الدور الرابع من سلطنة العثمانيين على مصر
لم يتوالَ على العرش العثماني في أثناء هذا الدور إلا سلطانان، مدة حكمهما جميعًا ٢٥ سنة، والحال متضعضعة كما سترى.
(١) سلطنة عبد الحميد الأول
هو ابن السلطان أحمد، تولى العرش العثماني وسنه خمسون سنة، وكان قد قضى مدة حكم أخيه مصطفى محجورًا عليه في قصره — كما جرت العادة — ولم يستطع توزيع المال على الجند حسب العادة، لنضوب الخزينة في الحروب الماضية وكانت قد عادت ظافرة منها، فأخذت روسيا تستعد لاسترجاع ما فقدته من الشهرة.
ففي تلك السنة، زحفت جنودها على نهر الطونة واجتازته، فاعترضهم العثمانيون وهزموهم، وعادوا فتناوشوا وتحاربوا، وانتهت الحرب بمعاهدة في يوليو سنة ١٧٧٤ كانت روسيا فيها الرابحة، لكن العثمانيين تفرغوا لإصلاح داخليتهم والتأهب للمستقبل، فرمموا الأسطول، واشتغلوا بالإصلاح، وتعدت روسيا على القرم وضمتها إلى أملاكها، ولم يحرك العثمانيون ساكنًا.
أما حال مصر، فبعد وفاة «علي بك» عاد وادي النيل إلى ما كان عليه قبله تابعًا لأملاك الدولة العلية، وعادت أحكامه إلى مشايخ البلد والكشاف الذين جعلوا تلك المناصب وسيلة لاختلاس أموال الناس، وحقوق الدولة. وكان «علي بك» قد جعل لهذه المظالم حدًّا، وأصلح الشئون حتى علقت الآمال باعتزاز مصر ورفع شأنها، فلم تُبق المنية عليه.
نعم إن مصر بعد وفاته عادت إلى كنف الدولة العثمانية لكنها بالحقيقة لم تفدها شيئًا؛ لأنها كانت في الحالة الأولى طعمة لرجل محب للإصلاح، مخلص بمقاصده، وإن كانت بمعزل عن سيادة الدولة فأصبحت في الثانية طعمة لثلاثين رجلًا كل منهم يسعى في ابتلاعها، لا يتفقون إلا على كره الدولة التي هم تحت حمايتها.
أما السلطان عبد الحميد، فلم يكن يرسل إليها من الولاة إلا من كان اسمًا بلا مسمًّى، كما كان شأنهم قبل ظهور «علي» فكان الباشا من هؤلاء آلة يديرها البكوات كيف شاءوا، ولم يكن لديه من الأعمال إلا مخابرة القسطنطينية سرًّا بما كان يقع بين هؤلاء البكوات من الخلاف، وما كانوا يتداعون إليه من الخصام، وواجباته المهمة أن يستلم الجزية من الحكومة المصرية، ويرسلها إلى الآستانة إذا تمكن من قبضها.
(١-١) أبو طبق وعزل الباشوات
فكانت ولاية مصر منصبًا يستحي العقلاء من قبوله لأنهم كانوا يعتبرونها منفًى استحقه الباشا أو الوزير الذي يرسل إليها. وكان يعلم قبل خروجه من الآستانة أنه إذا لم يكن راضيًا بما يرضاه شيخ البلد لا يلبث أن يصله منه رسالة ينقلها ناقل يقال لها: الأوطة باشي، وفيها الأمر بعزله أمر لا مرد له ولا مجال للمدافعة بعده. وكيفية ذلك أن شيخ البلد ورجاله إذا رأوا في تصرف الباشا ما يوجب الشك اجتمعوا اجتماعًا عموميًّا في الديوان وقرروا عزله، وكتبوا بذلك أمرًا يسلمونه إلى الأوطي باشي ليوصله إلى الباشا، فيحمله ويسير على حمار — لأن القانون لا يسمح له بركوب الخيل أو البغال — وبين يديه فرمان العزل. فإذا مرَّ بالأسواق على هذه الصورة، علم الناس أنه ساعٍ في أمر هام فيه عزل فيهرولون وراءه، ولا يزال سائرًا في عرض الطريق قائدًا لتلك الجماهير نحو القلعة، ومن واجبات أي جندي لقيه في تلك الحال أن يرافقه اتقاء ما يخشى حدوثه عند وصوله القلعة.
فإذا وصل القلعة يدخل على الباشا، ثم يجثو أمامه باحترام ووقار، وعندما ينهض يطوي السجادة التي كان جاثيًا عليها وينادي بأعلى صوته: «انزل يا باشا» وعند طي السجادة، والتلفظ بهذه العبارة تسقط كل حقوق الباشا، ولا يبقى له أقل سلطة على الجنود التي كانت قبل بضع دقائق تحت أمره، وتصير تحت أمر الأوطة باشي. وكانوا يسمونه «أبو طبق»؛ لأنه كان يلبس على رأسه قبعة مثل الطبق، والباشا يقف ممتثلًا يسمع تلاوة الفرمان سواء كان منطوقه بعزله أو بقتله، فلا يسعه إلا الطاعة التامة، على مثل ذلك كانت معاملة باشوات مصر.
لما مات «علي بك»، اختلف أعداؤه في القاهرة على الاجتزاء من انتصاراتهم، فكان كل منهم يظن لنفسه الحق بالتمتع بأثمار انتصاره كغيره أو أكثر، فاختلفت الأحزاب من بينهم. أما من بقي من رجال «علي بك» فلم يجدوا مكانًا فيه راحة لهم، وكانوا في «عكا» عند الشيخ ضاهر — على ما تقدم — فتقهقر «أبو الذهب» لأنه كان يحب الانتقام حبًّا يفوق التصديق، وقد آلى على نفسه ألا يُبقي على أحد من رجال «علي».
أما الشيخ ضاهر — أمير عكا — فلم يعد يطيب له السكون بعد أن خسر ابنه في سبيل نصرة «علي بك» فثارت في خاطره بواعث الانتقام، ولكن «أبا الذهب» لم يعد يستطع صبرًا على ذلك. فاسترحم من الباب العالي أن يسمح له بالمسير لإخضاع «سوريا» ولا سيما «عكا»، واتهم أميرها ضاهرًا بالعصيان، وأنه ساعٍ ضد الدولة، فأجابه الباب العالي بفرمان يثبته في مشيخة البلد مع لقب باشا ورتبة والي القاهرة، مكافأةً لما أتاه من كسر شوكة «علي» وأحزابه، وأذن له أن يتتبع ذلك الشيخ العاصي.
فلما وصل الفرمان إلى «أبي الذهب» كاد يطير من شدة الفرح وأعد جيشًا تحت قيادته واستخلف في مصر إسماعيل بك، وعهد حكومة مدينة القاهرة إلى «إبراهيم بك»، وسار في جيشه إلى «سوريا» ولم تنتهِ سنة ١١٨٩ حتى دخل فلسطين، وكان لشدة عجبه بما أوتيه من الألقاب والرتب وما وعده به الباب العالي من المساعدات لا يزيد إلا كبرًا حتى جعل خيمته التي يستريح فيها من أثمن ما يكون، وزينها أبدع زينة، فمر «بخان يونس»، «فالرملة»، ولم يلاقِ مقاومة، أما «يافا» فكان عليها شيخ «كريم» صهر الشيخ «ضاهر» فدافعت قليلًا ثم فُتحت عنوة، فدخلها رجال أبي الذهب، وقتلوا القسم الأعظم من سكانها رجالًا ونساءً، وشيوخًا وأطفالًا.
فبلغت تلك الفواحش مسامع الشيخ «ضاهر» وهو في عكا، فخاف أن يصيبه ما أصابها، ففر بعائلته وبمن هاجر إليه من المصريين، ولم يترك في المدينة إلا ابنه «عليًّا».
ولما علم باقتراب جيوش أبي الذهب، أخلى القلعة وانسحب منها لاعتقاده أنه إذا حاول الدفاع إنما يحاول عبثًا، فوصلها «أبو الذهب» وأبوابها مفتوحة، فدخلها ولم يبقِ عليها. ففي هذه المدينة انتهت فظائع هذا الرجل؛ لأنه بينما كان عازمًا على العود إلى مصر، أصبح القوم فوجدوه ميتًا في خيمته، ولم يعرفوا القاتل رغم ما اتخذوه من الاحتياطات وما كان لديهم من القرائن الكثيرة، فقال بعضهم إنه أصيب بنقطة — وهي داء السكتة — وقال آخرون إنه مات مقتولًا بيد عدو فاتك — والله أعلم.
وبعد موت أبي الذهب، عادت الجيوش المصرية تحت قيادة «مراد بك» إلى مصر ومعهم جثة رئيسهم، فدفنوها بالقرب من مدفن «علي بك»، ومات أبو الذهب بعد موت علي بك بسنتين ولُقِّب بالخائن.
(١-٢) مشيخة إسماعيل بك
وتولى مشيخة البلد بعده «إسماعيل بك» ولم يبقَ غيره من رجال «إبراهيم كخيا»، وهو من الذين نالوا البكوية بواسطة علي بك، وكان لا يزال على دعوته، وإنما انضم إلى «أبي الذهب» خوفًا، وقلبه لم يفتر لاهجًا بالمدافعة عن رئيسه، لأنه لم يأتِ نحوه إلا ما يستدعي نصرته فضلًا عن أنهما من طائفة واحدة.
فلما استلم زمام الأحكام نسج على منوال «علي بك» فبعث إلى رجال حزبه الذين كانوا لا يزالون في سوريا فاستقدمهم إليه، وأقرَّهم في أماكنهم، وطيَّب خاطرهم استعدادًا لمقاومة «مراد بك» و«إبراهيم بك» مناظريه على مشيخة البلد.
وكانا قد اتحدا على خلع «إسماعيل بك» فطلبا أولًا طرد «حسن بك الجداوي» صديق «إسماعيل بك» فلم يفوزا، لكنهما تمكنا من احتلال القلعة، فاتحد «إسماعيل بك» و «حسن بك» وأخرجاهما منها، ففرا إلى الصعيد، ثم جمعا حزبًا كبيرًا، واستعدا لقتال إسماعيل، فبعث جيوشًا لتخمد أنفاسهما، فعادت على أعقابها وفاز الأميران فاضطر «إسماعيل بك» إلى مغادرة القطر المصري فيمَّم الآستانة.
أما «حسن بك» فقبض عليه ونفي إلى جدة بحرًا، فاحتال في أثناء الطريق فأرضى رئيس المركب الذي نقله، فأنزله في القصير على سواحل القلزم، ومن هناك قطع الصحراء غربًا حتى أتى الصعيد فاستكن فيه.
(١-٣) مراد بك وإبراهيم بك
فلما خلا الجو «لمراد بك» و«إبراهيم بك» اقتسما الأحكام فتعين الأول أميرًا للحج، والثاني شيخًا للبلد ورقيا كثيرون من مماليكهما إلى رتبة البكوية، وقلداهم مصالح البلاد.
وكانت الأحكام في عهدهما كما كانت في أيام أسلافهما من الظلم والاستبداد. وبلغهما بعد مدة أن «إسماعيل بك» عاد من «الآستانة» وجاء «حلوان»، فبعثا فرقة من المماليك فتكت بكل من كان معه من أهله ورجاله. أما هو فتمكَّن من النجاة باختبائه في بعض الكهوف ثلاثة أيام. ثم خرج طالبًا الشلال، اجتمع هناك بصديقه «حسن بك الجداوي» وسارا معًا وأويا إلى الجنادل في السودان.
فاختلف «مراد بك» و«إبراهيم بك» على إرسال حملة للقبض على الهاربين. فارتأى أحدهما وجوب التجنيد، وخالفه الآخر حتى آل الأمر إلى الخصام، وخروج «إبراهيم بك» مغتاظًا من القاهرة إلى المنيا في الصعيد، فأرسل إليه «مراد بك» بعض الاختيارية يسكِّنون من غضبه، فأرضوه وأعادوه إلى مركزه في القاهرة، إلا أن العلاقات الودية ظلت متكدرة بين الاثنين. ولم تمض مدة حتى خرج «مراد بك» إلى المنيا غيظًا من زميله؛ لأنه اتحد مع خمسة من بيت عدوهما القديم وهم البكوات: «عثمان الشرقاوي» و«أيوب الصغير» و«سليمان» و«إبراهيم الصغير» و«مصطفى الصغير».
ولبث «مراد بك» بعيدًا عن القاهرة خمسة أشهر وإبراهيم يظن أنه لا يلبث أن يسكن غضبه ويعود إليه. فلما استبطأه، أرسل إليه الاختيارية كما فعل ذاك معه، فأبى «مراد بك» ورد الاختيارية خائبين، ثم جنَّد جندًا من أتباعه المماليك وسار على الضفة الغربية للنيل حتى أتى «الجيزة» — مقابل مصر القديمة — وعسكر هناك وهمَّ بقطع النيل، فعلم «إبراهيم بك» بذلك، فجند في الجهة المقابلة على البر الشرقي ليمنعه من المرور ولبث الجانبان على تلك الحال ثمانية عشر يومًا لا يتحاربان إلا على سبيل المناوشة بإطلاق مدفع أو مدفعين ولم يقتل إلا رجل أو فرس. فملَّ «مراد بك» من تلك الحال، فعاد إلى المنيا.
أما «إبراهيم بك» فكان كثير الرغبة في مصالحة زميله، فأنفذ إليه بعد خمسة أشهر من خروجه وفدًا ثانيًا من كبار البلاد ومشائخها يطلبون إليه الرجوع إلى القاهرة، فوافقهم لكن اشترط عليهم أن يسلموه الخمسة البكوات المتقدم ذكرهم حال وصوله إلى القاهرة، فقبلوا بذلك الشرط، فنزل معهم. فعلم أولئك البكوات سرًّا من «إبراهيم بك» بما اشترطه «مراد بك» فخرجوا من «القاهرة» نحو القليوبية على نية الشخوص إلى الصعيد عن طريق الأهرام فاتصل ذلك «مراد بك»، فجعل عند الجسر الأسود قرب الأهرام عصابة من العربان تترصد مرورهم، ولم يستطيع صبرًا على ذلك، فقطع النيل ببعض رجاله، فالتقى بالمنهزمين عند رأس الخليج، فتلاحموا، فجرح «مراد بك»، ونجا أولئك فلاقاهم العربان عند الجسر، فأسروهم، وجاءوا بهم إلى «مراد بك» فنفاهم إلى المنصورة و«فرسكور» و«دمياط» تفريقًا لكلمتهم. وبعد مدة يسيرة عادوا واجتمعوا في آخر سنة ١١٩٧ واتفقوا أن يفروا إلى الصعيد، ويجمعوا إليهم عصابة يقاومون بها عدوهم. ولم يباشروا ذلك حتى توسط شيخ الجامع الأزهر في أمرهم وحصل العفو لهم من «مراد بك» فصفح عنهم وأعادهم إلى القاهرة بكل إكرام وأعاد إليهم رتبهم وامتيازاتهم.
(١-٤) حملة عثمانية لحرب المماليك
مضى بعد ذلك ثلاث سنوات على «إبراهيم بك» و«مراد بك» وهما على وفاق وسكينة يقتسمان إيراد البلاد بينهما بالسواء، لا يقدمون عنه حسابًا، أو إذا قدموه كان حبرًا على ورق، فوشى بهما «محمد باشا» والي مصر إذ ذاك إلى السلطان وبما كان فيه من الاستئثار بمالية البلاد. فأمر السلطان «عبد الحميد» — الأول — سنة ١١٩٩ﻫ أن يرسل إلى مصر جيشًا لإيقافهما عند حدهما فسار الجيش في عمارة بقيادة «حسن باشا قبطان»، فوصلت الإسكندرية في ٢٥ شعبان سنة ١٢٠٠، فخاف البكوات خوفًا شديدًا واجتمعوا اجتماعًا عامًّا في الديوان، وتباحثوا فيما يجب إجراؤه، فكثر اللغط، واختلفت المقاصد والآراء، فلم يقروا على شيء وأخيرًا ارتأوا طلب توسط «محمد باشا». ولما عرضوا عليه رأيهم رفض.
فطلبوا من الشيخ «أحمد العروسي» شيخ الجامع الأزهر، والشيخ «محمد المهدي» الذي بقي في زمن الفرنساوية كاتم سر الديوان — وغيرهما — أن يسيروا إلى «رشيد» ويستعطفوا القبطان باشا.
فركبوا من «بولاق» في زورق فاخر، وما زالوا حتى بلغوا رشيدًا، فلاقاهم القبطان باشا بما يليق من الاحترام أما هم فلعلمهم أن الأميرين «إبراهيم ومراد» لا يثبتان على رأي خافوا إذا طلبوا العفو، وحصلوا عليه أن ينكثا ذلك فتكون الملامة عليهم، فقال الشيخ العروسي: «يا مولانا إن رعية مصر ضعفاء، وبيوت الأمراء مختلطة ببيوت الناس!» فقال الباشا: «لا تخشوا بأسًا، فإن أول ما أوصاني به مولانا السلطان هو قوله: «إن الرعية وديعة الله عندي وأنا أستودعك ما أودعنيه الله تعالى».» فدعوا له بطول العمر ثم قال لهم: «كيف ترضون أن يملككم مملوكان كافران يسومانكم سوء العذاب؟ لماذا لا تخرجونهما من دياركم؟» فأجابه أحدهم بقوله: «يا سلطانم هؤلاء عصبة شديدو البأس لا نقوى على دفعهم!»
فطيَّب خاطرهم ووعدهم بالحماية. وبالحقيقة أن هذا الوفد تصرف بالحكمة لأنهم لم يكادوا يخرجون من حضرة القبطان حتى سمعوا بقدوم «مراد بك» ومعه عشرة من البكوات وبعض الكشاف والمماليك. ثم شاع أنهم نزلوا في الرحمانية عند منشأ الترعة المحمودية الإسكندرانية؛ وسبب ذلك أن «مراد بك» بعدما أرسل الوفد خطر الدفاع بالسيف، فجمع إليه ذوي شوراه، وفاوضهم، فأقروا على الدفاع وأن يسير «مراد» لذلك ويبقى إبراهيم للمحافظة على القاهرة.
فسار «مراد بك» بمن معه، ونزلوا الرحمانية — كما قدمنا — فلاقتهم الجنود العثمانية، وجرت بينهما واقعة لم تطل إلا يسيرًا. فانذعرت جنود المماليك من قنابل العثمانيين التي كانت تتدافع بين حوافر الخيل فتشتت شملهم وفاز العثمانيون. ففر مراد بك ومن معه حتى أتوا القاهرة، فاجتمعوا «بإبراهيم بك» وخرجوا جميعًا إلى الصعيد، ومكثوا ينتظرون هجمات العثمانيين.
فلما رأى «محمد باشا» الوالي خلو القاهرة من المماليك جمع إليه الوجاقات ونزل بهم من القلعة لاستقبال الجنود العثمانية.
وفي شوال سنة ١٢٠٠، دخل «حسن باشا» القاهرة بعد أن أخربت جيوشه ما مروا به من المدن والقرى ونهبوها ولولاه لم يبقوا على شيء أصلًا. لكنه كان يمنعهم من ذلك بالقوة، وقتل كثيرين منهم عبرة للباقين، فكفت الأيدي فسكنت الناس. فلما دخل القاهرة، نزل في بيت «إبراهيم بك» عند قصر العيني على النيل، ثم عرض أمتعة البكوات المنهزمين للمزاد العمومي، ومن جملتها حريمهم وأولادهم ومماليكهم، فاسترحم المشائخ أن يخرج الأولاد والنساء الحوامل من معرض البيع لأن ذلك فضلًا عن مخالفته للعواطف الإنسانية فهو مغضب لله.
فانتهرهم القبطان باشا قائلًا: «سأكتب إلى الآستانة بأنكم تعارضون في بيع أمتعة أعداء جلالة السلطان!» فأجابه الشيخ السادات قائلًا: «قد أرسلت إلينا لمعاقبة شخصين وليس لهتك شرائعنا والطعن في عاداتنا فاكتب إلى الآستانة ما شئت!»
فعند ذلك أمر الباشا باستثناء المحظيات الحوامل من البيع، وبعد أن بيعت سائر الأمتعة عكف «حسن باشا» في إصلاح الإدارة، فأصلحها على ما يوافق الإرادة الشاهانية.
وكان قد استقدم «إسماعيل بك» و«حسن بك الجداوي» من الصعيد، فأرسلهما في جيش بقيادة «عابدين باشا» و«درويش باشا» قائدي الحملة العثمانية التي جاءت إلى مصر عن طريق البر — فضلًا عن العمارة المتقدم ذكرها — وسار في تلك الحملة أيضًا نحو ألف مقاتل من رجال الشام تحت قيادة أمير كبير من أمراء شيخي أوغلي، فاجتمعت هذه الحملة، وسارت نحو الصعيد لمحاربة مراد بك ورجاله، فحصلت هناك واقعة عظيمة شفت عن عدة قتلى من الجانبين، وانهزم «مراد بك» ورجاله إلى الشلالات، ورجعت الجنود العثمانية ظافرة إلى القاهرة. ثم جاءت الأوامر الشاهانية بعزل «محمد باشا» وتولية «عابدين باشا».
وهنا تنتهي مهمة «حسن قبطان باشا» فاستُدعي إلى الآستانة بسبب الحرب مع روسيا. ولكن مصر لم تنجُ من البكوات. وكانوا لا يزالون في مصر العليا كما رأيت، والمسيحيون يشكون من معاملة «حسن باشا» بأنه أخذ متاعهم وباعه على مشهد من الناس فضلًا عن الإهانة التي سامهم إياها، وعلى الخصوص المعلم «إبراهيم الجوهري» أمير احتساب مصر؛ فإنهم قبضوا على امرأته وأجبروها أن تخبرهم بمخابئ زوجها من النقود، فأخبرتهم، فاستخرجوها، وأخذوها.
ولما برح «حسن باشا» القاهرة، أقام عليها «إسماعيل بك» شيخ البلد، فعهد هذا إلى صديقه «حسن بك الجداوي» إمارة الحج واتفقا معًا على اقتسام الإيراد.
في سنة ١٢٠٣ﻫ تُوفِّي السلطان «عبد الحميد الأول».
(٢) سلطنة سليم الثالث
هو ابن السلطان مصطفى الثالث، تولى السلطنة وسنه ٢٨ سنة، ووجه السياسة بظلم والدولة متضعضعة، فبذل جهده في الإصلاح، ولكن اليأس كان قد استولى على الجنود وضعف عزائمهم.
وفي سنة ١٢٠٥، طرأ على القاهرة وسائر القطر المصري وباء الوطأة لم تقاس قبله مثله، حتى بلغ عدد الموتى نحو الألف في اليوم بالقاهرة وحدها. وتقلب على حكومتهم في يوم واحد ثلاثة حكام، وسبب ذلك أن «إسماعيل بك» أصيب بالوباء، فأقيم آخر مكانه، فآخر حتى فني كل مَن كان مِن بيت «إسماعيل بك» إلا واحدًا يدعى «عثمان بك الطبل». ولا يزال هذا الوباء مشهورًا بفتكه، المعروف بطاعون إسماعيل، فتولى «عثمان بك الطبل» المذكور مشيخة البلد، ولم يكن قادرًا على إدارة الأعمال التي عهدت إليه فاستدعى «إبراهيم بك» و«مراد بك» فدخلا القاهرة في ٢١ القعدة من تلك السنة، ففرَّ «حسن الجداوي» إلى مصر العليا قانطًا.
فاستلم «إبراهيم» و«مراد» أزِمَّة الأحكام، وجعلا يعيثان فيها وكانا يتناوبان مشيخة البلد وإمارة الحج سنويًّا بعد أن أفنيا كل من كان على غير دعوتهما. فصفا الجو لهما.
أما قلباهما فكانا لا يخلوان من الضغائن المتبادلة لما طُبع عليه كل منهما من الحب الذاتي، وقد اختلفا في الطباع والمناقب: كان «مراد بك» شديد البطش مقدامًا لا يهاب الموت.
وكان «إبراهيم بك» أكبر سنًّا، وأكثر اختبارًا، ربعًا ضخم القامة، حسن الطلعة، حاد البصر، وكان يتربص لمراد محاذرًا بطشه لئلا يطلبه للنزال، ولولا ذلك لم يرضَ معه بالاجتزاء من الدخل على السواء. وكان لا يعارضه فيما يأتيه من الاستبداد، ووضع الضرائب، وسلب أموال الناس؛ لأنه شريكه في الأرباح الناتجة عن ذلك. وكان في إبراهيم رياء يظهر غير ما يضمر إذا استصرخ وعد مع العزم على الإخلاف. وكان جبانًا، فإذا أراد أمرًا لا يتظاهر به، وإنما يسعى إليه بالدسائس والمكايد.
أما «مراد بك» فلم يكن يعرف المكر وإنما كان يسعى في أغراضه بالقوة والحزم، وكان طويل القامة، عضلي البنية، شديد البأس، يقطع عنق الثور بضربة من سيفه وعلى وجهه ملامح الأسود، فإذا غضب يهابه ويخاف منه كل من يراه، حتى أحب أصدقائه، وكان كريم النفس، لا يبيت على غيظ، حر الضمير لا ينكر الحق، ولو كان عليه، مخلصًا لأصحابه، مقيمًا على قوله، وكان طمعه بمقدار سخائه وحبه لذاته بمقدار حرية مبادئه وصراحته، وكان سريع الغضب لا يراعي في حال غضبه أمرًا من الأمور وربما فتك بمصلحة نفسه.
وألمَّ بالبلاد بعد عود هذين الأميرين إلى «مصر» جوع هائل، ويقال إنه جعل من كثرة ما ضبطاه من الحبوب في مصر العليا طمعًا بالكسب، ثم ألقيا النظامات التي وضعها «حسن باشا قبطان» وأبدلاها بما يوافق مطامعهما الشخصية. فكثرت تعديات مماليكهما، وعلى الخصوص تعديات «أحمد محمد الألفى»، فثار الأهلون ثورة عامة لم يسعهما معها إلا توقيف تلك الإجراءات وقتيًّا، فخمدت الثورة، فعادا إلى ما كانا عليه فعاد الناس إلى الاضطراب. وكسدت سوق التجار لقلة الأمنية، وضربا على التجار الأجانب في الإسكندرية ضرائب فاحشة، فرفعوا شكواهم إلى قناصلهم، فلم تكن النتيجة إلا زيادة الاضطهاد.
كل ذلك كان يجري والسلطان «سليم الثالث» يعلم بذلك وهو من أرغب السلاطين بالإصلاح، ولكنه غُلِب على أمره. وفي أيامه وهذه حالة مصر، حمل عليها بونابرت سنة ١٢١٣ﻫ أو ١٧٩٨م، واحتلها، وهو آخر المراد بسطه من تاريخ العثمانيين بمصر في هذا الكتاب.
(٣) العلم والأدب ومشاهير العلماء والأدباء بمصر: في الأدوار الثاني والثالث والرابع من العصر العثماني
إن الاضطرابات السياسية، واختلال الداخلية في الأدوار الثلاثة الأخيرة، وقَّفت من سيل القرائح، وشغلت الناس عن العلم والأدب، ومع ذلك فقد ظهر في هذه الفترة جماعة من الشعراء والأدباء والفقهاء ونحوهم. هاك أشهرهم:
(٣-١) الشعراء
-
(١)
«الحسن البدري الحجازي الأزهري»: تُوفِّي سنة ١١٣١ﻫ، وكان شاعرًا عامًّا تعلم في الأزهر، ومال إلى الانزواء للمطالعة والنظم، وله فيه طريقة حسنة، وقد نظم أرجوزة في التصوف نحو ألف وخمسمائة بيت على طريقة الصارح والباغم، ضمَّنهما أمثالًا وحكايات ونكات، وله ديوان على حروف المعجم سماه: «تنبيه الأفكار للنافع والضار»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية وفي شعره صبغة عامية وسهولة يرضاها العامة، وفيها نصائح لهم ولسائر الناس، ومن أمثلة ذلك قصيدة بائية قال فيها:
أخي فطنًا كُن، واحذر الناس جملةولا تك مغرور الظنون الكواذبفكم من فتًى يرضيك ظاهر أمرهوفي باطنٍ يرتاغ روغ الثعالبإذا بك يلقى ظافرًا كان كافرًايذيقك نكر النكر من كل جانبولا سيما نوع الأقارب إنهمعقابك في الدنيا وعقر العقاربإذا كنت في خير تمنوا لك الردىلإرثك ميتًا أو لنهبة ناهبوإن كنت ذا فقر فأنت لديهمأخس خسيس من أخس الأكالبفلا تك للطلاب للإرث تاركًاطلابًا سوى خيبات طلبة طالبونحو ذلك ما تلقى معاينة للجمهور.
-
(٢)
«عبد الله بن محمد بن عامر بن شرف الدين الشبراوي الأزهري»: أحد أساتذة الأزهر، تُوفِّي سنة ١١٣٢ﻫ، له:
- (أ)
«ديوان منائح الألطاف في مدائح الأشراف»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وفي مكاتب برلين وغوطا وباريس وقد طبع في بولاق ومصر مرارًا.
- (ب)
وكتاب الاستفهامة الشبراوية، منها نسخة في المكتبة الخديوية.
- (جـ)
عروس الآداب وفرجة الباب، منه نسخة في مكتبة ليدن.
- (د)
«عنوان البيان وبستان الأذهان» طبع في القاهرة مرارًا.
- (هـ)
«نزهة الأبصار في رقائق الأشعار» في مكتبة باريس.
- (و)
«حمل زجل» طبع في القاهرة.
- (ز)
«أسنى المطالب لدراية الطالب»، في مكتبة برلين.
- (ح)
«نظم أسماء بحور الشعر» في المكتبة الخديوية.
- (ط)
«الالتحاف بحب الأشراف» في مكتبة باريس.
- (ي)
«شرح الصدر بغرة البدر»، في المكتبة الخديوية، وطبع في القاهرة سنة ١٢٠٣ﻫ.
- (أ)
-
(٣)
«عبد الله الإدكاوي المصري»: نسبة ت إلى إدكو قرب رشيد وقد اشتهر «بالمؤذن»، تُوفِّي سنة ١١٨٤ﻫ، تقرب من نقيب الأشراف في عصره، فأكرمه وأدناه، ولما مات النقيبزوج وتغيرت حاله، فلازم الشيخ الشبراوي، ومدحه، وكان يحترمه ومن مؤلفاته:
- (أ)
«بضاعة الأريب في شعر الغريب»، وهو مجموعة من شعره ذيلها بذيل سمكي وسيمة القصر، منها نسخة خطية في مكتبة باريس.
- (ب)
«الدر المنتظم في الشعر الملتزم».
- (جـ)
«الفوائح الجنائية في المدائح الرضوانية».
- (د)
«الدر الثمين في محاسن التضمين» في المكتبة الخديوية.
- (هـ)
«هداية المتوهمين في كذب المنجمين» طعن فيه على أهل النجامة، ومنه نسخة خطية في مكتبة غوطا.
- (و)
«المقامة القزية في المجون». وكان حسن الخط، نسخ عدة كتب وله مفارقات لطيفة مع شعراء العصر الواردين على مصر. ومن مليح شعره قوله يدعو إلى نبذ التقيد بالقديم:
- (أ)
(٣-٢) علماء الفقه
- (١)
«إبراهيم بن مصطفى الحلبي المدارسي»: تُوفِّي سنة ١١٩٠م، وقد تعلم في مصر ودمشق وأخذ التصوف عن «عبد الغني النابلسي» الشهير، ثم عاد إلى القاهرة، وتعين معيدًا لعلي الضرير، وسافر إلى «الآستانة» وتعرف هناك إلى «محمد باشا» الوزير المعروف «بالراغب» فتعرف به وقرأ عليه. واجتمع بشيخ الإسلام هناك «عبد الله» الشهير «بالإيراني» وكان إذ ذاك قاضي العسكر، فصار عنده مفتشًا ومميزًا، وقرأ عليه علماء الروم، وما زال يرتقي حتى تُوفِّي هناك، وأكثر علماء الأزهر في زمانه من تلامذته، ومن آثاره الباقية كتاب «الحلة الضافية في علمي العروض والقافية» منها نسخة في المكتبة الخديوية. و«تحفة الأخبار على الدر المختار» فيها.
- (٢)
«السيد محمد تقي الحسيني الزبيدي»: الفقيه اللغوي النحوي الأصولي الناظم الناثر صاحب «تاج العروس في شرح القاموس»، تُوفِّي سنة ١٢٠٥، ولد في زبيد، ونشأ هناك، ثم رحل في طلب العلم وجاء مصر سنة ١١٦٧، وحضر دروس أشياخ زمانه، وما لبث أن ظهر فضله عند الخاص والعام وارتقت حاله، فلبس الملابس الفاخرة، وركب الخيول المسومة، واشتغل بعلوم أهملها أسلافه كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث، وألَّف من ذلك كتبًا ومنظومات، وكان مظهره مخالفًا في زيه وحاله لعلماء عصره، ويعرف اللغة التركية والفارسية وبعض لغة الكرج، وكان الوجهاء يتسابقون إلى دعوته والإيلام له وإلى مجالسته ومحادثته. وزادت منزلته على الخصوص لما فرغ من كتابه «تاج العروس» وهو أشهر مؤلفاته. وفي شهرته ما يغني عن وصفه، فإنه يدخل في عشرة مجلدات، طبع في «القاهرة» سنة ١٣٠٦. وفي صدره مقدمة نفيسة في اللغة ومراتب اللغويين، وأول من ألَّف في اللغة وترجمة الفيروز آبادي وغير ذلك، وله كتاب «نشوة الارتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح» منه نسخة خطية في «برلين» وله كتب أخرى.
- (٣)
«موسى بن أحمد البيلي العدوي المالكي»: كان شيخ رواق الصعايدة بالأزهر، تُوفِّي سنة ١٢١٨. وله من المؤلفات المنح المتكفلة بحل ألفاظ القصيدة العربية الموسومة بمورد الظمآن في صناعات البيان وهي مشروحة ومنها نسخة خطية في مكتبة «برلين» وكتاب «فائدة الورد في الكلام على أما بعد» منه نسخة في المكتبة الخديوية، وفيها أيضًا له «البشارة لقارئ الفاتحة» ومنظومة في الصرف.
(٣-٣) المؤرخون
-
(١)
«إبراهيم بن أحمد أفندي الخطاط شاهزاده»: كتب نحو سنة ١١٣٣، له كتاب «مبدأ العجائب بما جاء في مصر من المصائب» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية.
-
(٢)
«الأمير كتخده الدمرداش عزبان»: تُوفِّي سنة ١١٦٩ وله كتاب «الدرة المصانة في أخبار الكنانة» مكتوبة بلغة العامة ومنه نسخة خطية في مكتبة غوطا ومنشن والمتحف البريطاني.
-
(٣)
«عبد الرحمن بن الحسن بن عمر أبي اللطائف الأصهوري المالكي المغربي «سبط القطب الحديدي»»: تعلم في «القاهرة» وتعين أستاذًا في الأزهر وفي السنانية ببولاق، وتُوفِّي سنة ١١٩٨، وله كتاب «مشارق الأنوار في أهل البيت الأخيار» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية.
(٣-٤) الفقهاء ونحوهم
الفقه المالكي
-
(١)
«ناصر الدين النشرتي المالكي»: من أساتذة الأزهر، تُوفِّي سنة ١١٢٠ﻫ، له كتاب «الأنوار الواضحة في السلام والمصافحة» في المكتبة الخديوية.
-
(٢)
«شمس الدين الزرقاني المالكي»: تُوفِّي سنة ١١٢٢ﻫ، وله كتاب «وصول الأماني بأصول التهاني»، منها نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وله شرح الموطأ، وشرح المواهب اللدونية للقسطلاني.
-
(٣)
«أبو الحسن الصاعدي العدوي المالكي»: من أساتذة الفقه المالكي، تُوفِّي سنة ١١٨٩ﻫ، له رسالة فيما تفعله فرقة «المطاوعة من المتصوفة» من البدع في المكتبة الخديوية، وله عدة حواشي على كتب فقهية.
الفقه الشافعي
-
(١)
«شمس الدين البديري الدمياطي»: درس في دمياط وفي الأزهر ومكة، وتُوفِّي سنة ١١٤٠ وله «إرشاد العمال» إلى ما ينبغي في يوم عاشوراء وغيره من الأعمال، منه نسخة في المكتبة الخديوية. وكذلك كتاب «بلغة المراد في التحذير من الافتتان بالأموال والأولاد»، وله كتاب «تحرير الأفهام في كيفية توريث ذوي الأرحام» منه نسخة في مكتبة بطرسبورج.
-
(٢)
«أحمد بن عمر الديربي الشافعي الأزهري»: تُوفِّي سنة ١١٥١ﻫ. له كتاب «غاية المقصود عن قيود العقود» منه نسخة في المكتبة الخديوية، وفي مكتبة برلين، وطبع في بولاق سنة ١٢٩٧. وكتاب «غاية المرام فيما يتعلق بانكماش الأنام»، في المكتبة الخديوية، وكذلك كتاب «فتح الملك الجواد لتسهيل قسمة التركات على بعض العباد»، وكتاب «المجرات» طبع في القاهرة.
-
(٣)
«الحسين بن أحمد المحلي»: تُوفِّي سنة ١١٧٠، له «كشف اللثام عن أسئلة الأنام» منه نسخة في المكتبة الخديوية.
-
(٤)
«نجم الدين محمد بن سليم الشافعي المصري الحنفي الحسيني»: في حفنه قرب بلبيس درس في القاهرة، ودخل طريقة الخلوتية الرائجة في تلك الأيام وتُوفِّي سنة ١١٨١ﻫ، وله: «الثمرة البهية في أسماء الصحابة البدرية» وذكر أسماء أهل بدر. وعدة رسائل في أمثال ذلك، منه نسخة في المكتبة الخديوية.
وهناك طائفة كبيرة من الفقهاء الشافعية نبغوا في ذلك العصر بمصر منهم:-
«عيسى بن أحمد الدرادي»، تُوفِّي سنة ١١٨٢.
-
و«أحمد الشجاعي» سنة ١١٩٠، وله مؤلفات كثيرة أكثرها موجودة في المكتبة الخديوية.
-
و«حسن الكفراوي» من أساتذة الأزهر، تُوفِّي سنة ١٢٠٢. فضلًا عن فقهاء الحنابلة والشيعة ومن هؤلاء.
-
«أبو السعود أحمد بن عمر بن السقاطي»، تُوفِّي سنة ١١٥٩ﻫ في القاهرة، وله كتب في القراءات، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية.
-
و«الحسن بن علي الأزهري المنطاوي المدابغي»، من أساتذة الأزهر، تُوفِّي سنة ١١٧٠. وله كتاب «إتحاف فضلاء الأمة المحمدية ببيان جمع القراءات السبع من طريق التيسير» في المكتبة الخديوية. وكتاب في مولد النبي، فيها أيضًا.
-
(٣-٥) المتصوفة
- علي بن محمد المصري: المُتوفَّى سنة ١١٢٧ﻫ، وله تعاليق وشروح.
- وعلي بن حجازي البيومي الدمرداشي: تُوفِّي سنة ١١٨٣ﻫ بالقاهرة، وله كتاب في الطريقة الدمرداشية منها نسخة في برلين وكتاب «الأسرار الخفية» منه نسخة في المكتبة الخديوية. ورسائل عديدة، بعضها موجود في المكتبة المذكورة.
ومن مشاهير الصوفية وكبارهم:
- (١)
«النفحة العيدروسية في الطريقة النقشبندية» منها نسخة في برلين.
- (٢)
«النفحة المدنية في الأذكار القلبية والروحية والسرية»، منها نسخة في المكتبة الخديوية.
- (٣)
«لطائف الجود في مسألة وحدة الوجود»، منها نسخة في برلين.
- (٤)
«العرف الوردي في دلائل المهدي» فيها.
- (٥)
«إتحاف الخليل بالمشرب الجليل الجميل»، في المكتبة الخديوية، وله عدة رسائل وقصائد، منها في هذه المكتبة وغيرها.
«الخريدة البهية في القصائد التوحيدية»، طبع في الإسكندرية سنة ١١٨١، و«تحفة الإخوان في بيان تاريخ أهل العرفان»، طبع بالقاهرة سنة ١٢٨١، وكتب أخرى موجودة خطًّا في المكتبة الخديوية وغيرها.
ونبغ غير واحد في علم النجوم أو النجامة منهم:
ونبغ من الأطباء المؤلفين:
«أحمد بن عبد المؤمن الدمنهوري» المُتوفَّى سنة ١١٩٢، كان أستاذًا في الأزهر. وله مؤلفات عديدة في أكثر الفنون تجد أكثرها في المكتبة الخديوية.
ولو أردنا تعداد المشاهير في ذلك العصر لضاق المقام وإنما أردنا إيراد الأمثلة لحالة تلك الأيام الأدبية والعلمية وقد رأيت أنها في حالة الانحطاط، لأن ما تقدم ذكره من المؤلفات العديدة قلَّ فيه المستنبط أو الوافي، ولعل هذا العصر أحط عصور التمدن الإسلامي.
ويلاحظ في لغة ذلك العصر؛ أن الإنشاء انحط إلى أقصى درجاته حتى صار أقرب إلى لغة العامة وانحطاط اللغة تابع لانحطاط نفوس أهلها، ومن أشهر أمثلة إنشاء ذلك العصر تاريخ «الجبرتي» وتاريخ «ابن إياس».
أما كتب الفقه، فيرجع إجماليها إلى المصطلحات الفقهية وهي قلما تتغير مع الوقت. وأكثر ما كتب في تلك الفترة إنما هو من قبيل التقليد أو التلخيص أو الشرح أو التعليق.
وقد رأيت أن أكثر المؤلفات في علوم الدين الإسلامي، لأن العلم انحصر يومئذٍ في الأزهر تقريبًا، فإن أكثر طلابه من الفقهاء، إلا من كان فيه ميل خصوصي لعلوم أخرى، مع أن أوربا كانت قد أفاقت من غفلتها وأخذت في تأسيس العلوم الحديثة، ولم يبلغ خبر ذلك إلى مصر إلا على يد الحملة الفرنساوية سنة ١٧٩٨، فإنها أتت معها بحملة علمية، فضلًا عن الحملة العسكرية، فبهر العقلاء من أحوالهم وإن لم يأخذوا عنهم شيئًا. وإنما ترى ذلك الفضل للأسرة المحمدية العلوية وأول من أخذ من هذه النهضة «محمد علي باشا» مؤسس هذه الأسرة العلية.
(٤) الحالة الاجتماعية والاقتصادية
أما الهيئة الاجتماعية في ذلك العصر، فإنها تختلف عما نحن فيه الآن اختلافًا كبيرًا، فإنهم لم يكونوا يدركون ما ندركه نحن من لفظ الوطن والاستقلال والدستور والحرية الشخصية، وحقوق الفرد، وحقوق الجماعة، وإنما كانت الأمة مؤلفة من الحكام أصحاب الأمر والنهي والسطوة والنفوذ، والشعب وما عليه إلا الطاعة وتحمل المصائب بالصبر. فإن أحدهم كان إذا نهض من فراشه خرج من بيته وهو لا يدري ما يلقاه من أنواع المظالم أو ضروب الإهانة إذا كان في يده مال لا يأمن من أن يبقى ذلك المال له إلى المساء، وإذا كان له فرس أو بغل أو دابة كانت عرضة للسخرة بأمر الحاكم أو بعض رجاله.
وناهيك بالضرائب المتوالية التي لا يُسأل ضاربها ولا ينجو أحد من دفعها مرة أو غير راضيًا أو غاضبًا، حتى نساؤهم وأولادهم إنهم لم يكونوا آمنين عليهم من السطو والنهب.
بالأمة التي هذا حالها من الضنك والذل والظلم لا غرو إذا ظلمت فيها المرأة وصارت كالأَمة لأن ظلمها تابع لظلم الحكام؛ فإن الرجل يقضي نهاره مظلومًا لا يستطيع ردًّا، ولا دفاعًا أو انتقامًا، فإذا أتى بيته تشبَّه بحكامه لأنه في عائلته كالأمير في بلده، يأمر وينهى فيعامل أهله كما عومل. وبذلك كانت المرأة تُظلم وتنحط في عهد الحكومة الاستبدادية الظالمة. ولا غرو إذا انصرف أولئك المظلمون من الرجال إلى تسلية أنفسهم، وتصريف تغيظهم بالمشروبات الروحية أو تدخينها المخدرات كالحشيش ونحوه؛ ولذلك كثر تناول هذا العقَّار في تلك الأثناء يخدر الناس أعصابهم وينسوا حالهم
(٤-١) الزراعة
وطبيعي أن يرافق ذلك الانحطاط السياسي والعلمي انحطاط اجتماعي واقتصادي، فتناقص عدد السكان في أواخر ذلك العصر حتى أصبح أقل من ٢٠٠٠٠٠٠ نفس في القطر المصري أعلاه وأسفله، وتناقصت البقاع المزروعة في وادي النيل حتى نقصت عن مليون فدان وبعض المليون، والأرض يومئذٍ ملك الحكومة وليس للناس إلا أن يتمتعوا بريعها وللحكومة حصة من ذلك الريع في مقابل حمايتها أو إصلاح شئونها وهو الخراج. على أن فساد الأحكام في عهد المماليك شغل الناس عن الزراعة فقلَّت الجباية فتعسر حلها، والحكام في ذلك العهد إنما يلتمسون السلطة طمعًا بالمال، فعمدوا إلى طريقة «الالتزام» وهو تضمين الخراج لأناس يتولون جمعه عن الحكومة، ويشاركونها في نفوذها، فلا يزيدون الأهالي إلا ضغطًا وعسفًا.
وذلك أن الحكومة كانت تعرض خراج البلاد بالمزايدة لمن يضمنه من أهل النفوذ، فيضمن أحدهم بلدًا أو بضعة بلاد فإذا وقع عليه المزاد أعطاه كبير المماليك «شيخ البلد» عهدًا بذلك يسمونه تقسيط ويصحبونه بأمر يسمونه «فايك» وهو عبارة عن خطاب من الحكومة إلى أهالي البلد الواقع فيها التزام ذلك الملتزم، توصيهم فيه أن يطيعوا الملتزم ويؤدوا له الخراج، والملتزم يدفع للخزينة في مقابل ذلك مال سنة معجلًا، ويقوم مقام الحكومة في السيادة والإمارة في البلاد الداخلية في التزامه، وله عدا ذلك بقعة من الأرض يستغلها بنفسه، لا يدفع عنها شيئًا وتسمى «أوسية» «جمعها أواسي» وعلى الأهالي أن يحرثوها له ويزرعوها ويحملوا إليه غلاتها بلا أجرة فضلًا عن منافع أخرى.
وكان الالتزام في بادئ الرأي لمدة محدودة، ثم جعلوه لمدى العمر فلا ترجع الأرض للحكومة إلا بعد وفاة الملتزم. فكان الانتفاع بغلة الأرض مقسومًا بين الحكومة والملتزمين، والفلاح عبد رق يعمل بقوته ويشقى بعمله. فهل يلام إذا قعد به القنوط من العمل أو حمله الخوف على الفرار؟
(٤-٢) التجارة
أما التجارة فكانت في زمن المماليك ضعيفة جدًّا، لأنها لا تنمو إلا في ظل الأمن والعدل. فكانت قاصرة على بعض ما يحمل من محصولات هذه البلاد إلى «أوربا» وأهمها الحبوب والسكر والرز، وما يمر بها من واردات السودان كالصمغ والعاج والريش ونحو ذلك، وبعض ما يحمل إليها من المصنوعات الإفرنجية من «إيطاليا» و«فرنسا» و«ألمانيا» وغيرها.
ذكر «فولتي» الرحالة الفرنساوي في رحلته إلى «مصر» أواخر القرن الثامن عشر أن تجارة «مصر» كان معظمها في أيدي السوريين المسيحيين ثم أهل البندقية والإنكليز والفرنساويين وكانت الجمارك يومئذٍ «بالإسكندرية» و«رشيد» و«دمياط» و«السويس» و«القصير» وفي «بولاق» و«مصر القديمة». وكانت الحكومة تضمن دخل هذه الجمارك كما كانت تضمن خراج الأرض. والغالب أن يضمنها بعض اليهود. فلما أفضت «مصر» إلى «علي بك الكبير» المتقدم ذكره تحولت ضمانة الجمارك إلى أيدي السوريين، ولم يكن منهم يومئذٍ في مصر إلا عائلات قليلة من أهل دمشق وكانوا يتعاطون التجارة فيها.
على أن الجمارك كثيرًا ما كان يتولى شئونها أمراء المماليك أنفسهم وخصوصًا في أواخر القرن الثامن عشر. إن «إبراهيم بك» و«مراد بك» اقتسما الانتفاع بها، فاختص «إبراهيم» بجمرك السويس وعهد به إلى عمال يديرونه بالنيابة عنه، واستولى «مراد» على سائر الجمارك فضمنها بعض أهل الوجاهة. وكانت إيرادات الجمارك نحو مليون ريال أبو طاقية أو نحو ١٢٠٠٠٠ جنيه أكثر تجمع من جمرك السويس.
(٤-٣) النقود المصرية
وقد تقدم الكلام عن حل النقود المصرية أواسط العصر العثماني وهي الأنصاف والبندقي والزر محبوب. في آخر القرن الثاني عشر للهجرة كان الدينار يساوي ١١٠ أنصاف، والبندقي ٢٢٥ نصفًا، والبنتو ٤٠٠ نصف. فكانت الأنصاف تقل قيمتها بتوالي الأعوام مع بقاء قيمة الذهب على حالها تقريبًا، فالدينار كان يساوي سنة ١٩٣ﻫ ١١ أنصافًا مثلًا، فصار يبدل بعد عشر سنين بنحو ١٥٠ نصفًا، وهكذا، وكانت أسعار الأشياء التي تفد بالأنصاف ترتفع كل سنة عما قبلها ارتفاعًا تدريجيًّا. ولم يكن ارتفاعها من توفر الثروة كما حدث لهذا العهد، وإنما كان سببه تلاعب رجال الحكومة بالنقود الفضية وغشها، فإذا رخصت قلَّت النقود وظهرت المبيعات غالية، وهاك على ذلك بأثمان أهم المأكولات في أول القرن الثالث عشر للهجرة إلى سنة ١٢١٩ باعتبار الأنصاف من كل رطل:
سنة | اللبن | الضأن | الصابون | المسلى | القمح بالأردب |
---|---|---|---|---|---|
١٢٠٤ | ٣٦ | ٧٫٥ | ١٢ | ١٨ | ٢٠٠ |
١٢٠٩ | ٣٨ | ٨ | ١٨ | ٢٠ | ٤٠٠ |
١٢١٦ | ٥٠ | ٨٫٥ | ١٨ | ٢٥ | ٨٠٠ |
١٢١٩ | ٧٠ | ٠٠ | ٢٤ | ٣٦ | ١٦٠٠ |
فيتبادر إلى الذهن لأول وهلة أن الغلاء سائر على سنة طبيعية بالتدريج. والواقع أن الأشياء لم ترتفع أسعارها إلا بالنظر إلى الفضة، أما بالنظر إلى الذهب فظلت باقية على حالها تقريبًا، وكثيرًا ما كان أولو الأمر والأغنياء يرجون الأموال الكثيرة في تبديل النقود.
فلما استتب الأمر ﻟ «محمد علي» شاع استعمال القرش وهو ألماني الأصل، وكان سنة ١٢٣٠ﻫ يساوي ٤٠ نصفًا ثم أصاب القروش بتوالي الأعوام ما أصاب الأنصاف على الكيفية المبينة في الجدول الآتي. وهي أسعار النقود الذهبية المعروفة يومئذٍ بالقروش المصرية من سنة ١٢٥٠ إلى ١٢٨٦.
سنة | الجنيه الإفرنجي | الجنيه المصري | البينو | المجر | الجنيه المجري | البندقي |
---|---|---|---|---|---|---|
١٢٥٠ | ٥٣ | ٠٠ | ٠٠ | ٤٤ | ٠٠ | ٤٥ |
١٢٥٦ | ١٠٠ | ١٠٣ | ٠٠ | ٤٧ | ٠٠ | ٤٩ |
١٢٦١ | ١٠٣ | ١٠٥ | ٧٧ | ٤٧ | ٠٠ | ٥٠ |
١٢٧٠ | ١١٤ | ١١٧ | ٩٠ | ٥٤ | ١٠٥ | ٥٦ |
١٢٧٧ | ١٤٧ | ١٥٠ | ١١٦ | ٧٦ | ١٣١ | ٧٢ |
١٢٨٥ | ١٩٢ | ١٩٧ | ١٥٢ | ٩١ | ١٧٢ | ٠٠ |
١٢٨٦ | ١٩٩ | ٢٠٣ | ١٥٨ | ٩٥ | ١٧٩ | ٠٠ |
فنرى في ذلك أن القرش نزل سعره إلى النصف. وباعتبار الجنيه الإفرنجي إلى الربع في ٣٥ سنة. وكانت الحكومة المصرية قد أخذت في تنظيم شئونها التجارية على عهد «إسماعيل باشا» الخديوي غير أن اختلاف أسعار النقود على هذه الصورة لا يرجى منه نجاح، فأصدرت سنة ١٢٨٦ﻫ تعريفة للنقود جعلت المعاملة فيها على المناصفة فالجنيه الإفرنجي كانت قيمته ١٩٩ قرشًا فجعلتها ٩٩٫٥ والمصري ٢٠٢ قرش جعلت قيمته ١٠١٫٥ قرش، وقِس على ذلك. ثم تنوعت الأسعار قليلًا حتى وقفت على قيمتها المشهورة الآن. وهذا هو أصل المعاملة التعريفة والصاغ في مصر.
(٤-٤) التعليم بمصر في ذلك العصر
ونختم الكلام بفذلكة في حال التعليم في ذلك العصر، فإنه كان يختلف عن تعليم هذه الأيام، ومعلوم أن التعليم في إبان التمدن الإسلامي كان محصورًا بالمساجد كما كانت مدارس النصارى محصورة في الأديرة والكنائس، وكان المسلمون يسمون التلامذة المجتمعين حول أستاذ يتلقون منه العلم «حلقة» وتفرعت العلوم بتوالي العلوم، واتسعت دوائرها حتى أصبح العلم الواحد عدة حلقات والغالب أن تنسب الحلقة إلى أستاذها، فيقولون مثلًا حلقة «أبي إسحاق الشيرازي» في جامع «المنصور» أو نحو ذلك. وكانوا يجعلون في كل جامع خزانة كتب للمطالعة والاستنساخ.
على أن التعليم لم يكن خاصًّا بالمساجد، فكثيرًا ما كانوا يُنشئون حلقات التدريس في المارستانات أو الربط أو المنازل أو غيرها، وكان الأغنياء إذا أرادوا تعليم أولادهم أحضروا المعلمين إلى منازلهم.
وكانت مصر في القرن الأول للهجرة ولاية من ولايات المملكة الإسلامية تابعة للمدينة أو دمشق أو بغداد، فكان التعليم فيها ثانويًّا، ودخل القرن الرابع للهجرة وليس في عاصمتها إلا جامعان، جامع «عمرو» وجامع «ابن طولون» تُلقى فيها العلوم الإسلامية على مذهب أهل السنة لأنها كانت تابعة للدولة العباسية. فلما تغلب الفاطميون على مصر في أواسط القرن الرابع، وانتقلوا إليها وبنوا مدينة القاهرة، وأنشئوا فيها مسجدًا يعلمون فيه مذهبهم «الشيعة» وظل الأزهر مدرسة شيعية طوال خلافة الفاطميين نحو ٢٠٠ سنة حتى غلبهم «صلاح الدين الأيوبي» سنة ٥٦٧ﻫ، وكان سني المذهب، وليس له بد من متابعة خليفة يثبته في منصبه فبايع الخليفة العباسي في بغداد، وخطب له في الأزهر. وكان «صلاح الدين» على مذهب الإمام الشافعي فلم يضطر لتبديل كثير في طرق التعليم، وقبل الناس سلطته على أهون سبيل ولكنه لم يرَ مندوحة عن مراعاة مذهب الخلفاء العباسيين وهو مذهب «أبي حنيفة»، ورأى بحكمته وسداد رأيه أن يكتسب ولاء سائر المسلمين، فأجاز التعليم فيه على المذاهب الأربعة، وكل مذهب يحضره أهله فآل ذلك إلى اتساع شهرة هذه المدرسة، وتقاطر إليها الطلاب من أربعة أقطار المسكونة، ولم يبق التعليم قاصرًا فيها على الفقه وعلوم الدين واللغة، ولكنه تناول شيئًا من الرياضيات والنجوم وبعض علوم الطبيعة.
وما زال ذلك شأنها في أيام الأيوبيين ومماليكهم حتى جاء السلطان «سليم العثماني»، وفتح مصر، ثم استبد الأمراء المماليك بالحكومة، فاشتغل الناس عن العلم، وكان العنصر العربي قد ضعف شأنه في سائر المملكة الإسلامية إلا في مصر، لأن مدرسة الأزهر فيها، وكانت أكبر وسيلة لاستبقاء اللغة العربية حية بتعليم العلوم الدينية واللسانية لكنها اقتصرت يومئذٍ على هذه العلوم، وأهملت سواها من الطبيعيات والرياضيات.
وما زال الأزهر أهم مصادر التعليم في القطر المصري إلى النهضة الحديثة بعد إنشاء المدارس على النسق الجديد في أيام «محمد علي» لتعليم العلوم الحديثة، كالطبيعيات والطب والهندسة وغيرها. أما قبل هذه النهضة، فكانت هذه العلوم ولا سيما الطب يدرس في المارستانات أهمها في دولة الأمراء المماليك «المارستان المنصوري» في شارع النحاسين، ولا تزال آثاره باقية هناك إلى الآن.