الفئات والطريقة
فِكْر فايشيشيكا: الفئات الكونية
تمثِّل فلسفة «فايشيشيكا سوترا» نظامًا للواقعية التعددية؛ الحقيقة المستقلة لكلِّ شيء في العالم المحيط بنا، الموجود خارجنا والمستقل عن أنفسنا. وتهتم هذه السوترا باستقصاء تلك التعددية من أجل تصنيفها وفقًا لأنواع الكيانات المختلفة التي تتكون منها. ومن هنا اكتسب النظام اسمه؛ لأن «فايشيشيكا» توضِّح المكونات «فايشيشا» محل الفحص، أما التأثير المستمر لمنهج فايشيشيكا وموقفها الوجودي فنشعر به بفضل ارتباطها الوثيق بالنظام الفكري المسمى نيايا، الذي قدَّمه لأول مرة رجل اسمه جوتاما، غير معروفٍ على وجه التحديد الفترة التي عاش فيها، لكنه عاش في القرن الثالث قبل الميلاد على الأرجح. وتضافرت فايشيشيكا ونيانا مكوِّنتين ما يُعرف الآن باسم نيايا فايشيشيكا، ولَعِبتا دورًا مهمًّا للغاية وبالغَ التأثير بين أنواع الدارشانات التقليدية، وقدَّمتا إسهامات كبيرة للفكر الهندي. وعلى الرغم من أن النيايا الأكثر شيوعًا كثيرًا ما يُشار إليها وتُدرس على نحوٍ مستقل، فإن مثل هذا المنهج يُفترض تَبَنِّيه لواقعية فايشيشيكا؛ ولذلك فمن المفيد أن نفهم بعض الأمور عن موقف فايشيشيكا ومزاعمها قبل تناول نيايا، بالإضافة إلى معرفة قدر التفصيل الذي قُدِّم به على نحوٍ تحليلي زعمُهما القائل بالواقعية.
تأريخ زمني
وتصنيف المكونات محل اهتمام فلسفة فايشيشيكا كان يتمُّ عن طريق تحديد «الفئات» الأساسية لكل الكيانات الموجودة. وكان المصطلح السنسكريتي المستخدَم للإشارة لهذه الفئات هو: «بادارتا»، الذي يعني حرفيًّا: «الأمر المتوقَّع من الكلمة.» وكان هذا المصطلح نفسه يُعتبر إشارة للحقيقة الغيبية للكيانات قيد الفحص، وهذا يعني أنه بموجب الإشارة الشفهية للشيء يدرك المرء أن الشيء له وجودٌ مستقلٌّ. ووفقًا لفلسفة فايشيشيكا، فإنه تُوجد سبع فئات هي: المادة، والصفة، والفعل، والخصائص العامة، والخصائص الخاصة، وعلاقة التأصُّل، والغياب أو النفي (وقد أُضيفت تلك الفئة فيما بعد).
المادة والصفة
«علم الوجود في فايشيشيكا» يتَّسم بواقعية تعددية؛ فهو يقسِّم المكونات الأساسية للواقع إلى سبع «فئات» هي: المادة، والصفة، والفعل، والخصائص العامة، والخصائص الخاصة، وعلاقة التأصل، والغياب أو النفي.
«المادة» تنقسم بدورها إلى تسعة أنواع مختلفة من «الذرات» هي: الأرض والماء والنار والهواء والأثير والمكان والزمان والذَّات والعقل.
تُعدُّ الأرض والماء والنار والهواء ذراتِ «موادَّ ماديةٍ»، أما المكان والزمان والذات والعقل فهي ذرات «مواد غير مادية»، وكل الذرات أبدية.
تتجمَّع ذرات الأرض والماء والنار والهواء معًا لتكوين أشياء قابلة للإدراك، بالاشتراك مع ذرة أو أكثر من أنواع الذرات الأخرى في حالة كوْن ذلك مناسبًا. وذرات الأثير والزمان والمكان والذات والعقل بالإضافة لكونها أبدية، فإنها منتشرة في كل مكان. أما العقل فهو ذَرِّيٌّ فقط في حجمه، وترتبط ذرة العقل الواحدة بذرَّةِ ذاتٍ واحدة في كل إنسان على حدة.
«المادة» هي الفئة الأهم؛ لأن الفئات الأخرى لا تتحقَّق إلا من خلال علاقتها بالمادة.
يوجد ٢٤ «صفة»، و٥ أنواع من «الفعل»، «متأصلة» في «المواد». وكل حدوث فردي «للمادة» هو مثال «خاص» على شيء «عام». «الغياب» يسمح بإدراك أن أنواعًا مختلفة من النفي، أو عدم الحضور، أو عدم الوجود، تُعد جزءًا من الواقع.
وعلى الرغم من أن الأثير لا يمتلك صفةً قابلة للإدراك، فإن صفته الأساسية هي أنه الوسط الذي ينتقل من خلاله الصوت، على سبيل المثال، ويصل إلى الحواس. وبهذه الطريقة يُعتبر مادةً في حدِّ ذاته.
تحدث كل المواد في شكل ذري، وتكون كلُّ ذرةٍ أبديةً وغيرَ قابلة للتدمير، وعند اندماج تلك الذرات بنِسَب متباينة تُنتِج تلك الذرات كافَّة الأشياء المختلفة الموجودة في الكون، والتي بدورها تكون منتهية ويمكن تحليلها إلى ذراتها المكونة لها. وعلى النقيض من ذرات الأرض والماء والنار والهواء التي تُكَوِّن المادَّة المادية، فإنَّ ذرات الأثير والمكان والزمان والذات والعقل غيرُ مادية. ومن بين تلك المواد غير المادية الخمس، يُعد العقل شيئًا خاصًّا بكل ذات فردية، وهو نفسه ذو حجم ذري، بينما المواد الأربع المتبقية، بالإضافة إلى كَوْنها أبدية، فإنها مواد كليةُ الوجودِ، موجودة في كل مكان وزمان.
وتتَّضح تعددية الذوات في التجسيد المتعدد لصفة الوعي (أو المعرفة)، وكل ذاتٍ تتَّسم بعدة صفات هي: الرغبة، والنفور، والمتعة، والألم، والجهد. أما الدور الذي يلعبه العقل، والذي يُستنتج وجوده من نشاطه، فهو معالجة المعلومات الحسِّية؛ ويُعد هذا الدور مهمًّا أيضًا في السماح بإدراك الذات على نحو داخلي. وهذا الفصل الواضح بين الذات والعقل شائع في الفكر الهندي.
عند استعراض فئة المادة، أشرنا بالفعل إلى أمثلةٍ من الفئة الثانية في القائمة وهي فئة الصفة. والصفات يمكن أن تُوجد فقط في المواد، ولا يمكن أن توجد مستقلَّة بذاتها. وتوجد ما بين ١٧ و٢٤ صفة مدوَّنة في نصوص مختلفة من نصوص فلسفة فايشيشيكا، وتنقسم تلك الصفات إلى صفاتٍ يمكن أن تُوجد في المواد المادِّية، وصفاتٍ يمكن أن توجد في الأشياء غير المادية، وصفاتٍ يمكن أن تُوجد في كلتيهما. وعلى هذا، فاللون والمذاق والرائحة والملمس والميوعة والصلابة، على سبيل المثال، تُوجد في المواد المادية المتمثلة في الأرض والماء والنار والهواء، والصفات المتمثلة في الإدراك والسعادة والتعاسة والرغبة والنفور تُوجد فقط في الأشياء غير المادية، والعدد والحجم والارتباط على سبيل المثال توجد في أية مادة. وفي بعض الأحيان يلزم وجود أكثر من مادة لتأصل صفة معينة، مثل الارتباط والغيرية والعدد الدالِّ على الجمع.
وتكمن أهمية الصفات في أنها تميِّز الموادَّ بطريقة تجعلنا نميِّز المادة باعتبارها هذا الشيء أو ذاك، وبدون الصفات لن يمكن تمييز المادة على النحو الذي نعرف به العالم. وعلى هذا النحو، فالمادة دائمًا ما تتَّسم بصفة واحدة على الأقل متأصلة فيها، وهذا التأصُّل في حدِّ ذاته هو فئة أخرى في مخطَّط فايشيشيكا، ويمثِّل ما يمكن أنْ نطلق عليه نوعًا من «الصمغ» بين فئتين أخريين، بدونه لا تتمكَّن هاتان الفئتان من الوجود على نحوٍ مستقل. ويوجد مثال يُذكر في الغالب لتوضيح هذه الفكرة؛ وذلك المثال يتمثَّل في استحالة وجود صفة «اللون» من تلقاء نفسها، أو استحالة حدوث المادة المركَّبة المتمثلة في «الزهرة» دون وجود صفة اللون. وعلى هذا النحو، إذا تناولنا زهرة حمراء في هذه الحالة، فسنجد أن اللون الأحمر متأصل بالضرورة كصفة في مادة الزهرة. وعلى الرغم من أن هذه العلاقة حتميَّة، فإن الصفة (اللون في هذه الحالة) والمادة (الزهرة في هذه الحالة)، بالإضافة إلى التأصل؛ هي سماتٌ من سماتِ الواقع منفصلة من الناحية الفئوية. ويمكن استخدام اللون الأحمر أيضًا لتوضيح فئة الخصائص العامة والخصائص الخاصة؛ فاللون الأحمر المتأصل في إحدى الزهور الحمراء يُعد مثالًا خاصًّا على «الحُمْرة» العامة. والخاصية العامة يمكن أن يشترك فيها أيُّ عددٍ من الأشياء الخاصة، وخصوصية الحدوث الفردي للخاصية العامة هي ما تميِّز إحدى الزهور مثلًا من غيرها. بالإضافة إلى ذلك، فإنه فقط من خلال الخصائص الخاصة يمكن ظهور الخصائص العامة. بل إن الذرات الفردية المتماثلة من الناحية الوجودية، على نحوٍ يتراوح بين كل ذرات الأرض وكل ذرات الذوات، تتمايز بالخصائص الخاصة في هذا المخطط التعددي إلى حدٍّ جذري؛ وعلى الرغم من تماثلها من الناحية الفئوية، وتَشارُكها في الخصائص العامة المشتركة، فإن كل ذرة تُعد فريدة إلى حدٍّ ما، وهذا التفرد يصنَّف على نحوٍ منفصل بأنه خصوصية تلك الذرة. وتكمن أهمية الخصائص العامة في أنه بدونها لن يوجد سبيلٌ لمعرفة تلك الخصائص المعينة؛ فعلى سبيل المثال، تتشارك كل الزهور في الهوية الزهرية المشتركة (أي كونها زهرة)، وعلى هذا النحو، فعلى الرغم من أن كلًّا منها له ذات خاصة، فكلها في واقع الأمر زهور.
وتبقى فئتان من الفئات اللازمة مناقشتها، وهاتان الفئتان هما الفعل والغياب، ويُعد الفعل هو الأهم بينهما؛ لأنه يمثِّل السمة النشطة والفعالة للمادة، في حين أن الصفات سلبية وخاملة. والفعل هو المسئول عن كافة الأنشطة الواضحة، بالإضافة إلى كونه مسئولًا عن طريقة تحوُّل الذرات إلى أشياء مركبة، وطريقة توقُّفها عن التحول لأشياء مركبة. وفي هذه السمة الأخيرة، يُعد الفعل مطلوبًا بالإضافة إلى التأصل؛ لأنه يمثِّل العامل «المسبِّب»؛ فالفعل هو المسئول عن السببية ككل، ويمكن للمرء أن يبدِّل من الناحية المفاهيمية «السببيةَ» ليحل محلها «الفعل» ليكون هو اسم هذه الفئة؛ على الرغم من أن أتباع فلسفة «فايشيشيكا» أنفسهم لم يفعلوا ذلك مطلقًا.
إن اعتبار الغياب فئة مستقلة يمكن أن يُعد أمرًا مفاجئًا في مدرسة فكرية واقعية عن ظهر قلب كمدرسة فايشيشيكا. وقد أُضيفت هذه الفئة إلى القائمة الأصلية المكوَّنة من ستِّ فئات لإضافة توضيح يقول إن الغياب أو عدم الوجود يُعد حالة حقيقية و«واقعية» في نظام يُعتبر فيه الوجود صفة متأصلة للشيء قيد الفحص المتمثل في الواقع. وعلى هذا النحو، فقد سمحت صفة «الغياب» لجُمَل على شاكلة: «لا توجد زهرة هنا» و«الأثير لا يمتلك أية صفة قابلة للإدراك»، بأن تكون ذات معنًى حقيقي. وفي هاتين الجملتين تحدَّد خمسة أنواع من الغياب هي: عدم وجود زهرة هنا (الغياب)، الزهرة ليست بقرة (اختلاف)، لا تُوجد زهرة بعدُ على شجيرة الزهور (عدم وجود سابق للوجود)، الزهرة لم تَعُدْ موجودة (عدم وجود يعقب الوجود)، صفة الزَّهريَّة لا توجد مطلقًا في البقرة (شيء لا يوجد أبدًا). ونظرًا لأن الغياب كان في حدِّ ذاته جزءًا من الواقع على هذا النحو فقد خُصِّصَت له فئة منفصلة خاصة به.
ولا يُعرف بالضبط كيف توصَّل أتباع مدرسة فايشيشيكا لهذا النظام الوجودي؛ إذ إنه ليس واضحًا إذا ما كانوا يحاولون وصف الواقع أم يحاولون تكوين نظام قائم على الواقع؛ ومن ثمَّ فإنه من غير المعروف من أين حصلوا على هذه الصيغة المتمثلة في النظام الفئوي، أو المعايير المستخدمة في تحديد العوامل المختلفة التي ضموها في هذا النظام. وعندما تبنَّى أتباع مدرسة نيايا النظام الوجودي لمدرسة فايشيشيكا، فإنهم لم يشكِّكوا به أيضًا. أما ما يمكننا قوله عن هاتين المدرستين فهو أن أتباعهما سعَوا إلى وضع حقيقة مطلقة لعالم الحِسِّ العام التعددي، وأنهم اعتبروا أن تصورات الحسِّ العام تقدِّم تمثيلًا حقيقيًّا لذلك العالم، ورغم ذلك فقد اختاروا بعد ذلك تقسيمه إلى فئات. وبهذه الطريقة منحوا أولوية فائقة للتصورات الحسِّية باعتبارها وسيلة للمعرفة، على النقيض من اعتماد جايميني وبادارايانا على الشهادة. ورغم ذلك، فإن هذا القبول لصحة التصورات الحسية للعالم اليومي قد تبنَّى الموقف الوجودي الذي أقرَّه مؤوِّلو النصوص الفيدية، لكن هذا القبول تعرَّض لتشكيك الآخرين فيما بعد، وكان البوذيون أبرز المشككين، كما سنرى في الفصل التالي.
إسهام نيايا
أضاف مفكرو نيايا، بدايةً بجوتاما في «نيايا سوترا»، عامِلَين في غاية الأهمية إلى نظام فايشيشيكا؛ أول هذين العاملين هو أنهم وضعوا معيارًا واضحًا يمكن وفقًا له التوضيح على نحوٍ منطقي أن حقيقة كل عامل من عوامل النظام هي تلك الحقيقة الموصوفة في النظام؛ وهذا يعني أنهم قدَّموا «طريقة» معينة، تقوم على قواعد فكرية محدَّدة، يمكن من خلالها التوصل لمعرفة مؤكدة حول الشيء محل الاستقصاء، وهذا سمح لهم أن يزعموا أنهم «أثبتوا» الواقعية التعددية التي تقدِّمها لنا تصوراتنا. وجدير بالذكر أنه بالإضافة إلى التصورات الحسِّية فقد قبلت مدرسة نيايا صحة التصورات اليوجيَّة المذكورة في الفصل الأول، بالإضافة إلى كافَّة أنواع التصوُّرات الممكن أن نطلق عليها في العموم تصورات «حدسية». بيد أنه من بين كل هذه التصورات نجد أن التصورات الحسية تلعب الدور المعرفي (الإبستيمولوجي) الأهم بالنسبة لأتباع مدرسة نيايا. وكانت الطريقة الرسمية لمدرسة نيايا هي أقدم طريقة تظهر في مجتمع الجدل المزدهر في الهند القديمة، وكان للقواعد التي وضعتها أثرٌ دائم على التقليد في مجمله. كما أنها أسهمت أيضًا في قواعد الجدل على نحوٍ عام إلى حدٍّ كبير؛ إذ أوضحت الأمور التي تجعل الحجة غير صحيحة أو غير مقبولة.
أما العامل المهم الثاني، الذي أضافه مفكرو نيايا إلى نظام فايشيشيكا، فهو قولهم إن المعرفة المكتسبة بهذه الطريقة كانت فعَّالة من الناحية السوتريولوجية (أي إن اكتساب هذه المعرفة يؤثِّر على مصير المعتنقين)؛ وهذا أمرٌ لم يهتم به مفكرو فايشيشيكا على نحوٍ واضح، وربما السبب في ذلك هو أن كانادا كان مهتمًّا بالدارما (بوصفها تركيبة الكون) أكثر من اهتمامه بالموكشا (الخلاص أو التحرر). وعند تقديم طريقة التوصل للمعرفة المؤكدة قال جوتاما إن هذه الطريقة يجب استخدامها في حالات معينة. وقدَّم قائمة توضِّح «الأشياء ذات المعرفة الحقيقية»، وتضمُّ هذه القائمة تلك الأشياء المشروع التساؤل عن وجودها وطبيعتها؛ لأن المعرفة المتعلقة بوجودها وطبيعتها تُسهِم في الوصول إلى «الصالح الأعلى»، ذلك الصالح المفهوم في هذا التقليد أنه يعني التحرر.
سوف نناقش طريقة نيايا مع الإشارة أولًا إلى المعايير التي وضعتْها لإجراء الاستقصاء، ثم الإشارة ثانيًا إلى قائمة الأشياء المشروع الاستفسار عنها، وهذا سيقودنا إلى مناقشة طريقة تناوُلِها، مع أمثلة محددة من تلك القائمة.
المعرفة المؤكَّدة المتعلقة بالوسائل المناسبة لاكتساب المعرفة الصحيحة وتلك الأشياء المشروع التساؤل عنها … (والعوامل الأخرى وثيقة الصلة المتعلقة بطريقة ومنهج النقاش)؛ تؤدي إلى الوصول إلى الصالح الأعلى.
إن التخلص من المعرفة الزائفة … [في نهاية الأمر، بعد عدة مراحل] هو ما يؤدي إلى التحرر.
متابعة التقدم
تقول فلسفة نيايا إن الاستقصاء يجب إجراؤه فقط في حالة وجود بعض الشكوك حول الأمر المُستقصَى عنه، وهذا يعني أنه لا جدوى من إجراء استقصاءٍ إذا كان الشيء معلومًا بالفعل على وجه التأكيد؛ ولذا فالأمر اللازم الاستقصاء عنه لا بد أن يكون أمرًا قد يُفهم على عدة أوجه مختلفة. علاوة على ذلك، يجب أن يكون من المحتمَل التوصُّل لنتيجة مؤكدة لهذا الاستقصاء، فالهدف من الاستقصاء هو الحصول على معرفة مؤكَّدة، وهي تمثِّل «خاتمة» الاستقصاء، وإذا كان من المستحيل التوصُّل إليها فسيكون إجراء الاستقصاء في حدِّ ذاته عبثيًّا. إن احتمال التوصُّل إلى يقين غير معروف حتى لحظة إجراء الاستقصاء يوضِّح الحالةَ السابقة المطلوبة المتمثلة في عدم اليقين أو الشك، ويُعد أيضًا هذا الاحتمال أحدَ الأمورِ الأساسية التي تجعل إجراء الاستقصاء مشروعًا.
ورغم ذلك، فالشك واحتمالية التوصل لليقين، في حد ذاتهما، ليسا كافيَيْن لإضفاء الشرعية على إجراء الاستقصاء، وإذا كانا كافيَيْن، فربَّما تحفَّز المرء بدافع الفضول، وهذا «العبث» مناقض «للسلوك العقلاني» للإنسان، كما يقول جوتاما. وبدلًا من ذلك، يجب أن يوجد أيضًا «هدف» وجيه لإجراء الاستقصاء. وعلى الرغم من اختلاف التفسيرات على مدار المراحل المتعددة للتقليد، فإن نتيجة هذا التصريح الموجود في نيايا سوترا الذي يقول إن الاستقصاء لا بد أن يُسهم في اكتساب «الصالح الأعلى»؛ تتمثَّل في أنَّ الهدف لا بد أن يسهم في الوصول إلى التحرر من الميلاد المتكرِّر.
ومن المتطلبات الأخرى لإجراء الاستقصاء ضرورة وجود بيانات ناتجة عن الملاحظة والرصد يمكن استخدامها لدعم الافتراض المقدَّم في بداية الاستقصاء، وأيضًا لدعم المعايير الداعمة للحجة التي تُثبت اليقين. وفي هذا الصدد يَربُط نظام نيايا نفسَه على نحوٍ بالغ التحديد باستخدام كلِّ ما يلزم كي يَكون واقع العالم التعددي الموجود حولنا؛ فالأمر بالنسبة للمؤمنين بنظام نيايا هو أنهم عند استخدام البيانات الناتجة عن الملاحظة والرصد مثل: «حيثما يكون الدخان، توجد النار»، فإنهم يزعمون ترسيخ دليل لا جدال فيه، وبذلك يؤكِّدون على صحة وقطعية نتيجة الجدل القائم. وهذه السمة في النظام تشير أيضًا إلى أنه من المهم للمؤمنين بنيايا الربط بين البيانات الناتجة عن الملاحظة، أو بين العالم التجريبي، وبين نظام الجدل المنطقي الخاص بهم، فلا مجال للمجرَّدات الفلسفية القائمة فقط على المنطق الرياضي، على سبيل المثال، كما هو الحال في الفلسفة الغربية المعاصرة. وبدلًا من ذلك، فطريقتهم المنطقية مرتبطة على نحوٍ راسخ بالعالم من حولهم، وبالبشر الموجودين فيه، على نحو وجودي أو تجريبي إلى حدٍّ كبير.
الطريقة نفسها
يقودنا هذا إلى الطريقة نفسها التي تُطرح في صورة حجة ذات خمس مراحل أو «أطراف» تقود الاستقصاء إلى استنتاج مؤكد. والمراحل الخمس هي كالتالي؛ أولًا: ذكر الأطروحة اللازم إثباتها، ثانيًا: ذِكر سبب الأطروحة، ثالثًا: إعطاء مثالٍ يمثِّل «قاعدة» يمكن الاستناد إليها للمساعدة في إثبات الأطروحة، رابعًا: ذِكر علاقة «القاعدة» بالأطروحة، خامسًا: إعادة ذِكر الأطروحة على النحو الذي أُثبتت به. والمثال الذي قدَّمه جوتاما في «نيايا سوترا» هو: (١) توجد نار على التل؛ (٢) لأنه يوجد دخان هناك. (٣) حيثما يُوجد الدخان تُوجد النار (مثل ما يمكن للمرء رؤيته في المطبخ). (٤) يُوجد دخان، مرتبط بالنار، على التل؛ (٥) لذلك تُوجد نار على التلِّ.
من هذه الطريقة خماسية الأطراف يمكن أن نرى الأهمية الحتمية التي تعزوها نيايا للاستنباط؛ حيث يمكن استنباط وجود «س» (النار على التل)، وهذا الاستنباط قائم على الدليل الملاحَظ «ص» (الدخان) والقاعدة «ع» (حيثما يوجد الدخان توجد النار). ويمثِّل التفكير الاستنباطي واستخدام البيانات التي تمَّ الوصول إليها من خلال وسائل الإدراك السبيلَ الرئيسي للتوصل إلى معرفةٍ مؤكدة بالنسبة لنيايا. وفي وقت لاحق في التقليد الهندي ككلٍّ، لا سيما على يدِ علماءِ المنطق البوذيين ومفكري نيايا المتأخرين، زاد الاهتمام بتأكيد مصداقية الأمثلة أو «القواعد» التي يقوم على أساسها الاستنباط، كما إذا كان الدخان في واقع الأمر إشارة صادقة على وجود نار. كان هذا التطور مهمًّا؛ لأن القاعدة كان لزامًا أن تصبح ثابتة بحيث تمثِّل دعمًا يُعتمد عليه بشكل مُطلَق في إثبات المسألة المطروحة. وعلى الرغم من الثغرة الموجودة في نظامه، كان مؤلف كتاب «نيايا سوترا» القديم — جوتاما — بالإضافة إلى تقديمه لأول طريقة فلسفية رسمية أولَ من جعل للاستنباط هذه المكانة المحورية في الجدل المنطقي بهذه الطريقة.
في هذا الصدد، تُعد الذات هي رائي كل الأشياء، المستمتِع بكل الأشياء، وهي محيطة، شاهدة على كل الأشياء، والجسم هو محل المتعة والألم للذات، وأعضاء الحواس هي الوسائل التي من خلالها يتمُّ التعرف على المتعة والألم، والحاسة الداخلية «العقل» هي تلك التي تعرف كل شيء، والفعل هو سبب كل المتع والآلام، والأمر نفسه ينطبق على العيوب المتمثِّلة في الرغبة والحسد والتعلق. كان للذات أجساد سابقة على هذا الجسد، وسيكون لها أجساد أخرى بعد هذا الجسد، إلى أن يتحقق التحرر، وهذه هي دائرة الميلاد والموت التي ليست لها بداية. «العاقبة» هي الشعور بالمتعة والألم، مع وسائل الشعور بهما، والألم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمتعة. ومن أجل تحقيق التحرر، يجب أن يفهم المرء أن كل أشكال السعادة تماثِل الألم؛ وهذا يؤدي إلى انتهاء التعلق، ويؤدي في نهاية الأمر إلى التحرر.
في سياق المعايير التي قدَّمها جوتاما لإجراء أيِّ استقصاء، تخبرنا هذه القائمة عن تلك الأمور التي اعتقد أن الرغبة في التوصل إلى معرفة مؤكدة عنها تُعد أمرًا مبررًا، وأنه يوجد قبل إجراء الاستقصاء عنها عنصر شك فيما يتعلق بوجودها أو طبيعتها. إن معرفة هذه الأمور سوف تُسهم فيما بعد في الوصول إلى «الصالح الأعلى» الذي يُعد الهدف الأساسي من البحث.
إثبات وجود الذات
كمثالٍ على كيفية تطبيق جوتاما للطريقة التي أسَّسَ لها في «نيايا سوترا» على الأشياء المشروع الاستقصاء عنها التي دوَّنها في قائمته؛ دعونا نلقِ نظرة على «إثباته» لوجود الذات الجوهرية (أتمان). إن هذا الشيء محل الاستقصاء — الذات — يلبي بوضوح معيار الشك؛ إذ لم يكن يُوجد إجماع على وجوده وطبيعته، بل على العكس، كان هذا الشيء يتصدَّر قائمة أعمال الأشخاص المنخرطين في هذا السعي الديني الفلسفي. لقد اعتقد مفكرو نيايا أن تطبيق طريقتهم سوف يسفر عن معرفة مؤكدة حاسمة عن وجود الذات الجوهرية، وأن الوصول إلى تلك المعرفة سيكون مفيدًا في السعي الهادف للوصول إلى الصالح الأعلى. ومن خلال التمعُّن في هذا المثال، يمكننا أيضًا أن نرى كيف استخدم مفكرو نيايا نظام فايشيشيكا المتعلق بالمادة والصفات.
يقدِّم جوتاما أطروحة تقول بوجودِ تعدديةٍ للذوات، والسبب الذي يعطيه لذلك هو وجود تعددية في الوعي، وأيضًا وجود صفات الرغبة والكراهية والجهد والمتعة والألم على نحو تعددي. أما المثال أو القاعدة التي يسوقها فهو أن تعددية الوعي — بالإضافة إلى تلك الصفات المعينة — تشير إلى ذوات أبدية غير مادية منفصلة عن كلٍّ من العقل والجسد؛ وهذا يعني على وجه التحديد أن تلك هي سمات هذا النوع من الذوات. وكل هذه السمات هي حالة تشير إلى تعددية الذوات؛ ولذلك توجد تعددية للذوات. وتتسم السوترا التي تقرُّ بوجود الذات («نيايا سوترا»، المجلد ١) بالغموض الشديد، كما أن التعليق عليها الموضَّحة فيه هذه الحجة على نحوٍ كامل لا يتسم بالوضوح؛ ولذا فإن كل نقطة منهجيَّة تتطلَّب درجة من درجات الاستنتاج. ورغم ذلك، فهذا هو شكل «الإثبات» الذي قدَّمه جوتاما لهذا الشيء محل الاستقصاء. وتقول السوترا أيضًا إن الصفات تتأصَّل فقط في الذات قبل التحرر من الميلاد المتكرر، وبعد ذلك الميلاد تكون كلُّ ذاتٍ خاليةً من كل الصفات لكنها تحتفظ بخصوصيتها، تلك الخصوصية الأبدية. وفي إشارة واضحة إلى تراث تأويل النصوص الفيدية، تزعم نيايا أن هذه طريقة مؤكدة لاكتساب المعرفة حول الذات بدلًا من الاعتماد على الشهادة.
ولسنا في حاجةٍ إلى القول إن هذا الدليل وغيره من «الأدلة» المقدمة في «نيايا سوترا» وتعليقاتها، مثل تلك المتعلقة بالتعددية وطبيعة «العقول» المنفصلة، تعرَّضت لكافة أشكال النقد على يدِ المفكرين المعاصرين والمتأخرين. ورغم ذلك، فهذه الطريقة قد حَظِيَت بالاهتمام حتى وقتنا الحالي داخل التراث الهندي وأيضًا في الأوساط الفلسفية الغربية، فقد قدَّمت جانبًا من أسهل جوانب التراث الهندي الممكن استقراؤها كي يخضع للدراسة في سياق الفكر الغربي. وإلى جانب أمور أخرى فقد ناقش الباحثون المعاصرون تركيبتها ومزاياها المنهجية النسبية بالمقارنة بالقياس المنطقي لأرسطو، الذي يمثَّل في الغالب بهذا المثال: «كل البشر فانون، سقراط إنسان؛ لذلك سقراط فانٍ.»
وتلخيصًا لما قلنا، فإن رؤية نيايا فايشيشيكا للعالم هي رؤية تتصِف بالواقعية التعددية. ويرى أصحاب هذا الفكر أن إدراك أحد الأشياء ينقل للشخص المدرِك معرفة الوجود المستقل لذلك الشيء؛ فعلى سبيل المثال، إذا رأى الشخص زهرة، فمن الممكن أن يعتبر أن تلك الزهرة حقيقية على نحوٍ متسامٍ، وهذا يعني أن الصفات المتأصلة في الزهرة، مثل الحُمرة والرائحة الزكية، هي وحدها الممكنة معرفتها عن طريقة الإدراك الحسِّي، بل من الممكن إدراك الزهرة نفسها كمادة موجودة على نحوٍ مستقل. وهذه الواقعيَّة على قدرٍ كافٍ من المصداقية كي تكون أساسًا لنظام نيايا للتفكير الاستنباطي من أجل اكتساب معرفةٍ معينةٍ عن وجود وطبيعة أشياء أخرى أكثر أهميةً وقيمةً من الناحية الخلاصية، أشياء مثل العقول والذوات الأبدية، تلك الأشياء غير الممكنة معرفتها عن طريق الإدراك وحده. وعلى هذا النحو، فإن وسائل المعرفة الأساسية المستخدمة في دارشانات نيايا فايشيشيكا هي: الإدراك، والتفكير، والاستنباط.