طوق حول العنق
وقرأت خطابها على أمين، ولم يصدق أمين أذنيه، أصحيح ما تتلوه عليه زوجته، أحقًّا يتحقق الأمل؟
وكيف لا يحبها فيبلغ حبها أقصى غايات الحب، وكيف لا تحبه فتفنى فيه وترى الدنيا فلا تراها إلا من خلال عينيه، تلتقي بالحياة فلا تلتقي بها إلا من خلال نفسه.
إنها هواه القديم الجديد، إنها هواه الطفل وهواه الفتى وهواه الشاب، إنها حياته.
وإنه هوى الأيام الخالية من الطفولة وهوى الأحلام الغريرة من الشباب، وإنه هوى المستقبل النشوان الضاحك الجذلان.
تعارفا في المهد وقد جمعت بينهما أخوة تجمع بين أميهما وصداقة تجمع بين أبويهما، وتعارفا في ذلك السجن الصغير من الطفولة، وذلك الملعب الذي تحيط به الأمهات أطفالهن أن تقودهم الخطوات الجاهلة إلى سلم لا يرحم الطفولة، أو تقودهم هذه الخطوات إلى مقتنيات في البيت غالية لا ترحمها الطفولة القاسية، لعبا في ذلك السور الصغير الذي كان يحيط بهما، وما لبث هذا السور أن أصبح حجرة ثم نما معهما فكان فناءً ثم نما ونما فكان الحياة.
استقبلاها أول أمرهما لهوًا ولعبًا ونظرة إلى المستقبل مشرقة الابتسام ونظرة إلى الماضي ندية الحنين. لم يخطبها أبوه ولم تخطبها أمه؛ فقد كان زواجه بها أمرًا مقرَّرًا معروفًا، الكلام الرسمي فيه يضفي على حقيقته وواقعه شكًّا، وما كان هناك شك كان يعرف أنه سيتزوجها كما يعرف أنه ذاهب إلى كلية الهندسة، وكانت تعرف أنها ستتزوجه كما تعرف أنه لا بدَّ لكل فتاة أن تتزوج.
وفي انتظار انتهائه من كلية الهندسة انتظمت هي في كلية الآداب. وقالت في نفسها سأسبقه في التخرج بعام، ويكفيني هذا العام لأجهز بيت الزوجية.
وفي هذه الشعاعات الحلوة من الأوهام استقبل كل من العروسَين الحبيبَين حياته في الجامعة، وانطلق كلاهما لاهثًا يعدو السنين يدفعه الحب ويجذبه الأمل، فما عرفت كلية الهندسة طالبًا انتهب علومها في إقبال ووعي كما كان أمين، وما عرفت كلية الآداب طالبة تُقبل على موادها في إشراق وثقة ونجاح كما كانت وفاء.
ومرت السنوات الأربع قصارًا باللقاء النشوان، والأمل المزدهر، طوالًا بالأيام العصيبة من المذاكرة والساعات المفزعة من الامتحانات. مرت السنوات وتخرجت وفاء في كلية الآداب، وفرغت إلى تجهيز بيتها، وظل أمين يعاني عامه الأخير في كلية الهندسة باذلًا أقصى غايات الجهد أن يكون نجاحه خليقًا بما يرجوه لنفسه من مستقبل وما يرجوه له حبه من مكان.
ونال أمين شهادته وأصبح معيدًا بكلية الهندسة. وكانت وفاء قد انتهت من جهاز البيت. وكانت ليلة أصبح عليها الصباح فإذا الحلم واقع، وإذا آمال السنين كلها حقيقة يعيشها كلاهما بكل نبضة سعيدة من قلبه وبكل خلجة فرحانة من دمائه.
اجتمعت السنون الماضية جميعها والآمال التي كانت آمالًا، والوعود التي كانت وعودًا، والأحلام التي طالما طافت بعيونهما الوسنانة الهائمة الراضية الآمنة، اجتمعت جميعها فإذا السعادة بعض من أيامها، وإذا الحياة وقد طالعتهما بأيام صافية هي الحلم وهي الأمل وهي الواقع.
وكانت كلية الهندسة قد رشَّحته لبعثة إلى إنجلترا، وما هي إلا أشهر قلائل حتى تقررت هذه البعثة، وقرر هو وهي أن يذهبا معًا فتدرس هي في الآداب، ويدرس هو في الهندسة ويرجع كلاهما يحمل شهادة الدكتوراه.
وهكذا شاءت الحياة أن تشغلهما بالبعثة عن الملالة التي يجدها السعيد من السعادة؛ فانطلق كل منهما يجهِّز لها في انشغالة فرحان يجتمعان عند الليل، أو يتواعدان على لقاء في المحال لهيفا كلاهما أن يفرغا من الشراء قبل يوم السفر.
وكان يوم، طلبها بالتليفون واتفقا على لقاء، وهناك التقيا وفي يدها الورقة التي كتبا بها ما يحتاجان إليه.
وقال أمين: هل ما زالت أمامنا أشياء كثيرة؟
– أوشكنا ننتهي.
– أين تريدين أن نذهب أولًا؟
– نذهب إلى الترزي؛ فاليوم موعد البروفة.
– آه فعلًا، ولكن أخشى أن يعطلنا.
– لا تخف.
– لنذهب أولًا للشراء ثم نذهب إليه قبل الرَّواح.
– ما تشاء.
ولم يذهب أمين ووفاء إلى الترزي، بل ولم يذهبا للشراء وإنما قادته إلى سيارة للأجرة أنزلتهما عند باب البيت وقادت خطواته إلى حجرة نومه. ملهوفة جازعة فما استقر بها المقام حتى كانت يدها على التليفون تستدعى كل من تعرفه من الأطباء.
عمًى، عمًى كامل، ولا أمل في الإبصار. لم تكن عبثًا هذه السعادة الطويلة؛ فقد كانت الأيام حُبالى عن مستقبل شائه أسود مقيت، عمًى، وهو المهندس، ماذا يصلح للدنيا بعد اليوم، لا شيء، إلا هذا الكرسي وذلك الفراش وذلك الطعام الذي يلقى في جوفه لا يعرف لونه إلا بالذكرى، لا شيء إلا آلة خربة تدور واقفة فلا تغني فإنها لا تغني إلا إذا تحركت ورأت، لا شيء إلا ظلام يراه وظلام في مستقبله، لا شيء.
أيعمى أمين، زوجي؟ فديته، بعيني، بحياتي وبأغلى من العين والحياة إن كان هناك أغلى من العين والحياة.
وهل ينفع الأسى أو ينفع الفداء؟ هيهات.
مرت الأيام سوداء قاتمة السواد، لا وميض فيها من الأمل إلا هذه الخطابات التي راح أمين يمليها على زوجته إلى جميع الأطباء العالميين يشرح لهم حالته شرحًا دقيقًا مفصَّلًا مستعينًا بالأطباء الذين حملوا إليه نبأ الفاجعة، وعاد البريد بالإجابات فكانت وفاء تقرؤها وحدها وكانت وفاء تحرقها وحدها؛ فقد كانت جميعها تحمل حريق الآمال، وكان أمين يسأل وكانت تجيبه أن الرد على الخطابات لم يأتِ بعد؛ فيتردد أمله بين اليأس والرجاء وتذوي هي وحدها في وهدة اليأس.
ثم جاء خطاب من لندن، أن عملية يمكن أن تتم لهذه الحالة لو تبرع له شخص بإحدى عينيه. وفي حزم مستقر ويد ثابتة كتبت وفاء خطابًا آخر، إن عملية يمكن أن تتم إذا جاءت هذه الحالة إلى لندن حيث يمكن العثور على عين سليمة من بنك العيون.
وقرأت خطابها على أمين. ولم يصدق أمين أذنيه، أصحيح ما تتلوه عليه زوجته، أحقًّا يتحقق الأمل، فما هذه النبرة الواجفة الحزينة التي شاعت في صوت وفاء فلم تستطع أن تتغلب عليها بمظاهرة الفرح التي قدمت بها للخطاب التي قرأته بها.
كانت البعثة للدكتوراه فلتكن بعثة للحياة، وللدكتوراه أيضًا، ولمَ لا يا وفاء؟ إذا نجحت العملية، إذا نجحت، نحقق آمالنا، وفاء، لمَ لا؟ فيمَ أنت مفكرة يا وفاء، وفاء؟ واستطاعت وفاء أن تصحو مما تفكر فيه لتقول له في نبرة تترجح بين الأسى ومحاولة الفرح: آه، نعم، ولمَ لا؟
وسافرا يدًا تمسك يدًا، وقلبًا واجفًا يهدي قلبًا واجفًا، وأملًا حزينًا خائفًا يقود أملًا سعيدًا خائفًا، سافرا.
وتمت العملية، بل تمت العمليتان، انتُزعت عين مليئة بالحياة من وجه وفاء ووُضعت مكانها عين جامدة موات. وانتُزعت عين جامدة موات من وجه أمين ووُضعت مكانها عين مليئة بالحياة، هي عين زوجته أطلَّ منها إلى الحياة.
فداك عيناي أمين، أما كنت أرى الدنيا فلا أراها إلا من خلال عينيك، وفداك نفسي أمين أما كنت ألتقي بها إلا من خلال نفسك، فداك أمين فداك.
ورأى أمين، رأى الحياة مرة أخرى، وهتك هذا الستار الذي أسدله عماه بينه وبين الدنيا، وقد كان أعظم ما يكون إقبالًا عليها، رأى ورأى إلى نفسه في المرآة، فأما عينه التي لا ترى فهي كما هي حوراء جميلة لا يستطيع أحد أن يعرف أنها لا ترى، فما كان بها من عيب إلا أنها لا ترى، وفاء، إني إني أرى، وفاء، إني … ونظر إليها ثانية، وثالثة، ثم حدَّق، وأطال التحديق، أطرقت وفاء فرفع وجهها إليه فرأى الدموع تسيل ورأى عينًا حمراء من أثر الدموع وعينًا جامدة، وفاء، وفي صرخة أطلقها الخوف والحب والشعور بالتضحية التي بذلتها له عرف كل شيء، أهذه عينك التي أرى بها، وفاء، ودون أن يبالي بأوامر الأطباء، أو يحاذر على الأمل الذي انفسح أمامه انتفض من سريره وركع تحت أقدامها يُقبِّل أقدامها، بل يقبِّل حذاءها.
– أصبحتُ بعين واحدة يا أمين.
– أحب عينك التي لا ترى أكثر من حبي لعينك التي ترى، بل أكثر من حبي لعيني التي ترى، وفاء، وبكى وبكى، وقالت وفاء: لقد وهبت لك عيني فاحرص عليها ولا تضع عيني عبثًا.
ورنت الكلمة في أذنه واستقام معناها في عقله فامتثل أمرها وأطاع أوامر الأطباء، ونجحت العملية وخرج إلى الحياة.
وعاد الزوجان إلى أملهما القديم من الدكتوراه. وانتظم كل منهما في عمله.
وتعوَّد أمين أن يرى زوجته بعين ترى وبأخرى جامدة. وتعوَّد أن يرى حبها له في عين حين يرى عينها الأخرى باردة خامدة لا حب فيها ولا مشاعر ولا حياة، ويكاد يضيق ثم يذكر أنه لولا هذه العين ما رأى حبًّا ولا حياة، وأنه لولا هذه العين لظلت عينا وفاء لها تنظران إليه بإشفاق ما أبغضه، سواء رآه أو لم يره. ثم يحس خليطًا من المشاعر بعضها ساخط لأن زوجته لا ترى بغير عين واحدة، وبعضها ثائر لأن تضحية زوجته من أجله لا سبيل إلى ردها أو شكرانها، وبعضها ضائق لأنها بتضحيتها قد أحاطت عنقه بمثل طوق الكلب الوفي لا يستطيع عن سيده فكاكًا، وبعضها خزيان لأنه يسمح لهذه الأفكار أن تمر بخاطره.
وألحَّ عليه شعوره بأنه كلب يدين بالوفاء لزوجته، وكان هذا الشعور لا يبارحه بل هو يطالعه حتى وهو في دراسته، وكثيرًا ما فكَّر أن يتحرر منه ثم ما يلبث أن يعود إليه مرغمًا كارهًا. وكانت سكرتيرة الكلية التي يعمل بها فتاة في ربق العمر، وكانت ترى بعينيها كلتيهما، وكانت عيناها جميلتَين تفيضان بالحياة وبالجرأة، وكانت بينهما صداقة، واستطاعت الصداقة أن تتطور في يوم من الأيام إلى موعد. أول موعد يعقده أمين مع فتاة أخرى غير وفاء.
عاد أمين إلى البيت ولم تكن وفاء به، ووضع على نفسه أنفس ما يملكه من ثياب وتأنَّق فبالغ في التأنُّق ونظر إلى المرآة فطالعه وجهه جميلًا، وطالعته قامته ممشوقة ونسي أنه ينظر بعين وفاء، ولم يعد يذكر إلا أنه يرى مشاعر تنبعث من عينَين معًا لا من عين واحدة وإلا أنه يريد ألا يصبح كلبًا، وملأه الزهو بشبابه وجماله ونزل إلى الطريق وسارها خطوات، خطوات قليلة ثم أراد أن يعبر الشارع في زهوه ما يزال فإذا سيارة في الطريق تغول الطريق في سرعة نافذة تندفع إليه، وكانت آتية من جهة عينه التي ترى، فإذا هو ينسى زهوه ينتفض في لهفة محبٍّ للحياة يوشك أن يموت فإذا هو على الطوار الآخر لم تمس منه السيارة إلا طرف حذائه، الحمد لله، ماذا لو كانت هذه السيارة قادمة من الجهة الأخرى، الجهة التي لا تبصر، بل ماذا لو لم تكن لي عين وهبتها لي زوجتي، زوجتي الحبيبة وفاء، وفاء، وفاء التي لا ترى إلا بعين واحدة، الأخرى هي التي أنقذتني الآن، يا لي من كلب.
وظل واقفًا على الطوار حائرًا خزيان ثائرًا يضع أصبعه بين ياقة قميصه وبين عنقه، إن الطوق ما يزال حول عنقه.