البدايات البرهمية
ستكون بداية القرن الخامس قبل الميلاد نقطة الانطلاق التي سنتناول من عندها الفكر الفلسفي الهندي من خلال إلقاء نظرة على الأفكار والممارسات التي أسَّسَ لها كهنة البرهمية في وسط شمال الهند في ذلك الوقت. وتُعد هذه نقطة انطلاق جيدة لعدة أسباب؛ أولًا: كان التقليد البرهمي يَسُود في شمال الهند في هذه الفترة، وقد ظلَّ التقليدَ الوحيدَ الذي فرض هيمنته على التركيبة الاجتماعية الدينية للبلاد لفترة طويلة. وعلى الرغم من زيادةِ نفوذِ أفكار وممارسات التقاليد الأخرى في فترات معينة، فقد ظلَّ التقليد البرهمي يسيطر على المعايير المحددة لقِيَم المجتمع. ثانيًا: في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، وُجِد منهجان مُحَدَّدَا المعالم على نحو واضح داخل هذا التقليد، ونحن نعلم معلومات كافية عن هذين المنهجين على نحو يمكننا من إبراز السمات والمساوئ الرئيسية في كلٍّ منهما. أما السبب الثالث، ولعله السبب الأهم بالنسبة لأغراضنا، فهو أننا من خلال مناقشة هذين المنهجين يمكننا أن نرى كيف أسهم كلاهما في انتشار التشكيك والجدل ومحاولات تفنيد أفكار الآخرين. وعند توضيح هذه النقاط، سوف نرى أيضًا كيف ظهر هذان المنهجان في المراحل الأوليَّة من هذا التقليد.
القرابين
كان كهنة البرهمية في القرن الخامس قبل الميلاد منحدرين من شعب اسمه الشعب الآري، جاءوا من أوراسيا الوسطى واستقروا في شمال غرب الهند منذ عدة قرون، وجلبوا معهم ممارساتهم وأفكارهم. كان لديهم لوقت طويل جدًّا ديانةٌ تقوم على القرابين والطقوس، وكانوا يحفظون التفاصيل المقدَّسة لهذه القرابين والطقوس ويدوِّنونها في «صحف» الطقوس. ونظرًا لأن الكتابة كانت غير معروفة لهم في ذلك الوقت، فقد تولَّت عائلات مختلفة من الكهنة البرهميِّين، أسهمت كلٌّ منها في الطقوس، مسئوليةَ الحفظِ الشفهي للنصوص المتعلقة بواجباتهم الشعائرية، وتعاملوا مع هذه المسئولية بجدِّية بالغة؛ لأن فعالية القربان كانت تعتمد على دقة الحفظ، وأتقنوا أساليبَ متعددةً للحفظ، وفي ضوء الأدلة الموجودة لدينا الآن، نعتقد أنه من المحتمل أنهم حققوا درجة عالية جدًّا من الدقة.
تأريخ زمني
وعلى الرغم من أن طقوس تقديم القرابين الفيدية تُعتبر الآن نشاطًا دينيًّا، فإن هذه الطقوس كانت تُؤدَّى إلى حدٍّ كبيرٍ لأهداف دنيوية، وهذا يعني أن الغرض الأساسي من القربان كان أن يستمر الكون في العمل بأفضل مستوَى كفاءةٍ في الوقت الراهن. وكانت تُقدَّم القرابين إلى عناصر النظام الطبيعي للكون مثل الشمس والمطر والبرق والرياح وغيرها، وكانت تُقدَّم أيضًا لمبادئ مجرَّدة مثل العهود والنذور. وفي العموم كان يُطلق على ما يُقدَّم له القربان «ديفا». وكان المنطق وراء هذه الممارسة هو أنه إذا أدى الإنسان طقوسَ تقديمِ القربان على نحو صحيح، فإن «الديفا» سوف يَردُّ بأداء وظيفته الكونية على أكمل وجه. وبهذه الطريقة استمرَّ النظام الكوني، الذي أصبح معروفًا فيما بعد باسم «دارما». أما ما فَرَض على كهنة البرهمية ضرورة القيام بالطقوس فهو صُحُف الطقوس، وتمثِّل هذه الصحف الأجزاء القديمة من مجموعة النصوص المعروفة باسم فيدا؛ ولذلك يمكن الإشارة إليها باسم صحف الطقوس الفيدية، وأحيانًا يُشار لهذا الدين القرباني باسم الدين الفيدي القرباني.
كانت «طقوس تقديم القرابين» التي جلبها الآريون تتمُّ على يدِ أشخاصٍ متخصصين (كهنة البرهمية)، نيابةً عن أشخاص يَحِقُّ لهم ويجب عليهم توظيف كهنة البرهمية للقيام بالطقوس. وكان تقديم القرابين يتم في مكان مُعَدٍّ خصوصًا لذلك، منظم حول نار أو نيران موجودة في المنتصف. وبالإضافة إلى الكلمات والأصوات التي يُتَمْتمون بها أو يتحدثون بها أو ينشدونها، كانوا يستخدمون أيضًا أدوات معدنية عند وضع القربان في النار، وكان القربان من مواد مثل الحبوب المطهوَّة والزيت. وكانت كل الأمور المتعلقة بالقربان، بدايةً من مساحة المكان إلى نوع القربان الواجب تقديمه والكلمات المستخدمة، موصوفة في صحف الطقوس.
كلمة «فيدا» تعني «المعرفة»؛ فهي تشير إلى اعتقاد أن الأسلاف القدماء للكهنة البرهميِّين في القرن الخامس قبل الميلاد عرفوا أو «رأَوا» الحقيقة التي تتضمنها الفيدا (ولهذا السبب أُطلق عليهم الناظرون). وهذا المعتقد لم يكن مفهومًا مطلقًا على أنه حقيقة مكتشفة خاصة بالمعلِّمين، بل فهموا أنها حقيقة كونية أبدية وغير مرتبطة بشخص بعينه، وأن الناظرين كانوا مجرد أداة لتدوينها للأجيال القادمة. وبهذه الطريقة أصبحت مكانة نصوص تقديم القرابين الفيدية ذات أهمية بالغة، واعتُبِرَ أيُّ شيء مفروض على الإنسان بموجب مجموعة هذه النصوص صحيحًا لذاته؛ إذ يجب تنفيذه لأنه يجب تنفيذه؛ فهذا جزء من الحقيقة الأبدية. وعلى هذا الأساس فإن الاهتمام بالدقة لضمان الفعالية عزَّزه الاعتقاد الذي يقول إن الأداء الصحيح لكل طقس من الطقوس هو جزء من الواجب الكوني.
بالإضافة إلى الأفعال الشعائرية البدنية، وصفت صُحف الطقوس مجموعة من الكلمات والأصوات التي يمكن أن يُشار إليها جميعًا بأنها صِيَغٌ لا بد من نطقها أو التمتمة بها أو إنشادها عند تقديم القربان. وكان كلٌّ من الفعل البدني والصوت يُسهمان في نتائج التضحية؛ فقد كانا من «الأفعال» ذات العواقب، أو ما يُطلق عليه كارما. وكانت اللغة السنسكريتية هي اللغة المكوِّنة لهذه الصيغ، ونتيجة لذلك اعتُبرت اللغة أداةً مقدسة ذات قدرة هائلة أكثر من كونها مجرد وسيلة للتواصل. وفي واقع الأمر، لقد اعتُبرت تجسيدًا في صورة صوتية لتجلي الكون.
اللغة السنسكريتية
تشترك كلمة «سنسكريت» مع كلمة كارما في جذر الفعل «كري»، أما البادئة «سنس» فتعطي معنى «المكوَّنة جيدًا» أو «المبنية جيدًا»، وهذا يوضِّح الارتباط بين النطق الصحيح الواضح للكلمات السنسكريتية وبين الكون المتجلي الذي تشير إليه.
ونظرًا لمكانة وقوة النصوص الفيدية واللغة السنسكريتية، فقد كان كهنة البرهمية يحرصون على معرفتهما معرفة وثيقة دون غيرهم من الناس، وأراد كهنة البرهمية إضفاء الشرعية على هذه المعرفة الحصرية فتعلَّلوا بأن مثل هذه النصوص تحتاج إلى الحماية، لكن هذا في الوقت نفسه وضَع الكهنة أنفسهم في موقع السيطرة المطلقة على المجتمع في ذلك الوقت، وكان المجتمع نفسه منظمًا بطريقة تحافظ على هذه السيطرة. أما أصول ما يُعرف الآن بالنظام الطبقي الهندي فهي مدونة في صُحُف الطقوس الفيدية، وفيها كان الناس يُقَسَّمُون وفقًا لتسلسل هرمي على حسب النقاء الشعائري، وكان كهنة البرهمية، الأنقى، يحتلُّون القمة. إن نقاء كهنة البرهمية جعلهم مستحقين ومخوَّلين بالتعامل بأمان وكفاءة مع الطقوس المقدسة ولغة القربان.
وهكذا فقد كانت السمات الأساسية للدين القرباني الفيدي تقوم على الطقوس الشعائرية، البدنية واللفظية أيضًا، وكانت الدقة والإتقان في أداء هذه الطقوس ضروريين لضمان فعاليتها، وكان كهنة البرهمية يحفظون هذه الطقوس ويُشْرِفون على القيام بها بالكامل، وكان الهدف من أداء هذه الممارسات الشعائرية هو الحفاظ على استمرار الكون، وكانوا يعتقدون أن الأفعال القربانية المختلفة — البدنية واللفظية — ترتبط بنتائجها بالتبعية.
التأمُّل الكوني
على الرغم من أن هذا النظام كان دنيويًّا إلى حدٍّ كبير، فإن كثيرًا من النصوص الفيدية تُسجِّل أن بعض القدماء المتخصصين في الطقوس كانوا يتأملون على نحوٍ معقد في طبيعة الكون الذي يسعون إلى استمراره، وأدركوا أن الأدوار التي يلعبها الديفات التي يقدمون إليها القرابين كانت أدوارًا مقتصرة على المكان المحدد والدور المحدد لكلٍّ منها في هذا الكون، وتفكَّروا أيضًا في احتمالية وجود ما هو أعظم من الديفات. كما أرادوا أيضًا معرفة المزيد عن أصول الكون نفسه؛ كيف بدأ كل هذا؟ مَن أو ماذا (إذا كان يُوجد شخص أو شيء) خَلَقَه؟ هل بدأ كجنينٍ ذهبي؟ هل شِيدَ على يدِ مهندسٍ سماوي؟ هل نشأ عن قربان كوني؟ ما الدور الذي لعبه الكلام (أي صوت اللغة المقدسة)؟ هل النَّفَس هو ما منح الحياة لكل شيء؟ أم كان الزمن هو ما بدأ كل شيء؟ ماذا كان يُوجد من قبلُ؟ وربما السؤال الأهم هو: من يَعلمُ ذلك؟
لم يكن يوجد عدمٌ ولا وجودٌ في ذلك الوقت، ولم يكن يوجد الفضاء ولا السماء التي وراءه. ما الذي بدأ كل شيء؟ وأين؟ وفي حماية مَن؟ هل كان يوجد ماء سحيق العمق؟
لم يكن يوجد موتٌ ولا خلودٌ في ذلك الوقت، لم تكن توجد علامة مميزة لليل أو النهار، أحدهم كان يتنفَّس ذاتيًّا، بلا هواء، وفيما عدا ذلك لم يكن يُوجد شيء.
كان الظلام يخفيه الظلام في البداية، ولم تُوجد علامة مميزة، وكان كل شيء ماءً. قوة الحياة التي كانت مغطاة بالخواء، أيقظها ذلك الكيان من خلال قوة الحرارة …
من يعلم حقًّا؟ من سيعلن هنا؟ من أين جاء العالم؟ من أين جاء الخلق؟ الديفات أتت فيما بعد، مع خلق هذا الكون، فمَن إذن يعلم من أين نشأ العالم؟
من أين نشأ هذا الخلق؟ ربما خلق نفسه، وربما لم يفعل … الكيان الذي ينظر مراقبًا من السماء العليا وحده يعلم، أو ربما لا يعلم.
تحرير وترجمة ويندي دونيجر أوفليرتي، هارموندسوورث: بنجوين، ١٩٨١
تاريخ «الريج فيدا» غير مؤكَّد، لكن يُعتقد أنها كانت قبل القرن الخامس قبل الميلاد بوقت كبير، ومن الممكن أن يعود تاريخها إلى قرابة ١٥٠٠ قبل الميلاد.
يُعدُّ تأمل القدماء استثنائيًّا في مداه وعمقه، ويشير إلى قدرٍ هائل من التفكير التحليلي من جانبِ ممارسي الطقوس عن طبيعة ما كانوا يقومون به. ولا يُوجد لدينا دليلٌ على ما إذا كان هذا التأمل قد أثَّر على الطقوس نفسها؛ وفي واقع الأمر سيكون من غير المحتمل أن يكون هذا التأمل قد أثَّر عليها؛ لأن الطقوس كانت مدونة بدِقَّة صارمة، لكن من الممكن أن يكون هذا التساؤل المستمر قد أسهم في ظهور مجموعة ثانية من الأفكار والممارسات الدينية التي تبنَّاها التقليد البرهمي. وإلى جانب استمرار غالبية الكهنة في ممارسة طقوس القربان الظاهرة والمرئية، تسجِّل النصوص الفيدية أن بعض الكهنة بدءُوا يعتكفون للتأمل في طبيعة القربان بمزيد من العمق، وفي النهاية توصَّل بعض هؤلاء إلى اعتقادِ أن القربان يمكن أن «يصبح باطنيًّا»؛ أي أنْ يُمارَس من خلال وسائل التركيز والتخيُّل.
والتطور التدريجي لهذا الاتجاه مسجَّل في كتب مجموعة النصوص الفيدية، المعروفة باسم البراهمانات والأرانياكات (انظر المربع التالي)، لكن في كتاباتِ الأوبانيشاد تُوجد التعاليم التي قد تمثِّل، على نحو محدد، ذروةَ هذا الاتجاه. وتكوِّن كتابات الأوبانيشاد الجزء الأخير من الشريعة الفيدية — ويطلقون عليها «نهاية الفيدا» — وجُمعت محتوياتها في العائلات البرهمية نفسها التي جمعت النصوص الشعائرية.
كانت النصوص الفيدية محفوظة في عائلات برهمية مختلفة، ومع مرور الزمن أُكملت «الأجزاء» الأربعة من «الصحف الشعائرية»، التي كان يستخدمها مختلف أنواع كهنة البرهمية، بكلٍّ مِن «البراهمانات» و«الأرانياكات» وأخيرًا كتابات «الأوبانيشاد».
وكانت الأجزاء الشعائرية الأربعة هي:
ريج فيدا | ساما فيدا | ياجور فيدا | أتهارفا فيدا |
ودمجت هذه العائلات نصوص «البراهمانا» و«الأرانياكا»، التي كانت تضم أفكارًا حول طبيعة القربان و«تحويل القربان إلى قربان باطني».
وتمثِّل كتابات «الأوبانيشاد» ملحقاتٍ للنصوص القديمة، وتضم ما يلي:
«كاوشي تاكي» | «تشاندوجيا» | «تايتيريا» | «مونداكا» |
«براشنا» | «بريهادارانياكا» | «كينا» | |
«كاتها» | |||
«إيشا» | |||
«شفيتاشفاتارا» |
تحتوي كتابات الأوبانيشاد على الكثير من الأحاديث التأَمُّلِيَّة والتعليمية، حول طبيعة أداء الطقوس القربانية والهدف منها وضرورتها. أما ما يميِّزها عن النصوص البرهمية الأولى فهو أنها تحتوي أيضًا على تعاليم وأفكار تقلِّلُ من مكانة الهدف من الطقوس وتجعله مجردَ الْتزامٍ بالسعي لفهم طبيعة البشر. بالإضافة إلى ذلك، فالمعرفة التي كانت تسعى إليها كانت معرفةً شخصيَّة وباطنية — معرفة «روحانية» داخلية — في مقابل معرفة القربان الطَّقْسِيَّة العلنية. وهذا يمثل تحوُّلًا في التقليد من اهتماماته السابقة التي كانت متمحورة حول الكون إلى الاهتمام بموضوعات متمحورة حول الإنسان على نحو أكبر؛ أو أنه يُرَكِّز على الفرد على نحو أكثر تحديدًا داخل إطار الصورة الكونية الأوسع نطاقًا المتعلقة بالفترة القديمة التي كانت خالصة للطقوس. تضم كتابات الأوبانيشاد أوَّلَ تسجيل لفكرة أن البشر يُولَدون مرارًا وتكرارًا في ظروف تتوقف على أفعالهم في الحيوات السابقة. وتقول الكتابات إن الأداء المتقن والصحيح للقرابين لن يُحقِّق العواقبَ التي من أجلها قُدِّمت القرابين فحسب، بل سوف يؤثر تأثيرًا مفيدًا على ظروف الحياة التالية للشخص، وهذا هو قانون الكارما (الفعل) الذي لا ينطبق على آليات الطقوس فحسب، بل ينطبق أيضًا على آليات التجربة البشرية.
ورغم ذلك، فأهم شيء يجب أن يطمح المرء إليه هو اكتسابُ معرفةِ طبيعةِ ذاته الجوهرية أو روحه، التي تُسمَّى «أتمان» باللغة السنسكريتية. وتقول نصوص الأوبانيشاد إن الذات والكون شيء واحد، وتقول على نحو متكرر إن أتمان المرء لا تنفصل عن كل الموجودات. ويُعرف ذلك على نحوٍ مشهور بهذه الجملة: «تات تفام أسي»: «أنت [كل] ذلك» («تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد ٦). ويجب السعي إلى اكتساب معرفةٍ تجريبية عن هذه الهوية؛ لأن مِثل هذه المعرفة تؤثِّر على خلاص المرء (الخلاص يعني «موكشا» بالسنسكريتية) من الميلاد المتكرر. ويقدم هذا المبدأ فكرة الخلاص إلى التقليد البرهمي لأول مرة، وعلى الرغم من استمرار ممارسةِ طقوسِ تقديمِ القرابين حتى الوقت الراهن، فإن تجربة الموكشا سرعان ما أصبحت الهدف الأسمى للوجود البشري. لقد أصبحت تُعتبر معرفةً إيجابية تمامًا مكَّنت المرء من الهروب من دوامة الميلاد المتكرر وجعلته يشهد الخلود: «إن المرء الذي يرى ذلك لا يشهد الموت أو المرض أو الضيق [بعد الآن].» («تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد ٧).
وحدة الوجود
في البداية، كان هذا الكون مجردَ وجودٍ؛ واحد فقط دون ثانٍ. وصحيح أن بعض الناس يقولون إنه «في البداية كان هذا العالم مجردَ لاوجود — واحد فقط دون ثانٍ — ومن اللاوجود ظهر الوجود.» لكن كيف يمكن أن يكون هذا هو واقع الأمر؟ كيف يمكن أن يأتي الوجود من اللاوجود؟ على النقيض من ذلك، في البداية، كان هذا العالم مجردَ وجودٍ — واحد فقط دون ثانٍ.
يُشار إلى المبدأ القائل إن الكون واحد بالمصطلح الوجودي «واحدية»، وهذا يعني أنه يوجد موجودٌ واحد فقط، ولا يوجد شيء مغاير لهذا الموجود؛ إذن فكل ما هو موجود هو في النهاية شيء واحد، حتى إذا لم يَبْدُ لنا أن الأمر كذلك؛ فليس بالضرورة أن نكون قادرين على رؤية ذلك ليكون صحيحًا. الواحدية مصطلح عدديٌّ وليس نوعيًّا. ويلزمنا معلومات إضافية لمعرفة طبيعة وسمات وحدة الوجود، في حال وجود تلك السمات.
الواحدية ليست مصطلحًا إيمانيًّا أيضًا، ويجب ألا يُخلَط بينها وبين مفهوم «التوحيد»؛ فالتوحيد ينصُّ على وجودِ إلهٍ واحد، لكنه لا يخبرنا أي شيء آخر عن ذلك الموجود في حدِّ ذاته، ولا ينصُّ على أنه لا يُوجد سوى وحدة الوجود. فإذا كان الكون واحديًّا، ففي إطار وحدة الوجود من الممكن أن يُعتقد أنه يوجد شيء يبدو كإلهٍ — أو عدة آلهة في واقع الأمر — لكن ذلك لن يكون له علاقة بوحدة الوجود الأساسية سوى ذلك التعدد الظاهر في العالم التجريبي.
وتزخر كتابات الأوبانيشاد القديمة بجُمَل تُفسِّر نتائج وحدة الوجود: «إنه من خلال الرؤية، والسمع، والتفكُّر، والتركيز على الذات الجوهرية للمرء (أتمان) يُعرف العالم كله» («بريهادارانياكا أوبانيشاد»، المجلد ٢). «الأتمان أسفل وأعلى، وفي الغرب والشرق والشمال والجنوب. الأتمان بالفعل هي العالم كله» («تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد ٧). وعلى نحو مباشر إلى حدٍّ كبير، فالتعبير «أتمان هي براهمان» يوحِّد على نحو واضح تمامًا بين الذات الجوهرية والكون، ويجعلهما في النهاية شيئًا واحدًا لا شيئين.
إن التركيز على هوية الذات الباطنية والكون يشير إلى أن التعاليم المذكورة في كتابات الأوبانيشاد يمكن اعتبارها ذروةَ تحويلِ القربان إلى قربان باطني، كما قلنا في السابق. إن الممارسات الخارجية والمرئية الموجَّهة نحو العالم الخارجي تحوَّلت ببساطة إلى فهمٍ شخصيٍّ داخليٍّ للعالم. وتدعم كتابات الأوبانيشاد أيضًا تقليدَ طقسِ القربان؛ إذ إنها لا تذكر في أية نقطة ما يشير إلى ضرورة هَجْرِ تلك الطقوس. على العكس من ذلك، فإن كتابات الأوبانيشاد تؤكد على الحاجة إلى أداء الطقوس وعلى النظام الاجتماعي الطبقي، القائم على النقاء الشعائري الذي من خلاله تُؤدَّى تلك الطقوس، وبذلك كان ممكنًا أن تُوجَد كلٌّ من الطقوس وتعاليم الأوبانيشاد جنبًا إلى جنب داخل التقليد البرهمي. أما المكانة العليا المخصصة لصحف الطقوس الفيدية فهي مخصصة بالمثل لكتابات الأوبانيشاد؛ إذ تُعتبر كلتاهما متضمنة لتعاليم متعلقة بالحقيقة.
يمكن للمرء أن يلاحظ على الفور أيضًا كيف أن هذين الفرعين من التقليد يتضمنان موضوعات ووجهاتِ نظرٍ من المحتمل أن تسبب الخلاف والنزاع بين أتباع التقليد؛ فالتركيز والتأكيد في كتابات الأوبانيشاد لم يتحولا فحسب من الاهتمامات الدنيوية المتمثلة في الطقوس إلى الاهتمام بطبيعة ومصير الإنسان، كما وصفنا في السابق، بل أيضًا اعتُبر اكتساب المعرفة الباطنية ذا أهمية عليا، كما اعتُبر هدفًا أسمى من أداء الأفعال الشعائرية. علاوة على ذلك، وربما في غاية الأهمية، فإن ممارسةَ الطقوس الفيدية وسعيَ كتاباتِ الأوبانيشاد إلى اكتساب المعرفة كليهما مدعومان بفهم مختلف لطبيعة الحقيقة؛ فكتابات الأوبانيشاد توضح أن تلك الطقوس، على الرغم من أهميتها، يجب أن تُمارَس فحسب وَفْق رؤيةٍ تفترض أن العالم المتعدد يتسم بالحقيقة المتسامية، وفي واقع الأمر فإن الغرض من الطقوس هو الحفاظ على العالم المتعدد. ورغم ذلك، ترى كتابات الأوبانيشاد أن تلك التعددية حقيقية فقط من الناحية التجريبية (أو من الناحية العُرفية)، وأن معرفة الحقيقة الكبرى المتمثلة في وحدة الوجود الكامنة للعالم هي ما تؤدي إلى هدف الخلود الأعلى.
لا توجد تعدُّدية هنا. إنه ينتقل من موتٍ إلى موتٍ من يؤمن بالتعددية في هذا الصدد. يجب أن يرى المرء واحدًا فقط … ومن خلال معرفة ذلك الواحد بعينه، يمكن للبرهمي الحكيم أن يكتسب البصيرة بنفسه.
يُطلق على الأشخاص الذين يُقرُّون أن تعددية العالم من حولنا حقيقةٌ مطلقةٌ مصطلحُ «التعددين»، أما المصطلحات الأخرى التي تُطلق على هذا المفهوم الوجودي فهي «الواقعية التعددية» و«الواقعية المتسامية»؛ وهذا يعني أن ما نراه — تعددية العالم التجريبي — حقيقيٌّ في حدِّ ذاته، ومتسامٍ (أو «خارج») عن أي شيء له علاقة بالإدراك البشري.
أما الأشخاص الذين يقولون إن التعددية التجريبية ليست حقيقية من جهة التسامي (وهذا سيشمل أولئك الذين يقولون إن الحقيقة واحدة) فإنهم لا ينكرون الحقيقة التجريبية، بل ما يقولونه هو أنه يوجد قدْر أكبر من الحقيقة — الحقيقة المطلقة — يختلف عمَّا نراه على السطح، والحقيقة التجريبية في هذا الصدد تكون «اصطلاحية».
في العقود الأولى من القرن الخامس قبل الميلاد لم يَبْدُ أن هذين المنهجين تعارضا فيما بينهما أو أنهما طرحا رؤيتين غير متوافقتين للعالم تتنافسان على السيادة، لكن هذا الوضع سرعان ما تغيَّر، كما سنرى في الفصول المقبلة. فهذا القرن لم يشهد فحسب وجود بوذا وغيره من الذين تحدَّوا التعاليم البرهمية القائمة على كتابات الأوبانيشاد، بل سرعان ما أصبح من الضروري للمتخصصين في الطقوس أن يدافعوا عن رؤيتهم الواقعية للعالم ضد أولئك الذين سعَوا إلى دحض الغرض من القربان أو السخرية منه، وفي سبيل القيام بذلك كانوا مضطرين إلى دَحْض أية فكرة متعلقة بالمكانة العرفية فحسب للعالم التجريبي كما تقول كتابات الأوبانيشاد، وكما يقول آخرون. وكان معنى ذلك أنْ أصبح التقليد البرهمي مضطرًّا للتصارع مع النقد الخارجي، وأيضًا أصبح معرضًا على نحو متزايد للتباين في الرأي بين أتباع التقليد استنادًا إلى فرعَيِ النصوص الأولية.
وفيما بعد، حاول أولئك المهتمون بعدم التشكيك في مشروعية وجود كلا المنهجين داخل التقليد نفسه التغلبَ على عدم التوافق بين المنهجين؛ عن طريق اقتراح ضرورةِ أداءِ الواجبات الشعائرية خلال فترة من حياة الفرد هي فترة زواجه وإنجابه للأطفال؛ وهذا يعني استمرار الحفاظ على العالم المعتمد على الطقوس، وكذلك إنتاج الأجيال المتعاقبة من الأبناء الذين يعتمد عليهم استمرار النظام الاجتماعي الطبقي الذي يقوده كهنة البرهمية. وبمجرد انقضاء هذه المرحلة من حياة المرء، يمكن تركيز الانتباه على السعي إلى تحرير المعرفة. وإلى وقتنا هذا، يرى الأشخاص الذين يهتمون في المقام الأول بالممارسة الدينية بدلًا من النقاش الفلسفي أن هذا هو طريق الأرثوذكسية البرهمية التي تقرُّ بالمكانة الجوهرية للفيدا ككل.
ومع ازدياد تطوُّر النقاش الفلسفي والجدلي، شارك في النقاش مفكرون من تقاليد متنوعة، لكن من هذه النصوص الأولية مباشرة، بَنَت مدرستان من مدارس الدارشانا الفلسفية الكلاسيكية — هما ميمانسا وفيدانتا — تعاليمهما ورؤيتهما المختلفة للعالم على تأويلاتِ نصوص تقديم القرابين الفيدية وعلى كتابات الأوبانيشاد على الترتيب. وأصبحت هاتان المجموعتان من النصوص، اللتان على أساسهما تعايَش الفرعان الشعائري والمعرفي للتقليد البرهمي خلال أوائل القرن الخامس قبل الميلاد؛ معروفتين باسم «قسم الأفعال» («كارما كاندا») و«قسم المعرفة» («جنيانا كاندا») للفيدا لدى كلٍّ من الأشخاص الذين تحدَّوا التقليد، والأشخاص الذين وفَّقوا بين منهجي التقليد، والأشخاص الذين فسَّروا نصوص التقليد.