زواج
وكان الزواج، وأقبلت هبة عليه إقبالةً خائفةً أول أمرها؛ فما تدري ما مصيرها مع شخص لم تفكر يومًا أنه سيكون زوجها وإنما هو ابن العم.
حلوة هي، كالأمل، كالموعد وقد حققه اللقاء، كالنشوة وقد عربدت، حلوة كالقلب السكران، كالفكرة الحالمة، كالذكريات المأنوسة الهانئة، عينان ساجيتان فيهما إلى الحب دعوة وفيهما العفة المنيعة، وشعر منسرح كآمال الشباب، وفم دقيق ذو تعبير يختلط بين الدعوة والتمنع؛ فما يدري من يراها والابتسامة وامضة عن شفتيها ماذا تقول؟ ولا يجد من يراها بُدًّا من أن يبتسم ثم يقف الأمر به عند الابتسام يردعه جمالها وابتسامتها أن يزيد.
نشأت بين إخوة من الذكور فالبيت لا عمل له إلا أن يتقصَّى رغباتها فيحققها؛ فمطلبها أمر قبل أن تُبين عنه، إنما هي الإشارة العابرة أو التلميح البعيد؛ فإذا ما أرادت فقد تم، وكان للذكور أصحاب وكان للعائلة أقارب، ولكن الجميع كان يقف منها موقف المُكْبر المعجب، ولم يستطع أحد أن يقف منها موقف المحب، والشباب يعدو إلى الفتيات في خطًى واسعة فيلتهم سنوات الطفولة التهامًا، فما أسرع ما كبرت هبة، وما أسرع ما أخذت أمها ثم أبوها يتلفَّتان حولهما عن العريس الذي يصلح لها، ثم ما أسرع ما أصبحا يتلفَّتان عن أي عريس، ولكن السنين ثقالٌ بطيئات، وجمال هبة الصارخ يقف دون الشباب أن يتقدموا؛ فكأنما هذا الجمال سياج حولها لا يرى أحد من الشباب نفسه أهلًا أن يعدوه إليها، كان الأقارب والأصحاب ينظرون إليها وكأنها في مستشرف رفيع لا سبيل أن يرقى إليه واحد منهم.
وتستطيع هبة أن تطلب إلى أبيها ما تشاء. ويستطيع أبوها أن يقدم إليها ما تصبو إليه لكنها أبدًا لا تستطيع أن تقول كبرت ولا يستطيع أبوها أن يجيب إشارتها إن هي قالت.
فكانت هبة تنظر إلى الأيام نظرةً واجفةً هالعةً، ماذا لها في مطوي الغيب، أين تُلقي بها خوافي المستقبل، أتراها تصبح …؟ لا، إنها لا تطيق أن تنطق الكلمة، أتصبح عانسًا، ويلي! أهذا الجمال كله لا يجد من يقدره، كيف؟ إنها لا تنسى النظرات الحافلة بالإعجاب والإكبار وهي تحيط بها، يأتي إلى البيت أقرباؤها ويأتي أصدقاء كثيرون ويأتي ويأتي إلى البيت ابن عمها مسعود.
وكلهم، كلهم يرنو إليها في إكبار ذاهل، أما مسعود، مسعود، فإنه يتطلع إليها أملًا بعيد المنال، ولكن الأمر يقف به عند هذا التطلع لا يزيد، منذ هما طفلان ونظرته لا تتغير، وها هو هذا يسعى في حياته سعيًا حثيثًا موفقًا وينال شهادته، ثم يلقي إلى الحياة آماله فتستجيب له الحياة استجابتها الباسمة، ويصبح مسعود ذا شأن، ولكنه مع ذلك يخشى أن يتقدم لخطبة ابنة عمه؛ فجمالها أعظم من أن يرضى به زوجًا، ولا يحس مسعود بهذا الموقف الضنك الذي هيَّأه جمالها لها. والأب يرى زيارات ابن أخيه ويرى نظراته الوالهة المحبة، ثم يرى إحجامه وصمته، ويمسك به كبر الأب أن يشجعه، والأم ترى ما يراه الأب ويمسك بها خوفها من زوجها أن تصطنع ما تصطنعه الأمهات من تشجيع الخطيب أن يخطب بناتهن، ولكن الأيام تمر والابنة تكبر، والسنون إذا مرت بالبنات الناهدات فهي قلق وذعر، والأوقات كالحة والتفكير هلع، حتى المرآة لم تعد تستطيع أن تمنح هبة ما كانت تمنحه لها من فرح وطمأنينة، بل إن خوفها يزداد كلما شاهدت جمالها. وهي ترى مسعودًا وقد كانت تراه منذ هما طفلان ولم يكن يزيد عندها عن فتًى مثل كل الفتيان الذين يقفون حول سياج جمالها وقفة العبَّاد أمام الوثن. ولو لم تمر بها السنون القلقة لكان مسعود هذا أبعد ما يكون عن تفكيرها وآمالها؛ فقد كان لها من أصدقاء إخوتها ومن أقاربها من لا يقارن بمسعود في لباقته وذكائه أو قوة شخصيته. أما مسعود، فما هو إلا تلميذ يُحسن أن يذاكر دروسه، ويُحسن أن ينجح في الامتحان، ثم هو لا يحسن بعد هذا من الحياة شيئًا. وحين أفلح مسعود في الحياة لم يكن الأمر عندها يعدو أن فتًى من أقاربها أطاع رئيسه فأحسن رئيسه إليه بأن رقَّاه، وأصبح الأقارب يتحادثون عن ذكائه وعن تقدمه ولم تستطع يومًا أن تتصور أن مسعودًا يستطيع أن يؤدي عملًا يتَّسم ببعض ذكاء أو ببعض لماحية أو بعض فهْم، إنما هو مرءوس يحسن إطاعة الرؤساء، أو رئيس يحسن تنفيذ ما رسمه له رؤساء آخرون، وهكذا لم تستطع أن تُجاري أقاربها في إعجابهم بمسعود، ولكنها مع ذلك لا تمنع نفسها أن تفرح بهذه النظرة الذاهلة الدالة على الإعجاب الشديد، والإكبار المأخوذ الذاهل التي تعلقت بأهداب مسعود منذ هما طفلان حتى سعت بهما الأيام هذا السعي الحثيث؛ فجعلت منها فتاة تكاد تصبح عانسًا، وجعلت منه فتًى ناجحًا يلهج بنجاحه الأقارب والأصدقاء.
وتمر الأيام ويوشك الأب أن يتنازل عن كبريائه، وتجد الأم أن خوفها على مستقبل ابنتها أعظم من خوفها غضب زوجها، فما إن يأتي مسعود لزيارتها حتى تعمل على أن تختلي به وتلقي الحديث وكأنها لا تقصد ما يرمي إليه: ماذا جرى يا مسعود يا ابني؟
– ماذا يا أبلتي؟
– ألا تلاحظ أنك كبرت؟
– نعم، أعرف.
– وماذا تنتظر.
وفهم مسعود ما تقصد إليه أو كاد، ولكنه قال في تظاهر شديد بالغباء ماذا أنتظر في ماذا؟ وأطلقت الست أم هبة تنهيدة عاجبة طويلة ثم قالت بعد أن مصَّت شفتيها: ألا تعرف؟
وكأنما ألصقت هذه الحركات ابتسامة على شفتَي مسعود؛ فهو يبتسم في تخابث ساذج وتقول: يا بني الشيء لا يخجل من أوانه، لا بد أن تتزوج يا مسعود. وظل مسعود رانيًا إلى أبلته في دهشة وقد اضطرمت في نفسه آمال عريضة كانت تراود نفسه في يأس باهت متخاذل، ويكاد الآن يراها حقيقة يخشى أن يصدِّقها، ثم تعود إلى خذلانه فيصبح يومه شرًّا من أمسه وغده أشد قتامًا من ماضيه؛ فإن الآمال مهما تكن واهنة بعيدة التحقيق أحلى مذاقًا من مرارة اليأس، ويوشك أن يقول فيخذله لسانه أن يقول وتعينه زوجة عمه: ألف يتمنى كلمة منك يا مسعود، وافق أنت ولا شأن لك.
ويقول مسعود ذاهلًا: ألف يتمنى أن يزوجني؟!
– أنت لا تعرف حقيقة مكانتك يا مسعود.
– إذن فأنا أتمنى …
وعاده الخوف فأُرْتِج عليه وعادت زوجة عمه إلى إسعافه.
– قل، قل ماذا تتمنى ولا شأن لك، اترك الباقي لي أنا، واستجمع وقال في سرعة من يخشى ألا يكمل جملته: أتمنى أن أتزوج …
وأشرقت الابتسامة في وجه أم هبة وهي تطلق: هه.
وقال مسعود: هبة.
وسارعت الأم تقول: فهي لك.
وألجمت مسعود الفرحة فصمت حينًا ثم قال: لا.
وعاد الذعر إلى الأم: ماذا، ألا تريدها؟
– بل أريدها.
– فهي لك.
– لا، لا أريدها هكذا.
– وكيف تريدها إذن؟
– إذا قبلت أنتِ أن تزوجيها لي فمعنى هذا أنك أنت ترضين عني، أو أنك ترضين عن الوظيفة التي أشغلها والمرتب الذي أناله وأنا أريد أن ترضى هي، وأن ترضى برغبتها الخالصة دون أي تأثير منك أو من عمي.
وعادت الإشراقة إلى نفس الست؛ فقد كانت تدرك ما تعانيه ابنتها من مخاوف.
وكان الزواج، وأقبلت هبة عليه إقبالةً خائفةً أول أمرها؛ فما تدري ما مصيرها مع شخص لم تفكر يومًا أنه سيكون زوجها وإنما هو ابن العم الخجول، والمحب الواله الذاهل إذا نظر إليها. ما الزواج من رجل لم تره إلا فاغرًا فاه من الدهش، والفم الفاغر لا ينطق فهو لا ينطق، أتراه يتَّضح عن رجل يجيد فن الحياة كما يجيد أن يفرج شفتَيه، وكما يجيد أن يطيع الرؤساء وينفِّذ أوامرهم؟ أتراه، يحسن من الحياة ما يحسن من الوظيفة؟!
وأقبل مسعود على الزواج إقبالة مذهولٍ أيضًا؛ فقد كانت الآمال — إن شاءت هذه الآمال أن تبلغ به أقصى غاياتها — تُهيئ له أنه يستطيع أن ينال من هبة نظرة رضًا. أما أن تهب له ابتسامة عطف أو حتى ابتسامة بغير عطف أما هذه فإن آماله لم تجرؤ أن تصل إليها، ولكنه اليوم ينال هبة بجميعها بابتساماتها بل بقبلاتها، ماذا؟ نعم بقبلاتها بل بكل شيء بل والأعجب من هذا أنها لا تستطيع أن تمنح إنسانًا آخر في العالم ما تمنحه له من نفسها، ولا استثناء من هذه القاعدة. لا ينال إنسان آخر في العالم ما يناله هو من هبة، لماذا، ماذا أنا، وماذا أصبحت حتى أنال كل هذا الهناء، أتراها تحبني أم أنها …؟ أم أنها ماذا؟ ما الذي يجعلها تقبلني زوجًا إن لم تكن تحبني أتحبني، وما لي لا أسألها؟ عجيب أمر الناس. أتراها ستقول لي أكرهك إن كانت تكرهني، وإن كانت تكرهني وكانت عندها الشجاعة التي تقول لي أكرهك أتراني أصدِّقها؟ سأقول لنفسي حينئذٍ، لا، إنما هي تريد أن تلهب حبي لها ولا يمكن أن تكرهني؛ فإن أحدًا لا يصدق أن من يحبها تكرهه، وتُرى هل أصدِّقها إن قالت إنها تحبني، أتراني إذا خلوت إلى نفسي أصدق من أعماق قلبي أنها تحبني؟! عجيب أمر نفسي هذه، كثيرة الشكوك لا تُصدق ما يحلو لها، ولا تصدق ما يسوءها، دائمة الحيرة عديمة الاطمئنان ثائرة متقلبة. وكيف لها أن ترضى أو تطمئن وهي لا تدري ماذا يرضيها، وهي لا تدري أين الحقيقة في مشاعر من تحب، بل هي لا تدري إن كانت تريد هذه الحقيقة أم لا تريدها، فما كنت لأسعى إلى معرفة الحقيقة لو أن معرفتي هذه ستنتهي بي إلى أن هبة لا تحبني، أنا لا أريد حقيقة المشاعر؛ فالمشاعر لا سبيل لي إليها، وإن كان هناك سبيل فأنا لا أريده، أنا أريد الواقع دون الباعث إليه، أريد ما أراه أمامي ولا أريد أن أعرف لماذا يحصل. ما لي وللنفوس وما تخفيه، إنها أحراش وغابات تستخفي بين شعابها الكثة وحوش أشد ضراوة وفتكًا من وحوش الغابات والأحراش، ما لي وللنفس وما تخفيه، إن هبة زوجتي ويكفيني منها أنها زوجتي، ويكفيني من الحياة أنني زوجها.
وفي اندفاعة محمومة هالعة استبق مسعود الأيام ليتم الزواج، فما هو إلا بعض زمن حتى كانت هبة ومسعود في بيت واحد، ولم يستطع مسعود على رغم ما ناقش به نفسه من كذب وصدق، لم يستطع إلا أن يسأل هبة: هبة، هل تحبينني؟
– لقد تزوجتك.
– ليس هذا جواب سؤالي.
– بل إن سؤالك لن يُجاب بأبلغ من هذا.
– قد تتزوجينني دون حب.
– لو كنت نشأت في بيت غير بيت أبي لجاز لك أن تقول هذا.
– لا أفهم.
– أنت تعرف أن أبي لا يمكن أن يفعل شيئًا لا أرضى عنه فكيف يزوجني دون رضائي؟
– قد ترضين أن تتزوجي مني ولا تستطيعين أن تحبيني.
– هراء، إن الزواج أشد قوة من الحب.
– فأنتِ لا تدرين الحب، أنا أحبك حبًّا لا أجد شيئًا في العالم أقوى منه.
– بل إنك أنت الذي لا تعرف الحب، إنني حين أقبلك زوجًا أضع حياتي وحياة أولادي كلها أمانة بين يديك وليس في العالم حب أقوى من هذا.
– إذن فأنتِ …
– لقد تزوجتك، أليس كذلك؟
ولم تكن هبة كاذبة فيما ظهرت به من حب؛ فهي منذ تزوجت مسعودًا وهي تُقنع نفسها أنها تحبه، ولما كانت نفسها ذات إباء وكبرياء فقد سرعان ما صدَّقت أنها تحبه، بل إنها زادت فاقتنعت أنها تحبه منذ هما طفلان، وهكذا اطمأنت هبة أنها لم تتزوج زيجة ملهوفة تخشى أن يفوتها القطار فهي تتعلق بالعربة الأخيرة منه، وإنما هي تتزوج زواجًا تقوم أسسه على الحب، وأنها إنما تستقل من القطار أوفى عرباته راحة تصعد إليها في لا عجلة لاهفة ولا اندفاعة طائشة هالعة، إنها تصعد مطمئنة الخطوات على ريث من أمرها وتدبُّر هادئ مستريح. فهي إذن تحبه وهي لأنها تحبه تتزوج منه، اقتنعت ومرَّ عام، بل لم يكد عام أن يمر، ودخلت هبة إلى زوجها حجرة مكتبه وعلى كتفها طفلهما الأول سعيد وقالت هبة وهي تغالب الدموع أن تنفجر من عينيها: هل أستطيع أن أكلمك؟
ودون أن يرفع رأسه عما يقرأ قال: تفضلي.
– تذكر يوم زواجنا؟
فقاطعها: لا زلتِ تذكرين؟
وقالت في غيظ مكبوت: ليس الوقت طويلًا على كل حال.
– لقد جاء في أثناء هذا الوقت ولد بأكمله.
– نعم، ولكن ليس الوقت طويلًا مع ذلك. تذكر أنني قلت لك إنني أضع حياتي وحياة أولادي أمانة بين يديك.
– نعم، وها أنتِ ترين أني أعمل ليل نهار لأوفر لك ولسعيد كل أسباب السعادة.
– لقد نسيت أن بين طوايا حياتي هذه التي أودعتها أمانة في يديك كرامتي. إنها أعز ما تضمُّه حياتي من مقومات.
– فلسفة عالية عليَّ.
– بل حقيقة إن كنت تجهلها فأنت تجهل الكرامة.
– وهل مسست كرامتك؟
– أولًا هذه اللهجة التي تكلمني بها.
– ما لها؟
وعلا صوتها في غيظ: أنت تعرف ما لها وإلا فأنت تقبل أن يكلمك بها الناس.
– لعلي كنت مشغولًا، على أنني لم أقصد أن أمسَّ كرامتك، ألمثل هذا …
– لا تكمل. لقد أردت أن أنبهك إلى شيء أخطر من ذلك، أنت تخرج مع سكرتيرتك.
وذهل مسعود وقال في حيرة: مع مَن، أتتجسسين عليَّ؟
– لا، ولكن أخبارك تصل إليَّ دون أن أسعى إليها.
– وما البأس أن يراني الناس مع سكرتيرتي.
– في غير مواعيد العمل.
– وفي أي وقت.
– تلك هي إذن كرامتي المُضاعة، فعليك أن تختار، أن أبقى في البيت أو تُبقي على سكرتيرتك.
– لا يمكن أن أختار، لا يمكن.
– لماذا، ماذا بينكما؟
– إنها زوجتي.
قالها وعادت إلى فمه الانفراجة البلهاء وإلى عينيه النظرة الذاهلة، وحدَّقت فيه هبة طويلًا، ثم احتضنت ابنها وتركت الغرفة، وحاولت، وحاولت كثيرًا أن تترك البيت ولكن ذراعَي طفلها الواهيتين كانتا تمسكان بها ببيت الأب في عنف جبار لا تطيق التغلب عليه، فهي باقية، باقية.