الموضوعات والمبرِّرات
تهديد كهنة البرهمية
من وجهة نظر كهنة البرهمية، مثَّلت التطورات التي حدثت خلال القرن الخامس قبل الميلاد تهديدًا خطيرًا؛ فعلى مدار زمن طويل نجح أحفاد الآريين نجاحًا كبيرًا في أن يجعلوا لأنفسهم منصبًا سياديًّا على كلٍّ من الصعيدين الثقافي والديني، لكن تحديات الآخرين للنفوذ البرهمي خلال تلك الفترة جعلتهم في حاجة إلى اتخاذ خطوات جادَّة للدفاع عن ممارساتهم ورؤيتهم للعالم. وكان تقليد تقديم القرابين أكثر الممارسات تعرضًا لهذا التهديد؛ فالرؤى المنافسة التي تبنَّاها الآخرون لم توضِّح فحسب أن الطقوس المرتبطة بالقربان عبثيَّة، بل إن هذه الرؤى في حالة تحقيقها لقبولٍ لدى الناس على نطاق كبير سوف تجعل كهنة البرهمية أنفسهم بلا عمل؛ ومن ثمَّ تطيح بهم من قمة التسلسل الطبقي. وكان من ضمن مظاهر محاولة كهنة البرهمية حمايةَ كلِّ ما يتعلق بمكانتهم القيادية تعزيزُ وصياغة مجموعة من الحجج الفنِّية الرامية إلى إظهار فعالية القرابين ومكانتها.
وعلى غرار تطورات القرن الخامس قبل الميلاد التي تحدَّثنا عنها في الفصول السابقة، فقد استندت صياغة «الحجج المدافعة» عن التقليد الفيدي القرباني إلى نزعاتٍ قديمة. كان التقليد الشعائري يُنظم ويُحفظ وينفذ على نحو متخصص؛ إذ كانت كل عائلة مسئولةً عن جانب من الجوانب المختلفة من عملية تقديم القرابين وخبيرةً فيه، وبهذه الطريقة فإن صياغة حجج تفصيلية دفاعًا عن طقس تقديم القرابين كان من الممكن أن تستعين بالحجج الموجودة، وتطوِّر حججًا جديدة تستند إلى التخصص: كانت عملية الدفاع عن طقس تقديم القرابين متداخلة على نحو معقَّد مع كلٍّ من الدراسات الجارية وقتها ومع الحجج الداعمة للممارسة في التقليد البرهمي ككل.
تأريخ زمني
من بين الشخصيات الرئيسية:
خطوط الدفاع
ببساطة، كان كهنة البرهمية يرون في الأساس أن تهديد الطقس القرباني يمثِّل تهديدًا للفيدا نفسها؛ تحديدًا القسم «الأصلي» السابق لكتابات الأوبانيشاد، الذي يُعرف باسم (كارما كاندا)؛ ومن ثَمَّ كان من الضروري الاستعانة بخطَّي دفاع؛ تمثَّل الخط الأول في تعزيز وحماية استمرارية النظام الاجتماعي الطبقي القائم على النقاء الشعائري، والذي يعتمد عليه مستقبل الفيدا. وتوجد أدلة هذا التعزيز الاجتماعي في الأطروحات المعروفة باسم «دارما شاستراس» و«أرتا شاستراس»، التي تدوِّن على نحوٍ مفصل كلَّ فرد من أفراد المجتمع وتحدِّد له مكانه وأدواره وواجباته وحقوقه وأهدافه وقدرته وهكذا. وبهذه الطريقة أصبح النظام الاجتماعي راسخًا، وعلى الرغم من أن الصرامة القاسية والحصرية الشديدة يمكن أن تكون مآخذ على هذا النظام، فإنه حقق نجاحًا مذهلًا إلى حدٍّ كبير فيما يتعلق ببقاء التقليد واستمراره كما هو حتى يومنا الحاضر. (وربما تجدر بنا الإشارة إلى أن أحد أسباب ذلك هو إيمانهم بأنه في أية حياة من حيوات الشخص تكون مكانته في النظام الطبقي الاجتماعية محدَّدة من قِبَل أعماله في حيواته السابقة (الكارما). وهذا يعني بالنسبة لأبناء المجتمع أن النظام يقوم على عمل أحد قوانين الطبيعة وأنه ليس نظامًا نخبويًّا يقوم على المصادفة كما يراه الغربيون.)
أما خط الدفاع الثاني فكان الحفاظ على المحتوى الكامل للنصوص المتعلقة بأداء الطقوس والدفاع عنه؛ ولذلك كانت التخصصات التي تطوَّرت في هذا المجال قائمةً على فروع معروفة باسم «فيدانجات» — أي «أطراف الفيدا» — وكانت ستة أطراف؛ كان فرع «الصوتيات» مهتمًّا بالنطق الصحيح للأصوات الصادرة أو المنشَدة أو الملفوظة أثناء عملية القربان، وكان «العَروض» يصنِّف الأوزان الشعرية للتراتيل أو الصيغ المختلفة المستخدَمة في عملية تقديم القرابين، ووضع «النحوُ» العلاقاتِ بين الأجزاء المكوِّنة للجملة، وكان «التحليل التأصيلي» يسعى لشرح معنى كلِّ كلمةٍ على حدة داخل الجملة، وحدَّد «الفلك» اليومَ الميمون والزمان الميمون لأداء الطقوس، ووضعت «القواعد الشعائرية» الطريقةَ المثلى لأداء مختلف طقوس تقديم القرابين.
وإذا نحَّينا الفلك والقواعد الشعائرية جانبًا، فقد كانت الفيدانجات مناسبة أيضًا لأمور أخرى تهمنا إلى حدٍّ كبير، أهمها ربط محتوى الفيدا بفهم الحقيقة بواسطة «اللغة»، وهذا يعني أنه من خلال إرساء قواعد لغة الفيدا تصبح طريقة تأثير تلك اللغة في العالم الذي يستمدُّ بقاءه من خلال طقس تقديم القرابين؛ راسخةً هي الأخرى. وكان معنى ذلك أيضًا شرح طبيعة العالم، وأن العلاقة بين اللغة ومعرفة ذلك العالم يمكن تحديدها — حتى وإن كان ذلك من وجهة النظر هذه فحسب. والفقرات التالية سوف توضِّح، كما آمل، كيف نتجت هذه النقاط عن النقاش اللغوي.
اللغة والحقيقة
كما شاع في كثير من أنواع التقاليد الهندية، على مرِّ القرون، طُرحت نظريات وحجج مختلفة داخل التقليد الفيدي تدعم النقاط الأكثر أهمية في النقاش الدائر حول اللغة؛ ونحتاج هنا فقط إلى ذكرِ بعضٍ من أبرزها. لعلَّ من أكثر الشخصيات تأثيرًا النحويُّ الهنديُّ العظيم بانيني، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد. كتب بانيني كتابًا من أكثر كُتُب القواعد اللغوية شمولًا وتعقيدًا في تاريخ اللغويات، وما زال الكتاب يحظى بقدرٍ كبير من الاحترام حتى يومنا الحاضر. ويضم هذا العمل الرائد — «أشتاديايي» — ثمانية فصول تضم أربعة آلاف قاعدة. يضم الكتاب والملاحق كلَّ ما يتعلَّق بعِلم الدلالات اللغوية وقواعد تركيب الجملة والاشتقاقات وقواعد النطق وتصنيف جذور الأسماء والأفعال، والقواعد المتعلقة بالحالات الخاصة. وبهذه الطريقة، ضمَّ بانيني علمَ تاريخ الألفاظ والصوتيات إلى كتابه الشامل لكل القواعد اللغوية، على الرغم من أنها تُعدُّ فيدانجات بذاتها، يُدرِّسها الآخرون ويكتبون عنها كلٌّ منها على حدة.
كانت اللغة التي وصفتها القواعد اللغوية التي وضعها بانيني هي اللغة السنسكريتية، لغة الفيدا ولغة الطقس. وكانت السنسكريتية تُعتبر كلامًا «نقيًّا من الناحية الشعائرية»، وكان الجانب الإبداعي لهذه اللغة يحظى بأهمية محورية؛ إذ كانوا يعتقدون أن صوت اللغة السنسكريتية الملفوظ أثناء تقديم القربان هو ما يحقِّق النتائج المرجُوَّة من القربان. ووصف بانيني هذه العملية بأنها نشاطٌ له ميزة تتمثَّل في القيام بالفعل. وبهذه الطريقة، وعلى سبيل المثال، تتضح القيمة الإبداعية لجملة مثل «الماء يبلل الحبوب» من خلال فَهْمها على هذا النحو: «الحبوب المبلَّلة تنتج عن الماء.» وبالنسبة لنا، يوجد أمران جديران بالملاحظة في هذا الصدد؛ الأمر الأول هو أن الاسمين (كلمتي التسمية) — وهما في هذه الحالة الحبوب والماء — مفهوم أنهما حقيقيان؛ أي أشياء أو كائنات فعلية. الأمر الثاني أن الفاعل — الماء في هذه الحالة — لا يحتاج إلى أن يكون فاعلًا واعيًا أو متعمِّدًا؛ لأن أصوات أداء طقس تقديم القربان فعَّالة على نحوٍ مبدع؛ لأنها تلقائية، وبالتأكيد غير شخصية؛ فدور الكهنة في «ترديد الآيات الفيدية» يشبه دور الماء في تبليل الحبوب. وبهذه الطريقة أوضحت اللغة نفسها حقيقة العالم المتعدد الذي يتمُّ فيه تقديم القربان، وتأكَّد الدور الأساسي الذي يلعبه الكهنة في حفظ وحماية نصوص الطقس القرباني؛ فاللغة التي يستخدمها الكهنة كانت أداةَ الإبداع.
ومن الأمور ذات الأهمية الهامشية إلى حدٍّ ما أنه عند وضْع القواعد النحوية للغة السنسكريتية، لعب بانيني دورًا مهمًّا في «ختم» اللغة. وهذا عامل غريب في تاريخ أي لغة؛ لأن معظم اللغات تستمرُّ في التغيُّر والتكيُّف مع سياق التطوُّرات الثقافية. أما اللغة السنسكريتية، على النقيض من ذلك، فلها صيغة «كلاسيكية» محدَّدة، تعطي دليلًا واضحًا حول الصحيح والخطأ، وكيفية أو إمكانية استخدامها، وهكذا. وعلى الرغم من أن اللغة السنسكريتية لها تراثٌ غنيٌّ في استخدامها في أدب ودراما الهند وكذلك في الكتابات «الدينية» الأخرى، فإن الهدفَ من الطبيعة المقيَّدة بالقواعد الخاصة باللغة السنسكريتية ومبرِّرَ ذلك التقييد هما المكانة الفريدة للُّغة في عملية تقديم القربان الإبداعية.
كان من أهمِّ أتباع بانيني والمعلِّقين عليه باتانياجالي وكاتيايانا، وقد عاش كلاهما في القرن الثاني قبل الميلاد، وتمثَّل إسهامهما في ربط قواعد بانيني النظرية بطريقة استخدام اللغة السنسكريتية عمليًّا. وقالا إن استخدام اللغة مثَّل سلطة نحوية إضافية. وفي واقع الأمر، إن استخدام اللغة مثَّل وسيلة موثوقة للوصول إلى المعرفة. وكان هذا الأمر من الأهمية بمكان؛ فمعنى ذلك أنه حتى الجمل التي تبدو مكوَّنة على نحوٍ غيرِ مكتمل أو على نحو غير مثالي يمكن فهْمها بواسطة الروابط النحوية. وهذا يعني أنه إذا كانت إحدى الجمل أو إذا كانت مجموعة من الكلمات لا تتَّفق على نحوٍ دقيق مع القواعد النحوية الدقيقة، يمكن اعتبار أن تلك الجملة أو هذه المجموعة من الكلمات ذات معنى من خلال الاستخدامات المتعارَف عليها. وكان هذا تأكيدًا مهمًّا ليس فقط في توسيع نطاق المعايير التي تُستخدم اللغة وفقها، بل كان أكثر أهمية على وجه الخصوص للمدافعين عن الفيدا؛ والسبب في ذلك هو أن بعض الكلام الموجود في النصوص الشعائرية لم يكن واضحًا أو متَّسِقًا. وجزء كبير من هذا الكلام كان مكوَّنًا من أوامر (أو نواهٍ في واقع الأمر) محددة بوضوح لأغراض أداء الطقس، وقد كانت إمكانية تطبيق القواعد النحوية واضحة في هذا الجزء. ورغم ذلك، احتوت النصوص أيضًا على أوصاف تكميلية متعددة ذات معنى إمَّا أنه غير واضح في حدِّ ذاته أو قد يبدو متعارضًا مع الجمل المذكورة في أجزاء أخرى من النصوص. وبالاستعانة بمعايير الاستخدام يمكن تفسير تلك الفقرات على أنها استعارات مجازيَّة، أو طريقة أخرى غير حَرْفية للتعبير، مما يضمن تمام الصحة والتماسك للغة المقدسة التي دُوِّنت بها تلك النصوص.
دفاع جايميني عن الفيدا
في نهاية المطاف، أدَّى وضع النظريات حول اللغة ودورها إلى قيام مدافعين آخرين بمحاولات أكثر تحديدًا لتأكيد معنى محتوى الفيدا وإثبات صحته. ومكَّنهم عمل النحويين مبدئيًّا من ضمان دِقَّة حفظ النص والدقة في تقديم القربان نفسه. ولكن كان من الضروري أيضًا أن يكونوا قادرين على إثبات أن مجموعة النصوص بأكملها لها معانٍ ومترابطة. وكان أول مؤَوِّل مهم ومعروف للنصوص الفيدية هو جايميني، الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، والذي حاول فهْم طبيعة الطقس القرباني والهدف منه. وكان هذا بداية تقليد «ميمانسا» («ميمانسا» تعني «التأويل»). وأصبح اسم ميمانسا مرتبطًا بتأويل النصوص الشعائرية، وقسم الأفعال من الفيدا المعروف باسم كارما كاندا، والتقليد الفلسفي القائم على هذا التأويل.
المعنى والنحو
«النار تطهو الأرز.» هذه جملة واضحة، بها اسمان من الأسماء هما النار والأرز، ونشاطٌ هو الطهي، وفاعلٌ هو النار التي تُنتج الأرز المطهوَّ. يمكن للمرء أن يفهم الجملة على أنها «إيجاد» الأرز المطهوِّ بواسطة التفاعل بين الاسمين والنشاط.
ويرتبط معنى كل كلمة من هذه الكلمات بالصيغة النحوية للجملة ككل؛ فعلى سبيل المثال، لو كانت الجملة سالفة الذكر هكذا: «النيران تطهو الجاودار»، فالمعنى المختلف لكلمة «نيران» (أكثر من نار واحدة) وكلمة «جاودار» (مادة مختلفة توضحها كلمة مختلفة) يعني أن تلك الجملة في مجملها تنصُّ على أمرٍ مختلف عن جملة «النار تطهو الأرز»؛ ولهذا السبب كان من المهم معرفة أمرين: أولهما هو معنى كلِّ كلمة، وهذه هي وظيفة علم أصول الكلمات، وثانيهما هو طريقة عمل القواعد النحوية؛ كي نفهم الجملة بأكملها.
«شَعْرها كان ضوء شمس رائقًا.» هذه الجملة لا يمكن فهمها فهمًا حرفيًّا؛ لأنه من غير الممكن أن يكون الشَّعْر فعليًّا ضوء شمس. وإذا حلَّلنا الجملة وفقًا لقواعد علم أصول الكلمات وقواعد التراكيب اللغوية (معنى الكلمات المرتبطة بصيغة لغوية)، أصبحت الجملة مرفوضة باعتبارها خاطئة. ورغم ذلك، فمن الممكن فهم هذه الجملة بواسطة قواعد «الاستخدام»، وعندها ستُفهم باعتبارها استعارة. وعند هذه الحالة سيُعرف أن المقصود هو أن الشَّعْر في هذه الجملة كان أصفرَ اللونِ وساطعًا ولامعًا، يتوهَّج أو يتلألأ في الضوء على الأرجح، وأن الجملة لا تزعم أن الشَّعْر يتحوَّل إلى ضوء الشمس.
سنناقش تقليد ميمانسا بشكل أساسي في الفصل الثامن؛ لأن ازدهار التقليد جاء في مرحلة لاحقة، لكنَّ فهْمَ بدايات التقليد سيكون مفيدًا بالنسبة لنا في هذه المرحلة؛ نظرًا لتأثيره على مدارس الفكر الأخرى في القرون اللاحقة. وكان هدف جايميني، المدوَّن في ميمانسا سوترا، هو فهم النصوص الشعائرية الفيدية باعتبارها واضعة قوانين الدارما. وكما ذكرنا في الفصل الأول، فإن الدارما هي النظام الكوني الذي يستمرُّ من خلال الأداء الصحيح للقربان، ذلك القربان الذي يعتمد بدوره على الحفاظ على النظام الاجتماعي الطبقي المطلوب. وباعتبار جايميني، مؤوِّل نصوص الدارما، فإنه عرَّف الدارما بأنها ذات طبيعة آمرة، وهذا يعني أنه فسَّر النصوص الفيدية على أساس معناها الإلزامي في المقام الأول؛ فهذه النصوص تخبر المرء بما يجب أن يفعله، أو ما يجب ألا يفعله في واقع الأمر، أثناء تقديم القربان. والفكرة الأساسية هنا أنه رأى النصوص في ضوء أنها المحرض الوحيد على الفعل (الأفعال)؛ ولذلك فكلُّ ما هو موجود في تلك النصوص يجب أن يُفهم حرفيًّا على أنه تعليماتٌ لفعلِ أمورٍ معينة، أو يُفهم على أنه يمثِّل شيئًا مرتبطًا بهذا الغرض. ووفقًا لذلك استخدَم معايير نحوية لشرح الطريقة التي يجب أن تُفهم بها الجمل كي يكون لها معنًى إلزاميٌّ، وشكَّك في وجود معنًى لأيِّ شيء لا يمكن تفسيره بهذه الطريقة، وبالتأكيد شكَّك في المرجعية المتعلقة بالهدف من القربان الفيدي.
الدارما
تحظى الدارما بأهمية محورية في التقليد البرهمي، ومن الصعب ترجمة هذه الكلمة دون أن نخطئ في التعبير عن معناها الحقيقي؛ ولذلك فمن الأفضل محاولة فهمها كمفهوم. ويمكن فعل ذلك على «مستويين»؛ فمن الناحية الكونية المكبرة تشير الدارما إلى النظام الكوني كله، فكل ما هو موجود يُعد جزءًا من الدارما على هذا النحو. وإذا لم تكن الأمور كما ينبغي لها أن تكون، أو غير منظمة على أفضل نظام ممكن، فهذا يعني وجود حالة اضطراب أو «أدارما»؛ أي خلل في الدارما.
والحفاظ على الدارما يتمُّ من خلال طريقتين؛ إحداهما: أداء طقوس تقديم القرابين وفقًا للتعاليم الفيدية. والأخرى تتمثَّل في الأفراد الذين يعيشون وفقًا لمكانتهم الاجتماعية الشعائرية وأداء ما ينبغي لهم فعله للحفاظ على المستوى الأمثل من الوضع الحالي في التسلسل الطبقي الاجتماعي. وتشكِّل هاتان الطريقتان «المستوى» الثاني لفهم الدارما؛ حيث يمكن للمرء رؤية الجانب الإنساني المصغر من الدارما، الذي يشير إلى واجبات الفرد. ويُطلق على الدارما الفردية «سفا دارما»، وتعني «الدارما الشخصية» للفرد؛ ولذلك يُعد الأداء الصحيح للدارما الشخصية للمرء ضروريًّا من أجل الحفاظ على الدارما الكونية والحيلولة دون حدوث الخلل (أدارما).
وُضعت قواعد الدارما الشخصية بقدرٍ عالٍ من التفصيل بدايةً من القرن الثاني قبل الميلاد في نصوص تُعرف باسم «دارما شاستراس»، وتعني أطروحات حول واجب الدارما.
وعلى مستوى فلسفي أكثر عمقًا، شهد القرن الثاني قبل الميلاد التأويلَ الذي ساقه مؤوِّل النصوص الفيدية جايميني للنصوص المبكرة للدارما، وهي النصوص الأكثر قِدَمًا التي تدوِّن الطقوس الفيدية. وقال جايميني إن كل النصوص الفيدية تتكوَّن من تعليمات حول الأمور الواجب فعلها، وعرَّف الدارما في هذا السياق بأنها «الأمور الواجب فعلها.»
ومن ناحية «دينية» أكثر تخصصًا في التقليد الهندوسي، فإن الخلل في الدارما (أي «أدارما») يوجب ويحفِّز التدخل الإلهي. وعلى سبيل المثال، في النص المعروف باسم «بهاجافاد جيتا» يقول أحد الأشكال المجسدة للإله الأعلى: «في أي وقت يحدث خلل في الدارما سوف أبرز في حيز الوجود، عصرًا بعد آخر.»
لقد فهم جايميني أن الأوامر ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالأسماء الموجودة في العالم المتعدد. واعتمادًا على أعمال النحويين، فهمَ جايميني أن معنى الكلمة يرتبط بوجود الشيء الذي تشير إليه؛ فعلى سبيل المثال، إذا قال المرء: «بقرة»، فمن أجل أن يكون لهذه الكلمة معنًى لا بد أن يوجد ذلك الشيء المسمى بقرة. وعلى هذا النحو، فإن الأوامر الموجودة في الفيدا تعني ضرورة وجود المكونات الضرورية لتنفيذ تلك الأوامر؛ فعلى أقل تقدير يجب وجود الفاعل والمُنتَج في كل حالة، وهذا يعني أن النصوص الفيدية أثبتت، على نحوٍ يُعتمد عليه، كلًّا من حقيقة الكون الذي تشير إليه تلك النصوص، وأيضًا صحة الأوامر اللازم تنفيذها من أجل الحفاظ على استمرارية ذلك الكون.
وبخصوص تعليم الأوبانيشاد الذي ينصُّ على أن التحرر يتأثَّر بمعرفة الهوية الجوهرية للذات وللكون، قال جايميني إنه يجب اعتبار معرفة المرء لذاته، كمؤدٍّ للقربان في إطار علاقته بالكون الذي يستمدُّ بقاءه من أفعال المرء، بمثابة أمرٍ من أوامر الفيدا. وفسَّر الفقرات التي تنصُّ بوضوح على وحدة الوجود بأنها استعارات، وبذلك يكون جايميني قد نفى عدم توافقها مع واقعية النصوص الشعائرية. وفي واقع الأمر، قال جايميني إن كتابات الأوبانيشاد أثبتت حقيقة تعدُّدية الذوات الفردية، التي تحتاج كل ذات منها إلى معرفة أنها توجد كفاعل.
أفضلية كتابات الأوبانيشاد
إلى جانب محاولات جايميني التأويليَّة التي ركَّزت على نحو أساسي على النصوص الشعائرية، كانت كتابات الأوبانيشاد نفسها خاضعة على نحوٍ محدَّد للتفسير على يدِ الأشخاص الأكثر اهتمامًا بتعاليم «اعرف نفسك» غير الشعائرية، المذكورة في كتابات الأوبانيشاد، وكان هؤلاء الأشخاص مهتمين أيضًا بإثبات هيمنة وأفضلية النصوص الفيدية على أية نصوص. وكتب أحد معاصري جايميني، ويُدعى بادارايانا، نسخة قديمة من نصٍّ في غاية الأهمية (خضعت لاحقًا للتعديل على يدِ آخرين)، تزعم تلخيص التعاليم الأساسية لكتابات الأوبانيشاد بالشكل الذي يجب فهمها عليه. ويعكس نصُّ بادارايانا المعروف على نطاق واسع باسم «فيدانتا سوترا» حقيقةَ أن كتابات الأوبانيشاد تمثِّل «نهاية الفيدا» (فيدانتا). ويُعرف النص أيضًا باسم «براهما سوترا»؛ مما يوضِّح أن اهتمامها الأبرز ليس الجانب الشعائري بل فهْم ما تقوله كتابات الأوبانيشاد عن البراهمان، الذي يُعد أساس الكون. وتقول أول آية من هذا النص: «ثم [هناك] الاستفسار حول براهمان»، وتستطرد الآية الثانية فتقول: «الذي من خلاله [تحدث] النشأة والاستمرار والفناء [لكل ما هو موجود].» وهذا النص لا يشير إلى اختلاف نقطة التركيز فحسب، بل يشير أيضًا إلى فهمٍ مختلفٍ كليةً لطبيعة الحقيقة؛ فبدلًا من التعددية الكونية التي أكَّدها جايميني في عمله، توضِّح «فيدانتا سوترا» أن كلَّ الأشياء جزء من البراهمان الواحد. وهذا يشير إلى ضرورة عدم اعتبار أن الأوامر الشعائرية تدلُّ على حقيقة ما تشير إليه، فقد كان بادارايانا يرى أن اللغة لا تمتلك تلك الطبيعة الدلالية الجوهرية. علاوة على ذلك، نظرًا لأنَّ كتاباتِ الأوبانيشاد نصوص أوامر في حدِّ ذاتها، فإنها تنصُّ على أن معرفة البراهمان هي ما يجب أن «يفعله» المرء.
النَّص والشهادة
أصبحت أعمال جايميني وبادارايانا النصوصَ التي انبثقت منها لاحقًا ميمانسا دارشانا وفيدانتا دارشانا على الترتيب؛ ولهذا السبب يُشار أحيانًا إلى ميمانسا وفيدانتا باسم بورفا ميمانسا (الأولى) وأوتارا ميمانسا (الأخيرة)، وميمانسا تَعني التأويل؛ ومن ثَمَّ فمعنى اسميهما على الترتيب هو تأويل القسم الأول وتأويل القسم الأخير من الفيدا. وقد وضع جايميني وبادارايانا فيما بينهما أيضًا سمتين مهمتين للتقليد الهندي ككل؛ أولى هاتين السمتين كانت أسلوبهما في الكتابة الذي تمثَّل في شكل «السوترا» شديد الغموض، فكل آية تتكوَّن من كلمات قليلة كثيرًا ما يكون معناها وسياقها أبعد ما يكون عن الوضوح الذاتي، فضلًا عن أن النصوص تتطلَّب تفسيرًا إضافيًّا من أجل فهمها. ومن الممكن أن يكون ذلك الأمر انعكاسًا لحقيقة أن التقليد كان في الأساس تقليدًا شفهيًّا، وأن النقاط الأساسية التي ناقشتها الشخصيات المهمة دُوِّنت على هيئة مذكرات فحسب. وقد يعكس هذا أيضًا الميل إلى الفهم الحصري في كل تقليد؛ مما يشير إلى أفضلية الأشخاص «أصحاب المعرفة». وبغضِّ النظر عن السبب الذي حثَّ على استخدام ذلك الأسلوب الغامض، فمن أهم نتائجه أنه على مرِّ الزمان نشأت أكثر من مدرسة فكريَّة داخل كلِّ تقليد؛ لأن المؤوِّلين المتأخرين أضافوا تعليقاتهم الخاصة على النصوص القديمة.
الطبيعة الغامضة للسوترا
يجب أن تكون في واقع الأمر أبدية؛ لأنها مذكورة من أجل شخص آخر. ويوجد اتِّساق دائم؛ لأنه لا يوجد عددٌ؛ لأنها مستقلة.
وبعد ذلك يوجد التساؤل عن البراهمان، ومنه نشأة هذا. هذا يشكل كونها مصدر النصوص؛ وذلك لأنها مرتبطة بالهدف منها.
أما السمة الثانية التي رسَّخها هذان المؤوِّلان القديمان فكانت بدايات ما سيصبح معيارًا إبستيمولوجيًّا (معرفيًّا) مهمًّا للغاية ومثيرًا للجدل إلى حدٍّ كبير في التقليد الهندي؛ ألا وهو الشهادة؛ وهذا يعني أن جايميني وبادارايانا كليهما رفضا رفضًا مطلقًا تعاليم بوذا وغيره، وأكَّدا على أن المصادر الفيدية تمثِّل مصدرَ معرفةٍ صحيحًا لا يرقى إليه الشك، وأن كلَّ ما يقوله يجب أن يُعتبر موثوقًا به تمامًا. أصبحت معايير المعرفة الإبستيمولوجية معروفة بالمصطلح السنسكريتي «برامانا»، وتعني «وسيلة المعرفة»، وأُطلق على الشهادة كلمة «شابدا برامانا»؛ وتعني حرفيًّا «المعرفة بواسطة الكلمة». ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، أصبح لزامًا على كلِّ مفكرٍ منهجي مراجعةُ مدى إمكانية قبول الشهادة كوسيلةِ معرفةٍ صحيحةٍ، سواء أكان المصدر محل الدراسة هو الفيدا، أو أي شيء آخر، أو «كلمة» شخص آخر. وأولئك الذين رفضوا مصداقية الشهادة، أو قلَّلوا من أولويتها المعرفية، كانوا مضطرين لإثبات أولوية وأفضلية معيارٍ معرفيٍّ واحد — على الأقل — آخر غير المعايير المذكورة؛ مثل الإدراك، أو الاستنباط، أو التفكير أو الحجة المنطقية. وأما الموضوعات الوجودية المتعلقة، فكان لزامًا أيضًا مراجعتها والدفاع عنها، لا سيما طبيعة الذات و«مكانتها الحقيقية»، في إطار علاقتها بالمعرفة والقيام بالفعل، وطبيعة الكون و«مكانته الحقيقية» فيما يتعلق بالأمور التي عُرفت وخضعت لتأثير الفعل. وفي بعض الحالات، كانوا يفكرون فيما إذا كانت هذه الأمور متعلقة باستخدام اللغة أو يمكن تحديدها من خلالها.
وأصبح الاستقصاء عن الموضوعات المتعلقة بالذات معروفًا بمصطلح «أتما فيديا» — «معرفة الذات». أما نشاط التفلسف نفسه فكان يُشار إليه في العموم بمصطلح «أنفيكشيكي» الذي يعني شيئًا من قبيل «النظر إلى»، أو حتى «الأمور اللازم النظر إليها». وفي العادة يُفهم هذا المصطلح على أنه مصطلح تقني مرادفٌ لمصطلح «التفكير المنطقي»، لكن المصطلح في حقيقة الأمر يعكس المراحل الأولى التي كان التقليد خلالها يقرِّر ويحدِّد حرفيًّا الموضوعات الواجب «النظر إليها»، و«فحصها»، وجعلها «موضوع الاستقصاء». وأية نظرية مقدَّمة كان لزامًا أن تكون مترابطة ومتَّسقة في حدِّ ذاتها، أو تزعم ذلك على الأقل، فيما يتعلق بهذه الأمور. علاوة على ذلك، ركَّزت الأعمال المنتقدة لآراء الآخرين على طريقة تناولهم وفهمهم لهذه الموضوعات. وكان مجال «أنفيكشيكي» مهتمًّا بكيفية مزاولة هذا النشاط.
وفي مثل هذه البيئة التي انتشر فيها الجدل والنقاش، كان من الشائع أن يقوم مؤيِّد إحدى النظريات بطرح رؤية بديلة أولًا ليقوم بنفيها فيما بعد. وكان يُشار إلى الرؤية البديلة (في بعض الأحيان كان النقاش الواحد يطرح أكثر من رؤية لنفيها) بأنها رؤية «بورفا باكشين»؛ أي رؤية «المؤيد السابق للنظرية». وعادةً كان يعبِّر المقترِح عن نظريته على النحو التالي: «إذا قيل [أي قال البورفا باكشين] س (أو ص أو ع)، فهذا خطأ.» ورغم اختلاف التفاصيل الدقيقة من نظام إلى آخر، يأتي بعد ذلك النفي والنقاش، ولا يقتصر التركيز على الرؤى البديلة في حدِّ ذاتها، بل يتناول المعايير المعرفية (الإبستيمولوجية) التي تمَّ التوصل من خلالها إلى تلك الرؤى. ويعرض المؤيِّد الحالي موقفه الشخصي أيضًا مستعينًا بكافة الأدلة الداعمة التي تناسب موقفه ورؤيته، ويشرح معاييره المعرفية.