خطابان
أنت يا صديقي أحببت في مجدك، وأحببت في صورتك التي رسمتها، أحببت في رأي النقاد في عملك، ولن يبقى من هذا جميعه شيء.
أطويل طريقنا أم قصير؟ إلى أين تقودين خطاي؟ عرفتكِ منذ عرفتك هوًى جامحًا وحبًّا عاصفًا، وأفانين من السعادة يشوبها الخوف وألوان من الهناء يخالطها الأسى، فما استمتعت بسعادة ولا خوف ولا هناء ولا أسًى مثل هذه المتعة التي ذقتها من نبرة صوتك وفيها الحنين أو نبرته وفيها غضب، أو من عينيك أنظر إليهما فهما وادٍ من الحب الظليل الحار العاصف النضير، ثم أنظر إليهما فهما حينًا خوف وهما حينًا أسًى وهما حينًا كل شيء ووميض وابتهال.
إلى أين بنا الطريق، إلى أين؟ أطويل سبيلنا، لكم أرجو أن يطول، أم قصير؟ لكم أخشى أن يقصر.
أنت خائفة، دائمًا إذا خلوتِ إلى فكرك وخلصت من فؤادك، تخافين، ثرية أنت باذخة الثراء. وأنا لا أملك إلا هذه الريشة التي أرسم بها، ولكني أكسب منها أموالًا طائلة إن لم تصل إلى إيراد ثرائك فهي لا تقل عنه كثيرًا. ولكنك مع ذلك خائفة، وتأبين أن تقولي مبعث خوفك ويهيئ لك الوهم أنني لا أعرفه، لماذا يظن الناس دائمًا أن غيرهم أقل منهم ذكاءً؟ إنني أعرف خوفكِ ومبعثه، بل إني أيضًا أمهِّد لكِ العذر أن تخافي ويشتد بك الخوف، فقد شاء حظك أو شاء حظي أن يتقدم لخطبتك قبلي إنسان كشفت حقيقة نفسه فإذا هو ولا مطمع له إلا مالك؛ فأنت منذ ذلك اليوم تأبين أن تصدقي أن بين الناس من يحبك لأنك أنت …
أنت وحدك بلا مال ولا ثراء، مسكينة أنت لكم تنظرين إلى المرآة، ولكم تكذبين ما تقول لك المرآة، أنت جميلة، ألا تدرين أنك جميلة، ألا تدرين، أتذكرين أول يوم رأيتك فيه؟ أتذكرين ماذا فعلنا؟ لم أكن أعرفك وإنما رأيت هذه الوضاءة تشعُّ من حولك فإذا ما حولك جميعًا لا شيء إلا أنت، وقد كان ما حولك كثيرًا. أضواء باهتة ونساء جئن يشهدن عرض الأزياء فجعلن من أنفسهن معرض أزياء، ومعرض جواهر أيضًا، وموسيقى حنون ناعمة ونساء صنعتهن أيد ماهرة صناع يعرضن أنفسهن قبل أن يعرضن أزياء المتاجر، وصخب وتصفيق وضجيج، تلاشى هذا جميعًا ولم يبقَ في عيني إلا أنت، أنت وحدك وجمالك الصاخب عالي الضجيج حلو الرنين عذب الأغاني باهر وهَّاب. وظللت أرنو إليك فما شهدت من الأزياء أو النساء أو الأضواء شيئًا، وحين قارب الحفل الانتهاء كنت أنتِ وثقت أن عينين من مئات العيون لم ترتفع عنكِ، وكنت أنا قد بلغت من حيرتي يأسًا. فما أدري كيف يتم بيننا اللقاء، لم أكن أريد حينذاك إلا أن يقدمني إليك أحد، وكالغريق في المحيط المترامي الأطراف تمتد إليه يد لا يدري من أين امتدت، جئت أنت، نعم أنت، صوب المائدة التي أجلس عليها، وحملقت، ولكنكِ كنت ما زلت قادمة إلى المائدة، وحملقت ودارت بذهني احتمالات فيما ستفعلين، أتراكِ ستثورين في أن ظللت أرنو إليك طوال العرض، أتراك ستصفعين وجهي، أتراك؟ لم يستطع واحد من هذه الاحتمالات أن يمنع الفرحة التي راحت تهز قلبي هزًّا، فإني سأتعرف بك، ثائرة كنت أو غاضبة لا يهم، المهم أنني سأتعرف إليك، وجئت، ووقفت إلى مائدتي وظللت جالسًا أحملق منتظرًا هجومك أو منتظرًا ما هو أشد من هجومك ولكنك لم تفعلي شيئًا من هذا، وإنما مددت يدًا طيبة إلى أختي التي كنت قد نسيتها مع ما نسيت من ناس وأشياء، وحينئذٍ وقفت وقبل أن أعرف اسمك قلت: أتسمحين يا سيدتي أن أرسم لك صورة؟
وكان من الطبيعي أن تنظري إليَّ نظرتك إلى مجنون، ولم أحفل حينذاك بما تظنين، وإنما كانت لهفتي إلى أن أرسم صورة لك هي كل ما يسيطر عليَّ، خيِّل إليَّ أنني لو رسمت صورة لك سجلت قطعة فريدة من إبداع الخالق لا تتكرر ولا يجوز لها أن تتكرر؛ فالعمل الفني إذا ما أُعيد سقط عنه جلاله. لم أحفل بما قد يتواثب إلى ذهنك من أفكار، فما رأيك؟ وما ظنك بي أنني مجنون إذا ما قارنته بهذا العمل الفني الكبير الذي أريد أن أسجله، ولا أدري لماذا فكرت في هذه اللحظة العابرة أن حياتي الفنية، بل حياتي متوقفة على لفظة منك. وأدركت أختي الموقف وسارعت: أخي فريد حسني.
ولم تزل عنك دهشتك كلها ولكنك قلت في نغمة حسية الجرس: أهلا وسهلًا.
وقالت أختي: طبعًا تعرفين أنه رسَّام.
وابتسمتِ فما رأيت ابتسامة أحلى مما رأيت على وجهك.
– إن لم أكن أعرف فقد عرفني هو وضحكت أختي، ولم أملك أن أضحك، وقلت أنتِ: أراك متعجِّلًا على أن ترسمني.
– الآن قبل اللحظة الأتية.
– يا سلام، ولماذا العجلة؟
– أخشى أن تمر الأيام على هذا الجمال. بل أخشى أن تمر الدقائق. وضحكت وضحكت أختي ثم تجهمت أساريرك فجأة وقلتِ: أتعرف من أنا؟
وقلت وأعتقد أن وجهي كان ساذجًا وأنا أقول: أبدًا، ولكني لم أعرف لجمالك مثيلًا.
وعادت الابتسامة إلى وجهك ثم قلت: أخشى أن يكون هذا غزلًا.
– أنت تعرفين من أنا؟
– نعم قرأت عنك ورأيت لك بعض الصور.
– أتعتقدين أنني أقبل لكرامتي أن أقول ما أقول لمجرد الغزل؟
– إذن …
– أنا يا سيدتي، رسام، رسام رأى وجهًا لم يرَ له مثلًا من قبل وما يعتقد أنه سيرى له مثيلًا من بعد، أنت عندي الآن وجه، مجرد وجه. أنا لا أعرف من أنت ولا يهمني أن أعرف، إنما أعرف هذا الوجه، ولا أريد أن يمر الزمن قبل أن أرسم هذا الجمال فيه، وأنا لا أريد منك إلا رسمك، إنه جمال أراد له الله أن يكون واحة ندية للبشرية العانية، سيدتي أخشى أن يمر الزمن، أي قدر ضئيل من الزمن على هذا الوجه وأنا أريده هو الآن.
– أتخشى الزمن إلى هذا الحد؟
– قاسٍ لا يرحم الجمال، لو كان الزمن يعقل لمرَّ بجمالك هذا فتركه دون أن يوقع عليه بغُضونه أو يلمس شعرك الزاهي المتكبر بثلجه، ولكن الزمن يمر ولا يُعفي أحدًا، وأريد أن أرسمك قبل أن يمر.
وارتسمت في عينيك أمواج من الخوف وأمواج من الفرح وازداد بهما الشعاع وقلت: لك أن ترسمني.
أنتِ لم تعرفي أي أمل حققته بألفاظك القليلة هذه، والتقينا بعد ذلك وكانت صورتك التي كتب عنها النقاد أضعاف ما كتبوا عن صوري جميعًا وبلغت من المجد فوق ما كنت أهفو إليه. ولكن شيئًا من هذا لم يجعلني أطير بهذين الجناحَين اللذين كنت أطير بهما وأنا أرنو إليك في أول لقاء، أو هذين اللذين كنت أطير بهما وأنا جالس إليك، لقد عبدت الله المصور في صورتك، وأحببتك آية من آيات الفن الأسمى الإلهي، أحببتك منحة من السماء وأحببتك أملًا لي وأحببتك جمالًا لا يطاوله جمال، وحاولت أن أخطبك ولكنك رفضت، لم أكن أتوقع هذا الرفض أبدًا، نعم عرفت عن ماضي أيامك هذه الخطبة الفاشلة التي أرادها طامع في مالك، ولكنك تعلمين أني لا أطمع في مالك، أتراك من أجل غلطة واحدة من الزمان تُعرضين عن الحياة ومن أجل خطيئة واحدة من رجل ترفضين جميع القاصدين إليك؟ لا أظن.
فمن تستقبل الحياة إن لم تكن أنتِ؟ وعلى من تُقبل الحياة إن لم تُقبل عليك أنتِ؟ أنت في جمالك هذا الشاهق الأبي، وفي شبابك هذا الزاخر بالحياة، اجعلي مني حياتك فأنت كل حياتي.
لكم تشبه يا صديقي ذلك الفتى الذي تقدم إلى خطبتي طامعًا في مالي. لا تجزع، فإنك مثله لا فارق بينكما ولا اختلاف، لقد أحب كل منكما شيئًا زائلًا مني، أحب هو المال وما أسرع ما يزول المال، وأحببت أنت الجمال وما أسرع ما يزول الجمال. وأنت تعلم وأنت تذكر كم كنت ملهوفًا على رسم صورتي قبل أن تمر بي الأيام فتطمس جمال وجهي وتذهب بشعري المتكبر المزهو. أنت شبيه بذلك الفتى كلاكما أحبَّ زائلًا. أنت يا صديقي لم تحبني أنا، أنا جميعًا بكل شيء فيَّ، بروحي وجمالي وفكري وكل ما يكون هذا الكيان الذي أمثِّله في هذه الحياة، لو أنك يا صديقي أحببتني جميعًا إذن لهدأ خاطري واطمأن ولقبلتك زوجًا قائلة لنفسي، إن ذهب الجمال بقيت الروح وإن ذهب المال بقي الفكر، ولكنك وا أسفاه، لم تحب إلا جمال وجهي فقط، وما أسرع ما يزول، أجل ما أسرع ما يزول.
أنت يا صديقي أحببت فيَّ مجدك وأحببت فيَّ صورتك التي رسمتها، وأحببت فيَّ رأي النقاد في عملك، ولن يبقى من هذا جميعه شيء، ستجدد مجدك بصورة أخرى وسيقول النقاد عما سوف ترسمه كلامًا يُنسيك ما قالوه عن صورتي، ولن يبقى مني لك إلا وهم تقف دونه من الأيام سدوف وضباب.
لقد التقى جمال وجهي بريشة الفنان فيك ولن يخلق هذا اللقاء حبًّا. لو التقت الروح مني بالروح منك، لو التقيت أنا جميعًا بك لكنت الآن سعيدة، ولكنت الآن آمنة حين أقول لك إني أقبلك زوجًا.
إني يا صديقي قد أحببتك، وقد أحبيت فيك شيئًا خالدًا، أحببت فنَّك، وفنك هو روحك، ولكم كنت آمل أن أجد خطابك هذا الذي قرأته والذي أردُّه إليك يخبرني أن لي عندك ما لك عندي، ولكنك، وهذا ما أحبه فيك، صريح لا تبدي إلا ما تخفي، ولقد وجدتك تحب فيَّ شيئًا أنا واثقة أنه لن يدوم. فأيام الربيع قصيرة، وهي للمرأة أشد قصرًا، فإن جاء الخريف وتلاه الشتاء وبحثت حولي ولم أجدك فوا ضَيعتي يوم ذاك، وا ضيعتي! إنني أيها الصديق الحبيب ممن يعدون للشتاء منذ هم بالربيع، ولكم يؤلمني أن أخبرك أنني لن أقبل عرضك هذا؛ فالشتاء وخاصة شتاء المرأة بارد قارس باهت وما أحب أن ألقاه وحدي، لقد نعمت بما نلته منك. وبحسبي هذا من جمالي ذكرى. ولن أقول وداعًا، فإنني أحب دائمًا أن أراك، وسأظل دائمًا أراك؛ فالصداقة تستطيع أن تمتد إلى كل الفصول، فإلى اللقاء، إلى لقاء دائم.