موضوع هذا الكتاب
فموضوع هذا الكتاب يقتصر على الدولة الحادية عشرة من الدول الإسلامية التي دخلت مصر في حوزتها؛ نعني الدولة العثمانية بعد إخراج المدة التي كانت مصر في أثنائها تحت سيطرة الفرنساوي، على أثر الحملة الفرنساوية من سنة ١٧٩٨–١٨٠١ فيكون موضوع هذا الكتاب، تاريخ مصر العثمانية من الفتح العثماني سنة ٩٢٣–١٢١٣ﻫ أو من ١٥١٧–١٧٩٨م وهو أظلم أقسام التاريخ المصري الحديث؛ لأن مصر كانت في أثنائه مضطربة. وقد استبد بها المماليك وفسدت حكومتها، وقلَّ مَن كتب في تاريخها من المحققين. على أننا سنبذل الجهد في إيضاح ذلك التاريخ.
ولا بد لنا قبل التقدم إلى الكلام فيه من أن نقدم القول بمقدمات تمهيدية لزيادة الإيضاح فنقول:
(١) ما كانت عليه مصر عند الفتح العثماني
ويقتضي بيان ذلك أن نأتي بفذلكة تاريخ السلاطين المماليك الذين انتقلت مصر من أيديهم إلى العثمانيين على يد السلطان سليم الفاتح.
(١-١) السلاطين المماليك
ويراد بالسلاطين المماليك؛ الدولة التي أنشأها مماليك الدولة الأيوبية بعد انقضائها.
حكمت الدولة الأيوبية من سنة ٥٦٧–٦٤٨ﻫ، وهي كردية؛ لأن مؤسسها السلطان صلاح الدين الأيوبي، كردي. وهو من أعظم رجال الإسلام تعقلًا وسياسةً وبسالةً وتدبيرًا، أنشأ دولته على أنقاض الدولة الفاطمية بمصر، وبايع فيها للخلفاء العباسيين، وحارب الصليبيين وردَّهم عن سوريا، وأنقذ بيت المقدس من أيديهم. ومآثره أشهر من أن تُذكر، وارتفع شأن الأكراد في أيام دولته، وتولَّوا الإمارات والولايات في مصر والشام وكردستان واليمن وخراسان.
ولما مات اقتسم مملكته، إخوته وأولاده وأولاد إخوته؛ ولذلك لم يطل حكمها، فغلبهم على معظمها مماليكهم الأتراك، كما غلبت الأتابكة ملوكهم السلاجقة قبلهم، فكان المماليك في مصر دولتان تعرفان بالسلاطين المماليك.
(١-٢) أصل السلاطين المماليك
يدل اسم المماليك على أصلهم فقد كانوا أرقاء مملوكين، ثم صار الحكم إليهم. وهم من الأتراك، كانوا في الأصل جندًا مأجورًا أو مبتاعًا، بدأ استخدام الأتراك في الجندية على هذه الصورة في أيام المعتصم العباسي في أوائل القرن الثالث للهجرة. فإنه استقدم منهم جماعة من تركستان ابتاعهم أو استرضاهم أو استأجرهم لتعزيز حاشيته خوفًا من تغلب أحد الحزبين اللذين استفحل شأنهما يومئذٍ في أثناء الفتنة بين أخويه الأمين والمأمون؛ إذ قام العرب مع الأمين، والفرس مع المأمون. وكان الشأن الأكبر في أول الدولة العباسية للجند الخراساني (الفرس) وهم الذين نقلوا الدولة الإسلامية من بني أمية إلى العباسيين. وكان العرب أقوياء لأنهم قوام الدولة، ومنهم الخلفاء وهم مادة الإسلام وأصله. وكان الفرس من حزب البرامكة. وكان الرشيد ذا عصبية للعرب ويخاف الفرس؛ لأنهم أنصار الشيعة العلوية فنكب البرامكة خوفًا.
ولما اختلف الأمين والمأمون وتنازعا على الخلافة بعد الرشيد. كان العرب مع الأمين، والفرس مع المأمون، لأن أمه فارسية، والأمين أمه عربية هاشمية «زبيدة». وكان الفوز للمأمون وقُتل الأمين، فانحط شأن العرب، وصارت السيادة إلى الفارسيين أنصار المأمون واستبدوا في الدولة.
وكانت الحضارة قد أضرت بالمسلمين وأذهبت منهم قوة التغلب والفتح. ففكر المعتصم أخو المأمون في ذلك قبل أن تفضي الخلافة إليه، وكانت أمه تركية، وفيه كثير من طبائع الأتراك مع الميل إليهم؛ لأنهم أخواله. كما كان يميل المأمون إلى الفرس لنفس هذا السبب.
وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل أخيه الأمين حتى أصبح يخافهم على نفسه. ولم تكن له ثقة العرب وقد ذهبت عصبتهم وأخلدوا إلى الحضارة والترف وانكسرت شوكتهم فرأى أن يتقوى بالأتراك وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش مع الجرأة على الجر والصبر على شظف العيش فجعل يتخير منهم الأشداء يبتاعهم بالمال من مواليهم في العراق، أو يبعث في طلبهم من تركستان وغيرها. فاجتمع عنده عدة آلاف منهم. وفيهم جمال وصحة، فألبسهم أثواب الديباج والمناطق المذهبة والحلية المذهبة، وميَّزهم بالزي عن سائر الجنود.
(١-٣) دولة المماليك الأولى
وصار تجنيد الأتراك من ذلك الحين قاعدة في الدول الإسلامية. ومن جملتها الدولة الأيوبية بمصر، فإن الملك الصالح ابن الكامل (٦٣٧–٦٤٧ﻫ) استكثر من اقتنائهم حتى جعل منهم بطانته وأمراء دولته والمحيطين بدهليزه وصارت مناصب الدولة إليهم، وأمنع حصون البلاد في قبضتهم قد اتخذوها مستقرًّا لهم حتى إذا ضاقت ذرعًا من الإحاطة بهم ابتنوا — بأمر الملك الصالح — قصورًا عظيمة متقنة البناء منيعة الجانب من جزيرة الروضة بضواحي القاهرة قرب المقياس. وقد زادها مركزها الطبيعي مناعة وجمالًا، لأن النيل يتفرع هناك إلى فرعين، وكان يدعى نقطة تفرعه بالبحر؛ لعظم اتساعه، فسمي هؤلاء المماليك بالمماليك البحرية، ومنها اسم دولتهم تمييزًا لها عن دولة المماليك الشراكسة، الآتي ذكرها.
وكانت سطوة المماليك البحرية تنتشر يومًا فيومًا إلى أن طمعوا بخلع السلطان وتولي الملك مكانه. فلما تولى الملك المعظم آخر سلاطين بني أيوب، وكان على ما كان عليه من الاستبداد، أنفت نفوسهم من أعماله فسعوا فيه إلى أن قتلوه.
ولما قُتل الملك المعظَّم اختلفت الأحزاب فيمن يبايعون بعده وكل فئة تحاول استبقاء الحكم في يدها وتعاظم الخصام فتداركت الأمر شجرة الدر، وهي محظية كانت لها منزلة عند الملك المعظم وسائر رجال الدولة فرأت حزب المماليك أعز جانبًا من الجميع. وكانت قبلًا قد تواطأت مع أيبك عز الدين وهو من أعظم الأمراء المماليك نفوذًا وبينهما علاقات ودية من أيام الملك الصالح، فتمكنت بهذه الصداقة من مبايعة الجميع لها مما لم يسبق له مثيل في الإسلام لكنها لم تستطع استبقاء الحكم في قبضتها أكثر من سنة فخلعها المماليك وولَّوا أيبك عز الدين المذكور سنة ٦٤٨ وله منازعون ومناظرون. وزاد الأمر إشكالًا تعدي الصليبيين على دمياط في تلك الأثناء.
وما زالت السيادة تنتقل من واحد إلى آخر منهم حتى أفضت إلى الظاهر بيبرس البندقداري أعظم سلاطينهم (٦٥٨–٦٧٦ﻫ).
الملك الظاهر بيبرس
وكان الملك الظاهر ملكًا حازمًا، شديد البطش كثير الغزوات، خفيف الركاب يحب السفر، وكان مشهورًا بالفروسية في الحرب. وله إقدام وعزم على القتال، وثبات عند التقاء الجيوش حتى لقبوه بأبي الفتوح. وكان شعاره الأسد، إشارة إلى شجاعته.
ومن أعماله المأثورة أنه عمَّر الحرم النبوي، وقبة الصخرة في بيت المقدس. وزاد في أوقاف الخليل، وعمَّر قناطر شبرامنت بالجيزة وسور الإسكندرية ومنار رشيد. وردم فم بحر دمياط ووعَّر طريقه، وعمَّر الشنواني، وعمر قلعة دمشق وقلاعًا عديدة في أنحاء سورية، وعمَّر المدرسة بين القصرين في القاهرة والجامع الكبير بالحسينية وهو المعروف الآن بجامع الظاهر، وحفر خليج الإسكندرية القديم وباشره بنفسه. وبنى هناك قرية سماها الظاهرية، وحفر بحر أشمون طناح، وجدد الجامع الأزهر بالقاهرة وأعاد إليه الخطبة، وعمر بلد السعيدية من الشرقية بمصر، وبنى القصر الأبلق في دمشق، وغير ذلك من الآثار الباقية إلى اليوم.
واشتهر الملك الظاهر بحروبه مع الصليبيين، فاستولى على بلاد كثيرة من سوريا وفلسطين وحلب، وفتح بلاد النوبة وبرقة.
وفي أيامه جاء العباسيون إلى مصر على أثر فرارهم من بغداد بعد سقوطها بأيدي التتر وقتل الخليفة المستعصم سنة ٦٥٦ﻫ، فجاء منهم إلى مصر الإمام أحمد بن الخليفة الظاهر بأمر الله. فوصل مصر سنة ٦٥٩ﻫ. فاستقبله الملك الظاهر أحسن استقبال، وبايعه، وأثبت نسبه في مجلسٍ من القضاة والعلماء، وأراد أن يسترجع لهم بغداد، فأرسل جندًا لاستخراجها من سلطة التتر فلم يُفلح، في حديث يطول شرحه، لكنه أفلح في جعل مصر مقر الخلفاء العباسيين، وصاروا لا يثبت سلطان منهم على كرسي مصر إلا إذا بايعه الخليفة العباسي بما له من السيادة الدينية.
بقية دولة المماليك الأولى أو البحرية
مات الملك الظاهر سنة ٦٧٦ﻫ. وخلفه على الملك ولداه بركة خان ثم سلامش، ولم يكونا أهلًا للرئاسة، فتغلب عليهما وحتى كان على سلامش، اسمه سيف الدين قلاوون الألفي، فخلع سلامش وتسلَّم زمام الأحكام، فبويع ولقِّب بالملك المنصور.
وكانت مدة حكمه بضع عشرة سنة من ٦٧٨–٦٩٨ﻫ. وكان حَسَن الشكل، ربع القامة، قليل الكلام بالعربية. وكان شجاعًا بطلًا مقدامًا في الحرب، مغرمًا بشراء المماليك حتى قيل إنه تكامل عنده ١٢٠٠٠ مملوك أكثرهم من الشراكسة. وحارب الصليبيين وغيرهم. وخلَّف آثارًا بنائية لا يزال بعضها قائمًا إلى اليوم، منها المارستان المنصوري، وجامع قلاوون في شارع النحاسين بمصر.
وبلغ من عنايته بالمماليك أنه غيَّر ملابسهم، وألبسهم المخمل الأحمر والأخضر والسمور والفرو، وكان استكثاره من المماليك الشراكسة، سببًا في خروج السلطة من نسله كما أصاب الملك الصالح باستكثاره من المماليك الأتراك، فتوالى على الملك بعده بعض أولاده وبعض مماليكه الأتراك. ولم يثبت الملك طويلًا إلا لابنه الناصر بن قلاوون من سنة ٧٠٩–٧٤١ﻫ، فخلَّف آثارًا كثيرة، وحارب حروبًا جمة. ومن جملة آثاره مجراة الماء، والسقايات السبع على حدود مصر القديمة في القاهرة.
وتكاثرت مماليك الملك الناصر المذكور في أواخر أيامه، وانتقل الحكم بعده إلى أبنائه الواحد بعد الآخر، وهم ثمانية، من سنة ٧٤١–٧٦٢ﻫ. ومنهم السلطان حسن صاحب الجامع المعروف باسمه في مصر. وانتقل بعدهم إلى جماعة من أهلهم حكموا ٢٢ سنة أخرى، حتى انتقل سنة ٧٨٤ﻫ إلى دولة المماليك الشراكسة أو «دولة المماليك الثانية».
(١-٤) دولة المماليك الثانية، أو الشراكسة
والمماليك الشراكسة هم مماليك السلطان قلاوون المتقدم ذكره. وهم جنس من أهل آسيا يخالف الأتراك، أصلهم من جهات سيبريا ونواحي بحيرة «بيقال». وهاجروا في القرن السادس للميلاد إلى غربي بحر قزوين يُحملون من بلادهم للاتجار بهم في أنحاء العالم، فاقتنى منهم سلطان المماليك البحرية الأخير عددًا وافرًا فضلًا عن المماليك البحرية اقتداءً بأسلافه. وكانوا يستخدمونهم في صالح الدولة فارتقوا فيها تبعًا لما خصتهم به الطبيعة من الجمال والذكاء حتى صارت إليهم حماية الحصون والقلاع فجعلوا سكناهم في الأبراج فلقِّبوا «بالبرجية» وما زالوا يزدادون عددًا وقوة ومنعةً حتى تاقت نفوسهم إلى تسلق كرسي الملك يجعلونه إرثًا في نسلهم.
فتمكنوا من ذلك على يد مملوك منهم اسمه حازم برقوق، وهو ابن مرتد شركسي اسمه أنس. تدرج في مصالح الدولة من أدناها إلى أعلاها بحزمه ودهائه حتى تمكن من تسلق كرسي المُلك سنة ٧٨٣ﻫ، وما زال حاكمًا نافذ الكلمة إلى سنة ٨٠١ﻫ.
وفي أيامه حمل «تيمورلنك» القائد التتري على العالم الإسلامي حتى هدد حدود سوريا فحمل عليه برقوق في صفد وأوقفه عند حده.
(١-٥) أول علائق العثمانيين بمصر
وفي أثناء ذلك أفضت سلطنة آل عثمان إلى السلطان بايازيد في آسيا الصغرى، وقد طمع بمصر فجاء تيمورلنك لينازعه عليها وعلى مصر، فبعث كل منهما وفدًا إلى القاهرة. فطلب وفد بايازيد إلى برقوق أن يعاهده على السلم، وإلى الخليفة العباسي المقيم في القاهرة أن يقر بايازيد رسميًّا على سلطنة الأناضول، فأجابهم إلى ما طلبوه.
أما وفد تيمورلنك فاتخذوا خطة أخرى لأنهم استعملوا الخشونة والفظاظة في أقوالهم ومطالبهم، فطلبوا منه أن يسلم لهم قرا يوسف، وأحمد بن أويس اللذين قد التجآ إليه. فطيَّب برقوق خاطرهم وأخذهم بالملاينة فازدادوا فجورًا، فأمر بقتلهم، فشق ذلك على تيمورلنك، فساق جيشه وقدم للانتقام فمرَّ بالرها وقتل من فيها، ثم جاء حلب فأنكى فيها، ثم توقَّف عن مسيره لغرض في نفسه يسهل عليه افتتاح مصر. فلم يغفل برقوق عن ذلك، فأكثر من الجند والسلاح، وتأهب للدفاع أو الهجوم لكنه لم يكد يتم هذه التأهبات حتى أدركته الوفاة.
والسلطان برقوق أعظم سلاطين دولة المماليك الشراكسة أو الثانية، وله آثار منها جامع لا يزال يعرف باسمه وكان له ولع خاص باقتناء الأسلحة، ونظَّم الجند، وعيَّن رتبه، وجعل مناصب الدولة إلى تسعة من كبار الموظفين أكبرهم أتابك العساكر، فرأس نوبة الأمراء، فأمير السلاح، فأمير المجلس، فأمير الياخور، فالدوادار، فرأس النوبة الثاني، فحاجب الحجاب، وهو أول من عقد مع العثمانيين صلحًا أو عهدًا، كما رأيت.
وتولى الملك بعده اثنان من أولاده الواحد بعد الآخر، ثم تنازع السيادة مماليك آخرون، يطول بنا ذكر عدد حكمهم، أهمهم فيما نحن فيه؛ الملك الأشرف قايتباي من سنة ٨٧٢–٩٠١ﻫ.
تولى الملكَ والمملكةُ المصريةُ في اضطراب، وفي أيامه اقتضت الأحوال أن تتداخل الدولة العثمانية بمصر، وتعاديها. وذلك أن السلطان محمد الثاني حارب ملك الفرس «أوزون» وتغلَّب عليه. وكان بين المصريين والفرس تحالف، ثم ما لبث «قايت بك» أن سمع بعزم السلطان المذكور على فتح «سوريا» سنة ٨٨٥ﻫ. ولكن لم يخرج من بر الأناضول حتى داهمته المنية في مدينة «طيفور جابر»، وتخاصم ابناه «بايازيد»، و«جم» أو «زيزم» على الملك، فشغلا عن الفتح، فاغتنم قايت باي تلك الفرصة وانسحب بجيشه إلى مصر.
وما زال الخصام يتعاظم بين ابني محمد حتى كانت بينهم واقعة «يكي شهر» فانهزم جم حتى أتى مصر، والتجأ إلى قايت بك، فأكرم وفادته، ثم علم أن ذلك الإكرام يهيج حاسة الانتقام في بايازيد «الثاني» فقال في نفسه: «إذا كان لا بد من محاربة العثمانيين فلنكن مهاجمين أولى من أن نكون مدافعين»، فجعل يناوئ الأتراك ويقطع السبل على قوافلهم الناقلة الحجاج إلى الحرمين حتى قبض على وفد هندي مرسَل في مهمة سياسية إلى بايازيد. واستولى على «أدنة» و«ترسوس» وكانتا في حوزة العثمانيين.
أما بايازيد فكان واقفًا بالمرصاد ينتحل حجة لمهاجمة المصريين فجاءت تلك الإجراءات طينة على عجينة، إلا أنه رأى أن يأتيهم من باب الحزم فأنفذ إليهم رسلًا في طلب التعويض عما سببوه من الخسائر والأضرار. فأرجع «قايت باي» الرسل وبعث يهاجم الجيوش العثمانية، فقاومته أشد المقاومة، وأرجعت جيشه إلى ملاطية، فأنجدهم «قايت باي» بخمسة آلاف رجل فعادوا إلى العثمانيين وهم في مضايق الجبال، فهجموا عليهم بغتة، وذبحوا منهم عددًا كبيرًا، وفر الباقون وتحصنوا في «ترسوس» و«أدنة»، فأنفذ جيشًا كبيرًا تحت قيادة صهره أحمد، وهو ابن أمير البوسنة، فلما وصل إلى معسكر الأزبكي، اقتتل الجيشان فهجم أحمد هجمة قوية، لكن رجاله لم يستطيعوا الثبات، ففازت الجيوش المصرية، وأُسر أحمد بعد أن جاهد جهادًا حسنًا، فعاد الأزبكي بأسيره إلى مصر ظافرًا، فبنى جامعه المشهور المعروف بجامع الأزبكية، وكانت في أيامه بركة يتجمع إليها الماء أيام الفيضان وهي التي صارت الآن حديقة الأزبكية.
فلما بلغ بايازيد ما كان من انكسار جيوشه، استشاط غضبًا، وجنَّد جندًا كبيرًا جعله تحت قيادة «علي باشا» لمحاربة المصريين، فسارت تلك الحملة من الآستانة فعبرت البوسفور في ٣ ربيع آخر سنة ٨٩٣، ونزلت قَرَمَان، فاتصل خبرها بقايت بك، فأوجس خيفة فعمد إلى المصالحة، فأنفذ إلى بايزيد صهره أحمد واسطةً لعقد شروط الصلح، فرفض بايازيد ذلك رفضًا باتًا، وسار حتى التقى بالمصريين في «أدنة» و«ترسوس» فحاربهم وفاز عليهم، واسترجع المدينتين الواحدة بعد الأخرى، بعد أن أهدر دماءً غزيرة ثم سار إلى أرمينيا وأخضعها، وحاصر عاصمتها، فافتتحها بعد أن دافعت دفاعًا قويًّا، وأسر حاكمها، وأرسله بعد ذلك إلى مصر بدلًا من الأمير أحمد، فبعث قايت باي الأزبكي ثانية لدفع العثمانيين فواقعهم في «ترسوس»، فغلبوه أولًا ثم عاد إليهم وفاز بهم وأعادهم القهقرى وعاد إلى القاهرة ظافرًا، فخلع عليه قايت باي، ثم رأى أن يغتنم كونه ظافرًا لمصالحة العثمانيين، فبعث إلى بايزيد في ذلك فأجابه وطلب إليه أن يتنازل له عن «ترسوس» و«أدنة» وأنه إذا لم يفعل يدعو الناس إلى الجهاد، فيجتمع تحت لوائه كل من يدعو لآل عثمان، فيجيء مصر ويفتحها فتحًا مبينًا. فخاف قايت بك وتنازل عن المدينتين اكتفاءً بأهون الشرين وكان ذلك سنة ٨٩٦ﻫ. فقايت بك أول من حارب العثمانيين. وكان عادلًا محبوبًا، وما زال العقلاء الذين عاصروا سائر دولة المماليك يضربون المثل بأيامه، ويطلبون الرجوع إلى مثلها.
(٢) حرب أخرى مع العثمانيين: قنسو الغوري
خلف قايتباي على مصر خمسة سلاطين لم يطل حكمهم أكثر من خمس سنين لاضطراب الأحوال فجاء بعدهم السلطان قنسو الغوري حكم من سنة ٩٠٦–٩٢٢ﻫ وكان مخلصًا في الحكم وهو صاحب الجامع المعروف باسمه في القاهرة.
ويهمنا هنا أن في أيامه حدث اختلاف آخر بين العثمانيين والمصريين. وذلك أن كركود أخا السلطان سليم بايازيد جاء مصر سنة ٩١٨ﻫ، فارًّا من أخيه، وكانا قد تخاصما على الملك كما حصل بجم وبايازيد قبلًا، فرحب قنسو الغوري به ترحابًا عظيمًا وجهَّزه بعشرين بارجة بحرية لافتتاح القسطنطينية، فذهبت العمارة غنيمة لمراكب «أورشليم» في البحر المتوسط ولم تكن النتيجة إلا إثارة غضب السلطان سليم على مصر فجهَّز إليها، وابتدأ بفتح الحدود السورية وأرسل إلى مصر رسائل التهديد، فاتحد الغوري مع ملك الفرس إسماعيل شاه على قهر العثمانيين، وكان الفرس في حرب معهم وسنعود إلى تفصيل ذلك إلا أن الجيوش العثمانية لم تبالِ بكثرة العدد فشتتت الجيشين وأي تشتيت! فعمد قنسو الغوري إلى مخابرة العثمانيين بأمر الصلح على أي وجه كان، وبعث إلى السلطان سليم بذلك فسارت الرسل إلى السلطان سليم فخروا ساجدين وخاطبوه بأمر الصلح، فقال لهم وقد استشاط غيظًا: «لقد فات الأوان. انهضوا وارجعوا إلى سلطانكم وقولوا له، إن الرِّجل لا تعثر بحجر واحد مرتين، وها إني ذاهب إلى القاهرة فيستعد للدفاع إن كان له أهلًا.»
فعادوا وأخبروا بما كان، فجمع قنسو رجاله وزحف لملاقاة الجيوش العثمانية فالتقى بها في «مرج دابق» قرب حلب فانتشبت الحرب هناك وأظهر الغوري بسالةً وثباتًا عظيمين حتى أوشكت رجاله أن تستظهر، فمنعتها مدافع العثمانيين من ذلك ولم يكن للمصريين مثل ذلك السلاح فتشوش نظامهم ووقع الرعب في قلوبهم، وانحاز قائدا جناحيهم إلى العثمانيين، وكان الغوري قائدًا لقلب الجيش فاضطر إلى الفرار، فحوَّل شكيمة جواده، فسقط عنه لشدة الازدحام وقتل تحت أرجل الخيل سنة ٩٢٢ﻫ.
(٢-١) آخر السلاطين المماليك
فخلفه الملك «الأشرف طومان باي» ابن أخيه، وفي أيامه فتح السلطان سليم مصر وصارت عثمانية، ولم يتم طومان باي سنة في حكمه. وقبل التقدم إلى تفصيل ذلك الفتح، نأتي بفذلكة عن تاريخ الدولة العثمانية إلى سنة الفتح فنقول:
(٣) الدولة العثمانية
هي دولة تركية لكنها تختلف عن دولة المماليك التركية (الأولى) المتقدم ذكرها أن أصحابها لم يكونوا من المماليك بل هم قوم أحرار أهل سيادة، جاءوا فاتحين. وقد نشأت في الإسلام عدة دول تركية منها أربع دول نشأت وانقرضت في أيام العباسيين قبل سقوط بغداد، وكان مؤسسوها في الغالب عمَّالًا للعباسيين في بعض الولايات ثم استقلوا، وهي: الدولة الطولونية والأيلكية والإخشيدية والغزنوية، وليس في الدول التركية دولة كان أصحابها أهل سيادة في بلادهم وجاءوا المملكة الإسلامية فاتحين إلا السلاجقة والعثمانيين.
أما دولة السلاجقة فمؤسسها أمير تركي كان في خدمة بعض خانات تركستان فعلم باختلال المملكة العباسية، فطمع بها وعلم أنه لا يبلغ ذلك وهو على غير دين الإسلام، فأسلم هو وقبيلته وسائر جنده ورجال عصبيته دفعة واحدة. ونهض بجميع هؤلاء من تركستان وساروا غربًا فقطعوا نهر جيحون وتدرجوا في الفتح ونشر السيادة حتى اكتسحوا المملكة العباسية، وامتد سلطانهم من أفغانستان إلى البحر الأبيض وكانت لهم بعد ذلك دولة عريضة تفرعت إلى خمسة فروع لا محل لذكرها هنا. ولما شاخت دولتهم، أفضت المملكة إلى مماليكهم، ويسمونهم الأتابكة، واحدهم «أتابك» فتفرعت المملكة السلجوقية بهم عشر ممالك، وبقي من السلاجقة فرع عرف بسلاجقة الروم في آسيا الصغرى، تفرع إلى ثماني إمارات أخذها منهم العثمانيون، وأقاموا دولتهم على أنقاضها كما سيجيء.
والعثمانيون شأنهم في تأسيس دولتهم مثل شأن السلاجقة، فإنهم جاءوا من تركستان وهم أهل دولة وأصلهم من التتر الذين يقطنون ما يجاور جبال التاي عند حدود الصين الشمالية، ويغلب على الظن أنهم الإسكتيون المعروفون قديمًا بالشجاعة وشدة البأس، ويقال إن جماعة منهم ينتسبون إلى جد يقال له «ترك» نزحوا غربًا في القرن الأول للميلاد، وأقاموا فيما هو الآن تركستان، وهي مشهورة بجودة الإقليم وخصب المرعى وجمال المكان وقوة الأبدان.
وما استتب لهم المقام هناك حتى أخذوا يمدون سلطتهم وهم لا يزالون في حال الجاهلية، ولم يعتنقوا الإسلام إلا في أواسط القرن الرابع للهجرة وأشهرهم طائفتان، إحداهما السلاجقة المتقدم ذكرهم. وقلنا إن منهم فرعًا ظل سائدًا في آسيا الصغرى إلى أواخر القرن السابع للهجرة، وسلطانه يومئذٍ علاء الدين كيقباد الثاني، تولى الملك سنة ٦٩٦ﻫ / ١٢٩٦م.
أما الأوغوزية فما زالوا مقيمين في تركستان حتى ظهر جنكيزخان القائد المغولي وغزا قبائل تلك البلاد، فأذعنوا له إلا الأوغوزية فإنهم هاجروا بقيادة أمير يدعى سليمان يطلبون مقامًا ومرعًى لماشيتها، وما زالوا يسيرون غربًا حتى حدث وهم يعبرون الفرات أن أميرهم سقط بجواده في النهر ومات، فدفنوه هناك وهو جد السلطان عثمان مؤسس هذه الدولة فأصبحوا بعده جماعات متفرقة، فاتخذ ابنه أرطغرل قيادة جماعة منهم وسار بهم يخترق آسيا الصغرى، وهو في بعض السهول شاهد أرطغرل عن بعد غبارًا متصاعدًا وحربًا قائمة، فتقدم على نية الانتصار لأضعف الفئتين المتحاربتين، ففعل وهو لا يدري لمن ينتصر، فقيض الله النصر له، وتقهقرت الفئة الأخرى ثم علم أنه انتصر للسلجوقيين وقهر المغوليين، فشكر الله على ذلك.
فنال منزلة رفيعة لدى علاء الدين السلجوقي فأقطعه بقعة كبيرة يقيم فيها برجاله على حدود فريجيا وبيثينا فكانت أرضًا خصيبة ذات مرعًى حسن — وفي تلك البقعة نشأ ابنه عثمان.
وشب وترعرع وما زال أرطغرل تحت رعاية علاء الدين حتى تُوفِّي فخلفه ابنه عثمان.
ثم تُوفِّي علاء الدين فاقتسم أمراؤه مملكته، فاستقل عثمان بما لديه سنة ١٣٠٠م وهو أول أمراء آل عثمان.
ومن التقاليد المأثورة بين العثمانيين، أن عثمان هذا عشق وهو شاب فتاة تدعى «مال خاتون» وكان والدها شيخًا تقيًّا ورعًا طاعنًا في السن اسمه أدَبَالي، فلما شعر بمحبة عثمان لابنته، خاف العاقبة وصار يحاول إبعادهما الواحد عن الآخر، وبالغ في حجاب ابنته لأنه لم يكن يطمع بمصاهرة ابن حاكمه.
فجاء عثمان ذات ليلة ليبيت في منزل أدَبَالي وقضى معظم الليل هاجًا بحبيبته حتى غلب عليه النعاس، فرأى في الحلم كأن القمر خارج من صدر أدبالي، ثم رآه يتسع بسرعة حتى غطى كل ما كان واقعًا تحت نظره من الأرض، ثم أخذ في التقلص حتى عاد إلى حجمه الأول، وارتد إلى صدر أدبالي كما كان، ثم رأى شجرة عظيمة خارجة من صلب أدبالي، وأخذ ظلها يمتد حتى غطى البر والبحر وتراءى له أن أنهر دجلة والفرات والطونة والنيل خارجة من أصل تلك الشجرة. وجبال قوقاس وأطلس وطوروس وهيموس تستظل بأغصانها. ورأى أوراقها تستطيل وتسترق حتى صارت كالسيوف ورءوسها مصوبة إلى أشهر عواصم العالم، خصوصًا القسطنطينية الواقعة في ملتقى القارتين ومجمع البحرين. وخيل له أنها جوهرة بين زمردتين وياقوتتين مصطنعة في فص خاتم وأنه أَهَمَّ أن يجعل ذلك الخاتم في إصبعه، فاستيقظ مبغوتًا، فأخبر أدبالي في الصباح بما كان، فاستبشر بما سيكون من مستقبل ذلك الشاب، وأنه سيمتلك القسطنطينية.
وما انفك خلفاء عثمان كلما اتسع سلطانهم يزدادون ثقة بمآل ذلك الحلم، وقد حاول بعضهم فتح القسطنطينية، فرجع ولم ينل وطرًا، حتى ظهر محمد الفاتح السابع من سلاطين آل عثمان، وبينه وبين صاحب الحلم نحو ١٦٠ سنة، ففتحها بعد أن يئس المسلمون من فتحها.
وحارب العثمانيون أعظم ملوك أوربا، وطاردوهم إلى بلاد المجر، وحاصروا فيينا عاصمة النمسا، وأخذوا الجزية من الأرشيدوق فردينان، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطئ آسيا، ووجهوا مطامعهم من الجهة الأخرى نحو الشرق ففتحوا العراق والشام ومصر على يد السلطان سليم الفاتح الذي نحن في صدده.
(٣-١) الإنكشارية
وقد تمكَّن العثمانيون من هذه الفتوح العظيمة بواسطة الإنكشارية، وهم جند أنشأه العثمانيون على شكل خاص لم يسبق له مثيل؛ لخلوه من عصبية تبعثه على التمرد، لأنه مؤلف من الغلمان الذين كان العثمانيون يأسرونهم في الحرب وأكثرهم من أصل مسيحي. فكان العثمانيون في أول دولتهم إذا فتحوا بلدًا دخل في حوزتهم من أهله المأسورين جماعة من غلمان النصارى الذين قُتل آباؤهم وأصبحوا لا نصير لهم، ولا مرجع لمآلهم، فارتأى قرة خليل وزير السلطان أورخان ثاني سلاطين آل عثمان (سنة ٧٢٦–٧٦١ﻫ) أن يربي أولئك الغلمان تربية إسلامية ويدربهم على الفنون الحربية، ويجعلهم جندًا دائمًا لا يخشى منه التمرد؛ لأنه لا يعرف عصبية غير الدولة، ولا عملًا غير الجندية، ولا دينًا غير الإسلام، فَجَنَّدهم وسار بهم إلى الحاج بكطاش شيخ طريقة البكطاشية بأماسيا، ليدعو لهم فدعا لهم وسماهم «يكي جري»؛ أي الجند الجديد.
ولم يكن قره خليل هذا أول من فكَّر في تجنيد غلمان النصارى كما يظن أكثر مؤرخي الأتراك، فإن الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر الذي تقدم ذكره، فعل ذلك قبل تأسيس الدولة العثمانية وهو متوجِّه إلى دمشق سنة ٦٦٥ﻫ لملاقاة عساكره العائدة من غزوة بلاد سيس، فنزل بلدًا اسمه قارا بين دمشق وحمص، فأمر بنهب أهلها النصارى وقتل كبارهم لأنهم كانوا يسرقون المسلمين ويبيعونهم سرًّا للصليبيين، وأخذ صبيانهم مماليك رباهم بين الأتراك في الديار المصرية، فنشئوا على الإسلام وتجندوا في الجيش التركي.
على أن قره خليل جعل للإنكشارية شروطًا لم يسبق لها مثيل، فقسمهم إلى وجاقات واحدها وجاق، والوجاق يقسم إلى أُورَط إحداها أورطة، ولكل أورطة عدد تعرف به، ولبعضها أسماء خاصة. ويختلف عدد الجند في كل أورطة حسب العصر من ١٠٠ إلى ٥٠٠، ويختلف عدد الأورط في الوجاقات بمقتضى ذلك، وأكبر ضباط الوجاق أو قائدها الأكبر يسمى «أغا» تحته سكبان باشي، تحته غيره فغيره على هذه الصورة.
- الأغا: قائد الوجاق ويقابل اللواء في هذه الأيام.
- سكبان باشي: ينوب عن الأغا في الآستانة ويقابل القائمقام اليوم.
- قول كخيا أو كخيا بك: نائب الأغا أو السكبان باشي.
- سمسونجي باشي: قائد أورطة نمرو ٧١.
- زغرجي باشي: قائد الأورطة نمرو ٦٤.
- محضر أغا: ينوب عن الإنكشارية عند الصدر الأعظم.
- خصكي: ينوب عن الأغا في القيادة على الحدود.
- باشجاويش: قائد الأورطة الخامسة.
- كخيا بري: ينوب عن الوجاق لدى الأغا.
- الأفندي: الكاتب.
- (١)
«الجوربجي»: رئيس الأورطة يشبه الكولونيل.
- (٢)
«أوده باشي»: نائب الجوربجي في المناورات العسكرية.
- (٣)
«وكيل الخرج»: يتولى أمر الطعام والشراب.
- (٤)
«بَيْراقدار»: يتولى الأعلام والبيارق.
- (٥)
«باش اسكي»: يتولى قيادة القراقولات.
- (٦)
«اشجي»: الطاهر.
قوانين الإنكشارية
- (١)
الطاعة العمياء لقوادهم وضباطهم أو من ينوب عنهم.
- (٢)
تبادل الاتحاد بين الفرق كأنها فرقة واحدة وتكون مساكنها متقاربة.
- (٣)
التجافي عن كل ما لا يليق بالجندي الباسل من الإسراف أو الانغماس ويكون سؤلهم على البساطة في كل شيء.
- (٤)
الإخلاص في الانتماء إلى الحاج بكطاش من حيث الطريقة مع القيام بفروض الإسلام.
- (٥)
لا يقبل في سلك الإنكشارية إلا الذين يشبُّون من غلمان الأسر على التربية الخاصة بين غلمان الأعاجم.
- (٦)
إن الحكم عليهم بالإعدام ينفذ بشكل خاص.
- (٧)
يكون الترقي في المراتب حسب الأقدمية.
- (٨)
لا يجوز أن يوبخ الإنكشارية ولا يعاقبهم غير ضباطهم.
- (٩)
إذا عجز أحدهم عن العمل يحال على المعاش.
- (١٠)
لا يجوز لهم إرسال لحاهم.
- (١١)
لا يجوز لهم أن يتزوجوا.
- (١٢)
لا يجوز لهم الابتعاد عن ثكناتهم.
- (١٣)
لا يجوز لهم أن يتعاطوا عملًا غير الجندية.
- (١٤)
يقضون أوقاتهم بالرياضة البدنية والتمرين على الحركات العسكرية.
فإذا تدبرت هذه القوانين هان عليك تصور الأعمال العظيمة التي أتاها هذا الجند في مصلحة الدولة العثمانية من الفتوح العظام.
وقد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة ترفع الناس عن الانتظام في هذا الجند لأنه مجموع من لقطاء لا يعرف لأحد منهم أب ولا أم، ولكنك تفهم من البند الخامس من قوانينهم أنهم كانوا يحظرون على غير اللقيط أو المملوك الانتظام في جندهم، وكان السلاطين يشددون في تعظيم هذا الأمر في عيونهم.
رواتب الإنكشارية (العلوفة)
الأصل في ترتيب العلوفة أن تدفع يوميًّا، لكنها لم تكن تُدفع إلا مرة كل ثلاثة أشهر، تخفيفًا للثقلة، فكانوا يؤدونها أربع مرات في السنة، وتعرف كل مرة باسم مؤلف في ثلاثة أحرف مقتطعة من أسماء أوائل شهورها، فالربع الأول من السنة مؤلف من ثلاثة أشهر محرم وصفر وربيع، فالأحرف الأولى من هذه الأشهر إذا جمعت من هذا الترتيب كانت «مصر» وعلى هذا النسق كانوا يسمون الربع الثاني رجج، وقد يقطعون من اسم الشهر غير حرفه الأول مراعاة للفظ، فالربع الثالث (رجب، شعبان، رمضان) يسمونه رشن بإقطاع النون من رمضان بدل الراء، وقس على ذلك. وكانت لهم رسومهم في تفريق العلوفة لا محل لها.
أما مقدار العلوفة فقد كان في أول إنشاء هذا الجند درهمًا واحدًا عن كل إنكشاري في اليوم ثم ارتفعت إلى ثلاثة دراهم. وفي ختام سنة ١٠٠٠ صارت العلوفة خمسة دراهم، وكان للإنكشارية هدايا ينالونها في الأعياد، وعند تولية السلاطين يسمى بخشش الجلوس، وكان هذا البخشش يعطى لسائر الجند ولكبار الموظفين، وله مقادير معينة.
ملابس الإنكشارية
وكان المعول عند العثمانيين في التفريق بين الرتب وتمييز أصحابها بعضهم عن بعض بأشكال القلانس (القاووق)، أو الأقبية (القفطان)، أو الأحزمة (الكمر) أو ألوانها فكان لكل طائفة من رجال الدولة قلنسوة شكلها خاص بهم وكذلك الأقبية والأحزمة وغيرها على اختلاف في ألوانها وأشكال أزرارها فضلًا عن الأعلام. واختلف المؤرخون في وصف هذه الألبسة، واختلفوا في أسمائها وأشكالها باختلاف العصور، وفي الرسوم المنشورة هنا مثال منها.
(٣-٢) السلطان سليم الفاتح
ولد سنة ٨٥٩ﻫ وتولى ٩١٨ﻫ وفتح مصر سنة ٩٢٣ﻫ وتُوفِّي سنة ٩٢٦ﻫ.
هو السلطان التاسع من سلاطين آل [عثمان]، وهو أول خليفة منهم لأن السلاطين قبله لم يكونوا خلفاء، وهو أول من بويع بالخلافة كما سيجيء، وأصبح السلاطين بعده خلفاء أيضًا؛ أي إن كلًّا منهم سلطان وخليفة أي له السلطتان السياسية والدينية. وبما أنه هو فاتح مصر حق علينا أن نذكر ترجمته.
هو ابن السلطان بايزيد الثاني وقد تقدم في ترجمة قنسو الغوري أنه تخاصم مع أخيه كركود وفرَّ هذا إلى مصر واحتمى بسلطانها قنصو. وسبب هذا الخصام أنه كان لبايزيد الثاني (سنة ٨٨٦ﻫ–٩١٨ﻫ) ثمانية أولاد ذكور، تُوفِّي منهم خمسة وبقي ثلاثة، وهم كركود وأحمد وسليم. وكان كركود يحب العلم ومجالس العلماء، فمقته الإنكشارية لأنهم أهل حرب لا رزق لهم إلا بها، وكان أحمد محبوبًا لدى أعيان الدولة والأمراء، أما سليم فكان رجل حرب وبطش فأحبه الإنكشارية ونصروه.
ولحظ والدهم اختلافهم في المشارب والمناقب فخاف تنازعهم ففرَّق بينهم، فعيَّن كركود واليًا على إحدى الولايات البعيدة، وولَّى أحمد على أماسيا وسليمًا على طرابزون. وكان لسليم ولد اسمه سليمان (صار بعد ذلك سليمان القانوني) فعيَّنه جده بايازيد واليًا على «كافا» من بلاد القرم، فلم يرضَ سليم بمنصبه في طرابزون فتركه وسافر إلى كافا، وبعث إليه أبيه يطلب إليه أن يعينه على ولاية في أوربا. فلم يقبل السلطان بايازيد، وأصر على بقائه في طرابزون، فجاهر سليم بالعصيان على والده، وزحف بجيش جمعه من قبائل التتر إلى بلاد الروملي، فبعث والده جيشًا لإرهابه، فلم يتهيَّب، فلم يرَ بايازيد بدًّا من مراضاته حقنًا للدماء، فعينه واليًا على مدينتي سمندرية وودين في بلاد البلغار سنة ١٥١١.
فلما علم كركود بنجاح أخيه أحب أن يقتدي به، فانتقل إلى ولاية صاروخان، وتولاها بدون أمر أبيه، ليكون قريبًا من القسطنطينية عند الحاجة، وخرج سليم على أدرنة وأعلن نفسه سلطانًا عليها، فجرد والده عليه جندًا لمحاربته، وجندًا لمحاربة أخيه كركود في آسيا. ففر سليم إلى بلاد القرم، وفرَّ كركود أيضًا، فأخذ الإنكشارية يناصرون سليمًا، وألجئوا السلطان إلى العفو عنه، وإعادته إلى ولايته في سمندرية، فلاقاه الإنكشارية في أثناء الطريق وحملوه إلى القسطنطينية، وأدخلوه سراي السلطان باحتفال وطلبوا إلى بايازيد أن يتنازل عن الملك لابنه هذا فأطاع وترك القسطنطينية ليقضي باقي حياته في ديموتيقا، فتُوفِّي في الطريق ويُظن أن ابنه سليمان دس له السم خوفًا منه.
تولى السلطان سليم العرش العثماني سنة ٩١٨ﻫ بقوة الإنكشارية فوزَّع فيهم الجوائز، وعيَّن ابنه سليمان حاكمًا على القسطنطينية وخرج بجيوشه على أخويه وأولاده حتى يهدأ باله ويستقر له الملك بلا منازع، فاقتفى أثر أخيه أحمد إلى أنقرة، فلم يقدر عليه هناك، فذهب إلى «بورصة» فقبض فيها على خمسة من أولاد إخوته، وأمر بقتلهم. ثم شخص إلى «صاروخان» مقر أخيه «كركود» ففر «كركود» إلى الجبال. وما زال يطارده حتى قبض عليه وعاد إلى أحمد، فحاربه، فانهزم فطارده حتى قُتل سنة ٩١٩ﻫ.
فاطمأن بال سليم من جهته الداخلية؛ إذ استقر له الملك بذهاب منازعيه، ومال إلى المهادنة. فعاد إلى أدرنة وكان في انتظاره هناك سفراء البندقية والمجر وموسكو ومصر. فأبرم معهم عهدًا على المهادنة لمدة طويلة؛ لأن مطامعه كانت متجهة إلى بلاد الفرس، لمحاربة الشيعة. وكان الفرس في عهد الدولة الصفوية، وقد أسسها شاه إسماعيل سنة ٩٠٧ﻫ. وفتح شروان واستقر في تبريز، فجعلها عاصمة مملكته، ثم فتح العراق وخراسان وما وراءها إلى هرات. فغلب على حكامها التيموريين التتر. فامتدت سلطته من نهر الأكسوس إلى خارج فارس؛ أي من أفغانستان إلى الفرات، فخافه العثمانيون، وهاجت فتوحه مطامعهم وتنبَّهت الضغائن بين السنَّة والشيعة، والعثمانيون حماة السنة كما كان الصفويون حماة الشيعة.
وكان إسماعيل شاه، لما تمرد سليم وأخوه أحمد على أبيهما، أخذ يناصر أحمد في عصيانه على أبيه، ثم على أخيه سليم. وكتب من الجهة الأخرى إلى مصر يطلب محالفتها على العثمانيين عند الحاجة، فبلغ ذلك إلى السلطان سليم، وهو رجل حرب وبطش. فهاجت مطامعه، ولم يعد يقنع بغير الفتح والتغلب على الدولتين جميعًا، وأمر بالقبض على من كان في شيعته في حدود مملكته، وعددهم نحو ٤٠٠٠٠ وقتلهم، وأعلن شاه إسماعيل بالحرب وخرج بجيوشه من أدرنة في ٢٢ محرم سنة ٩٢٠ (١٩ مارس ١٥١٤م) وعددهم ٤٠٠٠٠ ماشٍ و٨٠٠٠٠ راكب. وجرت بينه وبين الشاه إسماعيل في أثناء مسيره مكاتبات محشوة بالتهديد والوعيد. وجعل السلطان سليم وجهته مدينة تبريز عاصمة الشاه المذكور.
وكانت الجنود الفارسية في أثناء الطريق تتقهقر أمام العثمانيين خداعًا حتى يتبعوهم، ثم ينقضُّون عليهم. حتى إذا وصلوا إلى أرباص تبريز؛ جرت واقعة انتصرت فيها الجنود العثمانية بقيادة «سنان باشا»، وفرَّ الشاه بمن بقي من جنده وخلَّف وراءه كثيرين من قواده وأهله في الأسر، وكان من جملة الأسرى إحدى زوجاته، فزوجها السلطان سليم من بعض كتَّابه انتقامًا من الشاه. وفتحت تبريز أبوابها، فدخلها الفاتح العثماني ظافرًا واستولى على خزائنها وذخائرها وأرسلها إلى القسطنطينية وفي جملتها عرش مرصع بالماس والياقوت ومطرز باللؤلؤ هو الآن في جملة ذخائر آل عثمان في سراي طوب قبو بالآستانة، وقد شاهدته ووضعته في مجلة الهلال السنة ١٨.
وبعد ثمانية أيام اضطر لإخلاء تبريز لقلة المئونة اللازمة لجنده وأخذ في مطاردة الشاه، ففتح ديار بكر وغيرها، وأراد الإيغال في بلاد الفرس، فتوقف الإنكشارية عن ذلك، وقد ملُّوا الحرب، وتعبوا من الأسفار فعاد إلى أماسيا للاستراحة في أثناء الشتاء والاستعداد للحرب في أوائل الربيع.
فلما كان الربيع، استأنف الحملة، ففتح بعض البلاد ورجع إلى القسطنطينية، وخلَّف بعض قواده لإتمام الفتح. وحال وصوله إلى القسطنطينية؛ حاسب قواد الإنكشارية على توقفهم عن السير في حملته المشار إليها، وقتل عددًا كبيرًا منهم، وقتل قاضي العسكر جعفر جلبي؛ لأنه كان من أكبر المسببين لذلك التمرد. وخاف تمردهم ثانية، فغيَّر نظام تعيين الرئيس، وكانوا يعينونه من أكبر قوادهم، فجعل لنفسه الحق في تعيين ذلك الرئيس.
وأما جنوده فإنها واصلت الحرب، ففتحت ماردين وأورفه والرقة والموصل، فتم بذلك الفتح ولاية ديار بكر، وخضعت قبائل الأكراد له. ولما تأتَّى له ذلك، فكَّر في فتح مصر انتقامًا من قنسو الغوري على تحالفه مع الشاه إسماعيل وجرت معركة مرج دابق، وقتل قنسو الغوري، كما تقدم، فحمل على مصر.
(٤) كيف كانت مصر لما جاءها السلطان سليم؟
إنه (قنسو) أحدث في أيام دولته من أنواع المظالم ما لم يحدث في سائر الدول من قبله، ومنها أن معاملته في الذهب والفضة والفلوس الجدد أنحس المعاملات جميعها زغل ونحاس وغش لا يحل بها بيع ولا معاملة في ملة من الملل، ومنها ما قرره على الحسبة في كل شهر وهو مبلغ ٢٧٠٠ دينار، وكانت السوقة تبيع البضائع بما يختارونه من الأثمان، ولا يقدر أحد أن يكلمهم فإن كلمهم أحد يقولون علينا مال السلطان فكانت سائر البضائع في أيامه غالية بسبب ذلك، وقرر على دار الضرب مالًا له صورة في كل شهر فكانوا يضيفون في الذهب والفضة النحاس والرصاص جهارًا فكان الأشرفي الذهبي إذا صفي يظهر فيه ذهب يساوي اثني عشر نصفًا. وقد سلم السلطان دار الضرب إلى شخص يسمى جمال الدين، فلعب بأموال المسلمين وأتلف المعاملة وسبك ذهب السلاطين المتقدمة حتى صار لا يلوح لأحد من الناس منها دينار ولا درهم، فلما شنق جمال الدين قرر في دار الضرب المعلم «يعقوب اليهودي» فمشى في طريقة جمال الدين، وقد استباح أموال المسلمين، فكان النصف الفضة ينكشف في ليلته ويصير في جملة الفلوس الحمر، فاستمر الغش في معاملته في مدد دولته إلى أن مات.
ومنها أنه كان يولي الكشاف ومشائخ العربان على بلاد المقطعين والأوقاف فيأخذ منهم المِثل أمثالًا. فضعف أمر الجند يومئذٍ وتلاشى حال البلاد الشامية والحلبية. وكان يفرض عليهم الأموال الجزيلة في كل سنة، فيأخذونها من الرعية. وزيادة الظلم والعسف فكان كل واحد من الرعية أصحاب الإقطاع والأوقاف يتمنى الرحيل من بلاده إلى غيرها، من عظم الظلم الذي يصيبهم من النواب، ولا سيما ما حصل لعربان جبل نابلس بسبب المال الذي قرره عليهم لأجل المشاة عند خروج التجريدة فما حصل لأهل البلاد الشامية بسبب ذلك خير، وكان حسين نائب جده يأخذ العشر من تجار الهند، المِثل عشرة أمثال، فامتنعت التجار من دخول بندر جده، وترك أمره إلى الخراب، وعز وجود الشاشات بمصر، وعز وجود الأصناف التي كانت تجلب من بلاد الإفرنج والأرز والأنطاع وخرب البندر، وكذلك بندر الإسكندرية، وبندر دمياط، فامتنعت تجار الإفرنج من الدخول إلى تلك البنادر من كثرة الظلم وكان كل أحد من أراذل الناس، يتقرب إلى خاطر السلطان بنوع من أنواع المظالم. فقرر على بيع الغلال قدرًا معلومًا يؤخذ على كل أردب، ثلاثة أنصاف من البائع ومن المشتري، وكذلك على البطيخ والرمان حتى حرج على بيع الملح.
وجدد في أيامه عدة مكوس من هذا النمط، ولم يفته من أعيان التجار أحد لم يصادره، وصادر أمير المؤمنين المستمسك بالله يعقوب، وأخذ منه مالًا له صورة، ودخل في جملة ديون، حتى أورد ما قرره عليه.
وأما من مات تحت عقوبته بسبب المال، فمنهم: «القاضي بدر الدين بن مزهر» كاتب السر، ومنهم: «شمس الدين بن عوض»، و«معين الدين بن شمس الدين»، و«علم الدين» كاتب الخزانة، وغير ذلك، جماعة كثيرة من المباشرين والعمال، ماتوا في سجنه بسبب المال والصادرات.
ومن أفعاله الشنيعة، ما فعل مع أولاد الناس من خروج أقاطيعهم، ورزقهم من غير سبب، وإعطاء ذلك إلى مماليكه الجلبان، ومنها قطع جوامك الضعفاء والأيتام من الرجال والنساء والصغار. وحصل لهم الضرر الشامل بسبب ذلك.
ومنها أنه أرسل فك الرخام الذي بقاعة ناظر الخاص يوسف، التي تسمى نصف الدنيا، ووضع ذلك الرخام في قاعة البيسرية التي في القلعة.
ومنها أنه قطع معتاد الناس في الديوان المقرر من قديم الزمان، وجدد أخذ الحمايات من المقطعين من قبل أن يزيد النيل وتزرع الأراضي.
ثم تزايد حرصه على جمع الدنيا حتى صار يحاسب السواقين، الذين في سواقي القلعة والخولة الذين في سواقي الميدان في الجلة وروث الأبقار، وما يتحصل كل يوم مما يبيعونه وقرر عليهم مبلغًا يؤدونه للذخيرة الشريفة.
وكانت أرباب الوظائف من المباشرين والعمال منه في غاية الضيق، لا يغفل عنهم من المصادرات يومًا واحدًا. وكان من حين تُوفِّي الأمير خاير بك الخازندار يباشر ضبط الخزانة بنفسه، ما يدخل إليها، وما يخرج منها، وما يعرضون عليه من الأمور في ذلك جميعه، من الوصولات، وما يصرف من الخزائن في كل يوم.
وكانت هذه الأموال العظيمة، التي تدخل له، يصرفها في عمائر ليس بها نفع للمسلمين، ويزخرف الحيطان والسقوف بالذهب، وهذا عين الإسراف لبيت مال المسلمين.
وكان يهرب من المحاكمات، كما يهرب الصغير من الكتب وما كانت له محاكمة تخرج على وجه مُرْضٍ، بل على أمور مستقبحة، وكان يتغافل عن أمر القتلى، ويدفعهم إلى الشرع، ويضيع حقوق الناس عليها.
وكان يكسل عن علامة المراسيم، فلا يعلِّم على المراسيم إلا قليلًا، فتتعطل أشغال الناس بسبب ذلك، حتى كانت تشترى العلامة العتيقة بأشرفي حتى تُلصق على المرسوم، لأجل قضاء الحوائج، ولو شرحنا مساوئه كلها، لطال الشرح. انتهى.
(٥) سلطنة الأشرف طومان باي
تلك حال مصر في زمن «قنسو الغوري» ثم أفضى عرشها إلى الأشرف طومان باي سنة ٩٢٢ﻫ. وكانت سيادة المماليك منتشرة يومئذٍ على مصر، وسوريا إلى حدود العراق.
- الأتابكي سودوه العجمي: أمير السلاح.
- الأمير أركماس بن طراباي: أمير المجلس.
- المقر الناصر بن محمد: أمير ياخور.
- الأمير سودون الدوادار: رأس النوبة.
- الأمير أنسباي بن مصطفى: حاجب الحُجَّاب.
فضلًا عن بضعة عشر أميرًا من القواد، وناهيك بالأمراء النواب في البلاد الشامية والحلبية وهم عديدون.
وقد تقدم أن جند مصر معظمه من المماليك المبتاعين بالمال. فهم إنما يعملون طمعًا بالكسب الشخصي، وليس لأحد منهم عائلة أو أسرة، يغار على وطنه من أجلها إلا نادرًا.
فلما قُتل الغوري في معركة «مرج دابق» التفَّ أكبر رجاله حول السلطان سليم، وصاروا من أتباعه، وأخذوا يتقربون إليه بذكر مساوئ مولاهم وأمرائه ويظهرون له معائبهم وقبائحهم، ولم يذكروا شيئًا من إحسان الغوري إليهم. وبعضهم خانه في حياته، فإن نائب قلعة حلب سلَّم القلعة للعثمانيين من غير حرب.
أما سائر الجند والأمراء فهربوا إلى مصر، وحال وصولهم طلبوا تعيين «طومان باي» سلطانًا محل عمه «الغوري»، فامتنع لأنه كان لا يعجبه تصرفهم في الرعايا على نحو ما تقدم عن أعمال الغوري، ولم يكن «طومان باي» ممن يرضى بذلك، فألحوا عليه أن يقبل ذلك المنصب، فاصطحبهم إلى الشيخ أبي السعود، وهو من أهل الكرامة، فأحضر لهم مصحفًا، وحلف الأمراء الذين حضروا بصحبة طومان باي، بأنهم إذا سلطنوه، لا يخونونه، ولا يغدرون به، ولا يخامرون عليه، وأنهم يرضون بقوله وفعله، فحلف للجميع على ذلك ثم إن الشيخ حلَّفهم ألَّا يعودوا إلى ما كانوا عليه من ظلم الرعايا، وألَّا يشوشوا على أحد بغير طريق شرعي، ولا يجددوا مظلمة، وأن يبطلوا جميع ما أحدثه الغوري من المظالم، ويبطلوا ما كانت على الدكاكين من المشاهدة والمجامعة، وأن يجروا الأمور كما كانت في أيام الأشرف قايدباي، فحلفوا وانفض المجلس.
فتولى «طومان باي» سلطنة مصر رغم إرادته وهو يرى ما كانت عليه من الفساد والخلل، وما استولى على الرعايا من اليأس على أثر مظالم عمه الغوري التي ذكرناها. وكان من بين ما احتج عليهم به، أن بيت المال ليس فيه درهم ولا دينار. قال: «فإذا تسلطنت من أين أنفق على الجند؟» وهو يخاف ألا يطيعه الأمراء في محاربة العثمانيين، لكنهم ما زالوا عليه حتى بايعوه كما تقدم ودفعوا له بخلعة السلطنة، وهي يومئذٍ الجبة السوداء والعمامة السوداء والسيف البداوي، ثم قدموا له فرس النوبة بغير كنبوش ولا سرج ذهب، ولا وجدوا آلة في الزردخانات، لا قيمة ولا طيرًا، ولا الغواشي الذهب، ولكنهم أتموا الاحتفال بالبيعة؛ تلك كانت حال المصريين لما جاءهم السلطان سليم لفتح بلادهم.
ولكن «طومان باي» كان حازمًا عاقلًا، فلما حُكم عليه أن يكون سلطانًا لم يرَ بُدًّا من الثبات والصبر وأخذ في رد المظالم وإصلاح الأحوال، ولكن بعد فوات الفرصة، على أنه أخذ إعداد حملة أخرى لمحاربة العثمانيين.