المعركة الفاصلة بين الجيشين
من السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد خان سلطان البرين وخاقان البحرين السلطان … إلخ، إلى طومان باي الشركسي
الحمد لله، أما بعد؛ فقد تمَّت إرادتنا الشاهانية، وباد إسماعيل شاه الخارجي، أما قنسو الكافر، الذي حملته القحة على مناوأة الحجَّاج، فقد نال جزاءه منا، ولم يبقَ لدينا إلا أن نتخلص منك؛ فإنك جار «عدو»، والله سبحانه وتعالى يساعدنا على معاقبتك، فإذا أردت اكتساب رحمتنا الشاهانية اخطب لنا، واضرب النقود باسمنا. وتعالَ إلى أعتابنا وأَقسِم على طاعتنا والإخلاص لنا وإلا …
فلما قرأ طومان باي الكتاب، وما في ذيله من التهديد المستتر، استشاط غيظًا، وأصرَّ على المقاومة. وكان عالمًا بعجزه، لكنه فضَّل الموت في ساحة الحرب على التسليم، فزاد في حصون دمياط وغيرها من الحدود السورية، وجمع ما أمكنه جمعه من الرجال، وسار لملاقاة العثمانيين حتى أتى الصالحية فعسكر هناك.
أما السلطان سليم، فسار إلى مرج دابق وافتتح غزة والعريش والقطيعة، ثم علم مقر الجيوش المصرية في الصالحية، وما هم فيه من العزم على المدافعة بشدة بأس، فعرج بجيشه تاركًا الصالحية عن يمينه، وسار حتى أتى الخانكاة على بضع ساعات من القاهرة.
فلما بلغ «طومان باي» تقدُّم العثمانيين إلى هذا القدر، عاد بجيشه لمهاجمتهم من الوراء. فالتقى الجيشان في سهل قرب «بركة الحج» يوم الجمعة في ٢٩ ذي الحجة سنة ٩٢٢ﻫ، واقتتلا طويلًا، والمصريون يحاربون ببسالة شديدة. لكنهم لم يكونوا يعرفون البارود ولا المدافع كما قدمنا، ولا يعرفون استخدامها، فكانت الغلبة للعثمانيين. ففر المصريون إلى القاهرة، وعسكر العثمانيون في الروضة. فجمع إليه «طومان باي» عددًا كبيرًا من العربان، بعد أن أرضاهم بالمال، وهجم على معسكر السلطان هجمة اليأس فلم ينل منهم وطرًا. فعاد إلى القاهرة على نية مواجهة الحصار، فزاد في حصونها واستحكامها. وحصَّن القلعة تحصينًا عظيمًا، وأقام في كل شارع وفي كل بيت طابية للدفاع، وحمل السلاح كلُّ من يستطيع حمله للدفاع عن الوطن ولكن رغم هذه الإعدادات، وما أظهره «طومان» من البسالة والإقدام، وما سعى فيه أمراؤه، لم تنجُ القاهرة من أيدي العثمانيين، فإنهم دخلوها عنوة وأمعنوا فيها قتلًا ونهبًا وحرقًا.
لا غرو إذا غُلبت المماليك على أمرهم بعد ما علمتَ من اضطراب أحوالهم وتغيُّر قلوبهم، وخلو خزائنهم من المال، فالعسكر كيف يحارب بلا مال؟ فقد كانوا في الحرب يأتون إلى القلعة للاستيلاء على جامكيتهم فيجيبهم ولاة الأمر «ليس في هذا اليوم جامكية لأن البلاد خراب والعرب مشتتة في الطرقات.» وكان لهم ستة أشهر لم يقبضوا رواتبهم من اللحم ونحوه. ومن أسباب الكسرة أن جند المغاربة الذين كانوا في مصر، توقفوا عن المحاربة، وقالوا نحن لا نحارب المسلمين، لا نحارب إلا الإفرنج.
ومع ذلك فإن «طومان باي» لم يألُ جهدًا في ترغيب الجند في الاتحاد والدفاع عن الوطن وشدَّد عزيمتهم وسبك مناصل، وعمل بندق الرصاص، وأكثر من الرماة.
ولكن الرعب كان سائدًا على أهل القاهرة، وعلى الجند، وهؤلاء إنما خرجوا للحرب لأن السلطان كان يجاهد بنفسه، حتى في بناء الاستحكامات، وكان يحمل حجارة بيده لبناء خطوط النار أو حفر الخنادق.
على أن جماعة من رجاله، انحازوا سرًّا إلى العثمانيين وأهمهم خاير بك صاحب حلب الذي تقدَّم أنه قامر على الغوري فكان عونًا للعثمانيين، ودسيسة لهم عند المصريين. وزِد على ذلك أن المماليك كانوا في عصر الانحلال، والعثمانيون في أوائل دولتهم، وقد جاءوا بالمدافع والبارود، ﻓ «طومان باي» جاء متأخرًا، وقد فسدت الأمور، فلم يستطع إصلاح شيء، رغم ميله الشديد إلى ذلك. وشدة إخلاصه في الدفاع عن الدولة والوطن وشأنه في ذلك شأن «مروان بن محمد» آخر خلفاء بني أمية فإنه كان حازمًا، شجاعًا، حسن النية، لكنه جاء متأخرًا فلم يمنع سقوط دولة بني أمية ولا منع طومان باي سقوط دولة المماليك.
فلما انهزم المماليك، وقد غلبوا على أمرهم، وتعقبهم العثمانيون إلى القاهرة. أخذوا في نهبها، وقد تعود أهلها ذلك في زمن المماليك إذا اختلفوا بينهم، فالعثمانيون أخذوا في نهب بيوت الكبراء، ودخلوا الطواحين، وأخذوا ما فيها من البغال والأكاديش، وأخذوا جمال السقايين، وصاروا ينهبون ما يلوح لهم من القماش إلى القروب وتوجهوا إلى شون القمح بمصر وبولاق، ونهبوا ما فيها من الغلال، وقد قال بعض الشعراء المعاصرين في ذلك:
وفي سلخ سنة ٩٢٢ﻫ، دخل الخليفة المتوكل القاهرة، ومعه وزراء السلطان سليم والجم الغفير من العساكر العثمانية.
ودخل معهم الأمراء خاير بك، وقاضي القضاة الشافعية وغيره ممن كان في أسر السلطان سليم في حين مات السلطان الغوري. دخل الخليفة المذكور من باب النصر وقدامه المشاعلية تنادي الناس بالأمان والاطمئنان، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وأن العساكر العثمانية لا يشوشون على أحد من الرعية، وأنه قد أغلق باب الظلم وفتح باب العدل، وأن كل من عنده مملوك شركسي، ولا يدل عليه، ثم ظهر عنده يشنق، وادعوا للملك المظفر سليم شاه بالنصر. فضج الناس بالدعاء، ولكن لم يلتفت أحد من العثمانية لهذه المناداة، وأخذوا ينهبون بيوت أولاد الناس بحجة أنهم يفتشون عن المماليك الشراكسة، فاستمر النهب في بيوت الأمراء، وأهل البلدة ثلاثة أيام متوالية، لا يتركون جِمالًا ولا بغالًا ولا قماشًا.
وانصر اللهم السلطان ابن السلطان، ملك البرين والبحرين، وكاسر الجيشين، وسلطان العراقيين، وخادم الحرمين الشريفين الملك المظفر سليم شاه، اللهم انصره نصرًا عزيزًا، وافتح له فتحًا مبينًا، يا مالك الدنيا والآخرة، يا رب العالمين.
وبالغ العثمانيون في مطاردة الشراكسة … حتى كانوا يدورون في الحارات والأزقة والأسواق. وكل من رأوه من أولاد الناس لابسًا زنطًا أحمر وتخفيفة، وهو لباس المماليك قالوا له أنت شركسي، وقطعوا رأسه، فلبس الناس العمائم، حتى أولاد الأمراء والسلاطين، وأبطلوا لبس الزنط والتخافيف في مصر. على أن ذلك لم يمنع تعديهم، فكانوا يتهمون الناس أنهم من الشراكسة، ثم يقولون لهم: افتدوا أنفسكم بالمال. فيفعلون.
وفي يوم الإثنين، ثالث المحرم سنة ٩٢٣ﻫ دخل السلطان سليم القاهرة. وبين يديه الخليفة المتوكل، والقضاة، وشق المدينة في موكب حافل، وقدامه الجنائب المسومة الكثيرة، وحوله العساكر المتزاحمة بين مشاة وفرسان، حتى ضاقت بهم الشوارع، وما زال سائرًا في المدينة حتى دخل من باب زويلة، ثم عرج من تحت الربع، وتوجه من هناك إلى بولاق، ونزل في المعسكر الذي نصبه تحت الرصيف، فلما شق المدينة، ارتفعت الأصوات بالدعاء في الناس قاطبة، وقد وصفه أحد المعاصرين الذين شاهدوه في ذلك اليوم، فقال: إنه دري اللون، حليق الذقن وافر الأنف، واسع العينين، قصير القامة، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وفيه خفة وهرج، كثير التلفت إذا ركب.
أما «طومان باي» فإنه ثبت في تلك الحروب ثبات الأبطال، لكنه اضطر أخيرًا للفرار في ٨ محرم، فذهب إلى الصعيد، واتفق مع بعض قبائل العرب هناك على الدفاع عن الوطن، ومصادرة ما يحمل العثمانيين من الغلال ونحوها. فالتفَّ حوله جماعة كبيرة ممن خافه السلطان سليم، ثم جرت المخابرة بشأن الصلح والأمان ولم يتم شيء.
وأتى «طومان باي» برجاله إلى الجيزة، فخرج إليهم السلطان سليم، فحدثت معركة كالتي حدثت ببركة الحاج، وكان الفوز أولًا ﻟ «طومان باي» ورجاله.
ثم تكاثر العثمانيون وأكثروا من رمي الرصاص فانكسر المماليك وانهزم «طومان باي» فأمعن السلطان سليم فتكًا فيمن وقع في أيديه منهم، ذكر «ابن إياس» أن العثمانيين، قطعوا رءوس المماليك الشراكسة وجماعة من العربان الذين كانوا مع «طومان باي». فلما تكامل قطع الرءوس، أحضروا مراكب نصبوا فيها مداري من خشب، وعلقوا عليها تلك الرءوس وحملتها النواتية على أكتافهم ولاقتهم الطبول والزمور، وزينوا القاهرة لذلك.
وبعث السلطان سليم يتعقب «طومان باي» حتى تمكَّن منه بالحيلة، فأتوا به مغلولًا إلى ما بين يدي السلطان، فنظر إليه، فإذا هو في حالة الغضب، وقد علا وجهه القنوط لما حل ببلاده من الذل فتحركت عواطف السلطان سليم، فأمر أن تحل قيوده، وبأن يؤذن له بالحضور في مجتمعات كان يعقدها السلطان سليم للمداولة في أمر البلاد، فكان يسأله مسائل كثيرة تتعلق بأحوال البلاد الاقتصادية والسياسية والإدارية ظلوا على ذلك عشرة أيام. وفي اليوم العاشر، رأى السلطان سليم أنه لم يعد في حاجة إلى مشورة «طومان باي» فأمر بشنقه في ١٩ ربيع أول سنة ٩٢٣ فعلقوه تحت رواق باب زويلة بكلَّاب من حديد، كان باقيًا هناك إلى عهد غير بعيد.
وبقتل «طومان باي» انتهت دولة المماليك الشراكسة، أو البرجية. بعد أن تسلطنوا نحو ١٣٩ سنة وأصبحت مصر إيالة عثمانية. والسلطان سليم أول من خطب على منابرها من العثمانيين، ولا تزال عثمانية إلى الآن.
ولكن المراد في هذا الكتاب التكلم عن تاريخ سيادتها الفعلية عليها سنة ٩٢٣ﻫ (١٥١٧م) إلى الحملة الفرنساوية سنة ١٢١٢ﻫ (١٧٩٧م) وهي نحو ٢٩٠ سنة، كانت الحكومة على ترتيب وضعه السلطان سليم سيأتي ذكره. فأصابها في أثناء ذلك تعديل اقتضته طبيعة ذلك الحكم، بحيث يمكننا أن نقسم تلك المدة إلى أربعة أدوار على هذه الصورة:
عدد السنين.
- الدور الأول: من الفتح العثماني سنة ٩٢٣ﻫ إلى سلطنة أحمد بن محمد ١١١٥ﻫ، وكانت الكفة الراجحة فيه للباشوات الذين كانت ترسلهم الدولة العثمانية من الآستانة لحكومة مصر، ثم للجند وطول هذه المدة ١٩٢ سنة.
- الدور الثاني: من سلطنة أحمد بن محمد إلى سلطنة عبد الحميد الأول سنة ١١٧٧، وكانت الكفة الراجحة فيه للمماليك.
- الدور الثالث: وهو المدة التي استقل بها علي بك الكبير بحكومة مصر، حتى قُتل وعادت مصر إلى كنف الدولة سنة ١١٨٧.
- الدور الرابع: من رجوع مصر إلى حوزة الدولة العثمانية إلى الحملة الفرنساوية سنة ١٢١٩.
فلنذكر تاريخ كل دور من هذه الأدوار فنبدأ بالتاريخ السياسي ونلحقه بفذلكة من تاريخ العلم والأدب. وخلاصة تراجم العلماء في كل دور، وما خلفوه من الآثار الأدبية فنقول: