الشاهد والمشهود: يوجا وسانكيا
اليوجا: التناغم والسيطرة
منذ مرحلة مبكرة للغاية في التقليد الهندي والناس يمارسون أنواعًا مختلفة من التمارين الذِّهنية أو التدريبات التأمُّلية، كثيرًا ما يُشار إليها بمصطلحٍ عام هو «اليوجا». وتُوجد أقدم الإشارات البرهمية الدالَّة على اليوجا في كتابات الأوبانيشاد، ولكن حتى في ذلك الوقت كانت هذه الكتابات تشير إلى ممارسة مرَّت في الغالب بمراحلِ تَطَوُّرٍ على مدار فترة كبيرة. ومع مرور الوقت، تعلَّم الأشخاص أنواعًا مختلفة من اليوجا، لكن هذه الأنواع تشترك في المبدأ نفسه. وكلمة «يوجا» مُشْتَقَّة من الجذر الفعلي السنسكريتي «يوجي» ويعني «الربط»؛ أي ربط شيء بآخر. والفكرة بالنسبة لكثير من الأشخاص تكمُن في «دمْج» أو «توحيد» إما الذات/الروح (أتمان) مع الجوهر الشامل (براهمان)، أو الروح مع الرب في الأنظمة الإيمانية. ويمكن أن تكمن الفكرة أيضًا على نحوٍ أكبر في المفاهيم المرتبطة المتمثلة في «السيطرة» أو «التناغم»، أو «النظام» على الصعيد الداخلي، أو ما يمكن أن نطلق عليه «وحدة البصيرة»؛ فالوجودية العامة يمكن أن تختلف من نظام إلى آخر، لكن المبدأ الأساسي المشترك هو أن الحياة العادية تتَّسم بأنها «مضللة» بسبب حواسنا، وبسبب النشاط المعرفي اليومي الصاخب المخادع؛ ولذلك فإن ممارسة اليوجا تكون بهدفِ اكتسابِ السيطرة والهدوء، وفي بعض الأنظمة تكون بهدف اكتساب البصيرة المعرفية.
تأريخ زمني
تمثِّل دارشانا اليوجا الكلاسيكية في نصٍّ يُعرف باسم «سوترات اليوجا». وتُنسب هذه السوترات عادة إلى رجلٍ باسم باتانياجالي، وفي واقع الأمر، فإن مؤلف «سوترات اليوجا» غير معروف. وعلى أية حال يُوجد العديد من الأشخاص الذين كانوا يحملون اسم باتانياجالي (من بينهم عالمُ النحوِ المذكور في الفصل الرابع)، ويضمُّ النص منهج يوجا شاملًا. وفي واقع الأمر، يبدو أن المنهج كان الهدف الأساسي للنص، وقد تضمَّن إشارات إلى الوجودية التي تعتنقها هذه الفلسفة فقط من أجل تبرير أو تفسير غرض ونظام المنهج. وعلى الرغم من أن اهتمام اليوجا الكلاسيكية بموضوعات مشابهة وتفاصيل مماثلة، فتقريبًا لم ترِد في النص أية إشارة لأنظمة الفكر الأخرى، ولو كان أنصار اليوجا الكلاسيكية قد دخلوا في جدل مع الآخرين، فالنص لا يسجل تلك المواجهات. إن النص في المقام الأول هو كُتَيب إرشاداتٍ عن ممارسة اليوجا، وبلا شك فقد توصَّل إلى المعايير والصيغ المختلفة للممارسة من داخل تقليد ممارسة طويل على النقيض من الجدل. فالأفكار الفلسفية المجردة تُعد أقل إثارةً لاهتمام ممارسي اليوجا مقارنةً بالرؤى التأملية، وتُعد الكفاءة في الممارسة أهم بالنسبة لهم من إقناع الآخرين. وربما تُعد هذه الدارشانا أكثر من غيرها مثالًا على أن «الفلسفة» الهندية جزء من تقليد كان هدفه وغرضه الأساسي الحصول على الخلاص.
هدف اليوجا الكلاسيكية
والآن مع تفسير اليوجا: اليوجا هي إيقاف كل أنشطة العقل («شيتا فريتي نيرودا»: إيقاف نشاط العقل).
أنشطة العقل («شيتا فريتي») لها أنواع كثيرة مختلفة تندرج تحت فئات عامة؛ هي: المعارف الصحيحة، والمفاهيم الخاطئة، والتصورات، والنوم والذاكرة. ووسيلة معرفة المعارف الصحيحة هي الإدراك الحسي، والاستنباط، وشهادة التقليد. والمفاهيم الخاطئة هي معارف غير صحيحة، غير مبنِيَّة على أي حقيقة واقعية. والتصورات هي معارف مبنية فقط على أنشطة ذهنية مجردة، ويمكن القول إنها الميل إلى تصوُّر الحقيقة فقط من خلال «تجسيد الألفاظ». وهذا الأمر يتداخل بشدة مع رؤية الحقيقة كما هي في واقع الأمر. والنوم أيضًا له نشاطه الذهني الخاص به، والذاكرة هي أن نحمل معنا كلَّ ما شهدناه، وتتضمَّن قدرًا أكبر من النشاط الذهني. ويتحقق إيقاف كل هذه الأنشطة من خلال ممارسة اليوجا والانفصال (أي السيطرة)؛ فالتجارب والحالات الذهنية من قبيل المرض والشك واللامبالاة والكسل والزيف والفشل وعدم الاستقرار كلها تشتِّت الوعي وتشكل عوائق أمام تحقيق إيقاف أنشطة العقل، ويصاحب الألم والاكتئاب وارتعاش الأطراف وسوء التنفس تلك العقبات. والطريق للتخلص من هذه العقبات يكمن في تركيز الذهن على شيء واحد، وممارسة النظر للخارج (أي عدم التركيز على الذات بالمعنى الأناني) واللُّطف تجاه الآخرين، والتنفس السليم، والرزانة العقلية. (هذا التفسير معادة صياغته من «يوجا سوترا»، المجلد ١.)
من هنا يمكن أن نرى أن مؤلِّف النص ينفي أن الحقيقة المطلقة مرتَّبة بالطريقة التي ندركها بها تبعًا لتجربة العالم الظاهر. والأنشطة الذهنية في العموم تخلق مشتتاتٍ تشوِّه على نحوٍ بالغ الإدراك الواضح للحقيقة وتصرفنا بعيدًا عنه. ويدعم منهجية اليوجا ذلك الهدف المتمثِّل في التفريق بين أن «الناظر» الحقيقي أو «الذات» الحقيقية، المعروفة في هذا النظام باسم «بوروشا»، منفصل تمامًا عن العالم «المرئي» أو «الظاهر» الذي يُعرف باسم «براكريتي». وإلى حين تحقق ذلك التفريق يعتقد كل شخص على نحوٍ خاطئ أن «الناظر»، حيث يكمن الوعي، يُعد جزءًا من الظاهر. إننا نخلط بين «ذاتنا» الظاهرة غير الواعية وبين «ذاتنا العليا»، في حين أن الذات العليا مختلفة تمامًا؛ فالعالم الظاهر هو عالم نشاط غير واعٍ، والوعي ينتمي إلى ذوات «بوروشا»، وهي أيضًا ذوات خاملة. إن «الربط» بين بوروشا وبراكريتي هو ما يسبب الوهم؛ والتفريق الذي يحدث عند إيقاف أنشطة الذهن المشتتة، يؤدي إلى انفصالها. وبهذه الطريقة تتحرَّر الذات الحقيقية من أَسْر الميلاد المتكرر، الذي يستمر ما استمر ذلك الربط قائمًا. إن الذات الحقيقية (بوروشا) هي تلك الحقيقة العليا و«الأصدق»، وإدراك هذه الحقيقة هو «الصالح الأعلى» الذي يمكن لكل البشر أن يطمحوا إلى تحقيقه. ومعرفة الطبيعة الحقيقية للذات وحقيقة البوروشا الجوهرية للمرء هي الاهتمام المحوري «لسوترات اليوجا». وعلى الرغم من جهلنا بالمكان الذي يكمن فيه الوعي، فإن اليوجا الكلاسيكية ترى أن العالم الظاهر ليس حقيقيًّا. إن براكريتي — العالم الظاهر — موجود على نحوٍ مستقلٍّ من الناحية الوجودية، كما هو الحال مع الذوات. إلا أن براكريتي هو عالم التشتت عن الحالة الحقيقية و«الأعلى» للأشياء، وعالم عبودية الميلاد المتكرر؛ ولذلك فالهدف هو التفريق بين الذاتية وبين براكريتي. وممارسة الشخص المضلَّل لليوجا ضرورية لسببين؛ أولًا: يحدث الجهل فقط على المستوى الظاهري. ثانيًا: في المستوى الظاهري يحدث التفريق. ونظرًا لأن بوروشا خاملة فإنها لا تفعل شيئًا ولا تستطيع فعل شيء؛ لأن دورها هو دور الشاهد فحسب.
إيشفارا — الإله — في اليوجا الكلاسيكية
تخبرنا اليوجا سوترا الموجودة في المجلد الأول بأن هدف التفريق يمكن أيضًا تحقيقه من خلال «عبادة الإله (إيشفارا)». ويُقال عن هذا الإله إنه «بوروشا مميزة»، لا يتأثر بأنشطة الكارما، عليم بكل شيء، ومعلم الحكماء القدماء. أما ما تعنيه هذه الآيات بالضبط فهو أمرٌ غيرُ واضح، ولطالما ثار الخلاف بين الأكاديميين حول مكانة هذا الإله؛ فهل هو كيان متسامٍ على نحوٍ يمنح اليوجا الكلاسيكية جانبًا إيمانيًّا؟ هل تشير الآيات إلى حقيقة أن منهج اليوجا الكلاسيكية سار على خطاه أتباع من طوائف دينية؟ هل إيشفارا نموذج مجرد؟ هل توضح الآيات على نحوٍ ميتافيزيقي ما سيجده كلُّ فردٍ إذا «نظر داخل نفسه»؛ لأن بوروشا كلِّ شخصٍ هي «إلهه»؟ في التقاليد الدينية الهندية يمكن أن يعني التعبد في بعض الأحيان «الإصرار على تحقيق الهدف» وليس «العبادة»؛ ولذلك ليس بالضرورة أن يكون معنى التعبير في هذا الصدد هو عبادة إله فِعْلي معين.
تتضمَّن معظم «سوترات اليوجا» معلومات وَصْفية عن الحالات الذهنية المختلفة، والطرق المختلفة للسيطرة على الأنشطة الذهنية، والمستويات المختلفة لاكتساب تلك الحالات الذهنية، والأمور التي تُسهم في إيقاف هذه الأنشطة والأمور التي لا تسهم في إيقافها، وهكذا. وتتحدَّث بعض هذه المعلومات عن طريقة إدراك الذات، باعتبارها «الذات» المزيفة في مستوى براكريتي الظاهري، وكذلك باعتبارها بوروشا العليا المميَّزة عن الذات الظاهرية. وكثير من هذه المعلومات معلومات تِقَنية في سياقها، ولا تعني الكثير للأشخاص الذين ليس لديهم خبرة في الحالات التأملية. وقد وصف أحد الأكاديميين الغربيين المتخصصين في اليوجا الكلاسيكية هذه السوترات بأنها: «في المقام الأول خرائط مفيدة لعملية الرحلة الداخلية»، فهي توضِّح على نحوٍ تفصيليٍّ أنَّ النص لا يمثل في الأساس موقفًا فلسفيًّا أو وجوديًّا واضحًا، بل هو سَرْد لممارساتٍ تأملية من خلالها يمكن السيطرة على كافة الأنشطة الذهنية التي تُعيق التمييز بين الذات الظاهرية والذات العليا الحقيقية.
سانكيا: الأدلة التي تشير إلى الثنائية
على النقيض من اليوجا الكلاسيكية، يتضمَّن النص الأساسي لسانكيا الكلاسيكية على نحوٍ أكثر وضوحًا تفسيرًا مفصلًا لموقفها الوجودي ومناقشة واضحة لوسائلها في اكتساب المعرفة. ويُقال إن هذا النص المعروف باسم «سانكيا كاريكا» كتبه إيشفاراكريشنا بين عام ٣٥٠ وعام ٤٥٠ ميلاديًّا. ويتَّضح من الأدلة المأخوذة من مصادر متنوعة أن فكر سانكيا له تاريخ قديم طويل يعود إلى وقت كتابات الأوبانيشاد، وأن هذا النص ربما اختلف في التفاصيل اختلافًا كبيرًا من وقت لآخر مقارنةً بما يُعتبر حاليًّا النصَّ الرئيسي للتقليد. ورغم ذلك، فلم تبقَ أية نصوص قديمة لفكر سانكيا.
وللمصطلح السنسكريتي «سانكيا» عدة معانٍ، لكنه في سياق هذا التقليد يعني شيئًا من قبيل «العدِّ»؛ فهو يشير إلى فكرة أن الحقيقة التي تزعم المدرسة أنها تعلمها تُعرف من خلال عدٍّ؛ بمعنى تحليلِ وتمييزِ الفئات التي تكوِّن العالم الظاهر. وتستهلُّ سانكيا كاريكا بقول ما يلي: «بسبب ألم المعاناة تنشأ الرغبة في معرفة كيفية التغلب عليها.» وبعد الإفصاح على نحوٍ واضحٍ عن هذا الهدف الخلاصي، تستطرد لتوضِّح أنَّ المطلوب هو نوع خاص من المعرفة التمييزية، التي يمكنها إدراك «الظاهر وغير الظاهر والعارف». وتُبيِّن الآيات التالية الفرق الوجودي بين البوروشات (العارفين، وهم متعددون من الناحية العددية، ومنفصلون من الناحية الفردية، لكنهم متطابقون بعضهم مع بعض من الناحية الوجودية) وبين براكريتي (كل من العالَم الظاهر والعالَم غير الظاهر، لكنهما من الناحية العددية واحد). وعلى غرار اليوجا الكلاسيكية، فإن سانكيا ذات وجودية ثنائية على هذا النحو؛ فالواقع يتكوَّن من بوروشات (ذوات) وبراكريتي (عالم). ويُعد براكريتي في حالته غير الظاهرة «مُسَلَّمة» وجودية غير مخلوقة، ويصبح ظاهرًا (نسخته «المخلوقة») عند ارتباطه ببوروشا (ولا تَشرح السوترات كيفية حدوث ذلك). ومن النقاط المهمة التي تدعم ثنائية سانكيا قولها إن الشيء الذي يصبح ظاهرًا كان موجودًا في السابق في عالم براكريتي على نحوٍ غير ظاهر؛ وهذا يعني عدم خلق أي شيء جديد. ويُشار إلى وجهة النظر تلك، التي سنراها مرة أخرى في هذا الفصل، بمصطلح «ساتكاريافادا»، وهي نظرة تقول إن النتيجة تُوجد مسبقًا في المسبِّب. وفي سانكيا كاريكا تقول هذه النقطة إن العالم الظاهر موجود فعليًّا من الناحية الوجودية وإنه عالم واحد فقط من الناحية الوجودية. والأسباب المبرِّرة لمبدأ ساتكاريا موجودة في الآية التاسعة على النحو التالي:
تضرب الآية مثالًا على أهمية الاستنباط كوسيلة للمعرفة لدى مدرسة سانكيا. والمثال الآخر هو استنباط ضرورة وجود تعددية للبوروشات؛ «نظرًا لوجود تنوُّع في الولادات والوفيات والأنشطة؛ نظرًا لحدوث أشياء مختلفة في أوقات مختلفة؛ نظرًا لأن الناس لديهم سماتٌ بنِسَب مختلفة» (سانكيا كاريكا، المجلد ٥).
تركيبة الحقيقة لدى سانكيا
«براكريتي» | ||||
---|---|---|---|---|
«بوروشا» | غير ظاهر/ | «بودي» | «أهانكارا» | العقل |
ظاهر | (المميِّز) | (الصانع الذاتي) | ٥ أعضاء حسية | |
(«ساتفا»/ | ٥ أعضاء للفعل | |||
«راجاس»/ | ٥ عناصر دقيقة | |||
«تاماس») | ٥ عناصر ضخمة |
أما وسائل المعرفة الأخرى التي تقبلها فهي الإدراك والشهادة الموثوقة. وتُعرِّف الإدراك بأنه «التيقن الانتقائي من أشياء حسِّية معينة» (سانكيا كاريكا، المجلد ٥)؛ وهذا يعني أن أوجه الإدراك «العادية» ليست كلها صحيحة. وترتبط الشهادة الموثوقة بالتراث المتخصص للتقليد الذي يعود إلى كتابات الأوبانيشاد باعتبارها المصدر الأساسي. ورغم ذلك، فإن الاستنباط والإدراك لهما الأسبقية على الشهادة الموثوقة، وعندما تبدو الشهادة الموثوقة غير منطقية تكون الغلبة للاستنباط والإدراك. ومثال ذلك يمكن رؤيته في استخدام الاستنباط لإثبات تعددية ذوات بوروشا، بدلًا من قبول زعم كتابات الأوبانيشاد القائل بأن الذات (أتمان) متوحدة مع الجوهر الشامل المسمى «براهمان»، كحقيقة مسلَّم بها.
الصفات والفئات والتمييز
عالم «براكريتي» كله «يخضع لتأثير» ثلاث صفات أساسية؛ «سمات» سانكيا كاريكا المذكورة في المجلد الخامس، وهي مترجمة ترجمةً غير دقيقة عن السنسكريتية، فأصبح معنى هذه الصفات هو: الخير، والطاقة أو الشغف، والجمود. وهذه الصفات الممزوجة بنِسَب متفاوتة والموجودة في كلِّ كائنٍ أو شيء، تؤدي إلى «الإظهار»، و«التنشيط»، و«التقييد»؛ من أجل السيطرة، والدعم، والتفاعل، على التوالي، بعضها مع بعض. وعلى هذا النحو فإنها توضح كيف توجد فئات أو أنواع مختلفة، وكيف توجد اختلافات بين الناس وبين الأشياء المنتمية للنوع نفسه. ومن أجل حدوث التمييز المؤدي للتحرر، لا بد ألا يوجد عدم توازن في هذه الصفات.
بالإضافة إلى هذه الطبيعة الثلاثية لعالم براكريتي، فإن تجلِّيه منظم وفقًا للفئات المختلفة التي تتطلَّب تمييزًا تحليليًّا من أجل التغلب على المعاناة. وأولى هذه الفئات هي «بودي»، وتؤدي كلًّا من دور «إرادة» الفرد، ودور ملكة التمييز؛ فهي التي سوف «تتيقَّن على نحوٍ انتقائي من أشياء حِسِّية معينة» في أثناء السعي للتحرر، وتميِّز البوروشا في نهاية الأمر. والفئة التالية هي «أهانكارا»، ومعناها الحرفي «الصانع الذاتي». إنها الذات، تلك الذات التي عندما تكون جاهلة ببوروشا تعتقد على نحوٍ خاطئ أنها الذات الواعية للفرد. وبعد هاتين الفئتين الكبيرتين يأتي العقل، كفِئَة في حدِّ ذاته، متبوعًا بسلسلة من «المجموعات»: الأعضاء الحِسِّية (العين، الأذن، الأنف، اللسان، الجلد)، وأعضاء الفعل (الصوت، اليدين، القدمين، أعضاء الإخراج، أعضاء التناسل)، و«العناصر الدقيقة» (الصوت، الملمس، الشكل، الطعم، الرائحة)، و«العناصر الضخمة» (الفضاء، الرياح، النار، الماء، الأرض).
إن «عدَّ» («سانكيا») هذه الفئات يوضِّح كيف أن البشر المكوَّنِين من براكريتي (عالم ظاهر) غير واعٍ يعتقدون أنهم واعون، ويوضِّح أيضًا كيف يحدث التمييز داخل تلك الحالة غير الواعية. والصانع الذاتي هو المكوِّن الذي يجعلنا نعتقد أننا واعون؛ فمن الناحية الظواهرية نشعر بهذا الصانع الذاتي كما لو كان هو مفكِّر الأفكار، وفاعل الأفعال، والفاعل المستقل في هذا العالم التجريبي. ورغم ذلك، فإن هذا الصانع الذاتي مغلَّف في براكريتي، وهذا الصانع الذاتي يعمل كما لو كان غمامةً على العين تحجب عنا رؤية الحالة الحقيقية. وينجذب بودي، الذي يمثِّل إرادة الفرد ومَلَكة التمييز لديه، نحو الصانع الذاتي القوي بصفته محلَّ تركيزِ الحياة التجريبية للفرد، ذلك الصانع الذاتي البعيد تمامًا عن ذات البوروشا الموجودة دائمًا لكنَّها خاملة. وسيتطلَّب الأمر تضافر جهود ملكات الفرد (ويُعتقد أن هذا سيكون على مدار الكثير من الحيوات) لإعادة توجيه اتجاه الأنشطة التمييزية للبودي. وينصُّ «سانكيا كاريكا» في مراتٍ عديدة على أن الهدف المتأصِّل للنظام بأكمله هو السعي إلى تمييز بوروشا. إلا أن هذا الأمر يتطلَّب التغلب على التأثير والمشتِّتات الناجمَين عن الصفات غير المتوازنة، لا سيما سيطرة الشغف أو الجمود. وهذه الأمور تسبب كلَّ أنواع الجهل والنقصان والتعلُّق والخنوع. ورغم ذلك، ففي نهاية المطاف من الممكن أن يحرِّر بودي الفرد نفسه من التعلق بتقلبات الحياة المتكررة على نحوٍ كافٍ لأنْ يدرك أن ما يخلقه الصانع الذاتي هو مجرد ذات مزيفة أو ذات أقل شأنًا، وأن الذات الحقيقية هي بوروشا، تلك الذات المنفصلة التي تنتظر في صمت أن تسنح الفرصة. وهذا الإدراك يحقِّق انفصال بوروشا عن براكريتي ويحرِّر الفرد من الميلاد المتكرر.
ونظرًا لأن براكريتي يتَّصف بأنه أدنى شأنًا من بوروشا، وحيث إن مفهوم الصانع الذاتي عن الذات يتَّسم بالضلال؛ فإنه مكتوب في «سانكيا كاريكا» حقيقةٌ تتمثَّل في أن: «لا شيء مقيد؛ ولا أحد يُولد مرة أخرى، ولا أحد يتحرَّر» (سانكيا كاريكا، المجلد ٥). والسبب في ذلك هو أن براكريتي فقط هو من يخضع للتجربة المتكررة، وأن «ذوات» براكريتي الواعية إنما هي مُتوهَّمة، وفي واقع الأمر فميلاد مثل هؤلاء «الأفراد» لا يمثِّل ميلادًا متكررًا لذواتٍ حقيقية؛ فذوات بوروشا تشهد فحسب.
ولا يقدم «سانكيا كاريكا» أية منهجية مفصَّلة لتحقيق ذلك التمييز. وثمَّة ذِكْر للحاجة إلى ممارسة التفكير السليم والدراسة السليمة، والحصول على التعليمات المناسبة، بالإضافة إلى الصفات الأخلاقية المثالية (سانكيا كاريكا، المجلد ٥). وبدلًا من ذلك المنهج، يقدِّم ذلك النظام الفكري هيكلًا متوافقًا مع ممارسة التمارين التأملية الخاصة باليوجا الكلاسيكية؛ فالمصطلحات المختلفة التي تستخدمها سانكيا للإشارة إلى الأوهام المشتِّتة عن إدراك الذات الحقيقية يمكن أن نراها بلا صعوبة في الجزء الذي يتحدَّث عن «أنشطة العقل» في «سوترات اليوجا».
تعقيب على براكريتي
ما يدعو للتساؤل هو ما إذا كان تجلي براكريتي الموصوف في «سانكيا كاريكا» يمكن أن يُفهم على نحوٍ مشروع باعتباره تجليًا لعالم حقيقي ومتعدد، كما نراه في أغلب الأحيان. وقد اخترتُ ألا أترجم كلمة براكريتي في هذا الكتاب، لكن الترجمات الشائعة لهذه الكلمة تشمل كلًّا من: «الطبيعة» و«المادة» (بافتراض أنها تقف على النقيض من بوروشا التي تمثِّل «الروح» أو «الوعي»). وتشمل فئات التجلي كلَّ العناصر الكلية التي ترتبط عادة بالمادة، ولا تستثني أيَّ شيء يمكن أن يربطه المرء بالعالم التجريبي المحيط بنا. إلا أن الترتيب الذي يحدث به هذا التجلي يُعدُّ مناقضًا لما يمكن للمرء توقعه إذا كان ذلك التجلي هو العالم التجريبي المأهول بأفراد بالمعنى الواقعي والتعددي، كما هو موصوف. وفي نصِّ «سانكيا كاريكا» تأتي الملكات المعرفية أولًا، ومن الصانع الذاتي تنبع تباعًا سماتُ العالم الطبيعي. علاوة على ذلك، فإن الصفات الثلاث التي يتكوَّن منها كلُّ شيء — الخير، والطاقة أو الشغف، والجمود — هي صفات يمكن أن تُعتبر إلى حدٍّ كبير صفاتٍ نفسيةً أكثر منها صفات مادية؛ ولذلك يتساءل المرء إذا ما كان ما تَصِفُه السوترات هو عالمًا يعتمد على الإدراك — «عالم التجربة» الشخصية لكل فرد — كما هو موصوف في سياق التعاليم البوذية القديمة المذكورة في الفصل الثالث. إن تفسير سوترات «سانكيا كاريكا» على هذا النحو قد يسبِّب إشكالًا في سياق الثنائية الوجودية التي تقول بها سانكيا — بالتأكيد لأن الثنائية مفهومة على نحوٍ تقليدي تمامًا مثل وجهة النظر المعروفة في سوترات سانكيا كاريكا باسم ساتكاريا (التي تقول إن النتيجة موجودة مسبقًا في المسبِّب) — ذلك لأن الثنائية الوجودية في هذا الصدد تُفهم عادةً على أنها تحوُّل براكريتيٌّ بصفته مادة. بيد أن هذا التفسير قد يكون ملائمًا على نحوٍ جيِّد للمشكلة الوجودية البشرية الموضحة، ومع الهدف الخلاصي المذكور في النص، كما أن توافق هذا التفسير مع طريقة اليوجا الكلاسيكية لن يتأثر. ومن الممكن أن يكون أصل غموض النص فيما يتعلق بهذا الموضوع يكمن في تقليد سانكيا الطويل القديم الذي لا نعلم عنه سوى القليل.