًا إلى الدار المجاورة إلى أبيها أستصرخه أن يغيثنا، وعاد الرجل معي يسارع الخطو ثم يعدو حتى إذا بلغنا أبي وجدناه وقد زاد به الألم حتى لا تكاد شفتاه تُبين، تركتهم ونزلت عدوًا أبحث عن طبيب وما كدت أجد لافتة تحمل اسم طبيب عليها حتى عدت به إلى المنزل، لم يكن الأمر محتاجًا إلى طبيب، وإنما إلى مغفرة الله، لم يقل الطبيب إلا جملة واحدة كانت كل شيء: يرحمه الله.
وداعًا أيام الهناء، لقد مات أبي والتقيت لأول مرة بالحياة وحدي، كم هي قاسية عاتية، وكم نلهو في رعاية الآباء، وكم كانت أعباؤها صغيرة بقدر ما نرى من الحياة، تلك الحياة التي يحمل عنا آباؤنا عبئها جميعًا، كم يحملون العبء! كم نجهل نحن ما يحملون! لكم فكرت في ضآلة شأني حين طالعت الحياة وحدي، كيف أشكر أبي على ما كان يرده عني من شئون الدنيا، لكم كنت عاقًّا وإن لم أخالفه يومًا. كيف أستطيع اليوم، وقد مات، أن أشكره، وأي شكر يجزي غدق فضله، وسكب خيره وموفور بره، لا، لا شكر يفي.
ذهبنا إلى القاهرة، وأقمنا ليالي المأتم وظل عمي سعد يرعى شأني، كما كان يرعاه أبي، وظل يهديني إلى ما لا أعرف.
ومر بعض الحين، ثم فوجئت بعمي سعد ينقطع فجأة، وانتظرت يومين ثم ذهبت إليه، فإذا الوجه الضاحك أصبح كاشرًا، واللقاء الرحب أصبح ضيقًا، وإذ بنجوى لا تلقاني، وأسأل عنها فيجيبني أبوها في عنف، إنها مشغولة، وأخرج.
وداعًا أيام الهناء، وداعًا أحلام الطفولة والصبا والشباب، وداعًا، فما الأيام بالأيام التي عهدت، ولا الآمال بمحققة، وإلا فما هذا العنف بعد اللين، وما هذا الجفاء بعد الرقة.
لم أشأ أن أترك الظنون تقودني إلى اليأس، فعدت إليه مرة أخرى في اليوم التالي، فوجدت الجفاء كما تركته في الأمس: عمي، أأخطأت في شيء؟
قال في غلظة: لماذا؟
– أرى عنفًا في اللقاء وجفاء في الحديث.
– أنت واهم.
– فلماذا لا تلقاني نجوى؟
ووجدت وجهه قد أدير وازداد غلظة وهو يقول: ولماذا تلقاها؟
– لماذا ألقاها؟
– نعم، لماذا تلقاها؟
– أليست، أليست خطيبتي؟
– هل خطبتها؟
نعم، إنه الحق ما يقول، لم أخطبها، ولكن ألم يكن كل ما كان بيننا خطبة ولكن، لم أجد ما أقول إلا: فإني أخطبها الآن.
وازداد صوت عمي غلظة وهو يقول: وأنا أرفض الخطبة.
أصبح الظن إذن حقيقة، فوداعًا إذن أيام الهناء، وداعًا آمال الحياة جميعًا، ولولا بقية من إيمان لقلت للحياة جميعها وداعًا، وداعًا بائسًا، أي شيء فيك أيتها الحياة أبقى له، هذا الصديق الذي يخون الموت، أم هذا الحب الذي قضيت له وبه حياتي، ثم لم يخلف إلا ذكريات كانت هناء فأمست تعاسة، وكانت منًى أصبحت يأسًا.
تركت الحي الذي كنت أقطنه، وحاولت أن أقطع ما بيني وبين هذه الحياة التي كنت أعيشها، وحاولت أن أمزق هذه الخيوط الضخمة من السنين الطوال التي تربطني بذلك الماضي، حاولت، ولكن هيهات، وكيف للنفس أن تنشطر جزأين؟ وكيف للحياة أن ينفصل أولها عن آخرها وماضيها عن حاضرها؟ إنها حياتي، واحدة لا تنقسم ولا تنشطر ولا تنفصل.
ومرت الأيام، ثقيلة بطيئة، حاولت أن أقطعها بالمذاكرة، وكنت قد تعودت أن ألهو بالمذاكرة عن كل شيء، ونجحت، ولم أفرح بالنجاح، وماذا يجدي النجاح، وأي أمل يمكن أن يفسحه لي؟
وفي يوم طالعتني الجريدة بنعي عمي سعد، فوجدت نفسي أسارع إلى الحي ودخلت إلى البيت فوجدت وجوهًا أعرف أصحابها فهم أقرباؤه ولكني عبرتهم أبحث عن نجوى فلم أجدها، ولم أجد إلا الحاضنة التي كانت تقوم بشأنها، سألتها في لهفة: أين نجوى؟
فإذا بالمرأة في نشيج يمزق الأفئدة، وأعدت السؤال في لهفة أشد: أين نجوى؟
وأجابت المرأة: لقد ماتت من شهرين!
– ماذا؟
– ماتت. لقد كانت مريضة بالسل.
– منذ متى؟
– منذ كنت تخطبها.
– أمن أجل هذا …
– نعم، من أجل هذا رفض أن يزوجها لك، لقد اتفقنا على أن يرفض خطبتك حتى لا تدفعك الشفقة إلى الزواج بها.
وصرخت في وجهها أسألها: وأين هو؟
وظنت المرأة أني جننت، وسألت في ذهول: مَن؟
– أين هو، أين عمي سعد؟
وقالت المرأة: ألا تعرف؟
– نعم، أعرف أنه مات، أين هو؟
– في حجرته يا ابني.
ودخلت إلى الغرفة ووقفت أمام هذا الوفاء الراحل، وأطرقت إلى الأرض وأنا أقول: أشكرك، وأعتذر إليك!